المقدّمة:
عاشوراء موسمٌ يتجدّد، فيتجدّد معه الحزن والأسى على مصاب أبي عبد الله الحسين (عليه السلام). هكذا كانت سيرة أهل البيت (عليهم السلام) في يوم عاشوراء، فقد أورد الصدوق في أماليه عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ المحرّم شهرٌ كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستُحِلَّتْ فيه دماؤنا، وهُتِكَتْ فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا، ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتُهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) حرمةٌ في أمرنا، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا، بأرض كربٍ وبلاءٍ، وأورثنا الكرب والبلاء، إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، فإنّ البكاء يحطّ الذنوب العظام. - ثمّ قال (عليه السلام): - كان أبي (عليه السلام) إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه، حتّى يمضي منه عشرة أيّامٍ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته، وحزنه، وبكائه، ويقول: هو اليوم الّذي قُتل فيه الحسين (عليه السلام)»(1).
وروى الشيخ الطوسيّ في المصباح، عن عبد الله بن سنان، قال: «دخلتُ على سيّدي أبي عبد الله، جعفر بن محمّدٍ (عليهما السلام) في يوم عاشوراء، فألفيتُه كاسف اللون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلتُ: يا ابن رسول الله، ممّ بكاؤك، لا أبكى الله عينيك؟! فقال لي: أَوَفي غفلةٍ أنتَ؟! أما علمتَ أنّ الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام) أُصيب في مثل هذا اليوم؟!»(2).
عاشوراء.. وما أدراك ما عاشوراء؟! يوم بكتْ فيه الأرض والسماء، والملائكة والأنبياء، والجنّ والأنس، وبكى فيه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فقد جاء في مستدرك الحاكم النيسابوريّ حديثٌ – عبَّر عنه بـ: الصحيح على شرط الشيخين - عن أمّ الفضل بنت الحارث، أنّها دخلتْ على رسول الله، فقالت: «يا رسول الله، إنّي رأيتُ حلماً منكراً الليلة، قال: وما هو؟! قالتْ: إنّه شديدٌ. قال: وما هو؟! قالتْ: رأيتُ كأنّ قطعةً من جسدك قُطعت، ووُضعت في حجري. فقال رسول الله: رأيتِ خيراً، تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً، فيكون في حجرك. فولدتْ فاطمةُ الحسينَ، فكان في حجري كما قال رسول الله، فدخلتُ يوماً إلى رسول الله، فوضعتُه في حجره، ثمّ حانتْ منّي التفاتةٌ، فإذا عينا رسول الله تهريقان من الدموع! قالتْ: فقلتُ يا نبيّ الله، بأبي أنت وأمي، ما لك؟! قال: أتاني جبريل، فأخبرني أنّ أمّتي ستقتل ابني هذا. فقلتُ: هذا؟! فقال: نعم، وأتاني بتربةٍ من تربته حمراء»(3).
ذلك هو صانع عاشوراء الحسين (عليه السلام)، فلذة كبد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وقرّة عينه، الّذي روَّى بدمه الأقدس شجرة التوحيد، فثبّت أصلها، وأينعت ثمارها، فآتت أكلها في كلّ عصرٍ ومصرٍ بإذن ربّها.
عاشوراء والآخر:
تنوّعت النظرة للممارسات العاشورائيّة من قبل الآخر - الدينيّ أو المذهبيّ - بين باحثٍ عن حقيقة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) انطلاقاً من هذه المفردات الموسميّة؛ ليصل إلى أصول المذهب – وفروعه - عن طريق البحث العلميّ الجادّ، بعيداً عن العصبيّة الدينيّة أو المذهبيّة، وبين مثيرٍ للفتنة عن طريق شنّ حملات التشكيك المسعورة، الّتي تستهدف المذهب - والمنتمين إليه - في جلّ الأبعاد.
نحن نعتقد بأنّ ثورة الحسين (عليه السلام) ثورةٌ شموليّةٌ، لا تختصّ بالمسلمين الشيعة، بل هي لكلّ إنسانٍ فوق هذا الكوكب، مسلماً كان أو غير مسلمٍ، فهي ثورةٌ تعلَّم منها زعيم الهند غاندي، حيث قال: (تعلّمتُ من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر)، وهي ثورةٌ قال عنها الكاتب المسيحيّ أنطون بارا: (الحسين ثار من أجل الحقّ، والحقّ لكلّ الشعوب، والحسين ثار من أجل مرضاة الله، وما دام الله خالق الجميع، فكذلك ثورة الحسين لا تختصّ بأحدٍ معيّنٍ، بل هي لكلّ خلق الله)(4)، وقديماً قال ذلك القسّ المسيحيّ: (لو كان الحسين لنا لرفعنا له في كلّ بلدٍ بيرقاً، ولنصبنا له في كلّ قريةٍ منبراً، ولدعونا الناس إلى المسيحيّة باسم الحسين)(5).
فحريٌّ بنا - كمسلمين من كافّة المذاهب الإسلاميّة - أن نعيش الحسين (عليه السلام) فكراً، وعاطفةً، وسلوكاً، نعيشه في قيمه، ومبادئه، الّتي هي - في واقعها - قيم ومبادئ السماء، الّتي صدح بها جدّه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وذاد عنها أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام)، والسلف الصالح من صحابة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ونرتقي بواقع المسلمين بما فيه رضا الله (جلَّ جلاله).
فمن شكّك في مقام الحسين (عليه السلام)، ونهضته، وقيمه، ففي قيم السماء شكّك، ومن آذى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في أهل بيته، فقد آذى الله (جلَّ جلاله)، فقد ورد عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنّه قال: «من آذاني في أهل بيتي فقد آذى الله، ومن أعان على أذاهم، وركن إلى أعدائهم، فقد أذن بحربٍ من الله ورسوله، ولا نصيب له في شفاعتي»(6).
عاشوراء الإسلام:
إن إحياء عاشوراء الحسين (عليه السلام) هو إحياءٌ للإسلام في منطلقاته، وأبعاده، وأهدافه، وآليّاته، فكما أنّ الإسلام محمّديّ الوجود، فهو حسينيّ البقاء، والاستمرار، وقد قال الرسول (صلَّى الله عليه وآله): «حسينٌ منّي، وأنا من حسينٍ»(7)، فالحسين (عليه السلام) لم يخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنمّا خرج لطلب الإصلاح في أمّة جدّه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر(8).
إنّ عاشوراء - في حقيقته - هو اليوم العالميّ لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويوم رفض الظلم والظالمين، ويوم الشهادة، ويوم التضحية، والفداء، والإيثار، ويوم الحرّيّة، ويوم الصلاة، والدعاء، ويوم العبوديّة المطلقة لله (جلَّ جلاله).
فهذه المفردات - وغيرها - تتألّق في يوم عاشوراء، وهي مفرداتٌ مقدّسةٌ تنبع من عمق الدين الإسلاميّ الحنيف، ومن هنا تأتي لا بدّيّة التعبير عن هذه المفردات، بأساليب وأدواتٍ تنسجم مع محتواها المقدّس الّذي لا ينفكّ عن قدسيّة الإسلام.
الممارسات العاشورائية:
إنّ إحياء عاشوراء، والتفاعل مع نهضة الحسين (عليه السلام) له مستوياتٌ متعدّدةٌ، فبعضها يرتبط بالبعد العقائديّ الفكريّ الثقافيّ، والبعض الآخر يرتبط بالبعد الروحيّ العاطفيّ المعنويّ، فتنوّع الإحياء والتفاعل يعتبر ظاهرةً حضاريّةً وصحيّةً، يحتّمها تنوّع العطاءات في واقعة كربلاء، وكلّما توفّر إحياء عاشوراء على البعدين الفكريّ والعاطفيّ، كان الإحياء أقرب للرساليّة.
