الملخّص:
في هذه المقالة تعرّضٌ إلى أهمّيّة وخطورة الخطاب الدّينيّ، فيذكر الكاتب بعض ضوابط الخطاب الدّينيّ، ويشير في البيْن إلى أخلاقيّات الحوار، ثمّ يثنّي الكلام بذكر مسؤوليّات الخطاب الدّينيّ ومعياره وموقفه من المعوّقات، ثمّ يبيّن نوعين من الخطاب الدّينيّ: فوق النّقد وتحته، ويبيّن الخلط الواقع عند بعض الحداثويّين بينهما، ثمّ يختم مقالته بذكر مسؤوليّات الخطاب الحسينيّ على الخصوص وما يجب أن يحمله.
التمهيد
عنوانٌ يحملُ درجةً كبيرةً من الخطورةِ والحساسيّة في وقتنا المعاصر، ألا وهو (الخطاب الدِّينيّ) لما له من دور رئيسيّ في وعي النَّاسِ، ولحركتِهم، ولمواقفِهم على كلَّ المستوياتِ، وبما أنّ الدِّينُ ينظّمُ كلَّ حياةِ الإنسانِ، فإذا استقامَ هذا الخطابُ استقامَ دينُ النَّاسِ، واستقامتْ حياتُهم، وإذا زاغَ هذا الخطابُ شكَّلَ خطراً على دين النّاسِ، وبالتّالي على كلِّ واقِعهم العقديّ والفكريّ والرّوحيّ والأخلاقيّ والحياتيّ.
وربَّما قاد النَّاسَ إلى منزلقاتٍ خطيرة! هنا تكونُ الخطورةُ في التعاطي مع هذا العنوانَ، ثمَّ إنَّه عنوانٌ أصبح محطًّا لتجاذباتٍ صعبة في هذا الزّمن، وكذلك أصبح موقِعاً للكثير من الاستهدافاتِ والتّشكيلاتِ والاستقطابات.. هكذا يشخّص سماحة العلّامة السّيّد عبدالله الغريفيّB (أهمّيّة الخطاب الدّينيّ )، حيث نجد تركيزاً على هذا المفهوم في العديد من كلماته ومحاضراته.
يذكر سماحة السّيّدB أنّه شاع في أدبيّاتِ هذا العصر استعمالُ مفردةِ (الخِطاب الدِّينيّ) (الخِطابُ السِّياسيّ) (الخِطابُ الثّقافيّ) وأنواع أخرى من الخِطاب، ثمّ يعرّف سماحة السّيّدB (الخطاب) "يعني مجموعةَ رؤى وأفكارٍ يُخاطَبُ بها النَّاسُ سواءً أكانت مكتوبةً أو منظومةً، فإذا كانتْ هذِه الرُّؤى والأفكارُ دينيةً سُمِّيَ الخِطابُ (خطاباً دينيّاً) أو (خِطاباً إسلاميّاً)".
فماذا يعني هذا (الخطاب الدّينيّ)؟
الخطابُ الدِّينيّ هو أداةُ التّبليغ الّذي أمَرَ بهِ الدِّينُ حيث قال:
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا}(الأحزاب:٣٩).
النّصُّ يتحدَّث عن الأنبياء، إلَّا أنَّ حمَلةَ الدِّينِ هم امتدادٌ لحركةِ الأنبياء، فهم يحملون مسؤوليّاتِ التّبليغ لدين الله، والخطابُ الدِّيني هو أداةُ الدَّعوة إلى اللهِ الّتي أمر بها الدِّينُ حيثُ قال:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين}(فُصّلت:٣٣).
والخِطابُ الدِّينيّ هو أداةُ الأمرِ بالمعروفِ والنّهي عن المنكر الّذَين أمر بهما الدِّين حيث قال:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(آل عمران:١٠٤).
والخِطابُ الدِّينيّ هو أداةُ الإصلاح الَّذي أَمَرَ بهِ الدِّينُ حيثُ قال على لسان نبيِّ الله شعيبg:
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(هود:٨٨).
فإذَا كانَ الخِطابُ الدِّينيّ هو أداةُ التّعبير عن (التّبليغ) و(الدّعوةِ) و(الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر) و(الإصلاح).
وما دامتْ هذه العناوين قد حدَّد الدِّين مساحاتِها، ومسؤوليّاتِها، وصلاحيّاتِها، وحدَّد وسائلها وأدواتها.
فمن الطّبيعيّ جدّاً أنْ يكون الدِّينُ قد حدَّدَ للخطاب الدِّينيّ الصَّلاحيّاتِ والمسؤوليّات والأدوات ولم يترك الأمر لأيّ جهةٍ أخرى مهما كان موقعُها وقيمتُها أنْ تحدِّد ذلك.
وإذا كانَ الدِّينُ نفسُهُ هو الّذي يحدِّد صلاحيّاتِ الخِطابِ الدِّينيّ فلا يُقصد بالدِّين تلك الآراءُ الزّائفةُ، المتطرِّفةُ، الطّائشةُ، التّكفيريّةُ، الّتي تُشَرعِنُ للقتلِ، والفتكِ، والعُنفِ، والإرهاب، وإنتاجِ الفوضى والعبثِ والاقتتالِ والفتنِ، والصّراعاتِ، الطّائفيّةِ والمذهبيّة، هذا ليس ديناً منزّلًا من الله، إنَّما هو أهواء شيطانيّةٌ قُمِّصتْ لباسَ الدِّين.
خِطاب الدِّينُ يجب أن يكون خِطابَ العدلِ والحقِّ والإنصافِ والمحبَّةِ والتّسامحِ والتّآلفِ والأمنِ، خِطابَ الخيرِ كلَّ الخير للإنسان والأوطان، وليس خطاب تكفير وتمييز وطائفيّة وتحرِيض، وليس خِطابَ عنفٍ وتطرُّفٍ وإرهاب وفوضى وعبث، فإذا مارسَ الخِطاب هذه العناوين فلا يصحّ أن ينتسب إلى الدِّين الحقِّ[1].
