بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وآل محمد.
مستند الحكم
روى الكليني (قدِّس سرُّه) في الكافي عن:
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى وغَيْرُهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يَاسِينَ الضَّرِيرِ، عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّـدِ بْنِ مُسْـلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ حَدِّ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ الَّذِي
مَنْ خَرَجَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ طَائِفاً بِالْبَيْتِ؟ قَالَ: كَانَ النَّاسُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ والْمَقَامِ، وأَنْتُمُ الْيَوْمَ تَطُوفُونَ مَا بَيْنَ الْمَقَامِ وبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ الْحَدُّ مَوْضِعَ الْمَقَامِ الْيَوْمَ، فَمَنْ جَازَهُ فَلَيْسَ بِطَائِفٍ، والْحَدُّ قَبْلَ الْيَوْمِ والْيَوْمَ وَاحِدٌ قَدْرَ مَا بَيْنَ الْمَقَامِ وبَيْنَ الْبَيْتِ مِنْ نَوَاحِي الْبَيْتِ كُلِّهَا، فَمَنْ طَافَ فَتَبَاعَدَ مِنْ نَوَاحِيهِ أَبْعَدَ مِنْ مِقْدَارِ ذلِكَ، كَانَ طَائِفاً بِغَيْرِ الْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَ بِالْمَسْجِدِ؛ لأَنَّهُ طَافَ فِي غَيْرِ حَدٍّ، ولاطَوَافَ لَهُ.
طريق الحديث
وهذا الحديث اعتمده لوحده الشيخ في التهذيب وقال قبله: "وَحَدُّ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ الَّذِي مَنْ خَرَجَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ طَائِفاً بِالْبَيْتِ ولا طَوَافَ لَهُ هُوَ أَنْ يَطُوفَ مَا بَيْنَ الْمَقَامِ والْبَيْتِ فَمَنْ جَازَهُ أَوْ تَبَاعَدَ عَنْهُ فَلَيْسَ طَوَافُهُ بِشَيْءٍ رَوَى ذَلِك".
ثم ذكر طريقه قال: "مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يَاسِينَ الضَّرِيرِ عَنْ حَرِيزٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ حَدِّ الطَّوَافِ بِالْبَيْت" الحديث.
وفيه شبهة تحريف أو تصحيف في السند من جهة من يروي عنه محمد بن يحيى، واختلاف في تعيينه في تهذيب الشيخ (رحمه الله)، إلا أنه عندنا ليس بذي بال وخطر. إلا أننا نقول: في التهذيب: "مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يَاسِينَ الضَّرِيرِ عَنْ حَرِيزٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ حَدِّ الطَّوَافِ بِالْبَيْت" الحديث.
وفي هامش الكافي المطبوع في الحديث 7436: "مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيىٰ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسىٰ، عَنْ يَاسِينَ الضَّرِيرِ، عَنْ حَرِيزٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِاللّٰهِ (عليه السلام) عَنْ قِيمَةِ مَا فِي الْقُمْرِيِّ " الحديث.
علَّق في الهامش:"لم نجد توسّط أحمد بن محمّد بن عيسى بين محمّد بن يحيى وياسين الضرير في موضع. بل يروي محمّد بن يحيى عن ياسين الضرير بتوسّط محمّد بن أحمد عن محمّد بن عيسى [بن عبيد]. كما في الكافي، ح 7538 و7800 و7910 و8676 و14629، والظاهر أنّ أحمد بن محمّد بن عيسى في سندنا هذا محرّف من محمّد بن أحمد عن محمّد بن عيسى. ويؤيّد ذلك أنّ الخبر رواه الشيخ الطوسي في التهذيب(1) بسنده عن محمّد بن عيسى عن ياسين الضرير".
أقول: يقوِّي احتمال التصحيف أن طرق المشايخ كالنجاشي(2) والشيخ(3) إلى كتابه منحصرة برواية محمد بن عيسى بن عبيد، والصحيح عندي -كما ذكروه- الذي يقتضيه التتبع أنه محرف عن (محمد يحيى عن محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري عن محمد بن عيسى بن عبيد عن ياسين الضرير).
