قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(1).
يعلم القارئ الكريم تاريخ بني اسرائيل، وقد أعطى القرآن الحكيم من خلال سرده لقصصهم رؤية متكالمة لطراز من الأمة التي انحرفت لكي نعرف المسار الصحيح الذي يجب أن تسير عبره الأمة الإسلامية مستقبلا، ويتجنبوا تلك الانحرافات الاسرائيلية، والتي منها: كونهم يتلون الكتاب حق تلاوته، ففضلهم الله على العالمين، ثم تركوا ذلك، فانتهى بهم المطاف إلى الذل والمسكنة.
وها هو القرآن العظيم يتحدث إلينا عن إبراهيم (عليه السلام) ليعطي أولاً من خلال قصصه رؤية عن كفار قريش الذين يزعمون أنهم ينتمون إلى النبي إبراهيم (عليه السلام). وثانياً: ليركز على العامل المشترك بين بني إسرائيل والعرب وبالتالي بين الأديان السماوية الثلاث الرئيسية، رسالة موسى فعيسى ثم محمد عليهم أفضل الصلاة والسلام.
كيف يختار الله رسله؟
والسؤال الذي يجيب عليه القرآن الكريم في آياته المباركة هو:
هل يختار الله رسله عبثاً، ودون سابق اختيار؟ كلا... إنّه يعرضهم لأشد الاختبارات فإنْ نجحوا فيها حمَّلَهم رسالته، وإبراهيم (عليه السلام) مرَّ باختبارات صعبة فألقي في وسط النيران، وصبر وأخرج من بلده وصبر، وابتلي بأمر الله سبحانه بذبح ابنه فلبى الأمر، وتم إسكان الزوج والولد في واد غير ذي زرع بمكة، حيث لم يسكن فيه إنسان. والنهوض بوجه عَبدة الأصنام وتحطيم الأصنام، والوقوف ببطولة في تلك المحاكمة التاريخية. والهجرة من أرض عبدة الأصنام والإبتعاد عن الوطن، والاتجاه نحو أصقاع نائية لأداء رسالته، وأمثالها(2).
كان كل واحد من هذه الاختبارات ثقيلا وصعباً حقاً، لكنه بقوة إيمانه نجح فيها جميعاً، وبعدئذ اختير إماماً، حيث أثبت لياقته لهذا المقام العظيم، وهومقام«الإمامة».
المقصود من«الكلِمَات»
لقد أدى هذا النبيُّ العظيم أعمالاً جسيمه استحق بها ثناء الله، ونفهم أن المقصود من «الكلِمَات» هي الأوامر والمسئوليات الصارمة والصعبة التي وضعها الله على عاتق إبراهيم (عليه السلام) فحملها وأحسن حملها، وأدى ما عليه خير أداء، فإبراهيم (عليه السلام) لم يحصل على الرسالة مجاناً وبلاثمن، بل أعطاه الله الرسالة بعد امتحان عسير.
ثم إن النبي إبراهيم (عليه السلام) طلب الإمامة لأبنائه فرُفِضَ طلبه. {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، ففي ذريتك من هو ظالم يفشل في الاختبار، والإمامة عهد الله وعهد الله لا يعطى للظالمين.
من هو الإمام؟
من الآية -مورد بحثنا- نستفيد أنَّ منزلة الإمامة الممنوحة لإبراهيم (عليه السلام) بعد كل هذه الاختبارات، تفوق منزلة النبوة والرسالة، ولتوضيح ذلك نقول: إن للإمامة معاني مختلفة، والذي نستفيده من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والروايات الصحيحة الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم عدل القرآن العظيم كما هو نص حديث الثقلين المتواتر سنداً ومضموناً، أنّ الإمامة التي تعتقد بها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تختلف اختلافاً جوهرياً عن دور الإمامة التي تنحصر في الخلافة والحكم، وذلك لأنّ هذا الاتجاه يرى أنّ للإمامة دوراً فوق دور القيادة والزعامة، وهو الدور الذي بينه القرآن الكريم من خلال قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً}(3).
