بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين، هذه وقفات أخلاقية مع بعض آيات سورة البقرة.
الدرس الأول
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}(1).
يشـير القـرآن الكـريم في هذه الآية إلى القرآن بالضمير الذي يشار به إلى البعيد، وذلك لبيان عظمة القرآن الكريم، ويصفه بأنه لا شك فيه ولا ريب، بل هو حق صراح لا يشوبه الباطل، وأنه هدى للمتقين الذين حفظوا فطرتهم من التلوث والدنس، ولنقف قليلا مع الآية المباركة:
تعظيم القرآن أول خطوة
كل شيء يجب أن يعطى حقه من التعظيم، وهذا أمر عقلائي أكدت عليه النصوص، لأنه يوجب التعامل بالشكل الذي يتناسب مع مقدار العظمة، فلو أن إنسانا رأى الإمام الخميني (قدّس سرّه) ولم يكن يعرفه فلن يعظمه، وإذا لم يعظمه فلن يهتم به وبأفكاره ومنهجه وسلوكه، فالتعظيم والتقديس القلبي والفكري أول خطوة للإنسان لكي يقوم بالوظيفة المناسبة تجاه أي شيء، وبمقدار ما يدرك الإنسان من العظمة في الشيء يعظمه ويحبه، والقرآن الكريم لا يمكن وصفه حق الوصف كالإمام (عليه السلام)، روي أنه «كان أمير المؤمنين يقول ما لله آية أكبر مني ولا لله من نبأ عظيم أعظم مني»(2) كذلك القرآن الكريم لأن كلا منهما -الإمام والقرآن- مظهران لاسم الله الأعظم فقد روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لقد تجلى الله لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون»(3) فالقرآن مظهر اسم الله الذي يشير إلى جميع الصفات الإلهية، وهذا هو الاسم الأعظم، فالقرآن هو النور الذي به يهتدي المهتدون قال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ}(4) فإذا عرف الإنسان مقام القرآن عظّمه وبمقدار تعظيمه يستفيد منه ويعتني به، وهذا ما تريد أن تربينا عليه الآية المباركة، فكم للقرآن من مكانة في نفوسنا؟ وكم نشتاق للجلوس بين يديه؟ وهل للقرآن مكانة في قلوبنا كما هي المكانة التي للدنيا؟ وهل نحمل هم القرآن وتجسيده كما نحمل هم الأموال والجاه والمنصب والوظيفة؟
أيها الحبيب
القرآن كتاب مِن محب إليك ليعلِّمك كيف تحبه، إنه رسالة من أجمل الجمال، فهل قبلت رسالته؟ في الواقع إن أكثرنا قد هجر القرآن الكريم كل الهجر، أو جعله لأوقات الفراغ، قال تعالى على لسان رسوله الأكرم (صلّى الله عليه وآله): {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}(5).
حب الحق
القرآن الكريم كتاب الحقائق، الحقائق السلوكية، التي توصل الإنسان إلى كماله وسعادته، كتاب الحقائق التربوية التي تجمّل الإنسان بأجمل الصفات القلبية، كتاب الحقائق الفكرية التي تجعل معتقدات الإنسان مصيبة للواقع والحق، فيكون الإنسان باتباعه للقرآن من أهل الحق في سلوكه وصفاته وأفكاره، وهذا معنى قوله تعالى{لا رَيْبَ فِيهِ} يريد تعالى أن يقول للإنسان أيها العبد الضعيف، إن طريق الحق صعب وشاق، ولن تجد كتابا فيه الحق المطلق سوى هذه الرسالة التي بعثتها إليك، فلا تشرِّق ولا تغرِّب عنها، والزمها وخذها بقوة، الإنسان عندما يرى كتبا كثيرة فإنه ينشدُّ إلى أكثرها احتواء على الحقائق والصواب، ولذا ترى الإنسان يبحث عن كتب العلماء الكبار ويهتم بكتبهم أكثر من غيرهم؛ ذلك لأنه يرى أن أفكارهم أقرب إلى الحق من أفكار غيرهم، فكيف بكتاب خطته يد الخالق؟ على الإنسان أن يعتبر نفسه ضالا لا يعرف الحق، والقرآن هو الحق المطلق الذي يمكن أن ينقذه من الضياع، فإن الإنسان مفطور على حب الحق، وكلما تعمق معنى كونِ القرآنِ حقاً والتفت الإنسان إلى هذه الحقيقة أحب القرآن أكثر وشعر بالحاجة إليه أكثر(6).
لا تحرم نفسك من الهداية
عندما تكون النفس صافية تتفاعل مع الخير، فتأنس بالأوامر الإلهية، وترغب في ثوابها، وكلما صفت النفس أكثر تفاعلت أكثر مع الحق والأفكار الصادقة، وبعكس ذلك فإنه كلما تلوثت النفس قل تفاعلها مع السلوك الطاهر والأفكار الحقيقية، القرآن الكريم هدى للمتقين، أي الذين حافظوا على طهارة نفوسهم ولم يلوثوا فطرتهم الصافية التي أهداهم الله إياها، ويريد أن يعلمنا ربنا (سبحانه وتعالى) من هذه الآية هذا الدرس، وهو أنك أيها العبد المسكين، أعطيتك نفسا طاهرة، إذا ما حافظت عليها سوف ترى أنك تنجذب نحو كل دعوة صادقة من سلوك وخلق وفكر، وكلما لوثت هذه الأرض الطاهرة فسوف ترى نفسك مدبرا عن الحق، ولهذه الحالة مراتب، فربما يكون لوث النفس إلى درجة لا يطيق الإنسان معها الصلاة الواجبة، وربما يكون بمستوى أقل بحيث لا يطيق الصلاة المستحبة، وربما يكون بمستوى لا يطيق دوام ذكر الله وهكذا، فلكي نستفيد من القرآن الكريم علينا أن نطهر أنفسنا من لوث المعاصي ونتوب إلى الله من كل ذنب لكي تصفوا النفس وتقبل الحق، ولذا فإن الإنسان كلما طهرت نفسه أكثر كان أقدر على درك معاني القرآن الحقيقية، حتى يصل الأمر إلى {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ}(7) كثير منا يشكو من إدباره عن العمل الصالح، والسلوك الطيب، والفكر الصادق، والسبب الأساس -لو فتش جيدا- هو تلوث نفسه بالذنوب، فإن الحب هو انجذاب نحو الملائم، فإذا ما تلوثت النفس لا يلائمها العمل والفكر الصالحين، بل تكون متلائمة ومنجذبة نحو الفساد، القرآن الكريم كما يصفه رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «وهو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم... فيه مصابيح الهدى، ومنار الحكمة، ودال على الحجة»(8) والملوث ما لم يتب لا ينفعه شيء.