وأما ياسين الضرير، فالظاهر شهرة كتابه بين المشايخ وتسليمهم لروايته في كتب الأخبار، وهذا كاف في الركون لخبره.
الدلالة
وأما الدلالة: فالذي يفهم منها أن العبرة بكونه طائفاً بالبيت عرفاً لخصوصية تميزه، لا به وبغيره فلا يقع الطواف المخصوص بدائرة أوسع من مطاف البيت بنظر العرف، ولم يعين في كلامه (عليه السلام) الحد السابق -قبل تغيير موضع المقام- لمطاف البيت الشريف، بل صرح (عليه السلام) أن موضع المقام صار أو وضع على حد المطاف -كما في جملة كثيرة من النقولات أن عمر أخره عن محل الطواف إلى هذا المحل، وأصر على إرجاعه لما أزاله السيل وثبته في موضعه الذي غيره وهو محله اليوم بلا ريب- ولا جعل الحد الذي كان عصره (عليه السلام) هو الذي يجب أن يكون عليه في بقية العصور، فالعبرة بصدق الطواف بالبيت، لا بالمسافة بين البيت والمقام.
معارضته بما رواه الصدوق
وقد تعارض الضابطة المروية السابقة بما رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) صحيحاً، قال: رَوَى أَبَانٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَلَبِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ؟ قَالَ: مَا أُحِبُّ ذَلِكَ ومَا أَرَى بِهِ بَأْساً، فَلا تَفْعَلْهُ إِلا أَنْ لا تَجِدَ مِنْهُ بُدّاً.
وأبان هو ابن عثمان، الذي روى عنه أجلّة المشايخ وأخذوا حديثه عن سماع لا من كتاب غالباً، مع أن جملة ممن روى عنه مغموز فيه، والمرجع للرواة عنه وما يمكن الإحاطة به من مؤيدات.
قال الشيخ يوسف طيب الله ثراه: "والمسألة لا تخلو من شوب الإشكال، لعدم وجه يحضرني الآن في الجمع بين الخبرين المذكورين. والاحتياط لا يخفى"(4).
أقول: أسلوب رواية الحلبي عن الصادق (عليه السلام) كثير في الأخبار، مجمل الدلالة بنحو تام في بعضها، وظاهر في بعضها الآخر، يمكن الاعتماد على شرحها بما سبق في الصحيح -على الأقوى- عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر أو أبي عبد الله (عليهما السلام)، وكذا بما سيأتي من قرائن تأريخية من زمن النص وتقريبات عرفية.
فالأظهر فيها -كما على دلالتها المذهب المشهور- أنها على نحو اللف والنشر المرتب التشريحي، فجملة (فلا تفعله إلا أن لا تجد منه بداً) وقعت شرحاً لقوله (عليه السلام) المؤلف من مقطعين: (ما أحب ذلك وما أرى فيه بأسا).
وبهذا تكون دالة على عدم إجزاء الطواف خلف المقام لا كراهته.
والضرورة هنا لعلها لأمر التقية لا للزحام وغيره؛ لما أفتى به غير واحد من العامة بجواز الطواف حول الكعبة ولو من خلف حائل ولو ابتعد عن البيت ككونه تحت المسقفات البعيدة عن البيت أو عند أبوابه التي كانت خارج المطاف، لكنه وجه يفتقر للتأييد الذي تسكن معه النفس خاصة أن مثل هذا القول حكي عن الشافعي المتأخر عن الصادق (عليه السلام) زماناً، مع أنه لا مانع من وجود قائل غيره، فلا يحاد عن تسويغ مطلق عدم المندوحة للطواف خلف المقام، سواء كان للتقية أو للزحام الذي لا يخلو عنه موسم ولا يتسع الزمان للصبر لأدائه.
