بمجرد أن يسلّم المصلّي في الركعة الأخيرة من كل فريضة يكون قد خرج من الصلاة، ومن ثمّ يشرع المصلّي بالتعقيب وله الأجر العظيم على تعقيبه الذي لا بد من التصاقه بالصلاة، ولو حصل فاصل كما لو اشتغل بالمنافيات والكلام قبل التعقيب وبعد التسليم، فإنّه لا يكون تعقيباً لأنّ التعقيب يكون عُقيب الصلاة إذ:
"يعتبر أن يكون متصلاً بالفراغ منها غير مشتغل بفعل آخر ينافي صدقه الذي يختلف بحسب المقامات من السفر والحضر والاضطرار والاختيار، ففي السفر يمكن صدقه حال الركوب أو المشي أيضاً كحال الاضطرار، والمدار على بقاء الصدق والهيئة في نظر المتشرعة، والقدر المتيقن في الحضر الجلوس مشتغلاً بما ذكر من الدعاء ونحوه، والظاهر عدم صدقه على الجلوس بلا دعاء أو الدعاء بلا جلوس إلا في مثل ما مر"[1].
لذا لو تأخر بهذه التعقيبات كما لو قام من مقامه مثلاً فقد لا يصدق عليه أنّه معقِّب فيما لو عاد وجاء بالتعقيبات.
وقد يصدق عليه أنّه معقِّب إذا قلنا بأنّ "الإقبال بالقلب والبقاء على هيئة التشهّد وعدم الكلام قبله وخلاله والحدث وعدم الاستدبار وعدم مفارقة المصلَّي وكلّ مناف في صحّة الصلاة أو كمالها"[2] كلَّها من وظائف كمال التعقيب.
وذلك بالاستناد على مثل قول الصادق× في سؤالٍ عمّن يخرج لحاجة ويرغب أن يكون معقّباً: >إن كنتَ على وضوء فأنت مُعقِّب<[3]، إلا أنّ هذا لا يتم بعد القول بأنّ له ثواب المعقّب وليس هو معقّب حقيقة [4]، ويشهد له قول الشهيد في الذكرى : "قد ورد أن المعقب يكون على هيئة المتشهد في استقبال القبلة، وفي التورك، وأنّ ما يضر بالصلاة يضر بالتعقيب"[5].
ومن اشتغل بالتعقيب كان له ثواب المصلّي، أما ما ورد من تعقيبات كثيرة كما هو مذكور في مظانّه، منها: التكبير، تسبيح الزهراء، الدعاء وله صيغ مختلفة، قراءة سورة الحمد وآية الكرسي وآية الشهادة {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[6] وآية الملك {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[7] وغيرها من التعقيبات الثابت استحبابها بعد الفريضة وهي بعينها مستحبّة للنافلة.
والسؤال الذي نحاول الإجابة عليه هو: هل للتعقيبات المذكورة ترتيب معين أم أنّ المكلف مخير في تريبها كيف ما شاء؟
الجواب: هو أنّ بعضها مرتّب وبعضها الآخر ليس كذلك فالمصلي له أن يرتب كما يشاء، وسأذكر المرتب منها، ومنه يتّضح أن ما لم أذكره فهو من التعقيبات غير المرتبة فللمكلف أن يأتي به مع غيره من دون رعاية الترتيب ضرورة أن لا يتخلّف صدق التعقيب عليه.
أما ما ورد من التعقيبات بصورة مرتّبة فروايات متعددة تفرز لنا ترتيبين:
الأول: أن يكبر المصلّي مرّة أو ثلاثاً بعد التسليم ثم يقرأ الدعاء الخاص.
1- صحيحة المفضل بن عمر قال قلت لأبي عبد الله× لأيّ علّة يكبّر المصلّي بعد التسليم ثلاثاً يرفع بها يديه؟ فقال×:
>لأنّ النبي| لما فتح مكة صلّى بأصحابه الظهر عند الحجر الأسود فلمّا سلّم رفع يديه وكبّر ثلاثاً وقال " لا إله إلا الله وحده وحده، أنجز وعده ونصر عبده وأعز جنده وغلب الأحزاب وحده، فله الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير "، ثمّ أقبل على أصحابه، فقال: لا تدعوا هذا التكبير وهذا القول في دبر كل صلاة مكتوبة، فإنّ من فعل ذلك بعد التسليم وقال هذا القول كان قد أدى ما يجب عليه من شكر الله تعالى على تقوية الإسلام وجنده<[8].