جاء في تفسير الإمام العسكري: «هدى للمتقين. الذين يتقون الموبقات، ويتقون تسليط السفه على أنفسهم حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضا ربهم»(9) هذه الرواية لا تتنافى مع ما ذكرناه من معنى للتقوى، فقد قلنا أن التقوى في الآية هي تقوى الإنسان عن تلويث فطرته، وهذا لا يتحقق إلا من خلال العمل الفاسد والأفكار الضالة، فترك الذنوب والتوبة منها هو الموجب لصفاء الفطرة، وفي هذه الرواية إشارتان مهمتان الإشارة الأولى أن الموبقات وهي الذنوب الكبيرة لها التأثير الأكبر في تلويث الفطرة وفساد تقواها، والإشارة الثانية أن الإمام سلام الله عليه عرف تسليط السفه على النفس بتعريف دقيق جدا، وهو عدم العمل بالعلم، فمن لم يعمل بما علم فقد سلط على نفسه السفه وصار سفيها، وهذا ما يبينه القرآن بشكل واضح في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}(10) والسفه هو الحماقة وعدم تمييز النافع من الضار سواء في أمور الدين أم الدنيا، فمن يرغب عن ملة إبراهيم فقد سفه نفسه، أي أن الإعراض والرغبة عن ملة إبراهيم من حماقة النفس، والمراد من الملة ملة التوحيد، فمن يرغب عن خط التوحيد فهو سفيه، ولهذا مراتب كثيرة، فالذي يكفر بالله أو الأنبياء أو الأئمة (عليهم السلام) فقد سفه نفسه، ومن عمل الكبائر فقد سفه نفسه؛ لأن العصيان رغبة عن ملة التوحيد وعدول عنها، ومن يعمل الصغائر كذلك، ومن فعل المكروه فهو بمستوى يكون قد رغب عن الطاعة التي هي التوحيد، ومن انشغل بغير الله فهو أيضا يكون قد سفه نفسه بمرتبة ولو كان مطيعا لا يعصي، وقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة في قوله: «العقل ما عبد به الرحمان، واكتسب به الجنان»(11) فكل لحظة لا يكون فيها الإنسان مشغولا بكسب الجنان فهو في تلك الحالة سيكون سفيها، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة»(12).
الدرس الثاني
الذين يؤمنون بالغيب
بعد أن ذكر الله (سبحانه وتعالى) الهدف من خلق الإنسان، وهو الهداية وذكر أن المهتدين هم المتقون الذين حافظوا على سلامة فطرتهم، بدأ يعرفهم بأوصافهم، وأول وصف يبدأ به سبحانه وصف الإيمان بالغيب، ويعني الإيمان القناعة القلبية والشعور النفسي تجاه الحقائق، والاطمئنان بالمعارف مما يوجب ترتيب الآثار عليها، والعمل بمقتضاها، الإيمان بالغيب يعني الإيمان بالحقائق غير المحسوسة بالحواس الخمس، فالإنسان يؤمن بكل ما يحس به إيمانا راسخا يرتب عليه كل الآثار، فإذا رأى أو سمع بإذنه أن هناك بضاعة جيدة وبثمن بخس لا يتردد في الذهاب لشرائها، وإذا رأى أحداً همَّ بأذيته فإنه يسعى لدرء الضرر عن نفسه وهكذا، ولكن الإيمان بالغيب أصعب، فكثير منا يعلم أن الله ناظر في كل آن وزمان، لكنه ربما لا يكون مؤمنا، والعلامة هي ترتيب الآثار، فالمؤمن بأن الله ناظر لا يعصي الله وهو ذاكر، والمؤمن بأن الصلاة وقوف بين يدي الله لا ينشغل عنها بإرادته، إذن الإيمان بالغيب يعني القناعة القلبية والاطمئنان النفسي بالحقائق، وليس هو العلم حتى لو كان علما يقينيا.
الإيمان أساس كل خير
الإيمان أساس كل خير، وضعف الإيمان أساس كل شر، فما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أيها الناس إياكم وحب الدنيا فإنها رأس كل خطيئة وباب كل بلية وقران كل فتنة وداعي كل رزية»(13) يرجع إلى ضعف الإيمان، فإن الإنسان لو اطمأنت نفسه بالإيمان بالله والمعاد والجنة والنار لا يمكن أن يتعلق بالدنيا الزائلة، ومصيبتنا في ضعف إيماننا، فكثير منا يعلم ولكنه لا يؤمن، والفرق بين العلم والإيمان واضح، فإن العلم عبارة عن المعرفة العقلية، والإيمان عبارة عن المعرفة القلبية والشعور النفسي والاطمئنان الذي يحرك الإنسان، فكثير منا يعلم أن عذاب القبر شديد، ولكن القليل منا من يؤمن بذلك، المؤمن بشدة عذاب القبر ترى عليه آثار الخوف والوجل، فكلما همَّ بمعصية ردعه خوفه عن الاقتحام فيها، نحن لسنا مطالبين بالعلم إلا لأنه مقدمة للإيمان، يقول تعالى في وصف المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}(14) المؤمن يخشع في صلاته لأنه يشعر بأنه يقف بين يدي الله (سبحانه وتعالى)، ويعرض عن اللغو لأنه مطمئن بأن اللغو يلوث النفس ويقسي القلب، ويقوم بكل الواجبات التي عليه ويترك كل المحرمات لأنه يؤمن بأن هناك يوم حساب وعقاب، وربما يكون من هو عالم بكل هذه الحقائق لكنه لا يخشع في صلاته ولا يترك اللغو وما إن يفتح له باب الحرام لا يتورع عن دخوله، وذلك لأنه لم يدخل ما علم به إلى قلبه، وهذه هي المشكلة الأم في حياتنا.