ضوابط الخطاب الدّينيّ
قال تعالى{ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...}(النّحل:125).
هذا النَّصُّ حدَّد ثلاث ضوابط للخطاب الدِّينيِّ، وللخطاب السِّياسيِّ، ولأيِّ خطاب. هذه الضَّوابط هي:
الضّابطة الأولى: الحِكْمة
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ...}(النَّحل: 125).
ماذا تعني (الحِكْمة)؟ تعدَّدتْ كلماتُ المفسِّرين في تحديد معنى (الحِكْمة).
والمعنى الأوضحُ لهذه الكلمة في هذا النَّصِّ الّذي يحدِّد (ضوابط الخطاب الدِّينيِّ) هو (الرُّشدُ، والسَّدادُ، والصَّوابُ)، فلا يحملُ الخطاب الدِّينيُّ، أو الثَّقافيُّ، أو السِّياسيُّ (حكمةً) إذا لم يكن رشيداً، وسديداً، وصائباً، الرُّشدُ درجةٌ عاليةٌ من الوعي والنُّضج والبصيرة، والسَّدادُ هو موافقة الشَّرع والعقل.
{...وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}(الأحزاب: الآية70).
والسَّديد من القول: السَّليم من خللِ الفساد.
والصَّوابُ هو مجانبة الباطل والخطأ.
فالخطابُ الَّذي يتّصفُ بالحكمةِ هو الخطاب الّذي يحمل الوعيَ، والنُّضجَ، والبصيرةَ، ويكون موافقاً للشَّرعِ والعقلِ، ومجانباً للباطل والخطأ والفساد. وإذا فقد الخِطابُ الدِّينيُّ، أو الثَّقافيُّ، أو السَّياسيُّ (الحكمةَ)، فكان خطاباً متخلِّفاً، لا يملك وعياً ونضجاً وبصيرةً، وكان مخالفاً للشَّرع والعقل، ومجانباً للحقِّ والصَّواب والصًّلاح.
فأيُّ مصيرٍ ينتظر الشُّعوب، والأوطان من هذا الخِطاب.
إنَّه خِطابٌ يقود إلى الدَّمار والفساد.
وإنَّه خطابٌ يزرعُ الفتن، والكراهيات، والعصبيَّات.
وإنَّه خطابٌ يؤزِّم الأوطان والشُّعوب.
وإنَّه خطابٌ ينتج التَّطرُّف، والعنف، والإرهاب.
فكم هو خطيرٌ وخطيرٌ جدّاً أنْ تغيب (الحكمةُ) في خطابنا الدِّينيِّ، وفي خطابنا الثَّقافيِّ والإعلاميِّ، وفي خطابنا السٍّياسيِّ.
بدايةُ الطَّريق؛ لإصلاح الأوطان هو (إصلاح الخطاب).
وإصلاح الخطاب يعتمد على مجموعة (مكوِّنات) أوَّلها (الحكمة).
فالحكمةَ الحكمةَ يا صنَّاعَ الخِطاب الدِّينيِّ، ويا صنَّاعَ الخطاب ِالثَّقافيِّ، ويا صنَّاعَ الخطابِ السِّياسيِّ.
كلُّ المعتركاتِ المدمِّرةِ الّتي تشهدُها أوضاعُنا الحاضرة يقفُ وراءَها (خطاباتٌ موتِّرةٌ)، و(خطاباتٌ مؤزِّمةٌ)، و(خطاباتُ فتنٍ وكراهية).
والخطاباتُ المتوتِّرة والمؤزِّمة لا تملكُ (الحكمة)، ولا تملكُ (البصيرة)، ولا تملكُ (الرُّشد)!
ربَّما يكون (صنَّاعُ هذه الخطاباتِ) مواقعَ دينيَّة متقدِّمة، أو مواقع ثقافيَّةَ متقدِّمةَ، أو مواقعَ سياسيَّةَ متقدِّمةَ إلَّا أنَّ هذا لا يشفع لها ما دامتْ لا تملك (الحكمةَ، والرُّشدَ، والبصيرة).
وهنا يكونُ الخطر أكبر حينما يكون الموقع أكبر، موقع الدِّين، وموقع الحكم يشكِّلان الموقع الأكبر، والموقع الأخطر، فإذا صلح خطاب الدِّين، وخطاب الحكم صلحت الأوطان، والعكس صحيح.
الضّابطة الثانية: الموعظة الحَسَنَة
من ضوابط الخطاب الدِّينيِّ، والثَّقافيِّ، والسِّياسيِّ (الموعظةُ الحَسَنة).
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ...}(النَّحل: 125).
ومتى تكون الموعظةُ حَسَنةً؟
مطلوب من الخطاب الدِّينيِّ، أو الثَّقافيِّ، أو السِّياسيِّ؛ لكي يحقِّق أهدافَه المشروعة، وغاياتِهِ النَّظيفة أنْ يكون ناصحاً، صادقاً، رقيقاً، رفيقاً، محبّاً، متسامحاً.
أمَّا إذا كان الخِطابُ يحمل أهدافاً مصلحيَّةً ونفعيَّةً أو يحمل الكراهيةَ، والتَّعصُّبَ.
فإنَّه لن يكون قادراً أنْ يفتح العقول، وأنْ يقتحم القلوب، وأنْ يصلح أوضاعاً فاسدة، وأنْ يُغيِّر واقعاً خطأ، بل سوف يكرِّسُ الأخطاءَ، ويؤزِّمُ الأوضاع، ويوتِّر العلاقات، ويُعطِّل كلَّ الخَيارات الهادفة إلى الإصلاح والبناء.
كم هو مصير الأوطان جميلٌ وفي غايةِ الجمالِ، وهادئٌ وفي غاية الهُدوءِ، وآمنٌ وفي غاية الأمان، ومتآلفٌ وفي غاية التَّآلف، ومتسامح وفي غاية التَّسامح، حينما يحملُ خِطابُ الأوطان كلَّ هذه المعاني الكبيرة.