وفي الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام): «هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمّة، فيجوز فيها اختيارهم، إنّ الإمامة أجلّ قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً، وأمنع جانباً، وأبعد غوراً، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم، إنّ الإمامة خصّ الله (عزّ وجلّ) بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة والخلّة مرتبة ثالثة وأشاد بها ذكره، فقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً}(4)»(5).
وهي التي قال عنها الإمام السجاد (عليه السلام): «نحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزّل الغيث، وبنا ينشر الرحمة ويخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها»(6).
لذا عندما يُسأل الإمام الباقر (عليه السلام) ويقال له: لأي شيء يحتاج إلى النبي والإمام؟ يقول (عليه السلام): «لبقاء العالم على صلاحه، وذلك أنّ الله (عزّ وجلّ) يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيها نبي أو إمام، قال الله (عزّ وجلّ): {وَمَا كانَ الله لِيعَذِبَهُم واَنتَ فيهِم}»(7).
ومن هنا عبّر الرسول (صلّى الله عليه وآله) عن هذا الدور لأهل بيته (عليهم السلام) بقوله: «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون، وأذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون»(8).
ولعلّ تشبيه انتفاع الناس بالحجة في زمان غيبته، عندما يسأل الإمام الصادق (عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال (عليه السلام): «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»(9). يشير إلى أنّ الانتفاع به لايختص بعالم التشريع والاعتبار، بل يتجاوز ذلك إلى عالم التكوين. أي: أنَّ الإمامة تتضمن أيضاً «الهداية التكوينية» أي النفوذ الروحي للإمام، وتأثيره على القلوب المستعدة للهداية المعنوية. والإمام في ذلك يشبه الشمس التي تبعث الحياة في النباتات، فكذلك دور الإمام في بعث الحياة الروحية والمعنوية في الكائنات الحية.
يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}(10). قيل: أُريد بالصلاة هنا العناية بحال المؤمنين، وذلك لأن الصلاة في الأصل: التعطف، لأن المصلي يتعطف في ركوعه وسجوده، فاستعير لمن يتعطف على غيره حنوّاً وترؤفاً. ولذلك روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) «الصلاة من الله (عزّ وجلّ) رحمة، ومن الملائكة تزكية، ومن الناس دعاء»(11).
وهكذا نستوحي من كل ذلك أن لكلمة «الصلاة» معنى واحداً هو الترؤف والتعطف، والمزيد من العناية والتوجه. وهذا المعنى مشترك بين العبد وربه، فالله سبحانه يتعطف على المؤمنين بالمزيد من الرحمة، وعلى العباد أن يتعطفوا على رسولهم بطلب التعطف من الله له، وهو الدعاء، أما الملائكة فهم من جهة يستغفرون ربهم للمؤمنين، ومن جهة ثانية يقومون بدور مباشر في نشر رحمة الله لهم.
{لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، من شح الذات، والجهل، والعجز، والسلبية، والحقد، والبغضاء إلى رحاب الحق، والمعرفة، والإرادة، والأمل، والمحبة، والسلام. وهذا الموضوع يصدق على الإمام أيضاً، فالقوة الروحية للإمام وللأنبياء الحائزين على منزلة الإمامة وخلفائهم، لها التأثير العميق على تربية الأفراد المؤهلين، وإخراجهم من ظلمات الجهل والضلالة إلى نور الهداية.
لا شك أن المراد من الإمامة في الآية التي نحن بصدد تفسيرها هو المعنى الثالث للإمامة، لأنه يستفاد من آيات متعددة أن مفهوم «الإمامة» ينطوي على مفهوم «الهداية» كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(12). وهذه الهداية يلزمها شروط ذكرتها الآية المباركة لصفات الإمام القائد وهي ثلاث:
شروط الإمام:
1ـ الهدي إلى الله وبأمره، وليس إلى نفسه أو حزبه أو وطنه، أو..أو.. وما أشبه من الدعوات الجاهلية.