وهناك جملةٌ من مظاهر الإحياء العاشورائيّ الّتي ساهمتْ - وبشكل كبيرٍ - في إبقاء ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) متجذّرةً في وجدان الشعوب، بكلّ شرائحها، على مرّ العصور والأزمان، وهي تعتبر من المستحبّات العينيّة، والواجبات الكفائيّة، ومن هذه المظاهر:
أوّلاً: البكاء:
حقيقة البكاء:
البكاء فعلٌ من أفعال النفس الجوانحيّة، وهو تعبيرٌ عن تأثّرٍ وانكسارٍ في البعد العمليّ؛ نتيجةً لإدراكٍ معيّنٍ، قد يكون ملائماً، وقد لا يكون كذلك، فتدمع العين لحزنٍ، أو لفرحٍ، أو لشوقٍ، وإنمّا يكتسب البكاء بعده الإيجابيّ إذا صدر عن إدراكٍ صادقٍ، وكان المعنى المدرك كمالاً، وكانت الغاية من البكاء موجّهةً، وهادفةً، فبكاء العبد العاشق لمعبوده (جلَّ جلاله) - شوقاً - يؤجّج حالة الحبّ في وجدان العبد العاشق، فتتولّد حينها الطاعة لله (جلَّ جلاله).
وكذا بكاء المفجوع حزناً على مصاب الإمام الحسين (عليه السلام)، فهو بكاءٌ يجعل من قضيّة الإمام الحسين (عليه السلام) قضيّةً متأجّجةً في وجدان الباكي، وماثلةً في واقعه، بكلّ ما تحمل من قيمٍ ومبادئ، وذلك يختلف شدّةً وضعفاً باختلاف مستوى الوعي والإدراك في شخص الباكي.
البكاء في الآيات:
وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم، نرى بأنّه تناول مسألة البكاء في مقام المدح كحالةٍ فطريّةٍ تساهم في الارتقاء بالنفس نحو الكمال، وذلك في عدّةٍ من الآيات المباركة:
1) منها قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}(9).
فهذه الآيات المباركة تطرح مقارنةً كانت بين اليهود والنصارى المعاصرين لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وتشير إلى شدّة عداوة اليهود للمسلمين، وقرب النصارى في المودّة للمسلمين في زمن الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، وتصفهم - في مقام المدح- بأنّ أعينهم تفيض من الدمع.
2) ومنها قوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}(10).
وهذه الآية المباركة نزلتْ في قومٍ من الفقراء، أتوا إلى الرسول (صلَّى الله عليه وآله) بشوقٍ، وطلبوا منه بإصرارٍ أن يعطيهم مطايا توصلهم إلى ميدان الجهاد، فقال لهم الرسول (صلَّى الله عليه وآله): ليس عندي مطايا. فخرجوا من عنده وأعينهم تفيض من الدمع؛ حزناً من عدم وجود ما ينفقون على خروجهم للجهاد.
3) ومنها قوله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(11).
وهذه الآيات المباركة نزلتْ في نبيّ الله يعقوب (عليه السلام) بعد أن أعرض عن أولاده حينما زيّنت لهم أنفسهم ما فعلوه بنبيّ الله يوسف (عليه السلام)، فقال: يا أسفى على يوسف. وذهب بصره من شدّة الحزن.
فحالة البكاء في بعدها الإيجابيّ - والّتي منها البكاء على ما ألمّ بالحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء من مصابٍ - تنسجم مع المحتوى القرآنيّ في جملةٍ من آياته المباركة.
البكاء في الروايات:
وإذا رجعنا إلى الروايات الواردة في البكاء على مصاب الإمام الحسين (عليه السلام)، نرى بأنّها بلغتْ من الكثرة بمكانٍ يمكن القول معه بالتواتر، أو لا أقلّ بالاستفاضة، وهي في الوقت ذاته تشتمل على رواياتٍ صحيحةٍ ومعتبرةٍ سنداً، وتامّةٍ من حيث الدلالة، وهي رواياتٌ موجودةٌ في مصادر الفريقين، على الرغم من وجود بعض الأخبار الضعيفة سنداً، إلاّ أنّها تصلح للتأييد.
ما ورد من طريق مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):
1) منها: ما أورده ابن قولويه في كامل الزيارات، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «كان عليّ بن الحسين (عليه السلام) يقول: أيمّا مؤمن دمعتْ عيناه لقتل الحسين بن عليٍّ (عليه السلام) دمعةً حتّى تسيل على خدّه، بوّأه الله بها في الجنّة غُرَفاً يسكنها أحقاباً، وأيمّا مؤمن دمعتْ عيناه حتّى تسيل على خدّه فينا لأذىً مسّنا من عدوّنا في الدنيا، بوّأه الله بها في الجنّة مبوّأ صدقٍ، وأيمّا مؤمن مسّه أذىً فينا، فدمعتْ عيناه حتّى تسيل على خدّه من مضاضة ما أوذي فينا، صرف الله عن وجهه الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخطه، والنار»(12).
2) ومنها: ما أورده ابن قولويه أيضاً، عن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا زرارة، إنّ السماء بكتْ على الحسين (عليه السلام) أربعين صباحاً بالدم، وإنّ الأرض بكتْ أربعين صباحاً بالسواد، وإنّ الشمس بكتْ أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وإنّ الجبال تقطّعتْ وانتثرتْ، وإنّ البحار تفجّرتْ، وإنّ الملائكة بكتْ أربعين صباحاً على الحسين (عليه السلام)، وما اختضبتْ منّا امرأةٌ، ولا ادّهنتْ، ولا اكتحلتْ، ولا رجلتْ حتّى أتانا رأس عبيد الله بن زياد، وما زلنا في عَبرةٍ بعده، وكان جدّي (عليه السلام) إذا ذكره بكى حتّى تملأ عيناه لحيته، وحتّى يبكي لبكائه - رحمةً له- من رآه، وإنّ الملائكة الّذين عند قبره ليبكون، فيبكي لبكائهم كلّ من في الهواء والسماء من الملائكة»(13).
3) ومنها: ما أخرجه الشيخ الصدوق، عن الريّان بن شبيب، قال: دخلتُ على الرضا (عليه السلام) في أوّل يومٍ من المحرّم، «فقال لي:... ثمّ قال (عليه السلام): يا ابن شبيب، إنّ المحرّم هو الشهر الّذي كان أهل الجاهليّة فيما مضى يحرّمون فيه الظلم والقتال؛ لحرمته، فما عرفتْ هذه الأمّة حرمة شهرها، ولا حرمة نبيّها (صلَّى الله عليه وآله)، لقد قتلوا في هذا الشهر ذرّيّته، وسبوا نساءه، وانتهبوا ثقله، فلا غفر الله لهم ذلك أبداً.
يا ابن شبيب، إن كنتَ باكياً لشيءٍ، فابكِ للحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، فإنّه ذُبح كما يُذبح الكبش، وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً، ما لهم في الأرض شبيهٌ، ولقد بكتْ السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلافٍ لنصره، فوجدوه قد قُتل، فهم عند قبره، شعثٌ غبرٌ إلى أن يقوم القائم، فيكونون من أنصاره، وشعارهم: يا لثارات الحسين.
يا ابن شبيب، لقد حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه (عليه السلام): أنّه لمّا قُتل جدّي الحسين (عليه السلام)، مطرتْ السماء دماً وتراباً أحمر. يا ابن شبيب، إنْ بكيت على الحسين (عليه السلام) حتّى تصير دموعك على خدّيك غفر الله لك كلّ ذنبٍ أذنبته، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً»(14).