فليس بين رواية الحلبي -هذه- والرواية -الأولى- السابقة لمحمد بن مسلم إلا تمام التلاؤم، إذ في الأولى وضع الإمام (عليه السلام) الضابطة الكلية وصرح بأن الحد في زمنه هو الحد قبل هذا الزمن، وهنا طبق تلك القاعدة التي أفادها (عليه السلام).
وأما التمسك بالعموم أو الإطلاق في قوله (عليه السلام) (ما أحب ذلك) لفرض التعارض بينها وبين مفاد الجواز في صحيحة محمد بن مسلم، فغير سالم عن الإيراد؛ إذ الصحيح في التمسك بالعموم التيقن أولاً بدلالته عليه، ولا يمكن إثبات إطلاق أو عموم للفظ إلا بعد الاطمئنان بكونه في هذا المقام من البيان، وهذا وإن ذكره أغلب الأصوليين إلا أنهم قلما يجرون عليه كقاعدة، وكثيراً ما يثبتون الإطلاق للفظ أو العموم مع أن الشك في نفس الدلالة، وتفصيل الكلام في محله.
وعلى أي حال، فإن القاعدة لدينا: هي إرجاع المجملات -أي ما كان من المتشابه- من كلامهم (عليهم السلام) للمحكم من الأخبار -أي المبيّن الواضح- في حدود ما وقع عليه البيان، وقد تقدم نتيجته. والحاصل: عدم جواز الخروج عن حدود المطاف، تضيق أو توسع، وأنه بالتوسعة الأخيرة دخل المقام في المطاف بعدما كان على حدوده، وتسوغ الضرورة وعدم المندوحة الطواف خارج المطاف.
ولأنه لا بد من تشخيص موضوع الحكم ليقارب ما استظهرناه من الروايتين السابقتين، استدعى البحث عن تاريخ المطاف والمقام بصورة موجزة وافية.
تاريخ المقام والمطاف
فمن طرقنا في تاريخ المقام ما رواه الصدوق في العلل في باب (علة تأثير قدمي إبراهيم -عليه السلام- في المقام وعلة تحويل المقام من مكانه إلى حيث هو الساعة) قال: أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ وعَلِيٌّ ابْنَا الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْمَدَائِنِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ قَيْسٍ ابْنِ أَخِي عَمَّارِ بْنِ مُوسَى السَّابَاطِيِّ عَنْ مُصَدِّقِ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أَوْ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: لَمَّا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ أَخَذَ الْحَجَرَ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمَيْهِ وَهُوَ الْمَقَامُ فَوَضَعَهُ بِحِذَاءِ الْبَيْتِ لاصِقاً بِالْبَيْتِ بِحِيَالِ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَلَمَّا تَكَلَّمَ بِالْكَلامِ لَمْ يَحْتَمِلْهُ الْحَجَرُ فَغَرِقَتْ رِجْلاهُ فِيهِ فَقَلَعَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) رِجْلَيْهِ مِنَ الْحَجَرِ قَلْعاً، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ وصَارُوا إِلَى الشَّرِّ والْبَلاءِ ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ فَرَأَوْا أَنْ يَضَعُوهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ لِيَخْلُوَ الْمَطَافُ لِمَنْ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّداً (صلَّى الله عليه وآله) رَدَّهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام)، فَمَا زَالَ فِيهِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) وفِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وأَوَّلِ وِلايَةِ عُمَرَ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: قَدِ ازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ فَأَيُّكُمْ يَعْرِفُ مَوْضِعَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَنَا أَخَذْتُ قَدْرَهُ بِقَدَرٍ، قَالَ: والْقَدَرُ عِنْدَكَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَائْتِ بِهِ فَجَاءَ بِهِ فَأَمَرَ بِالْمَقَامِ فَحُمِلَ ورُدَّ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ السَّاعَة(5).