2ـ الصبر، وتحمل الشدائد، فالقائد هو الذي تتبلور شخصيته في ميادين العمل الجهادي، وسوح القتال في سبيل الله، وليس الذي يركب الموجة، أو يتسنم صهوة الانتصار من دون عمل وخلفية جهادية، وربما لذلك كان الله يختار الأنبياء والرسل والأئمة من رحم الشدائد، وعند اجتياز أصعب العقبات.
3ـ اليقين، وذلك يعني وصوله إلى مستوى رفيع من الإيمان بالله، لا يرتاب بعده في طريق الحق، سواء انتصر أو أو انتكس مرحلياً.
ولليقين بدوره درجات ثلاث هي: اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين، التي إذا وصلها الإنسان حق له أن يقول كما قال الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «لوكشف الغطاء ما ازددت يقيناً»(13). أو كقوله (عليه السلام): «ما رأيت شيئاً قط إلاورأيت الله قبله ومعه وبعده»، أو كقوله (عليه السلام): «إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، وانما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك».
الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعرف علياً (عليه السلام) لأصحابه مرتين
قال الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}(14).
مما لا شك فيه أنّ صالح المؤمنين، لها معان واسعة تشمل جميع المؤمنين الصالحين الأتقياء الذين كمل إيمانهم، ورغم أن كلمة «صَالِح» وردت هنا بصيغة المفرد، ولكن يمكن أن يستفاد منها العموم لأنها تتضمن معنى الجنس(15).
ولكن من هو المصداق الأكمل والأتمّ لهذا المصطلح؟
يستفاد من روايات عديدة أن المقصود هوالإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فهو«صَالِحُ المُؤمِنِينَ» أي: خيرتهم وأفضلهم، فهو الذي نصر الرسول (صلّى الله عليه وآله) في كل معاركه وحروبه العسكرية والسياسية وغيرهما. قال الإمام الصادق (عليه السلام): «صالح المؤمنين هوعلي بن أبي طالب (عليه السلام)»(16). وفي حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: «لقد عرّف رسول الله علياً أصحابه مرتين: أمّا مرّة فحيث قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» وأمّا الثانية فحيث نزلت هذه الآية، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أخذ رسول الله بيد علي فقال: أيها الناس، هذا صالح المؤمنين».
وقد نقل هذا المعنى في كتب عديدة لعلماء أهل السنة منهم العلامة الثعلبي والكنجي في كفاية الطالب وأبوحيان الأندلسي والسبط ابن الجوزي وغيرهم(17).
وقد أورد جمع من المفسرين منهم السيوطي في الدر المنثور في ذيل الآية مورد البحث والقرطبي في تفسيره المعروف وكذلك الآلوسي في روح المعاني في تفسير هذه الآية أوردوا هذه الرواية.
وبعد أن نقل مؤلف روح البيان هذه الرواية عن مجاهد قال ما مضمونه: ويؤيد هذه الرواية الحديث المعروف: حديث المنـزلة الذي وصف فيه الرسول مكانة علي (عليه السلام) منه بقوله لعلي (عليه السلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» نظراً لأن عنوان الصالحين استعمل في القرآن الكريم للإشارة إلى الأنبياء، منها: {وَكُلاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ}(18)، و {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} حيث أطلق في الأُولى على مجموع الأنبياء وفي الثانية على يوسف(19). ولكون علي بمنزلة هارون فإنّه سيكون كذلك مصداقاً لـ «الصالح» فتأمل.
وخلاصة القول: أنّ هناك عدداً كثيراً من الأحاديث وردت في هذا المجال، فبعد أن نقل المفسر المعروف المحدث البحراني في تفسير البرهان في هذا المجال عن محمد بن عباس(20) أنه جمع 52 حديثاً يتناول هذا الموضوع من طريق الشيعة والسنة ثم قام هو بنقل بعضها(21).