هكذا نفهم لماذا يُؤكِّدُ النَّصُّ القرآنيُّ المتقدِّم على اعتماد (الموعظة الحسنة) كضابطةٍ مهمَّةٍ جدّاً من ضوابط الخطاب سواء أكان خطابَ دينٍ، أم خطابَ ثقافةٍ، أم خطابَ سياسة.
وإذا فقد الخطابُ هذه الضَّابطة بكلِّ دلالاتها الكبيرة شكَّل أداةَ هدمٍ ودمار، وأداة عبثٍ وإفسادٍ، وأداة تأزيم وتوتير، وأداة عنف وتطرُّف.
الضّابطة الثالثة: الجدال بالّتي هي أحسن
من ضوابط الخطاب الدِّينيِّ، والثَّقافيِّ، والسِّياسيِّ (الجدال بالّتي هي أحسن) {...وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...}(النَّحل: 125).
حينما تختلف الرُّؤى الدِّينيَّة، وحينما تختلف الأفكار الثَّقافيَّة، وحينما تختلف الخَيارات السِّياسيَّة، كيف تتعامل المواقع المتخالفة فيما بينها؟
هناك منهجان لهذا التّعامل:
المنهج الأوَّل: الاحتراب، والخِصام، والتَّواجه
وقد أنتج هذا المنهج أوضاعاً في غاية التَّأزُّم والارتباك، والافتراق، والشَّتات، والفتن، والصِّراعات، وربّما كانت المآلات تطرُّفاً، وعنفاً، وإرهاباً، هكذا تصنع الاختلافات الدِّينيَّة، والثَّقافيَّة، والسِّياسيَّة إذا لم ترشَّدْ، وكانت محكومة للهوى، وللعصبيَّات، وللأغراض السَّيِّئة.
التَّاريخ حافلٌ بصراعاتٍ دينيَّةٍ، وصراعاتٍ ثقافيّةٍ، وصراعاتٍ سياسيَّةٍ! كذلك الحاضر هو أيضاً حافلٌ بكلِّ هذه الصِّراعات، وربَّما بشكلٍ أكثر ضراوةٍ.
وكانت الأثمانُ في الماضي والحاضر باهظةً جدًّا، ومكلِّفةً جدَّا، أرواحاً، دماءً، أعراضاً، أموالاً، مقدَّسات!
هذا النَّهج الخصاميُّ والاحترابيُّ لا يؤمن بحقِّ الاختلاف الدِّينيِّ، أو الثَّقافيِّ، أو السِّياسيِّ!
مَنْ يختلف معك عقديّاً، أو فكريّاً، أو اجتماعيّاً، أو سياسيّاً، فهو عدوُّك، ولا خَيار إلَّا مواجهته، ومحاربته، ومخاصمته، مهما كان الثَّمن، ومهما كانت النَّتائج.
هذا الإلغاء للآخر تمارسه مواقعُ دينيَّةٌ، ومواقعُ ثقافيَّةٌ، ومواقعُ اجتماعيَّةٌ، ومواقع سياسيَّة، ولو اقتصر الإلغاء بأنْ يكون نظريّاً لهَان الأمر، وإنَّما في الغالب يتحوَّل إلغاءً عمليّاً، يتحوَّل احتراباً، يتحوَّل اقتتالاً، يتحوَّل تعصُّباً، يتحوَّل فِتَناً.
وكيف تأسَّس هذا النَّهج الإلغائيُّ؟
نتيجة فهم خطأ للانتماء.
نتيجة تربيةٍ دينيَّةٍ خطأٍ، وتربيةٍ ثقافيَّةٍ خطأٍ، وتربية سياسيَّةٍ خطأٍ.
نتيجة تعبئةٍ خطابيَّةٍ متطرِّفةٍ، متطرِّفةٍ دينيّاً، متطرِّفةٍ ثقافيّاً، متطرِّفةٍ سياسيّاً.
نتيجة مشاريع مدمِّرة صنَّعتها قوى معادية لهذه الأمَّة، ولأوطانِ هذه الأمَّة.
المنهج الثَّاني -وهو المنهج الّذي يعتمد -: لغة الجدال بالّتي هي أحسن
من حقِّ أيِّ إنسانٍ أنْ يُشكِّل قناعاتِه الدِّينيَّة، أو الثَّقافيَّة، أو السِّياسيَّة ما دام هذا التَّشكُّل محكوماً لمعايير علميَّةٍ وليس إلى جهلٍ أو عصبيَّة.
وليس بالضَّرورة أنْ تكون هذه القناعات صائبة.
وإذا كان من حقِّك أنْ تُشكِّل قناعاتِك الدِّينيَّة، أو الثَّقافيَّة، أو السِّياسيَّة، فمن حقِّ الآخرين أنْ يُناقشوا هذه القناعات -إذا اعتمدَتْ المناقشة أسساً علميَّة-، ومن حقِّ الآخرين أنْ يرفضوا قناعاتِك إذا قادهم الدَّليل العلميُّ إلى ذلك، [و] هنا تأتي لغة الجدال بالّتي هي أحسن.
أخلاق الجدال والحوار وفق المنهج القرآنيِّ
وللجدال والحوار أخلاقيَّة أكَّد عليها المنهج القرآنيُّ، وتتمثَّل هذه الأخلاقيَّة في النّقاط التَّالية:
أ- أنْ تكون لغة الحوار نظيفة
فلا يجوز أنْ يعتمد الحوار (لغة السَّبِّ، والشَّتم، والتَّشهير، والتَّسقيط). {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ...}(الأنعام: 108).
لغة السَّبِّ تعبِّرُ عن عَجْز، وإفلاس! كما أنَّها تساهم في تأجيج الخلافات، وتشنيج العلاقات، والقرآن الكريم يؤكِّد على الجدال بالّتي هي أحسن،
فـ:
ـ {...وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...}(النَّحل: 125).
ـ {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...}(العنكبوت: 46).