غير المؤمن ليس بعالم
ركزت النصوص الدينية على أن العالم مهما بلغ من المراتب العالية في علمه، إذا لم يدخل هذا العلم إلى قلبه فإنه ليس بعالم بل هو جاهل من الجهلة؛ لأن ميزان الإسلام في التفضيل هو القرب من الله (سبحانه وتعالى) والتقوى، والعلم الذي لا يدخل إلى القلب لا يوجب قربا ولا يحقق تقوى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (عزّ وجلّ): {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} قال: «يعني بالعلماء من صدق فعله قوله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم»(15) ولا يصدق الفعل القول إلا بالإيمان، لأن العلم من دون إيمان لا يحرك الإنسان، بل ربما سبب له غرورا، إذن علينا أن نترك المقاييس الدنيوية، فربا يكون عبد مسكين فقير يملك من الإيمان الذي يردعه عن معاصي الله، ويكون آخر عالما لكنه أجهل الجهال، عن الصادق (عليه السلام): «الخشية ميراث العلم، والعلم شعاع المعرفة وقلب الإيمان، ومن حرم الخشية لا يكون عالما وإن شق الشعر بمتشابهات العلم كما قال الله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)»(16)، نحن للأسف ابتلينا في حياتنا بالمقاييس الدنيوية فصارت هي التي تقدم وهي التي تؤخر، صار المعيار الجاه والمكانة الاجتماعية والمال والشهرة والنسب(17).
الإيمان يشتد ويضعف ويزول
كما أن للإيمان قابلية الاشتداد إلى درجة يشاهد فيها الإنسان ربه ويكون مصداقا لقول الصادق (عليه السلام) لإسحاق بن عمار: «يا إسحاق خف الله كأنك تراه وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك»(18) وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «جاء حبر إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال: فقال: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان»(19)، كذلك فإنه يضعف، وسبب ضعف الإيمان أمور، السبب الأول منها هو التشكيك في العقيدة، فعندما ترد على المؤمن شبهات في دينه ولم يكن متحصنا منها فإن ذلك يوجب له الشك والريب، من هنا أشير إلى مسألة مهمة على المبلغين أن يلتفتوا إليها، وهي أن وظيفة المبلغ تثبيت يقين الناس سيما الضعاف منهم، فعليه أن يطرح المعارف طرحا يوجب زيادة يقين الناس، ويتجنب الطرح الذي يؤدي إلى التشكيك في العقيدة، للأسف بعض المبلغين عنده شهوة طرح الإشكالات وبتفنن، وكأن هدف المبلغ هو هذا، هل هذا هو منهج أهل البيت (عليهم السلام)؟ هل هذا هو منهج القرآن الكريم، نعم أحيانا يطرح المبلغ إشكالا ليرده تحصينا للمجتمع من الإشكالات التي ربما ترد عليه، هذا أمر مطلوب جدا، ولكن في حدوده الخاصة.
والسبب الثاني الذي يسبب ضعف اليقين الذنوب فعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا»(20) فكلما أذنب العبد ذنبا -كبيرا كان الذنب أو صغيرا- فقد مرتبة من مراتب الإيمان، والسبب الثالث عدم المداومة على الذكر والعبادة، وربما ضعف الإيمان حتى زال، كما رأينا بعض النماذج في زمن أهل البيت (عليهم السلام) وزماننا هذا، فاسمع ماذا يقول زياد بن أبيه (لعنه الله) إلى حجر بن عدي رضوان الله عليه فقد "كانت بينه وبين حجر بن عدي مودة، فوجه إليه فأحضره، ثم قال له: يا حجر! أرأيت ما كنت عليه من المحبة والموالاة لعلي؟ قال: نعم! قال: فإن الله(21) قد حول ذلك بغضة وعداوة، أو رأيت ما كنت عليه من البغضة والعداوة لمعاوية؟ قال: نعم! قال: فإن الله قد حول ذلك محبة وموالاة، فلا أعلمنك ما ذكرت عليا بخير ولا أمير المؤمنين معاوية بشر"(22) وهل يأمن أحدنا من الانحراف وضعف أو فقدان الإيمان؟! سيما أنه ذو مراتب، فربما يحب أحدنا أهل البيت (عليهم السلام) ويجد الشوق والهيام، ثم يبرد هذا الحب ويضعف، وليس هذا إلا لضعف الإيمان الذي من أهم أسبابه ممارسة الذنب.
الدرس الثالث
ويقيمون الصلاة
إقامة الصلاة تبدأ بالمحافظة على أدائها في أوقاتها مع مراعاة الأحكام الشرعية، وهذه هي أول مراتب المحافظة على الصلاة، ثم يتدرج الإنسان في إقامته للصلاة بأن يحافظ على قلبه من التشتت في الصلاة، ولهذا مراتب لا أتمكن من الحديث عنها، وكما أن معرفة الله أساس المعارف والمعتقدات فإن الصلاة أساس العبادات وركنها، فهي بالنسبة للعبادات الأخرى بمنزلة التوحيد بالنسبة للنبوة والإمامة وغيرهما من المعتقدات، لأنها ثناء على الله باسمه الأعظم، فهي أعظم ذكر لله (سبحانه وتعالى)، روي عن الصادق (عليه السلام) لما سئل عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله أنه قال: «ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أن العبد الصالح عيسى بن مريم قال: (أوصاني بالصلاة)»(23)، والمحافظة على الصلاة بشروطها يحتاج إلى توفيق إلهي، سيما بالنسبة لشروطها الباطنية، فلا بد من الدعاء والتوسل بأهل البيت (عليهم السلام) لكي يوفق الإنسان لأداء حق العبادة(24)، يقول تعالى على لسان إبراهيم (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام): {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}(25) ولا يمكن أن يتمكن الإنسان من الاستقامة على طريق الله من دون المحافظة على الصلاة، فالإنسان الملتزم إذا أراد أن يصحح من أخلاقه وسلوكه الظاهري والباطني فعليه أن يبدأ بالمحافظة على الصلوات الواجبة، فهي محور السير والسلوك إلى الله (سبحانه وتعالى)، عن النبي (صلّى الله عليه وآله): «ليكن أكثر همك الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين»(26).
فهل نهتَمُّ بصلاتنا كما نهتمُّ بأمورنا الدنيوية؟ هل يشغل بالُنا مسألةَ كيف نخشع في صلاتنا ونتأدب بين يدي الله (سبحانه وتعالى)؟ وهل بذلنا جهدا في ذلك؟ هل حاسبنا أنفسنا على تقصيرنا في الصلاة والتوجه فيها؟ ما أجهلنا بالحقائق وأغفلنا عن الغيب! هذه الصلاة التي هي بصريح الروايات عمود الدين، وقبولها شرط قبول الأعمال، نتعامل معها بهذا التعامل، فكيف بغير الصلاة؟ على كل واحد منا أن يراجع نفسه جيدا ليرى كيف هو والصلاة، ويتوب إلى الله من تقصيره، ويجدد عهده بالصلاة وبالمحافظة عليها.