ولا يخفى أنّ المفضّل ممن وقع الخلاف في وثاقته والمعتمد وثاقته وإن وجد ما يستفاد منه تضعيفه كقول النجاشي: "مفضل بن عمر أبو عبد الله، قيل أبو محمد الجعفي: كوفي، فاسد المذهب، مضطرب الرواية، لا يعبأ به، وقيل: إنّه كان خطابياً، وقد ذكرت له مصنفات لا يعول عليها..."[9].
وكذا ما قاله ابن الغضائري: "المفضل بن عمر الجعفي، أبو عبد الله، ضعيف متهافت، مرتفع القول، خطابي، وقد زيد عليه شيء كثير، وحمل الغلاة في حديثه حملاً عظيماً، ولا يجوز أن يكتب حديثه"[10].
إلا أنّ هذه مناقشة بوجوه؛ منها: تصريح الشيخ في اعتماده عليه وأنّه غير مطعون عليه، ومنها: أن ابن شهر آشوب عدّه من أصحاب الصادق× بل قد عدّه الشيخ المفيد من خاصة أبي عبد الله× وبطانته، وثقاته الفقهاء الصالحين، ممن روى النص بالإمامة من أبي عبد الله× على ابنه أبي الحسن موسى×، منها: وجود الروايات المادحة.. وغيرها[11].
2- صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله× قال: >قل بعد التسليم الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم<[12].
ولا كلام في سند الروايتين فهو معتبر.
أما الدلالة في الروايتين فواضحة في الترتيب كما أنّها لم تلحظ تسبيح الزهراء÷ خصوصاً في الرواية الثانية فهي واردة عن الإمام الصادق× بعد أن كان التسبيح بخلاف الأولى التي كانت عن النبي| حيث كانت ولم يكن التسبيح إذ ذاك، ولو احتملنا وجوده فعدم ذكره من النبي| -خصوصاً في هذا الحدث- يثبت أنّ موقع التسبيح ليس هو بعد التسليم مباشرة وقبل بقية التعقيبات.
الثاني: أن يسبّح تسبيح الزهراء ثم يهلل مرة واحدة أو من دون تهليل.
1- رجل عن أبي عبد الله× قال: >من سبّح الله في دبر الفريضة تسبيح فاطمة المائة مرة وأتبعها بـ(لا إله إلا الله) مرّة غفر له<[13].
وهذه الرواية مروية في ثلاثة مصادر معتبرة إلا أنّها معلولة بالإرسال فتسقط عن الاعتبار.
ولكن لو قلنا بالاعتبار فهي لا تنافي ما تقدم من روايات الترتيب السابق لأنّ التسبيح دبر الفريضة يصدق على صورة إيقاعه بعد الدعاء المأثور وبهذا يبعد احتمال أنّ مفاد الرواية هو أنّ التعقيب لا يبدأ بالتكبيرات بل يبدأ بتسبيح الزهراء÷ ومن ثمّ التهليل مرّة واحدة على خلاف ما هو المعروف بين الناس حيث يهللون مرّة واحدة -بعد التكبير ثلاثاً- ثم ينتهون إلى التسبيح.
2- محمد بن يعقوب عن الحسين بن محمد عن عبد الله بن عامر عن علي بن مِهزيار عن فضالة بن أيوب عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله×: >من سبّح تسبيح فاطمة÷ قبل أن يثنى رجله من صلاة الفريضة غفر الله له، ويبدأ بالتكبير<[14].
هذه الرواية معتبرة سنداً، وهي تدل على تحديد موقع التسبيح وهو من بعد السلام إلى ما قبل ثني الرجلين، وهذا الحدّ إما عبارة عن بقاء المصلّي على حالة الجلوس التي انتهى بها في الصلاة أو أنّه كناية عن عدم انشغال المصلّي بغير التعقيب، وعلى كلا الاحتمالين لم يحدد الإمام كون التسبيح لا بد من كونه أوّل التعقيبات. فلا دلالة واضحة على الترتيب.