ب - أنْ تكون لغة الحوار لغة ليِّنة هادئة
-{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا...}(طه: 44).
- {...وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...}(آل عمران: 159).
فاللُّغة اللَّيِّنة تفتح القلوب، والعقول، وتخفِّف من التَّشنُّجات، وتعالج الأفكار في جوٍّ هادئ.
ج - أدبُ الاختلاف
حينما نختلف يجب أنْ نملك (أدبَ الاختلاف).
حينما نعجز أنْ نتَّفق، فيجب أنْ نتعلَّم كيف نختلف.
ومن أدب الاختلاف: احترام الرَّأي الآخر.
هذه أهم ضوابط الخطاب كما حدَّدها القرآن الكريم، وكما مارسها نبيُّ الإسلامe[2].
مسؤوليّات الخطاب الدّينيّ:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا}(الأحزاب: 39):
نستوحي من هذا النَّصِّ القرآنيِّ أربعةَ عناوين تحمل أهميَّةً كبيرة:
1-مسؤوليَّة الخِطابِ الدِّينيِّ.
2-المعيارُ الّذي يعتمدُه الخِطابُ الدِّينيُّ.
3-مَوقِفُ الخِطابِ الدِّينيِّ مِن المعوِّقاتِ.
4-الخطابُ الدِّينيُّ وقراءةُ الواقعِ الموضوعيِّ.
العنوَانُ الأوَّلُ: مسؤوليَّةُ الخِطابِ الدِّينيِّ
أوجز النَّصُّ المتقدِّمُ مسؤوليَّةَ الأنبياء، حيث قال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ...}، ورسالاتُ الله تعالى هي الّتي تنظِّم كلَّ مساراتِ الحياة والإنسان، بكلِّ ما يفرضُه هذا التَّنظيم من أحكام وتشريعات.
هذه هي مسؤوليَّة الأنبياءi –حسب هذا النَّصِّ-.
ومسؤوليَّةُ الخِطابِ الدِّينيِّ في كلِّ عصرٍ هي امتدادٌ لمسؤوليَّةِ الأنبياءi.
وحينما يتخلَّى الخطابُ الدِّينيُّ عن هذه المسؤوليَّة بكلِّ مساحاتِها، فقد تخلَّى عن انتمائه إلى خطِّ الأنبياءi، هذا الانتماء الّذي يفرض على الخطابِ الدِّينيِّ حضورَهُ، حيث الحاجة إلى رأي الدِّين، وهكذا تتَّسع مسؤوليَّاتُ الخِطابِ الدِّينيِّ باتِّساعِ مساحاتِ هذا الدِّين –أعني الإسلام-.
فيَظلم الخطابَ الدِّينيَّ مَنْ يسجن مسؤوليَّاتِه في مساحاتٍ ضيِّقةٍ، ويحاصرُهُ في مواقعَ محدودةٍ؛ لتبقى مساحات ومواقعُ كبيرةٌ وكثيرةٌ في منأى عن خطاب الدِّين، بذرائع أنتجتها مخيّلاتُ الشَّيطانِ، ومكائدُهُ!
ألم يُحدِّثْناَ القرآنُ الكريم عن الشَّيطان حينما تمرَّد عن السُّجود لآدمg، وطُرِد من رحمة الله سبحانه؟.. ماذا قرَّر الشَّيطان؟
اتَّخذ قرارَهُ الخطير في أنْ يُمارسَ دور الغواية، والإضلال لبني آدم، فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(الأعراف: 16-17).
انظروا في عصرنا الحاضر ها هو الشَّيطانُ يقتحم كلَّ مواقعِ الحياةِ، ويمارسُ الغوايةَ، والإضلال معتمِداً أحدثَ الوسائل والأدواتِ!
ولم تكن مجتمعاتُ المسلمينَ استثناءً، فقد أضحت بيئاتٍ خِصبةً لعبث الشَّيطانِ في كلِّ المواقعِ الثَّقافيَّةِ، والأخلاقيَّةِ، والاجتماعيَّةِ، والتَّربويَّةِ، والاقتصاديَّةِ، والسِّياسيَّة، والإعلاميَّة.
وبقدر ما هيمنت مشروعات الشَّيطان على هذه المواقع، فقد عملتْ جاهدة على إقصاءِ الدِّين، ومحاصرة خطابه، حتَّى أنَّ مهندسي هذا الإقصاء، وهذه المحاصرة مارسوا التَّضليل؛ ليعطوا هذا العمل صبغة شرعيَّة، فوظَّفوا لذلك رجالَ فقهٍ، ومواقِعَ فتوى، ومنابر دين!
إنَّ من أهمّ مسؤوليَّات الخطاب الدِّينيِّ في هذا العصر التَّصدِّي لمشروعاتِ الإقصاءِ المتحرِّكة في كلِّ المواقع؛ لكي يمارس الخطابُ دوره في حماية الإنسان والحياة، وحماية الأوطانِ والبلدانِ من كلِّ أشكالِ العبث، والفساد، والتَّمزُّق، والانهيار، والفتن، والصِّراعات.
العنوانُ الثّاني: المعيارُ الذّي يعتمدُهُ الخِطابُ الدِّينيُّ
هذا المعيار هو (رضا الله تعالى، والخشيةُ منه) أنْ يقول الخِطابُ الدِّينيُّ كلمتَه، أو أنْ لا يقولَها معيارُهُ في ذلك هو: (رضا الله تعالى، والخشية منه).
وليس أنْ ترضى الأنظمةُ، أو لا ترضى. وليس أنْ يرضى الشَّارع، أو لا يرضى. وليس أنْ ترضى الأحزابُ والمنظَّماتُ، أو لا ترضى. وليس أنْ يرضى العالم، أو لا يرضى.
الخطابُ الدِّينيُّ الحقُّ معياره فقط وفقط هو (رضا الله تعالى، والخشية منه).
ولتغضب الأنظمةُ كلُّ الأنظمةِ. وليغضب الشَّارع كلُّ الشَّارع. ولتغضب الأحزاب كلُّ الأحزاب. ولتغضب المنظَّماتُ كلُّ المنظَّمات. وليغضب العالمُ كلُّ العالم.