4) ومنها: ما ذكره ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب، ممّا ورد في حزن وبكاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) على أبيه الحسين (عليه السلام)، من أنّه بكى عليه عشرين سنةً، وما وُضع بين يديه طعامٌ إلا بكى، حتّى قال مولى له: جُعلت فداك، يا بن رسول الله، إنّي أخاف أن تكون من الهالكين. قال: {إِنمَّا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلىَ اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، إنّي لم أذكرْ مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة. وفي روايةٍ: أما آن لحزنك أن ينقضي؟! فقال له (عليه السلام): ويحك، إنّ يعقوب النبيّ كان له اثنا عشر ابناً، فغيَّب الله واحداً منهم، فابيضّتْ عيناه من كثرة بكائه عليه، واحدودب ظهره من الغمّ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرتُ إلى أبي، وأخي، وعمّي، وسبعة عشر من أهل بيتي، مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟!(15).
ويكفي لإثبات شرعيّة البكاء على مصاب الإمام الحسين (عليه السلام) - بل رجحانه، واستحبابه - ممارسة أئمّة الهدى (عليهم السلام) له، ومداومتهم عليه، وهم عدل القرآن، والثقل الأصغر، المأمورين بالتمسّك به.
ما ورد من طريق مدرسة أهل السنّة والجماعة:
1) منها: ما رواه الترمذيّ في سننه، عن رزين أنّه قال: حدّثتني سلمى، فقالت: دخلتُ على أمّ سلمة وهي تبكي، فقلتُ: ما يبكيك؟ قالتْ: رأيتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ـ أي في المنام ـ، وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلتُ: ما لكَ يا رسول الله؟ قال: شهدتُ قتل الحسين آنفاً(16).
ورواها الحاكم النيسابوريّ في مستدركه أيضاً، ولكن بطريقٍ آخر(17).
2) ومنها: ما رواه الطبرانيّ في المعجم الكبير، عن أمّ سلمة: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم جالساً ذات يومٍ في بيتي، فقال: لا يدخل عليّ أحدٌ، فانتظرتُ فدخل الحسين رضيَّ الله عنه، فسمعتُ نشيج رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يبكي، فاطّلعتُ فإذا حسينٌ في حجره، والنبيّ صلَّى الله عليه وسلم يمسح جبينه، وهو يبكي، فقلتُ: والله ما علمتُ حين دخل. فقال: إنّ جبريل (عليه السلام) كان معنا في البيت، فقال: تحبّه؟! قلتُ: أما من الدنيا فنعم. قال: إنّ أمّتك ستقتل هذا بأرضٍ يُقال لها كربلاء. فتناول جبريل (عليه السلام) من تربتها، فأراها النبيّ صلَّى الله عليه وسلم، فلمّا أحيط بحسينٍ حين قُتل، قال: ما اسم هذه الأرض؟! قالوا: كربلاء. قال: صدق الله، ورسوله، أرض كربٍ وبلاءٍ(18).
قال الميثمي في مجمع الزوائد حينما أورد هذا الحديث: رواه الطبرانيّ بأسانيد، ورجال أحدها ثقاتٌ(19).
3) ومنها: ما رواه الطبرانيّ في المعجم الكبير أيضاً، عن عائشة رضيَّ الله عنها، قالت: دخل الحسين بن عليٍّ رضيَّ الله عنه على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وهو يوحى إليه، فنزا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وهو منكبٌّ، ولعب على ظهره، فقال جبريل لرسول الله صلَّى الله عليه وسلم: أتحبّه يا محمّد؟! قال: يا جبريل، وما لي لا أحبّ ابني؟! قال: فإنّ أمّتك ستقتله من بعدك. فمدّ جبريل (عليه السلام) يده، فأتاه بتربةٍ بيضاء، فقال: في هذه الأرض يُقتل ابنك هذا يا محمّد، واسمها الطفّ. فلمّا ذهب جبريل (عليه السلام) من عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلم والتربة في يده يبكي، فقال: يا عائشة، إنّ جبريل (عليه السلام) أخبرني أنّ الحسين مشهورٌ مقتولٌ في أرض الطفّ، وأنّ أمّتي ستفتتن بعدي. ثمّ خرج إلى أصحابه - فيهم عليٌّ، وأبو بكرٍ، وعمر، وحذيفة، وعمّار، وأبو ذرّ رضيَّ الله عنهم - وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: أخبرني جبريل أنّ ابني الحسين يُقتل بعدي بأرض الطفّ، وجاءني بهذه التربة، وأخبرني أنّ فيها مضجعه.
4) ومنها: ما رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهانيّ في دلائل النبوّة، عن أصبغ بن نباتة، عن عليٍّ رضيَّ الله عنه قال: أتينا معه موضع قبر الحسين رضيَّ الله عنه، فقال: ههنا مناخ ركابهم، وموضع رحالهم، وههنا مهراق دمائهم، فتيةٌ من آل محمّدٍ صلَّى الله عليه وسلم، يقتلون بهذه العرصة، تبكي عليهم السماء والأرض(20).
5) ومنها: ما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق، عن ابن عبّاسٍ وهو يخاطب الحسين (عليه السلام): والله إنّي لأظنّك ستقتل غداً بين نسائك وبناتك، كما قُتل عثمان بين نسائه وبناته، والله إنّي أخاف أن تكون الّذي يُقاد به عثمان، فإنّا لله، وإنّا إليه راجعون. فقال الحسين لابن عبّاسٍ: إنّك شيخ قد كبرتْ، فقال ابن عبّاسٍ: لو لا أن يزري ذلك بي أو بك، لنشبتُ يديّ في رأسك، ولو أعلم أنّا إذا تناصبنا أقمتَ لفعلتُ، ولكن لا أخال ذلك نافعي. فقال له الحسين: لئن أُقتل بمكان كذا وكذا، أحبّ إليّ أن تُستحلّ بي - يعني مكة -. قال: فبكى ابن عبّاسٍ(21).
6) ومنها: ما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق أيضاً، عن يحيى بن إسماعيل بن سالم الأسدي، قال: سمعتُ الشعبيّ يحدّث عن ابن عمرٍ أنّه كان بماءٍ له، فبلغه أنّ الحسين بن عليٍّ قد توجّه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ثلاث ليالٍ، فقال له: أين تريد؟ فقال: العراق. وإذا معه طوامير كتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم. فقال: لا تأتيهم. فأبى، قال: إنّي محدّثك حديثاً: إنّ جبريل أتى النبيّ صلَّى الله عليه وسلم فخيّره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، ولم يرد الدنيا، وإنّكم بضعةٌ من رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، والله لا يليها أحدٌ منكم، وما صرفها الله عنكم إلا للّذي هو خيرٌ لكم. فأبى أن يرجع، قال: واعتنقه ابن عمرٍ، وبكى، وقال: أستودعك الله من قتيلٍ(22).
ثانياً: الجزع:
وهو عبارةٌ عن إظهار الحزن، والتعبير عنه بمثل اللطم، وإقامة المآتم، والنوح، والبكاء بصوتٍ عالٍ ومرتفع، وهو مرجوحٌ فيما لو كانت المصيبة شخصيّةً، وأمّا الجزع على مصاب الإمام الحسين (عليه السلام) فهو أمرٌ راجحٌ شرعاً، ومستحبٌّ، وذلك استنادا إلى الروايات الّتي فاقتْ حدّ التواتر، والّتي صرّحتْ برجحان الجزع على مصاب الحسين (عليه السلام)، وهي موجودةٌ في كتب الفريقين.
ما ورد من طريق مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):
1) منها: ما أورده الكلينيّ في الكافي، عن عن سفيان بن مصعب العبديّ، قال: دخلتُ على أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: قولوا لأمّ فروة تجيئ فتسمع ما صنع بجدّها، قال: فجاءتْ، فقعدتْ خلف الستر، ثمّ قال: أنشدنا. قال: فقلتُ: «فرو جودي بدمعك المسكوب». قال: فصاحتْ، وصحن النساء، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): الباب، الباب، فاجتمع أهل المدينة على الباب، قال: فبعث إليهم أبو عبد الله (عليه السلام) صبيٌّ لنا غُشي عليه، فصحن النساء(23).