ثمّ إنّ المراد من التكبير في ذيل الرواية من قوله×: >ويبدأ بالتكبير< هو التكبيرات الأربع والثلاثون في تسبيح الزهراء×، إلا إذا احتملنا أنّ قوله× >ويبدأ بالتكبير< أنّه يقصد الله أكبر ثلاثاً بعد التسليم بقرينة أنّ الإمام ليس في مقام بيان كيفية التسبيح حتى نحتمل أنّ مراده هو إذا أردت أن تشرع في تسبيح الزهراء فعليك أن تبدأ بالتكبير.
لكن يبعّد هذا الاحتمال ورود بعض الروايات التي تذكر أكثر من كيفية للتسبيح مخالِفة لما هو المعروف حيث ورد في استحباب تسبيح الزهراء÷ عند النوم أن يبدأ بالتسبيح ثم التحميد ثم التكبير[15]، وبعضها يبدأ بالتكبير ثم التسبيح ثم التحميد[16]، ويحتمل صدور هذه الصيغ للتقية إذ إنّ مذهب العامة على ذلك الترتيب[17] أو لاختصاصها بوقت النوم مثلاً...
وعلى هذا فالإمام× عندما قال: >ويبدأ بالتكبير< قد أشار إلى الصيغة الصحيحة المعروفة؛ وهي لزوم أن يبدأ المصلّي بالتكبرات والمكلّف مخيّر في تقديم التسبيح على التحميد أو العكس، فهو× في مقام البيان في هذه الفقرة من جهة ما يُبدأ به من تسبيح الزهراء÷.
النتيجة:
بناء على ما تقدّم نقول: إنّ الصحيح في ترتيب التعقيبات بعد التسليم -وجمعاً بين الروايات- أن يكبّر المصلّي ثلاثاً ثم يقرأ الدعاء الخاص ثم يسبّح تسبيحة الزهراء× محافظاً على جِلسته ومنصرفاً عن فعل المنافيات للصلاة ومن ثم يهلل مرةً... وبعد هذا للمصلّي أن يعقّب بما شاء بالترتيب الذي يشاء.
ويمكن أن يصلّي على النبي وآله بعد التكبير وقبل الدعاء الخاص كما سيتضح.
تساؤل:
قد يقال: لمّا كان تسبيح السيدة فاطمة الزهراء÷ أفضل التعقيبات على الإطلاق فلا بد من أن يكون هو المقدّم على جميع التعقيبات حتى على الصلاة على النبي|؟
الجواب:
أولاً: لا كلام في كون التسبيح أفضل التعقيبات فلم يرد فيها ما ورد فيه، فمما ورد مضافاً إلى الروايتين الأخيرتين ما عن أبي جعفر×:
>من سبّح تسبيح فاطمة÷ ثم استغفر غفر له، وهي مائة باللسان وألف في الميزان وتطرد الشيطان وترضي الرحمن<[18].
وعنه× أيضاً قال: >ما عبد الله بشيء من التحميد أفضل من تسبيح فاطمة÷ ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول الله| فاطمة÷<[19].
عن أبي خالد القماط قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: >تسبيح فاطمة÷ في كل يوم في دبر كلّ صلاة أحبّ إليّ من صلاة ألف ركعة في كلّ يوم<[20] وغيرها من الروايات.
لذا قال بعض علمائنا حول أفضليته أنّه: "أفضل الأذكار كلّها تسبيح الزهراء÷، وقد أجمع أهل العلم كافّة على استحبابه"[21].
وكونه أفضل التعقيبات لا يلازم تقديمه عليها. ولو تنزّلنا وقلنا بالملازمة كان ينبغي تقديمها حتى على التكبيرات الثلاث ولم يقل بهذا أحد.