أميرنا (عليه السلام) وإيمانه منذ الصغر
نقل أبو سعيد الخدري عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه وضع يده بين كتفي علي (عليه السلام) وقال«يا علي، لك سبع خصال لا يحاجك فيهن أحد يوم القيامة: أنت أول المؤمنين بالله إيماناً، وأوفاهم بعهدالله، وأقومهم بأمرالله...»(22).
وكما أشار كُتَّاب ومفسري القرآن الكريم، فإن عشرات الروايات في مختلف كتب التأريخ والتفسير والحديث قد نقلت عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وآخرين في هذا الباب، ومن أراد مزيد الاطلاع فليراجع الجزء الثالث من الغدير ص220ـ240.
وهنا التفاتة لطيفة، وهي أنّ جماعة لما لم يستطيعوا أنكار سبق علي (عليه السلام) في الإيمان والإسلام سعوا إلى إنكار ذلك بأساليب أخر، أو التقليل من أهمية هذا الموضوع، والبعض حاول أن يجعل أبا بكر مكان علي (عليه السلام) وادعى أنه أول من أسلم.
فهم يقولون تارةً إنّ علياً (عليه السلام) في ذلك الوقت كان في العاشرة من عمره، وهو غير بالغ طبعاً، وعلى هذا فإن إسلامه يعني إسلام صبي، ومثل هذا الإسلام لم يكن له تأثير في تقوية جبهة المسلمين وزيادة اقتدارهم في مقابل الأعداء(هذا القول ذكره الفخر الرازي في تفسيره في ذيل الآية).
وهذا عجيب حقاً، وهو في الحقيقة إيراد واعتراض على شخص النبي (صلّى الله عليه وآله) لأنا نعلم أن النبي (صلّى الله عليه وآله) قد عرض الإسلام على عشيرته وقومه يوم الدار ولم يقبله إلا علي (عليه السلام) حين قام وأعلن إسلامه، فقبل النبي (صلّى الله عليه وآله) إسلامه، بل وخاطبه بأنك: أخي ووصي وخليفتي.
إنّ هذا الحديث الذي نقله جماعة من حفاظ الحديث من الشيعة والسنة، في كتب الصحاج والمسانيد، وكذلك جمع من مؤرخي الإسلام، واستندوا عليه، يبين أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) مضافاً إلى قبوله إسلام علي (عليه السلام) في ذلك السن الصغير، فإنَّه عرفه للحاضرين -وللناس فيما بعد- بأنّه أخوه ووصيه وخليفته.
ويعبرون تارة أُخرى بأنّ أول من أسلم من النساء خديجة، ومن الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي (عليه السلام) وأرادوا بهذا التعبير أن يقللوا من أهمية إسلام علي (عليه السلام). (ذكر هذا التعبير المفسر المعروف والمتعصب صاحب المنار في ذيل الآية) إلا إننا نورد عليه بما يلي:
1ـ كما قلنا، إنّ سن علي (عليه السلام) الصغير في ذلك اليوم لا يقدح في أهمية الأمر بأي وجه، ولا يقلل من شأنه، خاصة وأن القرآن الكريم قال في شأن يحيى: {وَآتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيا}(23)، وكذلك نقرأ ما قاله في شأن عيسى (عليه السلام) من أنه تكلم وهو في المهد، وخاطب أُولئك الذين وقعوا في حيرة وشك من أمرهم وقال: {إنّي عَبدُ اللهِ آتانِي الكتابَ وجَعَلَنِي نَبِيا}(24).
ثم إنّنا إذا ضممنا مثل هذه الآيات إلى الحديث الذي نقلناه آنفاً من أنّه (صلّى الله عليه وآله) جعل علياً (عليه السلام) وصيه وخليفته اتضح أن كلام صاحب المنار لم يصدر ألا عن تعصب مقيت.
2 ـ إنّ من غير المسلم تاريخاً أنّ أبا بكر هو ثالث من أسلم، بل ذكروا في كثير من كتب التاريخ والحديث جماعة أُخرى أسلمت قبله.