ووقع في أصل عاصم بن حميد المطبوع ضمن الأصول الستة عشر -ولا بأس بها- نحوه، قال: عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: كَانَ الْمَقَامُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ، فَلَمَّا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) مَكَّةَ رَأَى أَنْ يُحَوِّلَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ فَحَوَّلَهُ، فَوَضَعَهُ مَا بَيْنَ الْبَابِ والرُّكْنِ، وكَانَ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) وإِمَارَةَ أَبِي بَكْرٍ وبَعْضَ إِمَارَةِ عُمَرَ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ حِينَ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: إِنَّهُ يَشْغَلُ النَّاسَ عَنْ طَوَافِهِمْ، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ! مَنْ يَعْرِفُ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَقَامُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: فَقَالَ الْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيُّ: أَنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَمَدْتُ إِلَى أَدِيمٍ فَقَدَدْتُهُ وأَخَذْتُ قِيَاسَهُ، فَهُوَ فِي حُقٍّ عِنْدَ فُلانَةَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَأَخَذَ خَاتَمَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا فَجَاءَ بِهِ، فَقَاسَهُ، ثُمَّ حَوَّلَهُ، فَوَضَعَهُ مَوْضِعَهُ الَّذِي كَانَ فِيهِ(6).
وروى في المسترشد نحوه عن غير عاصم بن حميد(7). ولذا -أي أن المقام واقع على حد المطاف الخارجي- اجتزي بالمشي قبله لمن نذر المشي للبيت من غير تعيين للمبدأ، رواه الصدوق في الفقيه قال: "ورُوِيَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِياً مَشَى فَإِذَا تَعِبَ رَكِبَ، ورُوِيَ أَنَّهُ يَمْشِي مِنْ خَلْفِ الْمَقَامِ". أي قبل المقام متوجها للبيت زاده الله شرفاً.
وقد بقي المقام على حد الطواف بالبيت سنين طويلة -ملاصقاً للبيوت المحيطة به غابراً أو على حدود المطاف لا يتجاوزه الطائف، قد قيل أن عمر هو أول من أحاط المطاف بحائط لما اشترى البيوت اللصيقة به- رغم التوسعات الكثيرة التي طرأت على المسجد، لم تتغير فيها سعة المطاف، وكان من شدة حرصهم على تحديده أحاطوه بأعمدة وأساطين لتمييزه وحصره، وكان المقام شاخصاً على حدوده وكذا باب بني شيبة وسقاية العباس البارزه المسقفة على بئر زمزم، وهذا ما تحكيه الأوصاف في كتب المؤرخين ورسوم بعضهم والصور القديمة.
قال الفاسي: "المطاف المذكور في كتب الفقهاء وهو ما بين الكعبة ومقام إبراهيم (عليه السلام)، وما يقارب ذلك من جميع جوانب الكعبة". وقال الجويني: "المطاف المعتاد الذي يستنكر ويستبعد مجاورته هو ما بين الكعبة والمقام، وفي كل جانب في العادة أمارات منصوبة لا يكاد الناس يخرجون عنها".
وقد كان المطاف غير مستدير بصورة هندسية كاملة، فقد ذرعه الكثير من المؤرخين منهم المؤرخ محمد طاهر كردي، قال: "وإليك بيان طول المطاف القديم من الجهات الأربع محررًا مضبوطًاً منبطًا تامًّا بالأمتار: (11.50م) طول المطاف القديم من جدار الكعبة الذي فيه الباب من جهة الشرق إلى أول مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام. (16.65م) طول المطاف القديم من جدار الكعبة من ظهرها أي من الجهة الغربية. (22.3م) طول المطاف القديم من جدار الكعبة من تحت ميزابها أي من الجهة الشمالية، بما فيه حجر إسماعيل وسمك جداره. (15.20م) طول المطاف القديم من جدار الكعبة الذي بين الركنين من الجهة الجنوبية" انتهى.