2) ومنها: ما في الكافي، عن مصقلة الطحّان، قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لمّا قُتل الحسين (عليه السلام) أقامتْ امرأتُه الكلبيّة عليه مأتماً، وبكتْ، وبكين النساء والخدم حتّى جفّت دموعهنّ وذَهَبَتْ، فبينا هي كذلك إذا رأتْ جاريةً من جواريها تبكي، ودموعها تسيل، فدعتها، فقالتْ لها: ما لكِ أنتِ من بيننا تسيل دموعك؟ قالتْ: إنّي لمّا أصابني الجهد شربتُ شربة سويقٍ. قال: فأمرتْ بالطعام والأسوقة، فأكلتْ، وشربتْ، وأطعمتْ، وسقتْ، وقالتْ: إنمّا نريد بذلك أن نتقوّى على البكاء على الحسين (عليه السلام)(24).
وهذه الروايات - أي روايات الجزع - إضافةً لتواترها، فهي معتضدةٌ بالسيرة المتشرعيّة المتّصلة بزمن المعصوم (عليه السلام).
3) ومنها: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أبي عبد الله الجاموراني، عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعتُه يقول: إنّ البكاء والجزع مكروهٌ للعبد في كلّ ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن عليٍّ (عليه السلام)، فإنّه فيه مأجورٌ(25).
4) ومنها: ما ورد في كامل الزيارات، عن مسمع بن عبد الملك كردين البصريّ، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا مسمع، أنت من أهل العراق، أما تأتي قبر الحسين (عليه السلام)؟! قلتُ: لا، أنا رجلٌ مشهورٌ عند أهل البصرة، وعندنا من يتّبع هوى هذا الخليفة، وعدوّنا كثيرٌ من أهل القبائل من النّصاب وغيرهم، ولستُ آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثّلون بي. قال لي (عليه السلام): أفما تذكر ما صنع به ـ يعني الحسين (عليه السلام)ـ؟! قلتُ: نعم. قال: فتجزع؟! قلتُ: إي والله، وأستعبر لذلك حتّى يرى أهلي أثر ذلك عليّ، فأمتنع من الطعام حتّى يستبين ذلك في وجهي. قال (عليه السلام): رحم الله دمعتك، أما إنّك من الّذين يعدّون من أهل الجزع لنا، والّذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا، ويأمنون إذا آمنّا، أما إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك، ووصيتهم ملك الموت بك، وما يلقونك به من البشارة أفضل، وملك الموت أرقّ عليك، وأشد رحمةً لك من الأمّ الشفيقة على ولدها. قال: ثمّ استعبر، واستعبرتُ معه، فقال (عليه السلام): الحمد لله الّذي فضّلنا على خلقه بالرحمة، وخصّنا أهل البيت بالرحمة، يا مسمع، إنّ الأرض والسماء لتبكي منذ قُتل أمير المؤمنين (عليه السلام) رحمةً لنا، وما بكى لنا من الملائكة أكثر، وما رقأت دموع الملائكة منذ قُتلنا، وما بكى أحدٌ رحمةً لنا، ولما لقينا، إلاّ رحمه الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه(26).
5) ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال، عن بكر بن محمّد الأزديّ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تجلسون وتتحدثون؟! قال: قلتُ: جُعلت فداك، نعم. قال (عليه السلام): إنّ تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا، إنّه من ذَكَرَنَا، وذُكِرْنا عنده، فخرج من عينه مثل جناح الذبابة، غفر الله ذنوبه، ولو كانتْ أكثر من زبد البحر(27).
6) ومنها: ما ذكره الشيخ الصدوق في الخصال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: البكّاؤون خمسةٌ: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمّدٍ، وعليّ بن الحسين (عليه السلام)، فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خدّيه أمثال الأودية، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتّى ذهب بصره، وحتّى قيل له: {تَاللهِ تَفْتَؤُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ}، وأمّا يوسف فبكى على يعقوب حتّى تأذّى به أهل السجن، فقالوا له: إمّا أن تبكي الليل، وتسكت بالنهار، وإمّا أن تبكي النهار، وتسكت بالليل، فصالحهم على واحدٍ منهما، أمّا فاطمة فبكتْ على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) حتّى تأذّى بها أهل المدينة - بمعنى أنّهم أشفقوا عليها لكثرة بكائها -، فقالوا لها: قد آذيتِنا بكثرة بكائك. فكانتْ تخرج إلى المقابر - مقابر الشهداء-، فتبكي حتّى تقضي حاجتها، ثمّ تنصرف، وأمّا عليّ بن الحسين فبكى على الحسين (عليه السلام) عشرين سنةً، أو أربعين سنةً، ما وُضع بين يديه طعامٌ إلاّ بكى، حتّى قال له مولى له: جُعلت فداك، يا ابن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: {إِنمَّا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلىَ اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، إنّي ما أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني لذلك عبرةٌ(28).
7) ومنها: ما رواه الشيخ الطوسيّ في المصباح، عن علقمة، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث زيارة الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء- قال (عليه السلام): ثمّ ليندب الحسين (عليه السلام)، ويبكيه، ويأمر من في داره - ممّن لا يتّقيه - بالبكاء عليه، ويقيم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه، ولْيعزِّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسين (عليه السلام)، وأنا الضامن لهم إذا فعلوا ذلك على الله تعالى جميع ذلك. قلتُ: جُعلتُ فداك، أنت الضامن ذلك لهم والزعيم؟! قال (عليه السلام): أنا الضامن، وأنا الزعيم لمن فعل ذلك. قلتُ: فكيف يعزّي بعضنا بعضاً؟ قال (عليه السلام): تقولون: أعظم الله أجورنا بمصابنا بالحسين، وجعلنا ـ وإيّاكم ـ من الطالبين بثاره مع وليّه الإمام المهديّ من آل محمّدٍ (عليهم السلام). وإن استطعتَ أن لا تنتشر يومك في حاجةٍ فافعل، فإنّه يوم نحسٍ، لا تُقضى فيه حاجة مؤمنٍ، فإنْ قُضيتْ لم يبارك، ولم يرَ فيها رشداً، ولا يدّخرنّ أحدكم لمنزله فيه شيئاً، فمن ادّخر في ذلك اليوم شيئاً لم يبارك له فيما ادّخره، ولم يباركْ له في أهله(29).
8) ومنها: ما في السرائر للحلبيّ، نقلاً من كتاب «العيون والمحاسن» للمفيد، عن خيثمة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أبلغ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله، والعمل الصالح، وأن يعود صحيحُهم مريضَهم، وليعدْ غنيُّهم على فقيرهم، وأن يشهد حيُّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، وأن يتفاوضوا علم الدين، فإنّ ذلك حياةٌ لأمرنا، رحم الله عبداً أحيى أمرنا، وأعلمهم يا خيثمة أنّا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بالعمل الصالح، فإنّ ولايتنا لا تُنال إلا بالورع، وإنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة من وَصَفَ عدلاً ثمّ خالفه إلى غيره(30).
ما ورد من طريق مدرسة أهل السنّة والجماعة:
1) منها: ما أورده الطبريّ في تاريخه، قال: أقبل الحسين بن عليٍّ بأهله من مكّة، ومحمّد بن الحنفية بالمدينة، قال: فبلغه خبره وهو يتوضّأ في طستٍ، قال: فبكى حتّى سُمعت وكف دموعه في الطست(31).