هذا لا يعني أنَّ الخطاب الدِّينيَّ لا يعبأ بكلِّ المؤثِّراتِ الموضوعيَّةِ المتحرِّكةِ في الواقع.
الأمرُ ليس كذلك -كما سنعرض لذلك في العنوان الرَّابع -.
وهنا نؤكِّد أنَّ تطبيقاتِ هذا المعيار في حاجةٍ إلى (امتلاك رؤية شرعيَّة بصيرة)، وإلى (قراءة موضوعيَّة صائبة)، وإلَّا انزلقتْ مساراتُ الخطابِ الدِّينيِّ، وانحرفت أهدافُهُ، وارتبكتْ معطياتُه، وتحوَّل خطاباً متنافياً مع أهدافِ الدِّين وغاياتِهِ، كما هو شأن خطابِ جماعات التَّكفير، والتَّطرُّف، والإرهاب، فهذا خِطابٌ مجانبٌ للدِّينِ كلَّ المجانبة، ومناقض لأهداف الشَّرع كلَّ المناقضة.
العنوانُ الثّالثُ: مَوقفُ الخطابِ الدِّينيِّ مِنْ المُعوِّقات
{...وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا}(الأعراف: 17).
مِن الطَّبيعيِّ أنْ تواجهَ الخطابَ الدِّينيَّ (معوِّقاتٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ)، فهل يسقط الخطاب أمام هذه المعوِّقات؟
المطلوبُ أنْ لا يسقط، وإلَّا فَقَدَ ارتباطَهُ الصَّادقَ بالله سبحانه، وكان يخشى غير الله تعالى، وفَقَدَ انتماءَهُ الحقيقيَّ إلى الدِّين.
مَنْ يخشى اللهa، ويستشعر رقابتَهُ واطلاعَهُ على كلِّ أتعابِهِ، وعناءاتِه، وعذاباتِه لا تُسْقِطُه التَّحدِّياتُ، ولا تهزمُهُ المعوِّقاتُ، ولا تُضعفُهُ التَّضحياتُ.
في هذا العصرِ تواجه الخِطاب الدِّينيَّ ألوانٌ متعدِّدةٌ، ومتطوِّرةٌ مِن المعوِّقات.
نذكرُ هنا بإيجازٍ بعضَ هذه المعوِّقات:
1- الحربُ الإعلاميَّة
فالكثير من وسائل الإعلام في هذا العصر موظَّفة؛ لمحاربة الخطاب الدِّينيِّ.
ولا أتحدَّث هنا عن إعلام الدُّول الّتي لا تؤمن بالإسلام، بل عن إعلامٍ في أوطانِنِا العربيَّة والإسلاميَّة، فإنَّ موقف بعضِ هذا الإعلام من الخِطاب الدِّينيِّ موقفاً سيِّئاً، وظالماً، وقاسياً، ومشوَّهاً، وملتبِساً.
وقد مارسَ هذا الإعلامُ إسقاط كلِّ التَّلوُّثات الّتي يحملها خطابُ التَّكفير والتَّطرُّف على كلِّ خطابٍ دينيٍّ.
وهذا ما حاول مهندسو هذا الإعلام أنْ يكرِّسُوه في وعي الجماهير؛ لكي يقترن خطاب كلِّ الدِّينيِّين، والإسلاميِّين بالتَّطرُّف والإرهاب.
إنَّ هذا الخلط هو خَلطٌ متعمَّدٌ، يؤسِّسُ له حاقدون على الدِّينِ وأتباعِه، أو جهلةٌ اختلطت لديهم الرُّؤية، وارتبكتْ عندهم المفاهيم.
2- لغة المساوماتِ والإغراءاتِ
هذه اللُّغة أخطر من لغةِ الحرب الإعلاميَّة.
فالمواجهات ربَّما قوَّتْ الخطابَ وصلَّبْتهُ، وثبَّتَتْهُ.
إلَّا أنَّ لغةَ المساوماتِ والإغراءات قد تنجز ما عجزتْ عنه لغةُ الإعلام.
فالبعضُ يَسقُطونَ أمامَ إغراءاتِ المال، والبعضُ يَسْقُطونَ أمامَ إغراءاتِ المنصب، والبعضُ يَسْقُطونَ أمامَ إغراءاتِ الشُّهرة، والبعضُ يَسْقُطونَ أمامَ إغراءاتِ الشَّهوة.
وما أكثر أدواتِ المساومة والإغراء في هذا الزَّمان! وما أكثر الضُّعفاء الّذين ينهارون أمام هذه المساوماتِ والإغراءات!
ويبقى الخطابُ الصَّادقُ الواثق بالله تعالى أقوى من كلِّ حروب الإعلام، وأكبر من كلِّ المساوماتِ والإغراءات.
3- أسلوبُ القوَّةِ والمواجهة
حينما تفشل حربُ الإعلام، وحينما تسقط لغة المساومات والإغراءات، فيتمّ اللُّجوء إلى (خَيَار القوَّة، والمواجهة)؛ فيحاصر الخِطاب، وتوضع له (مكبِّلاتٌ ثقيلةٌ)، وتمارس ضدَّه (إجراءاتٌ صعبة)، وربَّما تعرّض أصحابه إلى (ملاحقاتٍ، واعتقالاتٍ، ومحاكمات).
ومع كلِّ هذه الإجراءات الثَّقيلة الّتي تواجه الخطاب في الكثير من أوطانِ المسلمين، فإنَّ الخطابَ المحصَّنَ إيمانيّاً، وروحيّاً، وثقافيّاً يتحدَّى كلَّ تلك الإجراءاتِ، معتمدًا كلَّ الأدواتِ المشروعةِ والرَّشيدةِ، دونَ أنْ يسقط في منزلقاتِ التَّطرُّف والعنف، لما في ذلك من مآلات تشعل الفتن والصِّراعات، وتدمِّر الأوطان والبلدان.