ثم توالت التوسعات حتى وسع المطاف ليأخذ شكله الدائري الكامل اليوم، جاء في موقع بوابة الحرمين التابع للرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي -في التعريف بالمطاف-: "هذا الشكل الدائري من عمل المهندسين المصريين الذي أشرفوا على توسعة المطاف. وإليك بيان طول هذا المطاف الجديد من الجهات الأربع محررًا مضبوطًا تامًّا بالأمتار: (15.30م) طول المطاف الجديد من الجهة الشرقية للكعبة، أي من مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام (10.75 م) طول المطاف الجديد من الجهة الغربية، أي من جهة ظهر الكعبة (4.65 م) طول المطاف الجديد من الجهة الشمالية، أي من جهة حجر إسماعيل عليه الصلاة والسلام. (11.50م) طول المطاف الجديد من الجهة الجنوبية، أي من جهة الركنين الأسود واليماني. هذا هو قياس طول المطاف الجديد بالأمتار، وهو قياس محرر مضبوط لا يحتمل الشك؛ لأننا أخذناه من نفس المهندسين المصريين الذي اشتغلوا في توسعة المطاف في زماننا سنة 1377 ألف وثلاثمائة وسبع وسبعين من الهجرة. وبإضافة مقدار المطاف القديم على المطاف الجديد، يظهر مقدار كامل المطافين. ولقد قسمنا هذه الدائرة إلى أربعة أقسام متساوية، كما هو ظاهر في الرسم التالي، لنبين مقدار طول الطواف القديم، وطول المطاف الجديد من الجهات الأربع وهو رسم صحيح مضبوط مطابق للحقيقة، أخذناه من المهندسين المصريين الذي اشتغلوا في توسعة المطاف من أواخر شهر شعبان إلى أوائل شهر شوال من سنة 1377 ألف وثلاثمائة وسبع وسبعين هجرية. وإليك رسم المطافين:
وفي العهد السعودي... بعد توسعة سنة1388هـ للمطاف أصبح قطر المطاف (64.8 م) على اعتبار أن الكعبة مركز القطر، ويحيط به ممران متجاوران على محيط المطاف عرض كل منهما 2.5م، وعلى ارتفاع 20سم. وقد أصبحت مساحة المطاف (3058 م2) حول الكعبة. وفي توسعة عام 1399هـ ألغيت الحصاوي والمشايات ونقل المنبر والمكبرية وخفضت فوهة بئر زمزم أسفل المطاف بالقرب من المحيط الخارجي لدائرة المطاف، فأصبحت سعة المطاف إلى حدود الحرم القديم بقطر (95.2م)، وأصبحت مساحة المطاف (8500 م2).
وفي عام 1424هـ تم تغطية مداخل قبو زمزم للاستفادة القصوى من صحن المطاف الذي يئن في فترات الزحام بالمعتمرين والحجاج، وذلك بتسقيف مداخل القبو المؤدي للبئر، وترحيل نوافير الشرب إلى جانب صحن المطاف، حيث أدت هذه الأعمال إلى زيادة صحن المطاف بمقدار (400) متر مربع".
فأول توسعة عليه وقعت سنة 1379هـ الموافق لسنة 1959م، وصار على هيئته التي نشاهدها اليوم، ثم استحدث هذا العام وهو1433هـ توسعة جديدة على المطاف أيضا.
التباعد عن البيت بالمقدار الذي يتسامح فيه العرف
لا يخفى أن القائل بعدم جواز التباعد أزيد من بعد المقام من جميع الجهات المستديرة حول الكعبة ولو بمقدار يسير، يُبطل الاعتماد على هذه القياسات رغم كونها متقاربة؛ لكنه قول ضعيف لم يأخذ في الاعتبار سيرة الطائفين يومها من عدم اعتبار هذه الدقة، كما أن قوله (عليه السلام): «فَمَنْ جَازَهُ فَلَيْسَ بِطَائِفٍ، والْحَدُّ قَبْلَ الْيَوْمِ والْيَوْمَ وَاحِدٌ قَدْرَ مَا بَيْنَ الْمَقَامِ وبَيْنَ الْبَيْتِ مِنْ نَوَاحِي الْبَيْتِ كُلِّهَا، فَمَنْ طَافَ فَتَبَاعَدَ مِنْ نَوَاحِيهِ أَبْعَدَ مِنْ مِقْدَارِ ذلِكَ، كَانَ طَائِفاً بِغَيْرِ الْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَ بِالْمَسْجِدِ؛ لأَنَّهُ طَافَ فِي غَيْرِ حَدٍّ، ولا طَوَافَ لَهُ»، إمضاء لهذا العمل الذي عليه الناس.