ومما رزقناهم ينفقون
الرزق إما مادي كالأموال وأعضاء الجسم والمأكل والملبس والنساء، وإما معنوي كالتوفيق للإيمان والصلاة والجهاد وطلب العلم، وإنفاق الرزق المادي ببذله كبذل المال والنفس، أما إنفاق الرزق المعنوي فأن يكون بإفادة الآخرين به، كتعليم الدين والتربية، وقد ورد الحث في الروايات على كلا النوعين من الإنفاق، فعن الصادق (عليه السلام): «لكل شيء زكاة وزكاة العلم أن يعلمه أهله»(27) هذا فيما يرتبط بالإنفاق المعنوي أما الإنفاق المادي فالأمر فيه واضح جدا، ومن الجدير بالذكر أن الإنفاق إذا كان لوجه الله فإنه يتعارض وحب النفس والأنانية والانطواء عليها، نعم إذا كان الإنفاق للشهرة والمنصب والمال فإنه يتلاءم وحب النفس والأنانية، والإنفاق في الأمور الصغيرة يهيئ النفس للإنفاق فيما هو أكبر، فالإنفاق في المال يهيئ النفس لبذل الروح في سبيل الله (سبحانه وتعالى)، والجهاد في سبيله سبحانه، على المؤمن أن يربي نفسه على البذل والعطاء في كل شيء، في المال والوقت والراحة لخدمة دين الله والمؤمنين، يقول تعالى على لسان عيسى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}(28) ففي الرواية عنهم (عليهم السلام) مباركا أي نفَّاعا(29)، أي كثير النفع، المؤمن لا بد أن يكون مباركا أينما حل، يسعى لهداية الناس والحفاظ على دينهم، ورفع الظلم عنهم، ومن الصفات الذميمة في المؤمن والتي تتنافى مع إيمانه أن ينطوي على نفسه ومصالحه، فإن هذه الصفة توجب أن يخذل المؤمنُ الحقَّ إذا ما تطلب منه نصر الحق، وأن يضحي براحته أو سمعته أو أمواله، وهذا ما حصل مع بعض المسلمين في زمن أهل البيت (عليهم السلام)، وأوضح مثال على ذلك موقف أهل الكوفة مع الإمام الحسين (عليه السلام) ومسلم بن عقيل.
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(30). هذه الآية تتحدث عن إحدى مواصفات اليهود الخبيثة، وهي لبس الحق بالباطل، وكتمان الباطل، يقول الشيخ ناصر مكارم في تفسيره لهذه الآية: "كتمان الحق، مثل خلط الحق بالباطل ذنب وجريمة، والآية تقول لهم: قولوا الحق ولو على أنفسكم، ولا تشوهوا وجه الحقيقة بخلطها بالباطل وإن تعرضت مصالحكم الآنية للخطر"(31). قول الحق وبيان الحق من أهم مواصفات المؤمن، وهي من الصفات التي تحتاج النفس الترويض عليها، خصوصا إذا كان قول الحق يتعارض مع مصالح الإنسان، فقول الحق عندما يتلاءم ومصالح الإنسان لا يكون صعبا، لكنه عندما يكون موجبا للعناء والتعب والمشقة، وربما يكون موجبا لزوال الشهرة أو ذهاب المال، يكون صعبا على النفس جدا، ولذا ورد التأكيد على قول الحق على النفس؛ لأن قول الحق على النفس من أشق الأمور؛ لأنه يتعارض وحب النفس المذموم الذي يمثل المرض الأخطر والأكبر في حياتنا.
على المؤمن أن يعوِّد نفسه قول الحق، وأن يقبل قول الحق، وأن يكون دائم البحث عن الحق، عن الإمام علي (عليه السلام) قال: «الحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبَّروا نفوسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لمن صبر واحتسب، فكن منهم واستعن بالله»(32) في الغالب يكون قول الحق مكلفا، فلا بد من توطين النفس على قول الحق والاستعانة بالله (سبحانه وتعالى)، عندما يرى المؤمن باطلا عليه أن يقول الحق مهما كلف الثمن، إلا أن تكون مصلحة الدين في الكتمان، فإذا ما رأى الناس تنسب إلى الدين ما ليس فيه كأن تقول بأن حديث الأجنبي مع المرأة الأجنبية -من غير ضرورة- لا غضاضة فيه في الإسلام ولا كراهة، عليه أن يبين ويقول أن هذه الفكرة ليست صائبة وأن الحق هو كذا... دونما تردد أو خوف(33)، كما أن عليه أن يعود نفسه على قبول الحق، فعندما يبدأ نقاش بين الأستاذ والتلميذ مثلا عليهما أن يوطنا أنفسها على قبول الحق، فعلى الأستاذ مثلا أن يقبل فكرة التلميذ إذا ما رآها حقا ويفصح عن قبوله بذلك من دون تردد أو كبرياء، وربما يجد في نفسه ثقلا نابعا من حب النفس وخوف السقوط من أعين الناس، ولكن عليه أن يحارب هذه الشجرة الخبيثة شجرة حب النفس والدنيا، وعندما تقول الزوجة الأمية أو قليلة الثقافة لزوجها المثقف صاحب المكانة في المجتمع أمرا محقا عليه أن يقبل قولها دون تكبر، فإن الإنسان لا بد أن يتواضع دائما للحق، وإذا قال الزوج لزوجته عن خطأ ترتكبه فإنه عليها أن تقبل قوله وتخضع للحق دونما تكبر، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أتقى الناس من قال الحق فيما له وعليه»(34).
كثير منا يكتم قول الحق خوفا على السمعة والجاه أو المال أو طلبا لراحة البال، فربما يرى رئيس العمل الفلاني الديني نفسه أنه غير قادر على إدارة العمل الملقى عليه، لكن يأبى عن الاعتراف بذلك خوفا على سمعته، وربما يرى المؤمن ظاهرة فاسدة في منطقته لكنه يسكت عن قول الحق طلبا لراحة البال وابتعادا عن المشاكل، عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «قل الحق وإن كان فيه هلاكك، فإن فيه نجاتك... ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك فإن فيه هلاكك»(35) وكثيرا ما تحكمنا المجاملات والرسوم الباطلة، فإذا كان المبطل صاحب مكانة وجاه ديني أو دنيوي سكتنا عن الحق، أما إذا كان المبطل فقيرا مسكينا دسنا عليه بأقدامنا، علينا أن نتعود قول الحق حتى عندما يكون المبطل سلطانا عاتيا، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «ألا! لا يمنعن رجلاً مهابةُ الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»(36) وهذا لا يتنافى مع مداراة الناس المأمور به في الروايات.