وننهي هذا البحث بذكر هذا المطلب، وهو أنّ علياً (عليه السلام) أشار مراراً وتكراراً في خطبه إلى أول من أسلم وأول من آمن، وأول من صلى مع النبي (صلّى الله عليه وآله) وبين موقعه من الإسلام، وهذه المسألة قد نقلت عنه في كثير من الكتب.
إضافة إلى أنّ ابن أبي الحديد نقل عن العالم المعروف أبي جعفر الإسكافي المعتزلي، أن البعض يقول: إذا كان أبو بكر قد سبق إلى الإسلام، فلماذا لم يستدل لنفسه بذلك في أي موقف؟ بل ولم يدع ذلك أي أحد من مواليه من الصحابة(25).
أميرنا (عليه السلام) ابن عم النبي (صلّى الله عليه وآله) وزوج ابنته (عليها السلام)
بعد خلق الإنسان يورد الله تعالى في قرآنه الكريم الكلام عن انتشار الإنسان، فيقول: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}(26).
أي: كما جعل الله الاختلاف في المياه، جعل ذلك في بني البشر، فالناس كلهم من ماء واحد، وأرض واحدة، إلا أنهم يختلفون بالنسب والصهر عن بعضهم، فالبعض ينتسب إلى الآخرين عبر النسب كالأب والأخ والابن... الخ، وبعضهم ينتسب للآخرين عبر التصاهر بالزواج.
وبتعبير ثانٍ: إن من مظاهر قدرة الله تعالى خلق الإنسان من الماء وتنظيم حياته عبر جعله نسباً يتصل بعضهم ببعض عبرالولادة، وصهراً يتكاملون بالزواج.
المقصود من«النسب» هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد، مثل ارتباط الأب والابن، أو الإخوة بعضهم مع بعض، أمّا المقصود من«صهر» التي هي في الأصل بمعني«الختن» هوالارتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق، مثل ارتباط الإنسان بأقرباء زوجته، وهذان الاثنان هما ما يعبر عنه الفقهاء في مباحث النكاح ب«النسب» و«السبب».
في القرآن الكريم في سورة النساء، أشير إلى المحارم النسبية النسب في سبعة موارد: الأم، البنت، الأخت، العمة، الخالة، بنت الأخ، بنت الأخت، وإلى المحارم السببية في أربعة موارد: بنت الزوجة، أم الزوجة، زوجة الابن، زوجة الأب.
والجدير بالذكر، أن لدينا حديثا معروفاً، نقل في كتب الشيعة والسنة، وطبقاً لهذا الحديث فإنّ الآية أعلاه نزلت في النبي (عليه السلام) وعلي (عليه السلام) وذلك أنّ النبي زوّج ابنته فاطمة من علي (عليه السلام) ولهذا فقد كان علي (عليه السلام) ابن عم النبي (صلّى الله عليه وآله) وزوج ابنته أيضاً، وهذا معنى{نَسَبَاً وصِهراً}.
ولكن هذه الروايات تعتبر بيان للمصاديق الواضحة، ولا تقدح بعمومية مفهوم الآية، فالآية تشمل كل ارتباط يكون عن طريق النسب والمصاهرة، وأحد مصاديقها الواضحة كان ارتباط علي (عليه السلام) من جهتين مع النبي (صلّى الله عليه وآله).
أميرنا (عليه السلام) هو المؤذن
قال الله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}(27).
مَن هو هذا المؤذن! والمنادي؟ الذي يسمعه الجميع؟ وفي الحقيقة له سيطرة ونفوذ على جميع الفرقاء والطوائف؟
لا يستفاد من ظاهر الآية شيء في هذا المجال، ولكن جاء في الأحاديث الإسلامية المفسرة والموضحة لهذه الآية، تفسير المؤذن بأمير المؤمنين علي (عليه السلام).
روى الحاكم الحسكاني الذي هو من علماء أهل السنة بسنده عن محمد بن الحنفية عن علي (عليه السلام) أنه قال: «أنا ذلك المؤذن». وهكذا روى بسنده عن ابن عباس أنّ لعلي (عليه السلام) أسماء في القرآن الكريم لا يعرفها الناس، منها «المؤذن» في قول الله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} فهو الذي ينادي بين الفريقين أهل الجنة وأهل النار، ويقول: «ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفوا بحقّي»(28).