وقد يشكل فيقال: أنه إذا كان بين جدار البيت المشرف ورأس قوس الحجر 12 متراً (وهي 24 ذراعاً تقريباً) كما ذكر إبراهيم باشا في مرآة الحرمين وغيره، فهذا يعني أن المطاف يتضيق بمقدار المسافة الباقية الموازية لبُعد المقام عن البيت وهي 11.5م، وتكون المسافة المتبقية من المطاف القديم جهة الحجر [22.3 (من البيت إلى حد المطاف القديم) - 12 =] 10.3 م من وراء الحجر، فالمتبقي بمسافة توازي المقام [11.50 (من البيت إلى المقام) - 10.3 =] 1.20 م وهي خمسة أشبار تقريبا كما ذكره جدنا العلامة المبرور الشيخ حسين العصفور (رحمه الله).
قال قدس الله نفسه في السداد بعد أن ذكر صحيحة محمد بن مسلم السابقة:
"ومقتضاها مراعاة قدر البعد بين البيت والمقام في سائر جوانب البيت، وهو خلاف الظاهر من كلام الأصحاب، وعلى هذا فتقلّ المسافة من جانب الحجر جدّاً، ولا يبقى إلا مقدار خمسة أشبار، فلا يتباعد عن جداره بأكثر من ذلك، لأنّه ليس من البيت، وعلى المشهور فالمسافة كثيرة جدّاً، ولكنّ الأخبار تنادي بخلاف ذلك".
والصحيح أن المسافة التي حدها (عليه السلام) من جوانب البيت كله هي جملة ما يطاف حوله؛ ولا بد من ارتكاب هذا التأويل؛ فإنه (عليه السلام) في مقام بيان جملة المطوف به وحد المطاف لا ما استثني من البيت كالحجر، والتعبير بالبيت للغلبة بذريعة المقصود من الطواف، وعليه فكل نواحي البيت هي تحديد للمطاف لا للبعد من جدارن البيت، وعبارة (مِنْ نَوَاحِي الْبَيْتِ كُلِّهَا) مقرونة سياقاً وغرضاً بحد المطاف بما يدخل فيه جملة المطوف وفيه الحجر.
بل إن من المقطوع به أن الطواف في المسافة الباقية على القول بدخول الحجر في المسافة غير معقول ومقطوع الفساد تأريخياً.
أما عدم تعقله: فلأنه لا يخلو موسم من الزحام الذي لا يتيسر معه طواف الحجاج كلهم في هذا المقدار، ولو كان الحكم كما ذكروا لبان في تكثر الأسئلة عنه وتنبيه الأئمة له، بل كيف يعقل طوافهم فيه وهم على الدواب والجمال كما طاف رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، بل إن الالتزام به خروج عن الحكم نفسه؛ لعدم القدرة العادية على تحققه لجل الناس، وقد عرفنا أن الأحكام لا تناط بالفرد النادر إلا أن ينص عليه في أخبارهم (عليهم السلام).
وأما تأريخياً: فقد مرَّ عليك إطباق المؤرخين على تحديد المطاف من العصر الأول، ونصهم على أنه لم يغير حده إلى أن أحدث فيه من توسعة في هذا العصر.
جذور المسألة
ويظهر لي أن المسألة قد طرأت كوجهٍ محتمل عند بعض متأخري علمائنا (رحمهم الله)، ويبدو أن أول من ذكرها وتبناها الشهيد الثاني في مسالكه، قال (رحمه الله): "وتجب مراعاة هذه النسبة من جميع الجهات، فلو خرج عنها ولو قليلاً بطل، ومن جهة الحجر تحتسب المسافة من خارجه بأن ينـزله منـزلة البيت وإن قلنا بخروجه عنه".