كما أن كثيرا منا لا يقبل قول الحق لنفس الأسباب، ولا يبحث عن الحق كذلك، وربما يسعى الإنسان تهربا من الحق ومتطلباته لأن يلبس الحق بالباطل.
الدرس الرابع
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(37).
ورد في الروايات أن أمر الناس بالعمل الصالح والسلوك الطيب ربما كان باللسان وربما كان بالعمل، وهو أبلغ في التأثير، فعن أبي أسامة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «عليك بتقوى الله والورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زينا ولا تكونوا شينا، وعليكم بطول الركوع والسجود، فإن أحدكم إذا أطال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه وقال: يا ويله أطاع وعصيت وسجد وأبيت»(38).
ولكن المراد بالأمر في الآية المباركة هو الأمر باللسان طبعا دون الأمر بالسلوك لأن الآية بصدد لوم التارك لما يأمر به، فنفس الإنسان عادة ما تلتفت إلى عيوب الآخرين وتغفل عن عيبها، أو يزين لها الشيطان عيبها، فيرى غضبه لله وغضب غيره لحب النفس، ويرى سوء خلقه مع الزوجة تأديبا وسوء خلق غيره مع زوجته تعديا، لذا فإنك تراه ينصح غيره ويقع في نفس ما نهى عنه، فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه بدقة ولا يغفل عنها، وعليه أن ينظر إلى نفسه بعين التهمة دائما وأن لا يبرئ نفسه من الأخطاء.
والحجة على العالم أبلغ وأخذه أشد، ولذا تقول الآية: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}، أيها المؤمن يا من قرأت القرآن الكريم وروايات أهل البيت (عليه السلام) وفهمتها عندما تأمر غيرك بما فيهما لا تنسى نفسك، فإن مَن عجز عن تهذيب نفسه فإنه عن تهذيب غيره أعجز، ولا ينفذ قول غير العامل بعلمه إلى قلوب الناس، بل إن الناس عندما ترى المثقف العالم بمعالم الدين لا يطبق ما يقول تزهد في طلب العلم الذي هو الوسيلة الأساس للسير والسلوك إلى الله (سبحانه وتعالى)، وتقول إن هذا الرجل عنده علم كثير وقضى زمنا طويلا في الحوزة العلمية لكن لم تتغير أخلاقه وسلوكه، فلماذا أتعب نفسي لأدرس! عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنما زهد الناس في طلب العلم كثرة ما يرون من قلة من عمل بما علم»(39) وعن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال في كلام له: «العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وطول الأمل ينسي الآخرة»(40) ومن الجدير بالذكر هنا أن المراد بالعالم هنا هو كل من يعلم حتى لو كان علما قليلا وليس المراد بالعالم هنا خصوص العلماء العظماء بحسب المتعارف عندنا في أزمنتنا، فمن علم أن تأخير الصلاة من دون مسوغ استخفاف محرم، فهو عالم لو ترك العمل بعلمه لكان مصداقا للحديث.
{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(41).
السيئة تكون بفعل العمل المحرم، أو ترك الواجب، وتؤثر السيئة في النفس ظلمة وحالة نفسية سلبية توجب صدور أعمال سيئة أخرى، فكلما أذنب الإنسان اسودَّ قلبُه أكثر إلى أن ينقلب فلا يبقى فيه خيرٌ؛ فيفقد بعد ذلك حتى الإيمان الذي هو رأس ماله، فيستحق العذاب الخالد المؤبد، فمن يستغرق في كسب السيئات حتى تحيط بقلبه ينقلب ويكفر بالله (سبحانه وتعالى)، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا»(42) والنكتة السوداء هي الحالة النفسية التي تحيط شيئا فشيئا حتى تغلب عليه، وهذا من أخطر آثار الذنوب.
ورد عن أبي حمزة، عن أحدهما (عليهما السلام) (43) في قول الله (عزّ وجلّ): {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} قال: «إذا جحد إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»(44) وهذا من باب الجري وبيان المصداق، فإن الذنب ليس محصورا بالذنب العملي فحسب فهناك ذنوب عقائدية، وهو الجحود(45) لكل عقيدة صادقة.
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(46).
هناك علاقة وثيقة لا تنفك بين الإيمان والعمل الصالح، ولا بد من التأمل فإنا نقول أن هناك علاقة بين الإيمان والعمل الصالح ولم نقل بين العلم والعمل الصالح، نعم هناك علاقة بين العلم الحقيقي الذي يساوق الإيمان والعمل الصالح، وكذلك قلنا العمل الصالح ولم نقل العمل فقط، فإن العامل ربما عمل لغير وجه الله (سبحانه وتعالى) فلا يكون عمله صالحا، فما هي هذه العلاقة.
يمكن القول بأن العلاقة وجدانية بديهية يشعر بها كل إنسان، ولكنها تحتاج إلى شيء من التحليل، فإن ذلك ينفع في إدراك أهمية العلم والعمل اللذان يركز عليهما القرآن الكريم، بل يجعلهما الهدف من خلق الإنسان،(47) إن الإيمان الذي هو عبارة عن التصديق القلبي لا ينفك عن العمل، فلا بد أن يتبعه عمل، فالمؤمن بأنَّ الله حاضر في كل مكان وزمان تراه يعبد ربه ويتجنب المعصية مهما أمكنه، وكلما زاد إيمانه زاد تقواه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه كلما عمل بنية خالصة ازداد إيمانه أيضا، فالعلاقة تبادلية بين الأمرين، وكلما قصَّر العبدُ في عبادته وعمله الصالح(48) أثر ذلك سلبيا على إيمانه، وكلما تأثر إيمانه سلبا قل علمه كيفا وكما، ولشدة العلقة بين الإيمان والعمل الصالح يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان»(49) ومعرفة العقل شيء ومعرفة القلب شيء آخر، وما لم يستتبع هذه المعرفة عمل جوارحي فإن ذلك يكشف عن ضعف الإيمان أو زواله.
فلا يمكن أن يكون الإنسان مؤمنا ولا يعمل عملا صالحا، نعم يتفاوت العمل بحسب تفاوت الإيمان شدة وضعفا، فعندما نقول أنه لا يكفي الإيمان من دون عمل يعني أنا نقول أنه لا يكفي مجرد العلم دون الإيمان لأن العمل لا ينفك عن الإيمان، فليس عندنا إيمان حقيقي من دون عمل صالح.