العنوانُ الرَّابع: الخِطابُ الدِّينيُّ وقراءة الواقع الموضوعيِّ
الخطابُ الدِّينيُّ مطلوبٌ منه أنْ يقرأ الواقع بكلِّ حيثيَّاتِهِ الموضوعيَّةِ قراءةً بصيرةً، رشيدةً، واعيةً.
* مِن أجلِ اكتشاف هذا الواقع.
* ومِن أجل التَّعرُّف على حجم التَّحدِّيات.
* ومِن أجلِ محاسبةِ الإمكاناتِ، ومراجعةِ الخَيَاراتِ.
* ومِن أجل توظيفِ القُدرات، وترشيد الخطوات.
وإذا غابتْ هذه القراءةُ كان الخطاب مرتجلاً، ضعيفاً، مهزوماً، منفعِلاً، منفلِتاً، مرتبِكاً، فاشلاً.
وحينما نتحدَّث عن واقعيَّة الخِطابِ لا يعني أنْ يستسلم الخطاب لهذا الواقع، وأنْ يسقط في قبضته بكلِّ مساوئِهِ، وأخطائِهِ، وانحرافاتِهِ، وتجاوزاتِه، وانتكاساته، وضلالاته، هذا يُسمَّى سقوطاً، انسحاقاً، انهزاماً، فشلاً، خنوعاً، عبوديَّةً.
معنى واقعيَّة الخطاب
ما أعنيهِ بواقعيَّةِ الخطابِ أنْ يعتمد الخطاب (الأدوات) الّتي تملك قدرة التَّحرُّك في الواقع؛ من أجلِ إصلاحِ هذا الواقعِ، وتصحيح مساراتِهِ، وتغيير أوضاعه الفاسدة.
يجب أنْ لا يفهم من هذا الكلام أنَّنا نغفلُ (عنصر الغَيْب، والمَدَد الإلهيَّ) وهو العاملُ الحاسمُ في إنتاج النَّصرِ، وتحقيق الأهداف، إلَّا أنَّ اعتماد (الغَيْب، والمَدَد الإلهيَّ) يفرض ممارسة كلِّ (الأدوات الطَّبيعيَّة) القادرة على معالجة أوضاع الواقع سواء أكان واقعاً دينيّاً، أم ثقافيّاً، أم اجتماعيّاً، أم سياسيّاً.
بشرط أنْ تكون هذه الممارسة مشدودةً إلى الله سبحانه، واثقةً بمددهِ، مطمئنّة إلى تأييده.
إضافة إلى اعتماد الحكمة، والرُّشد، والبصيرة، وهكذا يكون الخطابُ واقعيّاً، ولا يضرُّه أنْ يكون الواقع الّذي يتحرَّك فيه الخطاب مُثْقلاً بالتَّحدِّياتِ، والصُّعوباتِ، والإرهاقاتِ، والإشكالاتِ، والصَّدَماتِ، والإخَفَاقاتِ، والانتكاساتِ[3].
نمطان من الخِطابُ الدِّينيّ:
(النّمط الأوّل): النصُّ الدِّينيّ نفسُهُ
ونعني بالنصِّ الدِّينيّ:
1- الآيات القرآنيّة الشريفة. 2- السُّنة النّبويّة المطهَّرة.
ويُلحقُ بالسُّنة -وفق المنظور الشّيعيّ الإماميّ- ما صدَرَ عن الأئمّةِ من أهلِ البيتi.
(النّمط الثّاني): ما يُستنبط من الكتابِ والسُّنةِ أو أيَّ مصدرٍ ثَبُتَتَ حُجيتُهُ، ويعبِّر عن هذا النّمط بـ (النِّتاجاتِ الاجتهاديّة) فيما هي قضايا الفقهِ، أو قضايا المفاهيم الدِّينيّة.
الفوارقُ الجوهريّة بين النّمطين من الخِطاب الدِّينيّ:
الفارقُ الأولُ: النصُّ الدِّيني (الكتاب والسُّنة) مقدَّسٌ، فلا يجوز المساسُ به بأيِّ شكلٍ من الأشكال، ولا تجوزُ مخالفتُه، أو الاعتراض عليه، ولا مانع من أنْ تتعدَّد القراءات[4] في فهم (النّصّ) متى ما كانت هذه القراءاتُ مُؤَهَّلةً وكفوءةً.
وأمَّا (النّتاجاتُ الاجتهاديّة في فهم النّصِّ) فلا تحملُ قداسةَ النّصَّ، ويجوزُ نقدُها، ومحاسبتُها، ومخالفتُها لمن يملكُ (أدوات الاجتهادِ والنّقدِ والمحاسبة).
الفارقُ الثّاني: النّصُّ الدِّينيّ معصومٌ بخلافِ النّتاجاتِ الاجتهاديّةِ فيمكن أنْ تُصيبَ، ويمكنُ أنْ تُخطِئ.
نعم هذه (النّتاجاتِ الاجتهاديّةِ) تُشكِّل (حُجّةً شرعيّةً) تُعتَمد، متى ما توفَّرت شروطُ الحُجّيّة.
الفارقُ الثّالثُ: النّصُّ الدِّينيُّ (الكتابُ والسُّنة) مصادرُ تشريعيّةٌ لاستنباطِ أحكامِ ومفاهيمِ الدِّين.
بخلافِ (النّتاجاتِ الاجتهاديّةِ) فهي معطياتٌ للمصادر التّشريعيّة، وهي (حُجَّةٌ) في مقام التّبنّي والعمل بالنّسبة للفقهاء أنفسهم أو مَنْ يعتمد آراءَهم.
"ونتيجة للخلط المتعمّد بين النّمطين من الخطاب وجدنا بعض الكتَّاب (الحداثويين) يطلقون هذه العبارات (نقدُ الفكر الدِّينيّ، نقدُ العقلِ الدِّينيّ، نقدُ الخِطاب الدِّينيّ...