2) ومنها: ما رواه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق، عن شهر بن حوشب، قال: أنا لعند أمّ سلمة زوج النبيّ صلَّى الله عليه وسلم، قال: فسمعنا صارخةً، فأقبلتُ حتّى انتهيتُ إلى أمّ سلمة، فقالتْ: قُتل الحسين. قالتْ: قد فعلوها ملأ الله بيوتهم - أو قبورهم - عليهم ناراً. ووقعتْ مغشيّاً عليها، وقمنا(32).
3) ومنها: ما رواه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق أيضاً، عن زبيد الإياميّ، عن شهر بن حوشب، عن أمّ سلمة، أنّها قالتْ لجاريةٍ: أخرجي فخبّريني. قال: فرجعتْ الجارية، فقالتْ: قُتل الحسين. فشهقتْ شهقةً غُشي عليها، ثمّ أفاقتْ، فاسترجعتْ، ثمّ قالتْ: قتلوه قتلهم الله، قتلوه أذلهّم الله، قتلوه أخزاهم الله، ثمّ أنشأتْ تحدّث، قالتْ: رأيتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على السرير - أو على هذا الدكان -، فقال: ادعوا إليّ أهلي، وأهل بيتي، ادعوا إليّ الحسن، والحسين، وعليّاً، فقالتْ أمّ سلمة: يا رسول الله، أو لستُ من أهل بيتك؟! قال: وأنتِ في خيرٍ، وإلى خيرٍ. فقال: اللهم هؤلاء أهلي، وأهل بيتي، أذهب عنهم الرجس أهل البيت، وطهّرهم تطهيراً(33).
4) ومنها: ما أورده البلاذريّ في أنساب الأشراف، قال: ولمّا بلغ أهل المدينة مقتل الحسين، كثرتْ النوائح والصوارخ عليه، واشتدّت الواعية في دور بني هاشم، فقال عمرو بن سعيد الأشدق: واعيةٌ بواعية عثمان، وقال مروان حين سمع ذلك:
عجّتْ نساء بني زبيدةَ عجّةً
كعجيج نسوتنا غداة الأرنبِ(34)
5) ومنها: ما أورده أحمد بن محمّد الخوافيّ الشافعيّ في التبر المذاب، قال الزهريّ: لمّا بلغ الحسن البصريّ الكوفة قتل الحسين، بكى حتّى اختلج صدغاه، ثمّ قال: وأذلّ أمّة قتلَ ابنَ بنتِ نبيِها دعيُّها، والله ليردنّ رأس الحسين إلى جسده، ثمّ لينتقمنّ له جدّه، وأبوه من ابن مرجانة، ويزيد(35).
6) ومنها: ما رواه الطبرانيّ في المعجم الكبير، عن أمّ سلمة، قالتْ: سمعتُ الجنّ تنوح على الحسين(36).
وقال الهيثمي معقّباً على هذا الخبر بعد أن أورده في مجمع الزوائد: رواه الطبرانيّ، ورجاله رجال الصحيح(37).
ثالثاً: إنشاد الشعر:
لا يخفى ما للشعر والشعراء من دورٍ كبيرٍ في تخليد الوقائع، وتوجيه الرأي العامّ للتفاعل الوجدانيّ مع الحدث بكلّ تفاصيله، من خلال القوالب الشعريّة الزاهية بالأدب العربيّ الراقي، فلذا نرى بأنّ أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يرغّبون الشعراء إذا دخلوا عليهم في إنشاد الشعر على مصاب الحسين (عليه السلام)، وأن يرثوه بما عندهم من أبياتٍ، حرصاً منهم (عليهم السلام) لتخليد نهضة الحسين (عليه السلام)، بكلّ ما تحمل هذه النهضة من قيمٍ إنسانيّةٍ، ومبادئ سماويّةٍ.
وقد رواه الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، في الصحيح عن عبد الله بن الفضل الهاشميّ، قال: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): من قال فينا بيت شعرٍ، بنى الله له بيتاً في الجنّة»(38).
ما ورد من طريق مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):
1) منها: ما رواه محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي في كتاب: (الرجال)، عن نصر بن الصباح، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن يحيى بن عمران، عن محمّد بن سنان، عن زيد الشحّام -في حديثٍ-: «إنّ أبا عبد الله (عليه السلام) قال لجعفر بن عفّان الطائيّ: بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين (عليه السلام)، وتجيد؟! قال: نعم. فأنشده، فبكى ومن حولُه حتّى سالتْ الدموع على وجهه ولحيته، ثمّ قال (عليه السلام): يا جعفر، والله لقد شهدك ملائكة الله المقرّبون ههنا، يسمعون قولك في الحسين (عليه السلام)، ولقد بكوا كما بكينا، وأكثر، ولقد أوجب الله لك يا جعفر في ساعتك الجنّة بأسرها، وغفر لك، فقال (عليه السلام): ألا أزيدك؟! قال: نعم، يا سيدي. قال (عليه السلام): ما من أحدٍ قال في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى به، إلاّ أوجب الله له الجنّة، وغفر له(39).
2) ومنها: ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال: حدّثنا أبو العبّاس القرشيّ، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن محمّد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن أبي هارون المكفوف، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا هارون، أنشدني في الحسين (عليه السلام). قال: فأنشدتُه. فبكى، فقال (عليه السلام): أنشدني كما تنشدون - يعني بالرقة -. قال: فأنشدتُه:
امرُرْ على جدث الحسيـ
ـن فقل لأعظمه الزكيّة
قال: فبكى. ثمّ قال (عليه السلام): زدني. قال: فأنشدتُه القصيدة الأخرى. قال: فبكى. وسمعتُ البكاء من خلف الستر، قال: فلمّا فرغتُ قال لي (عليه السلام): يا أبا هارون، من أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى، وأبكى عشراً كُتبتْ له الجنّة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى، وأبكى خمسةً كُتبتْ له الجنّة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى، وأبكى واحداً كُتبتْ لهما الجنّة، ومن ذكر الحسين (عليه السلام) عنده، فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذبابٍ، كان ثوابه على الله، ولم يرضَ له بدون الجنّة(40).
3) ومنها: ما ذكره العلاّمة المجلسيّ في بحار الأنوار، حيث قال: رأيت في بعض مؤلّفات المتأخّرين أنّه قال: حكى دعبل الخزاعيّ، قال: دخلتُ على سيّدي ومولاي عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) في مثل هذه الأيام، فرأيتُه جالساً جلسة الحزين الكئيب، وأصحابه من حوله، فلمّا رآني مقبلاً قال لي: مرحباً بك يا دعبل، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه، ثمّ إنّه وسّع لي في مجلسه، وأجلسني إلى جانبه، ثمّ قال لي (عليه السلام): يا دعبل، أحبّ أن تنشدني شعراً، فإنّ هذه الأيام أيام حزنٍ كانتْ علينا أهل البيت، وأيّام سرورٍ كانتْ على أعدائنا، خصوصاً بني أميّة، يا دعبل، من بكى وأبكى على مصابنا - ولو واحداً - كان أجره على الله، يا دعبل، من ذرفتْ عيناه على مصابنا، وبكى لما أصابنا من أعدائنا، حشره الله معنا في زمرتنا، يا دعبل، من بكى على مصاب جدّي الحسين، غفر الله له ذنوبه البتّة. ثمّ إنّه (عليه السلام) نهض، وضرب ستراً بيننا وبين حرمه، وأجلس أهل بيته من وراء الستر؛ ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين (عليه السلام)، ثمّ التفت إليّ، وقال لي (عليه السلام): يا دعبل، إرثِ الحسين، فأنت ناصرنا، ومادحنا ما دمت حيّاً، فلا تقصّر عن نصرنا ما استطعتَ. قال دعبل: فاستعبرتُ، وسالتْ عبرتي، وأنشأتُ أقول:
أفاطم لو خلت الحسين مجدلا
وقد مات عطشانا بشط فرات
إذا للطمت الخد فاطم عنده
وأجريت دمع العين في الوجنات(41)
رثاء ابن الجوزيّ للإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء:
قال ابن كثيرٍ في ترجمته لابن الجوزي: وقد سُئل - أي ابن الجوزيّ - في يوم عاشوراء، زمن الملك الناصر صاحب حلب، أن يذكر للناس شيئاً من مقتل الحسين، فصعد المنبر، وجلس طويلاً لا يتكلّم، ثمّ وضع المنديل على وجهه، وبكى شديداً، ثمّ أنشأ يقول وهو يبكي:
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه
والصور في نشر الخلائق ينفخ
لا بد أن ترد القيامة فاطم
وقميصها بدم الحسين ملطخ
ثمّ نزل عن المنبر، وهو يبكي(42).