ثانياً: ورد في المعتبر عن أمير المؤمنين× أنّه قال:
>أعطي السمع أربعة: النبي| والجنة والنار والحور العين، فإذا فرغ العبد من صلاته فليصلّ على النبي| وليسأل الله الجنة وليستجير بالله من النار ويسأل الله أن يزوجه الحور العين، فإنّه من صلّى على النبي| رفعت دعوته، ومن سأل الله الجنة، قالت الجنة: يا رب أعط عبدك ما سأل. ومن استجار بالله من النار، قالت النار: يا رب أجر عبدك مما استجارك منه. ومن سأل الحور العين قلن: يا رب أعط عبدك ما سأل<[22].
وهذه الرواية تذكر رجحان التعقيب بالصلاة على النبي وآله دون أن يسبقه شيء لتفريعه بالفاء >..من صلاته فليصلّ على النبي..< ولو لم تطبق الطائفة على كون التعقيب الأول هو التكبرات الثلاث لأمكن القول بأنّ التعقيب الأول بعد التسليم هو الصلاة على النبي وآله، ولعلّ انصراف الطائفة عن التعقيب قبل التكبيرات بالصلاة على النبي وآله هو عدم استظهارهم من الفاء التعقيب بلا مهلة أو أنّهم لا يعتبرون الفصل بالدعاء المأثور مهلة فيصدق عليه التعقيب حتى مع إيقاعها بعده لا سيّما إذا لحظنا قول الإمام× في صحيحة أبي بصير المتقدّمة: >قل بعد التسليم الله أكبر لا إله إلا الله...<.
ثالثاً: لا يصح الاعتماد على فقرة >قبل أن يثنيَ رجله< إذ مضافاً إلى ما تقدّم من عدم استظهار الترتيب، أنّا نقول بوجود روايات تذكر نفس هذه الفقرة لبعض الأدعية فما يقال في التسبيح لا بد أن يقال فيها مما يؤكد عدم إرادة الترتيب كما ورد عن النبي|: >... من قال ذلك عقيب الصبح والمغرب قبل أن يثني وركيه لم يلق الله عزّ وجلّ عبد بعمل أفضل من عمله إلَّا من جاء بمثل عمله<[23].
أيّ التعقيبات يقدّم عند التزاحم
قد يضيق وقت المصلّي عن الإتيان بالتعقيبات على الترتيب المتقدّم ففي هذه الصورة لا ينبغي الشك في تقديم أفضلها وهو تسبيح الزهراء÷.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] السيد اليزدي، العروة الوثقى، ج1، ص547 فصل في التعقيب.
[2] الشهيد الثاني، الفوائد الملية لشرح الرسالة النفليّة، ص244.
[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج6، ص457 باب17من أبواب من أبواب التعقيب ح1.
[4] المحدّث البحراني، الحدائق الناضرة ج8، ص507.
[5] نقلاً عن المصدر السابق.
[6] سورة آل عمران: 18.
[7] ن ف: 26.
[8] الوسائل ج6 ص452 باب 14 ح2.
[9] انظر: معجم رجال الحديث، ج19، ص317.
[10] انظر: معجم رجال الحديث، ج19، ص318.
[11] انظر: معجم رجال الحديث، ج19، ص318- 319.
[12] الوسائل ج6 ص472 باب 24 ح72.
[13] الوسائل ج6 ص440 باب 7 ح3.
[14] الوسائل ج6 ص439 باب 7 ح1.
[15] الوسائل ج6 ص446 باب 11 ح2و3.
[16] الوسائل ج6 ص445 باب 10 ح3.
[17] انظر: الفقه على المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزيري ص189 "أن يقول: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، ويقول، الحمد لله ثلاثا وثلاثين، ويقول الله أكبر ثلاثا وثلاثين عقيب كل صلاة".
[18] الوسائل ج6 ص442 باب 8 ح3.
[19] الوسائل ج6 ص442 باب 9 ح1.
[20] الوسائل ج6 ص442 باب 9 ح2.
[21] العلامة الحلي، منتهي المطلب، ج1، ص302.
[22] الوسائل ج6 ص466 باب 22 ح6.
[23] الشهيد الثاني، الفوائد المليّة لشرح النفليّة، ج1، ص250.
0 التعليق
ارسال التعليق