وربطت بمسألة دخول الحجر في البيت أو خروجه منه، ثم بنى على أن الخارج من البيت -أي الحجر- لا يدخل فيما يجب الطواف به، قال في المسالك في مستند الحكم بإدخال الحجر في الطواف: "مستند ذلك الأخبار الصحيحة، والتأسي بالنبيّ والأئمّة صلوات اللّه عليهم. وليس عندنا معلّلا بكونه من البيت، بل لما قلناه. وفي بعض أخبارنا تعليل ذلك بكون أمّ إسماعيل (عليهما السلام) مدفونة فيه، وفيه قبور أنبياء. وروى الصدوق في الفقيه والعلل: «أنّه ليس في الحجر شيء من البيت ولا قلامة ظفر»، ورواه زرارة عن الصادق (عليه السلام).
وروى العامة عن عائشة أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) قال لها: «إنّ من الحجر ستّة أذرع متصلة بالبيت منه»، فمنعوا من سلوك ذلك، واختلفوا فيما زاد.
وعلى كلّ حال، فالإجماع واقع من المسلمين على أنّه ليس خارج الحجر شيء آخر يجب الخروج عنه في جواز الطواف خلفه ملاصقاً بحائطه من جميع الجهات. وإنّما نبّهنا على ذلك، لأنّه قد اشتهر بين العامّة هناك اجتناب محلّ لا أصل له في الدين".
ولا ملازمة بين كون الحجر خارجاً من البيت واحتساب المسافة التي يطاف بها خلفه، فإن الأخبار التي قدمناها وما ذكرناه من التقريبات وقطعيات التاريخ كافية للحكم بالاجتزاء بالطواف خلف الحجر بما يعده الناس طوافاً حول الكعبة.
الخروج عن دائرة المطاف المرسومة اليوم
وبما قدمناه يتبين حكم الخروج عن دائرة المطاف المرسوم اليوم، فالموضوعية لصدق الطواف بالبيت وما هو بمنزلته كالحجر، وهذا لا يقع بتعيين معين له؛ لكونه أمراً يتعين في الخارج بنفسه وحسب مطابقة مسمى الطواف به مع الخارج، فلما كان -قديماً في العصر الأول للإسلام- تحيط الدور بالبيت من كل جانب تعين المطاف بتلك السعة حوله، ولما حصر الناس في دائرة أوسع بجعل جدار أو أعمدة حولة كان المطاف ما حواه وكان الطائف من خلفه بمنزلة الطائف بالحرم، واستمر إلى زمن ليس ببعيد حتى تمت توسعته قبل خمسين عاماً، ولا شك أن صدق طواف الناس بالبيت اليوم وبعد إزالة الأعمدة والمرافق المحيطة به في كامل الدائرة المرسومة والساحة حتى أعتاب الأبواب لا تنكر.
وأما الطواف خلف الأعمدة والمسقف من الحرم، وكذا الطواف من الطوابق العلوية التي لا تتأخر عن المطاف تحتها بل يفصل بينها وبين فضاء المطاف حواجز وأعمدة كثيرة، فلا يختلط الريب في خروجه عن حقيقة الطواف بالبيت.
نعم، استثني الاضطرار في الطواف خارجه، الشامل هذا الاطرار لحالة التقية أو الزحام الشديد مع عدم المندوحة الكافية للاتيان به في وقته.
ملحقات
ملحق1: رسم هندسي لأبعاد البيت المشرف والحجر من رسم شركة ابن لادن التي أشرفت على تعمير البيت قبل سنوات.
* الهوامش:
(1) التهذيب، ج 5، ص 371، ح 1293.
(2) فهرست النجاشي: 453/ ر1227.
(3) فهرست الشيخ: 514/ ر819.
(4) الحدائق، ج16، ص112.
(5) علل الشرائع 2: 423.
(6) الأصول الستة عشر (ط دار الحديث): 149.
(7) المسترشد: 521.
0 التعليق
ارسال التعليق