رثاء الجنّ للإمام الحسين (عليه السلام) برواية ابن عساكر:
قال ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق: أخبرنا أبو السعود بن المجلي... - إلى أن قال -: عن أمّ سلمة قالتْ: سمعتُ الجنّ تنوح على الحسين يوم قُتل وهنّ يقلن:
أيّها القاتلون ظلماً حسيناً
أبشروا بالعذاب والتنكيلِ
كلّ أهل السماء يدعو عليكم
من نبيٍّ ومرسلٍ وقتيلِ
قد لُعنتم على لسان ابن داو
د وموسى وصاحب الإنجيلِ(43)
وقد روى الخوارزميّ في مقتل الحسين خبر رثاء الجنّ عن أمّ سلمة بروايةٍ أخرى(44). وقد ذكرها ابن كثيرٍ في البداية والنهاية(45).
رابعاً: لُبس السواد:
من الواضح أنّ في اللباس - بما يشتمل عليه من ألوانٍ - إيحاءاتٍ، قد تكون أبلغ من الكلمات في إيصال المطلوب، باعتبار أنّها تعبيرٌ عن انعكاسٍ يحاكي خفايا النفس في شخصيّة الإنسان من فرحٍ، أو حزنٍ.
ومن هذا المنطلق نرى بأنّ الشارع المقدّس قد أوجب الحداد على المرأة المتوفىّ عنها زوجها، والّذي هو عبارةٌ عن ترك الزينة في البدن واللباس بما يراه العرف العامّ، كلُبس الذهب، والحليّ، واستعمال الكحل للزينة، والتجمّل، ولُبس الثياب الصفراء، أو الحمراء إذا عُدّت زينةً بنظر العرف.
وكذا الحال بالنسبة لمصاب الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنّ في لُبس المؤمنين الثياب السوداء - حزناً وحداداً على سبط رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، الإمام الحسين (عليه السلام)، وما جرى عليه من مصابٍ - إظهاراً للمودّة والمحبّة لأهل البيت (عليهم السلام)، الّتي أمرنا بها القرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىَ}(46)، وإحياءً لأمرهم (عليهم السلام) بإظهار الحزن في أحزانهم، ولُبس السواد يعتبر من مصاديق الإحياء، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في وصيّته لخيثمة: «رحم الله من أحيا أمرنا»(47).
وقد ورد في محاسن البرقيّ، بسنده عن عمر بن عليّ بن الحسين (عليه السلام)، قال: لمّا قُتل الحسين بن عليٍّ (عليه السلام) لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرٍّ ولا بردٍ، وكان عليّ بن الحسين يعمل لهنّ الطعام للمأتم(48). وفي هذا الخبر دلالةٌ على تقرير المعصوم (عليه السلام).
وذكر ابن أبي الحديد المعتزليّ في شرح نهج البلاغة - نقلاً عن المدائنيّ -: وكان خرج الحسن بن عليٍّ إليهم - أي: إلى الناس بعد شهادة أبيه - وعليه ثيابٌ سودٌ(49).
وأمّا بالنسبة للروايات الّتي دلّتْ على كراهة لُبس السواد في خصوص الصلاة، أو الّتي دلتْ على كراهة لُبس السواد مطلقاً حتّى في غير حال الصلاة، فهي إمّا رواياتٌ غير نقيّة السند، أو رواياتٌ غير تامّة الدلالة على كراهة لُبس السواد، علماً بأنّ هذه الكراهة مبنيّةٌ على القول بقاعدة التسامح في أدلّة السنن، وأنّ هذه القاعدة تشمل الكراهة إضافةً لشمولها الاستحباب، وعلى فرض تماميّة هذه الدعوى، نقول:
أوّلاً: الكراهة في المقام بالنسبة للصلاة، ليستْ بالمعنى الاصطلاحيّ الّذي هو بمعنى رجحان الترك، فإنّ الكراهة في العبادات - بهذا المعنى الاصطلاحيّ للكراهة - غير معقولة، بل هي مستحيلةٌ؛ لعدم إمكان اجتماع المبغوضيّة والمقرّبيّة في شيءٍ عباديٍّ واحدٍ(50)، فالنهي عن لباسه في الصلاة، إرشادٌ إلى أنّ الصلاة في اللباس الأسود أقلّ ثواباً.
ثانياً: الروايات الّتي أفادتْ استحباب إظهار الحزن على الإمام الحسين (عليه السلام) فاقت حدّ التواتر، ولُبس السواد من مصاديق إظهار الحزن، فلا يبعد تخصيص إطلاق الروايات الدالّة على الكراهة، بعموم الروايات الدالّة على استحباب إظهار الحزن والحداد على مصاب الإمام الحسين (عليه السلام)، قال صاحب الحدائق، الشيخ يوسف البحرانيّ: لا يبعد استثناء لُبس السواد في مأتم الحسين (عليه السلام) من هذه الأخبار؛ لما استفاضتْ به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان(51).
خامساً: زيارة الحسين (عليه السلام):
أكّد أهل البيت (عليهم السلام) في ضمن المئات من الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، وشدّ الرحال إلى قبره الشريف؛ لما فيه من الفضل والكرامة، وقد جُمعت هذه الروايات من قبل العلماء الأعلام، وأُفردت في كتبٍ خاصّةٍ، اشتملتْ على جملةٍ من الأمور المتعلّقة بزيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، كما هو الحال في كتاب كامل الزيارات لجعفر بن محمّد بن قولويه، وقد ذكر بعضَها الخوارزميُّ أيضاً في مقتل الحسين (عليه السلام).
ما ورد من طريق مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):
أورد ابن قولويه في كتاب كامل الزيارات الكثير من الروايات في فضل زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، وثواب من زاره في الدنيا والآخرة.
1) منها: عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين (عليه السلام) من الفضل، لماتوا شوقاً، وتقطّعتْ أنفسهم عليه حسراتٍ، قلتُ: وما فيه؟ قال (عليه السلام): من أتاه تشوّقاً كتب الله له ألف حجّة متقبلة، وألف عمرة مبرورة، وأجر ألف شهيدٍ من شهداء بدر، وأجر ألف صائم، وثواب ألف صدقة مقبولة، وثواب ألف نسمة أريد بها وجه الله، ولم يزل محفوظاً سنته من كلّ آفةٍ، أهونها الشيطان، ووكّل به ملكٌ كريمٌ يحفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوق رأسه، ومن تحت قدمه، فإن مات سنته حضرته ملائكة الرحمة، يحضرون غسله، وأكفانه، والاستغفار له، ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويؤمنه الله من ضغطة القبر، ومن منكرٍ ونكيرٍ أن يروّعانه، ويفتح له باب إلى الجنة، ويعطى كتابه بيمينه، ويعطى له يوم القيامة نوراً يضئ لنوره ما بين المشرق والمغرب، وينادي منادٍ: هذا من زوّار الحسين شوقاً إليه، فلا يبقى أحدٌ يوم القيامة إلاّ تمنّى يومئذٍ أنّه كان من زوّار الحسين (عليه السلام)(52).