دونما تفريق بين (النّصّ المتمثِّل في الكتاب والسُّنة) و(التّفسيرات الاجتهاديّة) وهذا خلطٌ له أغراضٌ سيِّئةٌ ومشبوهة، ثمّ إنَّ المرجعَ في تحديدِ صلاحيّاتِ الخِطابِ الدِّينيّ هو الدِّينُ نفسُهُ"[5].
مسؤوليَّةُ الخطابِ الحسينيّ (العاشورائيّ):
فمسؤوليّتا اتّجاه ذلك في غايةِ الخطورةِ، فأيُّ خَلَلٍ في مضامين هذا الخطاب، وفي لُغتِهِ ومفرداتِه وأساليبهِ سوف تكون له آثارٌ سلبيَّةٌ كبيرةٌ على سمعةِ عاشوراء، وعلى سمعةِ أتباعِ مدرسة عاشوراء.
وما عاد الخطاب العاشورائيُّ شأناً خاصّاً لهذا الخطيب أو لذاك الخطيب، لهذه الجماعة أو لتلك الجماعة، بل شأن عامّ يُعبِّر عن هُويَّة الانتماء إلى عاشوراء الحسينg، بل إلى مدرسة الإسلام.
وهنا يجب على الخطاب العاشورائيِّ الرَّاهن أنْ يتوفَّر على مجموعةِ مُحدِّدات؛ ليتمكّن مِن أنْ يحمل للعالم صورةَ عاشوراء كما أرادها الإمامُ الحسينg، وكما أرادتها نهضتُه الإصلاحيَّة المباركة.
وأذكر هنا بعضاً من هذه المحدِّدات: "أنْ يحملَ هذا الخطابُ وعيَ عاشوراء".
صحيح أنَّ خطابَ عاشوراء مطلوبٌ منه أنْ يُعبِّر عن حزنِ عاشوراء، فإنَّ فاجعةَ الحُسينِg وأهلِ بيتهِ وأصحابِهiفاجعةٌ لا نظير لها، فمن الضَّرورة أنْ يبقى هذا الحزن، وأنْ تبقى الدَّمعةُ، وإلَّا أصيب الوُجدانُ العاشورائيُّ بالتَّكلُّس، والجفافِ، والفتور، فيجب أنْ يستمرَّ هذا الوهجُ، والفوَارنُ!
أقول: رغم كلِّ هذا، فهناك (الوعيُ العاشورائيُّ)، فلا يجوز أنْ نختصر عاشوراء في الحزن، والدَّمعة.
وحينما نتحدَّث عن وعي عاشوراء نتحدَّث عن (أهداف ثورة الإمام الحسين) وهي في حجم (أهدافِ الإسلام)، فلا يجوز أنْ نفهم عاشوراء إلَّا من خلالِ منظور الإسلام، ومبادئِهِ، وقِيَمِهِ، فأيُّ خروج عن هذا المنظور، وهذه المبادئ والقِيَم هو إساءة لأهدافِ عاشوراء.
فخطير جدّاً أنْ يُمَارِس الخطاب العاشورائيُّ (تعبئة عاطفيَّة)، ويكون مفرَّغاً من (الوعي)!
تَصَوَّروا.. جماهيرَ تحمل الحماسَ والفوَرانَ، إلَّا أنَّهُ يغيبُ عندها (الوعي، والرُّشدُ، والبصيرة) بأهداف عاشوراء، هذه الجماهير ربَّما تصادمت مع هذه الأهداف، وربَّما تحوَّلت قوى معيقةً لقِيَم عاشوراء، وربَّما وظَّفت في الحرب ضدَّ مبادئ عاشوراء!
وإذا كان غياب (العاطفة العاشورائيَّة) ينتج أجيالًا مكلَّسة راكدةً، فإنَّ غياب (الوعي العاشورائيِّ) ينتج أجيالًا بليدةً فارغةً غبيَّةً، مهدَّدة بالانحراف، والضَّياع.
وتأسيساً على ضرورة المزواجة بين (الوعي والعاطفة) تكونُ الحاجة كبيرة جدّاً لأنْ يتوفَّر حَملَةُ الخطاب العاشورائيِّ على:
* كفاءاتٍ علميَّةٍ وثقافيَّةٍ متميِّزةٍ.
* استعدادات روحيَّة، وتقوائيَّة كبيرة.
* قدرات خطابيَّة ناجحة.
* مهارات صوتيَّة مَقبولة.
لا لمذْهبة عاشوراء
مطلوب من الخطاب العاشورائيّ أنْ (لا يُمَذْهِب عاشوراء)، فعاشوراء لكلَّ المسلمين، وعاشوراء لكلِّ العالم، إنَّ هذه (المَذْهَبَة) مصادرةٌ لدور عاشوراء، ولأهداف عاشوراء.
يُسيئ إلى عاشوراء، وإلى رسالتها، وأهدافِها أيُّ خِطابٍ يحاولُ أنْ يسجن عاشوراء في زنزانةٍ مذهبيَّة.
إنَّ هذه (المَذْهَبَة) خَلَقَت حواجزَ صعبة بين عاشوراء وحركة الامتداد الإسلاميِّ والإنسانيِّ.
مَنْ المسؤول عن مَذْهَبَة عاشوراء؟
هناك السِّياساتُ المعاديةُ لعاشوراءَ، هذه السِّياساتُ عملت جاهدة لكي تفصل عاشوراء عن امتداداتها في أوساط المسلمين وغير المسلمين، لكي تبقى محاصرة في الأسوار المذهبيَّة.
وقد اعتمدتْ هذه السِّياسات أساليب متعدِّدة؛ لكي تحاصر عاشوراء مذهبيّاً، وقد ركَّزت على ممارسة (الإعلام المضاد) الّذي عمد إلى تشويه صورة عاشوراء، والإساءة إلى سمعتها، الأمر الّذي وضع حواجز ثقيلة سجنت عاشوراء في الدَّاخل الشِّيعيِّ!