ولقد رويت روايات وأحاديث متعددة مماثلة بطرق الشيعة، منها ما رواه الصدوق (قدّس سرّه) بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب بالكوفة منصرفة في نهروان، وبلغه أن معاوية يسبه ويعيبه ويقتل أصحابه، فقام خطيباً إلى أن قال: «وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة، قال الله (عزّ وجلّ): {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} أنا ذلك المؤذن، وقال: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أنا ذلك الأذان»(29).
ويرى المفسرون أنّ السبب في انتخاب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مؤذناً ومنادياً في ذلك الوقت هو:
1ـ لأنّه كان له مثل هذا المنصب من قبل الله والنبي (صلّى الله عليه وآله) في الدنيا أيضاً، فهو بعد فتح مكة كلف من جانب الله بأن يتلو الآيات الأولى من سورة البراءة على مسامع الناس بصوت عال في موسم الحج، تلك الآيات التي تبدأ بقوله: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}(30).
2ـ إنّ مواقف الإمام علي (عليه السلام) طوال حياته الشريفة دفاعه عن المظلوم وعداءه للظالم وخاصة مع ملاحظة ظروف عصره لتسطع في الصفحات البارزة من تاريخه.
أفليست الحياة في العالم الآخر هي نوع من تجسم كبير وواسع ومتكامل لحياة البشر في هذا العالم؟ وكلاهما بالتالي وجهان لعملة واحدة. فإذا كانت هذه حقيقة من الحقائق، لم يبق أي مجال لاستغراب أن يكون مؤذن ذلك اليوم، والذي يلعن الظالمين في مكان بين الجنة والنار، بأمر من الله والنبي (صلّى الله عليه وآله) هو علي (عليه السلام).
ومن هذا يتضح الجواب والرد على ما كتبه كاتب «المنار» الذي شكك في كون هذا المقام لعلي (عليه السلام) فضيلة، اذ يقول: "ولو كنّا نعقل لاسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعدُّ به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرواية بما دون السند الصحيح"(31).
إذ يجب أن نقول له: كما أن النيابة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في إبلاغ سورة البراءة في موسم الحج تعتبر من أكبر فضائله (عليه السلام) وكما أن مكافحته للظالمين والجائرين تعتبر من أبرز فضائله، يكون حمله لهذه المهمة في القيامة والذي يعد استمراراً لنفس ذلك البرنامج فضيلة طاهرة له أيضاً.
كما يتضح مما قلناه -أيضاً- الرد على ما كتبه الآلوسي في تفسير روح المعاني الذي قال: "ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنّه علي كرم الله تعالى وجهه ما لم يثبت من طريق أهل السنة"(32). لأن هذا الحديث نقله علماء الفريقين السنة والشيعة كلاهما في كتبهم ومصنفاتهم، فلا مجال للتشكيك في صدوره.
أميرنا (عليه السلام) وتضحيته ومبيته على فراش النبي (صلّى الله عليه وآله)
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}(33) روى الثعلبي مفسر أهل السنة المعروف في تفسيره أن النبي (صلّى الله عليه وآله) لما أراد الهجرة إلى المدينة خلف علي بن أبي طالب (عليه السلام) بمكة لقضاء ديونه وأداء الودائع التي كانت عنده وأمره ليلة خروجه من الدار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه وقال له: اتّشح ببردي الحضرمي الأخضر ونم على فراشي وإنه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء الله تعالى، ففعل ذلك علي (عليه السلام) فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة، فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن ابي طالب (عليه السلام) آخيت بينه وبين محمد (صلّى الله عليه وآله) فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة انزلا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه. فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل ينادي: بخّ بخّ مَن مثلك يا علي يباهي الله تبارك وتعالى بك الملائكة، فأنزل الله على رسوله وهو متوجّه إلى المدينة في شأن علي (عليه السلام) الآية.