2) ومنها: عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي (عليه السلام): يا معاوية، لا تدع زيارة الحسين (عليه السلام) لخوفٍ، فإنّ من تركه رأى من الحسرة ما يتمنّى أنّ قبره كان عنده، أما تحبّ أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وعليٌّ، وفاطمة، والأئمّة (عليهم السلام)؟! أما تحبّ أن تكون ممّن ينقلب بالمغفرة لما مضى، ويغفر لك ذنوب سبعين سنة؟! أما تحبّ أن تكون ممّن يخرج من الدنيا وليس عليه ذنبٌ تتبع به؟! أما تحبّ أن تكون غداً ممّن يصافحه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)؟!(53)
3) ومنها: عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين زوّار الحسين بن عليّ؟! فيقوم عنقٌ من الناس، لا يحصيهم إلا الله تعالى، فيقول لهم: ما أردتم بزيارة قبر الحسين (عليه السلام)؟! فيقولون: يا ربّ، أتيناه حبّاً لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وحبّاً لعليٍّ (عليه السلام)، وفاطمة (عليها السلام)، ورحمةً له ممّا ارتكب منه. فيُقال لهم: هذا محمّدٌ، وعليٌّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، فالحقوا بهم، فأنتم معهم في درجتهم، الحقوا بلواء رسول الله. فينطلقون إلى لواء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فيكونون في ظلّه، واللواء في يد عليٍّ (عليه السلام)، حتّى يدخلون الجنّة جميعاً، فيكونون أمام اللواء، وعن يمينه، وعن يساره، ومن خلفه(54).
4) ومنها: عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: وكّل الله بقبر الحسين (عليه السلام) أربعة آلاف ملك شعثاً غبراً، يبكونه إلى يوم القيامة، فمن زاره عارفاً بحقّه شيّعوه حتّى يبلغوه مأمنه، وإن مرض عادوه غدوةً وعشيّة، وإن مات شهدوا جنازته، واستغفروا له إلى يوم القيامة(55).
استحباب زيارة الحسين (عليه السلام) من بعيدٍ وقريبٍ:
قد لا يتمكّن الإنسان المؤمن من زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) عن قربٍ، والّتي هي من المستحبّات الأكيدة، فلا ينبغي أن يترك زيارته (عليه السلام) عن بعدٍ، وقد وردتْ في استحباب زيارته من بعيد عدّة نصوصٍ.
1) منها: ما رواه الكلينيّ بسنده عن الحسين بن ثوير، قال: كنتُ أنا، ويونس بن ظبيان، والمفضّل بن عمر، وأبو سلمة السرّاج جلوساً عند أبي عبد الله (عليه السلام)، وكان المتكلّم منّا يونس، وكان أكبرنا سنّاً، فقال له: جُعلت فداك، إنّي أحضر مجلس هؤلاء القوم - يعني ولد العباس - فما أقول؟ فقال (عليه السلام): إذا حضرت فذكرتنا فقل: «اللهم أرنا الرخاء والسرور.» فإنّك تأتي على ما تريد، فقلتُ: جُعلت فداك، إنّي كثيراً ما أذكر الحسين (عليه السلام)، فأيّ شيءٍ أقول؟ فقال (عليه السلام): قل: «صلّى الله عليك يا أبا عبد الله.»، تعيد ذلك ثلاثاً، فإنّ السلام يصل إليه من قريبٍ ومن بعيدٍ(56).
2) ومنها: ما أورده الصدوق من رواية حنان بن سدير، عن أبيه قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا سدير، تزور قبر الحسين (عليه السلام) في كلّ يومٍ؟ قلتُ: جُعلت فداك، لا. قال (عليه السلام): ما أجفاكم، فتزوره في كلّ شهرٍ؟ قلتُ: لا. قال (عليه السلام): فتزوره في كلّ سنةٍ؟ قلتُ: قد يكون ذلك. قال (عليه السلام): يا سدير، ما أجفاكم للحسين (عليه السلام)، أما علمتَ أنّ لله - تبارك وتعالى - ألف ألف ملكٍ شعثٍ غبرٍ، يبكون، ويزورون، ولا يفترون؟! وما عليك يا سدير أن تزور قبر الحسين (عليه السلام) في كلّ جمعةٍ خمس مرّاتٍ، أو في كلّ يومٍ مرّةً؟! قلتُ: جُعلت فداك، بيننا وبينه فراسخ كثيرة. فقال لي (عليه السلام): اصعد فوق سطحك، ثمّ التفتْ يمنةً ويسرةً، ثمّ ارفع رأسك إلى السماء، ثمّ تنحو نحو القبر فتقول: «السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك ورحمة الله وبركاته.»، تكتب لك بذلك زورةٌ، والزورة حجّةٌ وعمرةٌ. قال سدير: فربما فعلتُ ذلك في الشهر أكثر من عشرين مرّة»(57).
3) ومنها: ما رواه الطوسيّ بسنده عن صالح بن عقبة، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «من زار الحسين بن عليٍّ (عليه السلام) في يوم عاشوراء من المحرّم حتّى يظلّ عنده باكياً، لقي الله (عزَّ وجلَّ) يوم يلقاه بثواب ألفي حجّةٍ، وألفي عمرةٍ، وألفي غزوةٍ، ثواب كلّ غزوةٍ وحجةٍ وعمرةٍ كثواب من حجّ واعتمر وغزى مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ومع الأئمّة الراشدين. قال: قلتُ: جُعلت فداك، فما لمن كان في بعيد البلاد وأقاصيه، ولم يمكنه المصير إليه في ذلك اليوم؟ قال (عليه السلام): إذا كان كذلك برز إلى الصحراء، أو صعد سطحاً مرتفعاً في داره، وأومأ إليه بالسلام، واجتهد في الدعاء على قاتله، وصلّى من بعد ركعتين، وليكن ذلك في صدر النهار، قبل أن تزول الشمس. ثمّ ذكر زيارةً طويلةً، ثمّ قال (عليه السلام): وإن استطعتَ أن تزوره كلّ يومٍ من دارك بهذه الزيارة فافعل»(58).
ما ورد من طريق مدرسة أهل السنّة والجماعة:
1) منها: ما رواه الخوارزميّ في مقتل الحسين، حيث قال: أخبرنا الشيخ الفقيه أبو بكر بن نصر الزاغوني... - إلى أن قال -: سُئل جعفر بن محمّدٍ عن زيارة قبر الحسين، فقال: «أخبرني أبي أنّ من زار قبر الحسين عارفاً بحقّه، كتبه الله في علّيّين. وقال: إنّ حول قبر الحسين سبعين ألف ملك شعثاً غبراً، يبكون عليه إلى يوم القيامة»(59).
وقال محبّ الدين الطبريّ بعد أن ذكر الخبر: خرّجه أبو الحسن العتيقيّ(60). وذكر هذا الخبر - أيضاً - الجوينيُّ في فرائد السمطي(61).