الدرس الخامس
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}(50).
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «رأس كل خطيئة حب الدنيا»(51) حب الدنيا يعني التعلق القلبي بزخارف الدنيا وشهواتها، من مال ونساء وجاه ومنصب وشهرة، عن حماد بن بشير قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: «ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رعاؤها، أحدهما في أولها والآخر في آخرها بأفسد فيها من حب المال والشرف في دين المسلم»(52) وسبب حب الدنيا يرجع إلى حب النفس والجهل، فإن الجاهل بحقيقة الدنيا الذي يحسبها كماله المنشود يتعلق بها، لذا تجده حريصا أشد الحرص على الدنيا {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} لا يطيق أن يفقد شيئا منها، فتراه يجد الجد لينال الشهرة والمال والنساء و... ويسهر ليله لو فقد شيئا من ذلك.
وبما أنه لا يمكن أن يجتمع حب الدنيا مع حب الآخرة وحب الله (سبحانه وتعالى)، فقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام): «إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماش بينهما، كلما قرب من واحد بعد من الآخر، وهما بعد ضرتان»(53) فتراه يزهد في كل ما يرتبط بالله وبالآخرة، فلا يشغل قلبه فرار خياله في الصلاة لغير الله، ولا يهتم لو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يحزن لو فاته وقت الصلاة و...
والمحب لشيء لا يطيق فراقه، لذا فإنه يكره الموت أشد الكراهية، ويرى موته فراقا لمحبوبه ومعشوقه، فيتمنى أن يعيش إلى أبد الآبدين {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} وهذه المشكلة الأساس في حياة الإنسان، إنها مشكلة حب الدنيا وحب النفس، لأنها سبب كل المفاسد، الرياء والحسد والتكبر وأعظم المهلكات إنما تنشأ من حب النفس والدنيا، وهذه المشكلة هي التي جعلت اليهود بهذا المستوى من الدناءة والخسة، حتى أنه لم تنفع معهم كل النذر والمعاجز والبينات.
ولا سبيل للتخلص من هذا الداء العضال إلا بمعرفة حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وأن هذه الدنيا زائلة لا محالة، وأن وراءها حياة لا موت فيها، وأنه عن قريب راحل إليها ملاق عمله، عن علي (عليه السلام): «تجهزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل. وأقلوا العُرجة(54) على الدنيا»(55) وإن أثر الانشغال بملذات هذه الدنيا يورث الحسرة والندامة في تلك الدار، ثم إنه ليس في هذه الدنيا لذة دائمة خالصة من المنغصات، فلذة المال مشوبة بخوف زواله، ولذة المنصب والشهرة والنساء كذلك، ولو تأمل الإنسان في حياته جيدا لوجد أنه لا توجد لذة من لذات الدنيا تستحق توجه القلب إليها بحيث يعصي الله من أجلها، واللذة الباقية التي يمكن للإنسان تحصيلها في هذه الدنيا هي لذة القرب من الله (سبحانه وتعالى) والتعلق به، وعبادته مناجاته، فإن اللذة التي يجدها المحب لربه لا يجدها أحد من الخلق مهما استغرق في الملذات الدنيوية {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}(56)؟
وفي الحقيقة إن المحب للدنيا ملأ فطرة الحب عنده بالدنيا الزائلة عوضا عن حبه لله (سبحانه وتعالى)، فهو بذلك يجعله المعشوق المعبود الذي يشغل باله دائما، فيكون ندا لله سبحانه ومعبودا سواه، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}(57) أما من أدرك حقيقة هذه الدنيا الزائلة والشهوات المشوبة، وأدرك جمال وكمال الله (سبحانه وتعالى) الذي لا يعادله ولا يدانيه جمال، فإنه لا يستعيض عن حبه لله بأي شيء في الدنيا والآخرة، ولذلك فإن المحبين للدنيا عندما يفارقونها وتنكشف لهم الحقائق وأنه لا يوجد كمال إلا كماله (سبحانه وتعالى)، يدركون مدى الحمق الذي كان يسيطر على عقولهم وقلوبهم {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ}(58).
الدنيا خير واعظ
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ}: «وحقا أقول ما الدنيا غرتك ولكن بها اغتررت. ولقد كاشفتك العظات وآذنتك على سواء. ولهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك والنقص في قوتك أصدق وأوفى من أن تكذبك أو تغرك. ولرب ناصح لها عندك متهم، وصادق من خبرها مكذب. ولئن تعرفتها في الديار الخاوية والربوع الخالية لتجدنها من حسن تذكيرك وبلاغ موعظتك بمحلة الشفيق عليك والشحيح بك»(59) عندما يتأمل الإنسان جيدا يجد أن الدنيا تعظه في كل شيء، بالمرض وفقد الأحبة والهم والحزن، بفقد القوة ونزول الضعف، بشوب الملذات بالمنغصات، بالمصائب التي تجري على غيره وربما تجري عليه، بالقبور وتفرق أوصال الموتى، وخراب البيوت وزوال الجمال والنضارة، بزوال لذة المعاصي، بإعراض الأحبة عنه وبخذلان الأصدقاء، ففي كل هذا مواعظ بالغة لمن كان عاقلا، وهي كفيلة بتزهيد الإنسان في الدنيا وصرفه عنها، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له في وصف الدنيا: «ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته، ومن أبصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته»(60) فنعم المبصر بالدنيا هي الدنيا؛ لأن المؤمن له في كل شيء فيها موعظة، فعنه (عليه السلام): «إن في كل شيء موعظة وعبرة لذوي اللب والاعتبار»(61).
الحسد
{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(62)، {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(63).