ولهذا سُميت هذه الليلة التاريخية بليلة المبيت، ويقول ابن عباس نزلت الآية في علي (عليه السلام) حين هرب -حسب قول ابن عباس- رسول الله من المشركين إلى الغار مع أبي بكر ونام علي على فراش النبي (صلّى الله عليه وآله).
ويقول أبو جعفر الإسكافي: "إنّ حديث الفراش قد ثبت بالتواتر فلا يجحده إلا مجنون أو غير مخالط لأهل الملّة"(34).
ومما يستلفت النظر في الآية مورد البحث:
1ـ أنّ البائع هو الإنسان.
2ـ وأن المشتري هو الله تعالى.
3ـ وأن البضاعة هي النفس.
4ـ وأن ثمنها هورضوان الله تعالى.
في حين نرى في موارد أُخرى أن ثمن مثل هذه المعاملات هو الجنة الخالدة والنجاة من النار، من قبيل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}(35).
ولعلّه لهذا السبب كانت {مِنَ} في الآية مورد البحث تبعيضية {وَمِنَ النَّاسِ} يعني أنّ بعض الناس يستطيعون أن يقوموا بمثل هذه الأعمال الخارقة بحيث لا يطلبون عوضاً عن أرواحهم وأنفسهم سوى رضوان الله تعالى، وأما في الآية من سورة التوبة التي ذكرناها تواً رأينا أنّ جميع المؤمنين قد دعوا إلى التعامل والتجارة مع الله تعالى في مقابل الجنة الخالدة.
وعلى أي حال، فهذه الآية ومع الإلتفات إلى سبب النزول المذكور آنفاً تُعدُّ أعظم الفضائل للإمام علي (عليه السلام) الواردة في اكثر المصادر الإسلامية وكانت في صدر الإسلام من الوضوح بين المسلمين بحيث دعت معاوية العدو اللدود للإمام علي (عليه السلام)، أن يرشي سمرة بن جندب بأربعمائة ألف درهم كي يروي حديثاً مختلطاً ينسب فيه فضيلة هذه الآية إلى عبدالرحمن ابن ملجم، وقد اختلق هذا المنافق الجاني هذه الفرية، ولكنّ أحداً لم يقبل منه حديثه المجعول(36).
ويتلخص لنا من تقوي أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يلي: أن الإنسان المتقي لا يفكر بعد أن باع نفسه لله أن يثبت لأحد أنه فعل ذلك، أو أنه مخلص، أو يشهد الله على ما في قلبه، كلا إنه يعرف أن الله بصير به فيبقي مخلصا لربه العليم بحاله، فتراه خاشعاً لله مسلما له راضيا بأقداره، نشطا في ابتغاء مرضاته، متصلبا في ذات الله.
أميرنا (عليه السلام) والإنفاق
قبل أن أتحدث لقارئي الكريم عن إنفاق أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أحبذ الإشارة للإنفاق كمسئلة تمهيدية، وهو: أن في سبيل الله نتيجة مباشرة للإيمان بالله وعلامة على عمق اليقين بالله وبأنه واهب الحياة والغني والمالك والهادي. وشخصية المسلم تتميز بأنها معطاءة، وعطاؤها ليس من أجل شهرة أو رياء بل في سبيل الله ووفق المنهاج الذي رسمه الله لها.