وهناك الخطابات الّتي لم تستوعب أهداف عاشوراء، فأعطتها طابعاً مذهبيّاً، وفصلتها عن أهدافها الأوسع، وهنا يتحمَّل حَملةُ الخطابِ العاشورائيِّ مسؤوليَّةً كبرى في الانفتاح بعاشوراء على كلِّ المسلمين، وعلى كلِّ العالم، فأهداف عاشوراء، ورسالة عاشوراء، ومفاهيم عاشوراء أكبر من أنْ تَنْسَجِن في المساحات المذهبيَّة الضَّيِّقة، إضافة لبعض الممارسات العاشورائيَّة الخاطئة ساهمت هذه الممارسات بدرجةٍ كبيرة في عزل عاشوراء عن أوساط بقيَّة المسلمين!
وكلَّما استطعنا أنْ ننقِّيَ الأجواء العاشورائيَّة من كلِّ الممارسات الّتي تسيئ إلى عاشوراء فإنَّنا نفتح الطَّريق أمام الآخرين؛ لكي يفهموا عاشوراء.
خطاب المحبَّة والتّسامح والتّآلف
خِطابُ عاشوراءَ خِطابُ محبَّةٍ، وتسامحِ، ووحدةٍ، وتآلف.
فأيُّ نزوع في الخطابِ العاشورائيِّ نحو (التَّأزيم الطَّائفيِّ والمذهبيِّ)، وأيُّ نزوعٍ في الخطاب العاشورائيِّ نحو (الكراهية والعصبيَّة)، فإنَّه نزوعٌ يَصطدم مع أهدافِ عاشوراء.
فنهضة الإمام الحسينg حملت في أبرز أهدافها التَّصدِّي لمشروعات التَّفتيت، والتَّمزيق، والفتن، والخلافات ، ثمَّ إنَّ خطابَ عاشوراء ليس خطاباً لطائفةٍ أو لمذهب، وإنَّما هو خطابٌ للأمَّةِ بكلِّ انتماءاتها، ومكوِّناتها، جاء في كلمة الإمام الحسينg وهو يحدِّد شعار ثورته: >إنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمَّةِ جدِّيe،...<، فمشروعه إصلاحُ الأمَّة كلِّ الأمَّةِ، هذه الأمَّةُ الّتي حاول المتسلِّطون عليها، وحاول سماسرة الفِتنِ والصِّراعاتِ أنْ ينفخوا في داخلِها كلَّ أشكالِ الخلافاتِ والعداواتِ، وأنْ يؤجِّجُوا بين أبنائها نيران الضَّغائنِ والأحقادِ.
خطاب عاشوراء خطابُ إصلاح وبناء
انطلاقاً من شعار الإمام الحسينg: >إنَّما خرجت لطلب الإصلاح...<، فمطلوب من خطاب عاشوراء أنْ يكون خطاب إصلاح وبناء، لا خطاب إفساد ودمار، فيما يعنيه الإصلاح من دعوة للتَّصحيح الشَّامل، والعدل والمساواة، وإلغاء كلِّ الأوضاع الضَّارَّة بالأوطان والشُّعوب، والمؤزِّمة للعلاقات، وهكذا يجب أنْ يتعاطى خطابُ عاشوراء مع قضايا الأمَّةِ وهمومها، وإلَّا انفصل عن حركة الواقع، وحاجات الشُّعوب والأوطان.
وهنا سؤال يُطرح:
هل من حقِّ الخطاب العاشورائيِّ أنْ يتعاطى مع الشَّأن السِّياسيِّ؟
لا إشكال في أنَّ من وظائف الخطاب العاشورائيِّ أنْ يمارس توعية الأمَّة على كلِّ المستويات الفكريَّة، والثَّقافيَّة، والرُّوحيَّة، والأخلاقيَّة، والاجتماعيَّة، والسِّياسيَّة.
كما لا إشكال أنَّ من وظائف الخطاب العاشورائيِّ الدَّعوة إلى الإصلاح، وبناء الأوطان، وحماية الشُّعوب.
وهذا لا يعني الاستغراق في الشَّأن السِّياسيِّ بحيث يفقد الخطاب طابعه الحسينيَّ، فيتحوَّل المجلس الحسينيُّ إلى ندوة سياسيَّة، ويتحوَّل الموكب الحسينيَّ إلى مسيرة سياسيَّة.
يجب الحفاظ على الصِّبغة الحسينيَّة، والعاشورائيَّة، وكذلك لا يعني أنْ ننقل حالة التَّوتُّر الأمنيَّ، والمواجهات الحادَّة السَّاخنة إلى موسم عاشوراء، وأجواء عاشوراء.
والمسألة في حاجةٍ إلى رؤية رشيدة بصيرة جدّاً، وقرار يملك درجةً عالية من الحكمة، ولا يجوز أنْ تبقى المسألة خاضعة لمزاجاتِ الشَّارع، وانفعالاته[6].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] حديث الجمعة (406) الخِطابُ الدِّينيُّ، تاريخ: 27/8/2015م ـ 11 ذو القعدة 1436ﻫ.
[2] حديث الجمعة (491) ضوابط الخطاب الدِّينيِّ، تاريخ: 16/11/2017م ـ 26 صفر 1439ﻫ.
[3] حديث الجمعة (458) مسؤوليَّة الخِطابِ الدِّينيِّ - تاريخ: 26/1/2017م.
[4] ليس المراد من هذا الاصطلاح المعاني السلبية المتداولة.
[5] المقالة عبارة عن ترتيب لكلمات العلامة الغريفيB مستلّة من كلمات وخطب متفرّقة ألقاها في جامع الإمام الصادقg في قرية القفول-المنامة.
[5] حديث الجمعة (406) الخِطابُ الدِّينيُّ.. المسؤولياتُ والإشكالاتُ تاريخ: 27/8/2015م، 11 ذو القعدة 1436ﻫ.
[6] حديث الجمعة (442) بعضُ مُحدِّداتِ الخطابِ العاشُورائيِّ، تاريخ 29/9/2016.
0 التعليق
ارسال التعليق