الحسد من أقبح الصفات النفسية النابعة من شجرة حب النفس والدنيا الخبيثة، وهو من مصاديق الاعتراض القلبي على الله (سبحانه وتعالى)(64)، والحسود دائما يتمنى زوال النعمة عن غيره من الناس، ولا يتمنى لهم أي خير لا في الدنيا ولا الآخرة، ويتألم عندما يرزق الله أحدا من الناس ويجد العذاب في قلبه لذلك، عن الإمام علي (عليه السلام): «الحاسد يفرح بالشرور ويغتم بالسرور»، وعنه (عليه السلام) أيضا «الحاسد يرى أن زوال النعمة عمن يحسده نعمة عليه»(65) ولذا فهو يعيش في عذاب دائم، فهو إما ساخط على نعمة موجودة أو خائف من نزول نعمة جديدة على المحسود، وهذه الصفة من صفات الكفار الذين لا يؤمنون بالله (سبحانه وتعالى) {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «يقول إبليس لجنوده: ألقوا بينهم الحسد والبغي فإنهما يعدلان عند الله الشرك»، وعنه (عليه السلام): «إياكم أن يحسد بعضكم بعضا، فإن الكفر أصله الحسد»(66) لكن الله يجيب بجواب واضح للحسود ويقول له إن الحسد لن يرجع ضرره إلا عليك، ولن يؤثر حسدك في تغيير مجرى الإرادة الإلهية {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} لأن الله كريم يحب الخير للجميع بخلاف الحسود فإنه لا يحب الخير إلا لنفسه {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
على الإنسان أن يربي نفسه على حب الخير لجميع الناس، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن الله يحب المرء المسلم الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، ويناصحه الولاية»(67) ويجب أن نتوقف طويلا عند قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «لا يستكمل المرء الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(68) فهل نحن كذلك؟ هل أحاسيسنا تجاه بعضنا مطابقة لهذا الحديث الشريف؟ وهل وقفنا مع أنفسنا لندقق في ذلك؟ وهل صرفنا وقتا لنعرف سبب فقدان هذه الصفة من أنفسنا؟ وهل بذلنا جهدا لنتحقق بهذا الخلق العظيم الذي هو منبع أكثر الخيرات في حسن الخلق مع الناس؟
إن بعضنا إذا ما قال له صاحبه أني لا أوفق لصلاة الليل ربما يجد الفرحة في قلبه! أو عندما يقول له إني لا أستطيع إمساك عيني عن الحرام، فربما يأنس بذلك بدل أن يتألم ويحزن وكأنه هو الذي وقع في هذه المشكلة! هذه الحالة نابعة من شجرة الحسد القذرة التي تنشأ منها كثير من المفاسد كالغيبة وكتمان الحق وترك الثناء على المستحق.
منطق البرهان والدليل
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(69).
يؤكد القرآن الكريم على عدم قبول الحق من دون دليل وبرهان(70)، كما أنه يؤكد على لزوم قبول الحق إذا ما دل البرهان عليه، فليس من حق أحد أن يرفض ما دل عليه البرهان، ولا يقبل القرآن الكريم الاعتماد على العواطف في تحديد الحق من الباطل، كما أنه لا يعتمد على ما عليه عوام الناس؛ لأن الناس ربما جروا على ما ليس بحق، كما أنه لا عبرة بالأعراف والمظاهر التي لا تستند إلى الحق-الشارع- لذا على المؤمن أن يربي نفسه على أن يكون معياره في القبول والرفض أو التوقف هو البرهان، دون أن يجعل العاطفة أو الأعراف والمظاهر أو ما عليه الناس معيارا للحق، يقول الإمام علي (عليه السلام): «إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله»(71) نعم بالنسبة للمعصوم فإنه معيار للحق، ويمكن من خلاله معرفة الحق لكونه معصوما.
في كثير من الأحيان يكون معيارنا لقبول الفكرة أو السلوك الشهرة والجاه والمنصب والمكانة الاجتماعية، فنقبل قول العالم الكبير حتى لو كان مدخولا ونرفض ونستصغر قول الصغير الفقير حتى لو كان حقا! وربما قبلنا قولا لأنه يوافق أهواءنا ومصالحنا ورفضنا آخر لكونه يتعارض مع مصالحنا وأهوائنا! وقد سمعت أيها الحبيب قصة الشيخ العالم ميثم البحراني مع علماء الحلة والعراق عندما عاتبوه على العزلة والإنفراد فامتحنهم بما أظهر فساد مسلكهم وإليك محل الشاهد من القصة باختصار فقد عاتبوه على عزلته فذهب إليهم ليمتحنهم تقول القصة: "ثم إنه بعد الوصول(72) إلى تلك المشاهد العلية لبس ثيابا خشنة عتيقة وتزيى بهيئة رثة بالاطراح والاحتقار خليقة ودخل بعض مدارس العراق المشحون بالعلماء والحذاق فسلم عليهم فرد بعضهم عليه السلام بالاستثقال والانتفاع التام فجلس -عطر الله مرقده- في صف النعال ولم يلتفت إليه أحد منهم ولم يقضوا واجب حقه وفى أثناء المباحثة وقعت بينهم مسألة مشكلة دقيقة كلت منها أفهامهم وزلت فيها أقدامهم فأجاب -روح الله روحه وتابع فتوحه- بتسعة أجوبة في غاية الجودة والدقة فقال له بعضهم بطريق السخرية والتهكم: أخالك طالب علم؟! ثم بعد ذلك أحضر الطعام فلم يؤاكلوه (قدّس سرّه) بل أفردوه بشيء قليل على حدة واجتمعوا هم على المائدة فلما انقضى ذلك المجلس قام (قدّس سرّه) ثم إنه عاد في اليوم الثاني إليهم وقد لبس ملابس فاخرة بهية بأكمام واسعة وعمامة كبيرة وهيئة رائعة فلما قرب وسلم عليهم قاموا له تعظيما واستقبلوه تكريما وبالغوا في ملاطفته ومطايبته واجتهدوا في تكريمه وتوقيره وأجلسوه في صدر ذلك المجلس المشحون بالأفاضل والمحققين والأكابر المدققين ولما شرعوا في المباحثة والمذاكرة تكلم معهم بكلمات عليلة لا وجه لها عقلا ولا شرعا فقابلوا كلماته العليلة بالتحسين والتسليم والإذعان على وجه التعظيم فلما حضرت مائدة الطعام بادروا معه بأنواع الأدب فألقى الشيخ (قدّس سرّه) كمه في ذلك الطعام مستعتبا على أولئك الأعلام وقال: كل يا كمي، فلما شاهدوا تلك الحالة العجيبة أخذوا في التعجب والاستغراب واستفسروه (قدّس سرّه) عن معنى ذلك الخطاب فأجاب -عطر الله مرقده- بأنكم إنما أتيتم بهذه الأطعمة النفيسة لأجل أكمامي الواسعة لا لنفسي القدسية اللامعة وإلا فأنا صاحبكم بالأمس وما رأيت تكريما مع أني جئتكم بالأمس بهيئة الفقراء وسجية العلماء واليوم جئتكم بلباس الجبارين وتكلمت بكلام الجاهلين فقد رجحتم الجهالة على العلم والغنى على الفقر"(73).