2) ومنها: ما رواه الخوارزميّ أيضاً في مقتل الحسين، حيث قال: أخبرنا العلاّمة فخر خوارزم أبو القاسم، محمود بن عمر الزمخشريّ... - إلى أن قال -: حدّثني عبيد بن يحيى بن مهران، عن محمّد، عن الحسين بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عن آبائه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب، قال: «زارنا رسول الله، فعملنا له حريرةً، وأهدتْ لنا أمّ أيمن قعباً من لبنٍ، وزبداً، وصفحة تمرٍ، فأكل النبيّ، وأكلنا معه، فتوضّأ رسول الله، ثمّ قام، واستقبل القبلة، فدعا الله ما شاء، ثمّ أكبّ إلى الأرض بدموعٍ غزيرةٍ مثل المطر، فهبنا رسول الله أن نسأله، فوثب الحسين، فقال: يا أبتي، رأيتك تصنع ما لم أرك تصنع مثله! قال: يا بنيّ، إنّي سررت بكم اليوم سروراً لم أسرّ بكم مثله، وإنّ حبيبي جبرئيل أتاني، وأخبرني أنّكم قتلى، وأنّ مصارعكم شتّى، فدعوتُ الله لكم، وأحزنني ذلك. قال الحسين: يا رسول الله، فمن يزورنا على تشتّتنا، ويتعاهد قبورنا؟ فقال: طائفةٌ من أمّتي، يريدون برّي وصلتي، فإذا كان يوم القيامة زرتُها، فأخذتُ بأعضادها، فأنجيتُها من أهواله وشدائده»(62).
3) ومنها: ما رواه ابن المغازليّ بإسناده عن فضيل بن يسار، قال: قيل لأبي عبد الله: أيّ قبور الشهداء أفضل؟ قال: «أَوَ ليس أفضل الشهداء عندك الحسين؟! فوالّذي نفسي بيده، إنّ حول قبره أربعين ألف ملك، شعثاً غبراً، يبكون عليه إلى يوم القيامة»(63).
الممارسات العاشورائيّة المستجدّة:
هناك من الممارسات العاشورائيّة ما هو منصوصٌ عليه من قِبَلِ أهل البيت (عليهم السلام)، كالبكاء، والزيارة مثلاً، وهناك بعضٌ آخر من الممارسات المستجدّة الّتي تتناغم مع التطوّر، وتواكب الإبداع، كالمسرح، والتمثيل، حيث لم يردْ فيها نصٌّ بخصوصها، فلا بدّ لها من ضابطةٍ شرعيّةٍ تكتسب من خلالها تلك الحيثيّة، بحيث تجعلها أداةً من الممكن أن تساهم في إيصال رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضة عاشوراء.
والضابطة الشرعية للممارسات العاشورائيّة المستجدّة تتلخّص في أمرين:
1) أن تعبّر تلك الممارسة عن حالة الحزن والأسى بما ينسجم مع العرف العامّ، تعظيماً لمقام أهل البيت (عليهم السلام) بشكلٍ عامٍّ، ولمقام الإمام الحسين (عليه السلام) على وجه الخصوص، فإحداث الضرر المعتدّ به على النفس - عرفاً وشرعاً - لا يمثّل تعبيراً عرفيّاً عن الحزن والأسى، بل هو من المحرّمات.
2) أن ترتكز تلك الممارسة على الأبعاد الاعتقاديّة، والفكريّة الإسلاميّة الممزوجة بالقيم المعنويّة، والمحتوى الإنسانيّ الراقي، الّذي يتناسب مع مقام أهل البيت (عليهم السلام)، بحيث لا تستلزم الهتك، ولا تؤدّي إلى إدخال الوهن على مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
والمتحصّل من ذلك: أنّ كلّ فعلٍ ثبت بالدليل إباحته شرعاً، ومناسبته عرفاً للحزن على مصاب الإمام الحسين (عليه السلام)، فهو ممّا يصح ممارسته في مقام التعبير عن الحزن والأسى على الإمام الحسين (عليه السلام)، وإلاّ فلا يجوز، ومع الشكّ في ذلك، فلا بد من إحراز راجحيّة تلك الممارسات، ولو على أساس تعنونها بعنوانٍ راجحٍ لا يزاحمه عنوانٌ محرّمٌ؛ باعتبار أنّ الإحياء من الأمور التعبّديّة الّتي تتوقّف على قصد القربة إلى الله (سبحانه وتعالى)، فلا يُطاع الله من حيث يُعصى.
والحمد لله ربّ العالمين.
* الهوامش:
(1) أمالي الصدوق، الشيخ الصدوق، ص111.
(2) مصباح المتهجّد، الشيخ الطوسيّ، ص547.
(3) المستدرك، الحاكم النيسابوريّ، ج3، ص176.
(4) الحسين في الفكر المسيحيّ، أنطون بارا، ص21.
(5) الحسين في الفكر المسيحيّ، أنطون بارا، ص72.
(6) جملةٌ من مصادر أهل السنّة والجماعة، لاحظ: شرح إحقاق الحقّ، المرعشيّ، ج9، ص467.
(7) ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام)، ابن عساكر، ص114.
(8) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص241.
(9) سورة المائدة، الآيات: 82-83-84.
(10) سورة التوبة، الآية:93.
(11) سورة يوسف (عليه السلام)، الآيات: 84-85-86.
(12) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص201.
(13) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص169.
(14) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص193.
(15) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص303.
(16) سنن الترمذيّ، ج5، ص323.
(17) مستدرك الحاكم، الحاكم النيسابوريّ، ج4، ص19.
(18) المعجم الكبير، الطبرانيّ، ج3، ص109.
(19) مجمع الزوائد، الميثميّ، ج9، ص188.
(20) دلائل النبوّة، أبو نعيم الإصبهانيّ، ج3، ص211.
(21) تاريخ دمشق، ابن عساكر، ج14، ص211.
(22) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج14، ص202.
(23) الكافي، الكلينيّ، ج8، ص215.
(24) الكافي، الكلينيّ، ج1، ص466.
(25) كامل الزيارات، جعفر بن محمّد بن قولويه، ص201.
(26) كامل الزيارات، جعفر بن محمّد بن قولويه، ص206.
(27) ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص187.
(28) الخصال، الشيخ الصدوق، ص272.
(29) مصباح المتهجّد، الطوسيّ، ص773.
(30) مستطرفات السرائر، ابن إدريس الحلّيّ، ص649.
(31) تاريخ الطبريّ، الطبريّ، ج3، ص301.
(32) تاريخ دمشق، ابن عساكر، ج14، ص238.
(33) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج14، ص140.
(34) أنساب الأشراف، البلاذريّ، ج2، ص417.
(35) التبر المذاب، الخوافيّ الشافعيّ، ص91.
(36) المعجم الكبير، الطبرانيّ، ج3، ص122.
(37) مجمع الزوائد، الهيثميّ، ج9، ص199.
(38) عيون أخبار الرضا، الصدوق، ج2، ص15.
(39) رجال الكشّيّ، ص289.
(40) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص208.
(41) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج45، ص257.
(42) البداية والنهاية، ابن كثير، ج13، ص226.
(43) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج14، ص240.
(44) مقتل الحسين (عليه السلام)، الخوارزميّ، ج2، ص107.
(45) البداية والنهاية، ابن كثير، ج8، ص219.
(46) سورة الشورى، الآية: 23.
(47) مستطرفات السرائر، ابن إدريس الحلّيّ، 625.
(48) المحاسن، البرقيّ، ص420، حديث 195.
(49) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج16، ص22.
(50) رسالةٌ مختصرةٌ في لُبس السواد، الشيخ جواد التبريزيّ، ص62.
(51) الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحرانيّ، ج7، ص118.
(52) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص271.
(53) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص230.
(54) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص269.
(55) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص350.
(56) الكافي، الكلينيّ، ج4، ص575.
(57) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج2، ص599.
(58) مصباح المتهجّد، الطوسيّ، ص773.
(59) مقتل الحسين (عليه السلام)، الخوارزميّ، ج2، ص192.
(60) ذخائر العقبى، محبّ الدين الطبريّ، ص151.
(61) فرائد الصمطين، الجوينيّ، ج2، ص174.
(62) مقتل الحسين (عليه السلام)، الخوارزميّ، ج2، ص189.
(63) مناقب ابن المغازليّ، ص397.
0 التعليق
ارسال التعليق