إن هؤلاء العلماء لم يتعلموا من القرآن أن يقبلوا الحق على أساس البرهان، وإنما جعلوا معيار الجاه والمال والمكانة عوضا عنه، ولو فتش الإنسان في حياته جيداً لوجد أنه واقع في كثير من الأحيان في هذا المرض دون أن يشعر(74)، فلماذا أحيانا يسمع الكلام الصحيح من زوجته المسكينة ولا يقبله؟ ولكنه عندما يسمعها من العالم الكبير يقبله ويصدق به؟ إن الميزان الذي اعتمده أهل الدنيا هو ميزان الباطل، ويوم القيامة حيث تكشف الحقائق يكون كل شيء تحت ميزان الحق {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(75).
* الهوامش:
(1) البقرة: 2.
(2) بصائر الدرجات:محمد بن الحسن الصفار:97.
(3) مشرق الشمسين:البهائي العاملي:404.
(4) الحجر:78.
(5) الفرقان:30.
(6) وهنا توجد مسألة مهمة جدا، وهي أن القرآن الذي يمثل الحق المطلق والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو الميزان في تقييم الأفكار الدينية التي ترد من النصوص غير القطعية- سندا أو متنا أو كلاهما- وهذا أمر مهم في حياة المؤمن فإنه من المهم جدا أن يكون عنده ميزان يزن به كل ما يرد عليه من أفكار، لكي يكون دائما في حصن ومأمن من كل فكر باطل، ولهذا جاء الأمر بعرض الروايات -غير القطيعة- على القرآن الكريم.
(7) الواقعة:79.
(8) كنز العمال: 4027، راجع البحار: 92 / 17، 77 / 134 / 135.
(9) بحار الأنوار:ج2/34.
(10) البقرة:30.
(11) نهج السعادة: الشيخ المحمودي:ج8/190.
(12) وسائل الشيعة: باب انه يجب على الإنسان أن يتلافى في يومه ما فرط في أمسه، ولا يؤخر ذلك إلى غده.
(13) تحف العقول:215.
(14) المؤمنون: 1- 9.
(15) الكافي:ج2/باب صفة العلماء.
(16) عدة الداعي:ابن فهد الحلي:67.
(17) من المناسب هنا أن نذكر قصة جويبر، ولكن لطول الرواية أعرضت عن نقلها، فراجع الكافي ج5/340.
(18) الكافي:ج2/باب الخوف والرجاء.
(19) الكافي:ج1/باب إبطال الرؤية.
(20) الكافي:ج2/باب الذنوب.
(21) ونسب هذا الانحراف إلى الله (سبحانه وتعالى) بهذا الأسلوب يكشف عن العقيدة الفاسدة التي كان عليها زياد بن أبيه، ولعل هذا من تأثير معاوية (لعنه الله).
(22) تاريخ اليعقوبي:ج2/230.
(23) ميزان الحكمة: الصلاة: الصلاة أفضل الأعمال بعد المعرفة.
(24) يوصي الشيخ بهجت بالتوسل بصاحب الزمان (عليه السلام) وعجل الله له الفرج قبل كل عبادة للتوفيق لأداء حق العبادة.
(25) إبراهيم:40.
(26) ميزان الحكمة:الصلاة(1): الصلاة.
(27) عدة الداعي: ابن فهد الحلي:63.
(28) مريم:31.
(29) في الكافي والمعاني والقمي عن الصادق (عليه السلام) قال نفاعا. التفسير الصافي: الفيض الكاشاني:ج3/280.
(30) البقرة:42.
(31) تفسير الأمثل:ج1/186.
(32) ميزان الحكمة:الحق: ثقل الحق.
(33) كما هو الحال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(34) ميزان الحكمة: الحق: وجوب قول الحق ولو على النفس.
(35) ميزان الحكمة: الحق: وجوب قول الحق ولو على النفس.
(36) ميزان الحكمة: الحق: كلمة حق عند إمام جائر.
(37) البقرة:44.
(38) الكافي:ج2:باب الاعتراف بالتقصير: ح9.
(39) ميزان الحكمة:العلم: الحث على العمل بالعلم.
(40) الكافي:ج1:باب استعمال العلم.
(41) البقرة:81.
(42) الكافي:ج2/باب الذنوب.
(43) الباقر أو الصادق (عليهما السلام).
(44) الكافي:ج1/ ص429.
(45) والجحود غير عدم الاعتقاد بسبب عدم الدليل.
(46) البقرة:82.
(47) راجع ما ذكرناه في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
(48) ومن ضمن الأعمال الصالحة مثل التفكر.
(49) نهج البلاغة:الكلمات القصار:227.
(50) البقرة:96.
(51) الكافي:ج2/باب حب الدنيا والحرص عليها.
(52) المصدر السابق.
(53) ميزان الحكمة: الدنيا:افتراق الدنيا عن الآخرة.
(54) العرجة -بالضم- اسم من التعريج بمعنى حبس المطية على المنزل أي اجعلوا ركونكم إليها قليلا.
(55) نهج البلاغة: ومن كلام له (عليه السلام) كان كثيرا ما ينادي به أصحابه:204.
(56) التكوير:26.
(57) البقرة:165.
(58) ص:3.
(59) نهج البلاغة: من كلام له عليه السلام:223.
(60) نهج البلاغة: كلام له في صفة الدنيا:82.
(61) ميزان الحكمة: الموعظة: في كل شيء موعظة.
(62) البقرة:105.
(63) البقرة:109.
(64) مر بيان ذلك في الحديث عن آية البسملة.
(65) ميزان الحكمة: الحسد: سخط الحاسد لنعم الله.
(66) ميزان الحكمة:الحسد: الحسد والكفر. وكون أصل الكفر هو الحسد إشارة إلى أن أول كافر وهو إبليس (لعنه الله) إنما حمله على الكفر حسده.
(67) وسائل الشيعة:ج12:باب وجوب أداء حق المؤمن.
(68) بحار الأنوار:ج69:ص250.
(69) البقرة:111.
(70) وهذه مسألة بديهية.
(71) ميزان الحكمة: الحق: ميزان معرفة الحق.
(72) أي الشيخ ميثم البحراني (قدّس سرّه).
(73) شرح مائة كلمة لأمير المؤمنين (عليه السلام): ص5.
(74) راجع ما ذكر في الحديث عن قوله تعالى {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}.
(75) الأعراف:8.
0 التعليق
ارسال التعليق