وقد تحدث القرآن الكريم عن الإنفاق والتصدق في الكثير من السور، الأمر الذي يكشف عن أهمية الموضوع ودوره في إقامة الكيان الاجتماعي، إلا أن الحديث في الآيات 261 إلى 274 من سورة البقرة يتميز بالجوانب النفسية للإنفاق والتي تعالجها سورة البقرة أكثر من غيرها، فالإنفاق هنا جاء كمظهر من مظاهر الإيمان بالله واليوم الآخر، فلنتدبر معاً في هذه الآيات الكريمة:
1- الإخلاص في الإنفاق:
إن الله هو الذي وهب لنا الحياة ووهب لنا نعمها، والآن يأمرنا أن نقدِّم بعضاً مما أعطانا، حتى يعوِّضنا عنه أضعافاً مضاعفة، إنّ ما نقدم لله لن يضيع، بل مثله كالحبة التي ندفنها تحت الأرض فهي لا تنتهي، بل الحبة التي نأكلها هي التي تنتهي، أما التي سترناها تحت الأرض فهي تنمو وتنمو حتى تصبح مئات الحبات، هذا صنع الله، إنه يأخذ منك قدراً بسيطاً من المال تنفقه في سبيله وتتصدق به على عباده فيضاعفه لك قال الله سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(37).
نعم، فقد يكون الإنفاق في سبيل الله في ظروف صعبة، كان يكون صاحبة قليل المال، ولكنه ينفق على من هو أفقر منه، أو يؤثر الآخرين على نفسه وبها حاجة، أو يتحدى بالإنفاق سلطات الطاغوت أو يداوي جرح مظلوم، وآنئذ يكون الجزاء بقدر المشقة، وبحسب الظروف الموضوعية والنفسية التي تكتنف الإنفاق والله يعلم بهذه الظروف تماماً، وقادر على أن يضاعف العطاء بسببها.
{لَّهُم أجرُهُم عِندَ رَبّهِم} أي: أن أجرهم محفوظ عند الله تعالى: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}(38) من شيء ينغص عليهم حاضرهم لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ثم يؤكد القرآن الكريم هذا الشرط الصعب في الإنفاق، والذي يحتاج تحقيقه إلى ترويض شديد للنفس الأمارة بالسوء، وردع دائم للشهوات الشيطانية فيها فيقول: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أي: الرد الحسن الجميل الطيب للسائل {وَمَغْفِرَةٌ} أي: والصفح عن إلحاحه وإن كان خشناً {خَيْرٌ} أي: أفضل عند الله {مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}.
ويتابع القرآن الحديث بكلمة توجيهية للمؤمنين يحذر فيها من أن صدقاتهم سوف تتبخر، بل وتحترق، بمجرد استخدامها في سبيل السيطرة على الفقراء والمحرومين، ولا تعود الصدقات سبباً لنمو المال، ولا لرحمة الله في الآخرة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ}. وما دام إيمانه باليوم الآخر ضعيفاً فهو يبحث عن الشهوة والسمعة، والنتائج العاجلة، فسعيه يكون للدنيا وحدها، دون أن تدخل فيه حسابات الآخرة. {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا}.
أي: ان مثله كمثل حجر أملس -وهوالمراد من الصفوان أي: الحجر الأملس المستويه، والوابل: المطر الشديد الوقع، والصلد: الصخرة الملساء التي لا تنبت شيئاً، وان كان عليها طبقة خفيفة من التراب تحجب صلادته عن العين، كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان. {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(39). بل تتحول قلوبهم كتلك الصخرة الصماء لاتزرع فيها الهداية، لأنَّها أساساً لا تطلب الهداية، بل تعشق السلطة والسيطرة والتكبر على الناس.
ويضرب الله مثلاً رائعاً لما يصيب الإنسان من خيبة أمل بسبب إحباط أعماله، يوم يحتاج إلى الجزاء فيكتشف أنَّ لذة الشهوة، أو السيطرة التي أرادها من عمله فأتبعه بالمن والأذى قد ذهبت بخيراته، وأصبحت هباءً منثورا، يقول ربنا: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} أي: وأدركه الهرم وله ذرية صغار لا قدرة لهم على الكسب وليس ثمة ما يقيم أودهم ويؤمن معيشتهم سوي هذه المزرعة. فكم يحتاج هذا المسكين إلى هذه الجنة، التي هي خلاصة جهوده في الحياة الدنيا؟ ولكن كيف به اذا احاط الخطر بجنته.
وفجأة {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} هل يمكن تصور خيبة أمل هذا الشيخ المحروم من جهده، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}.
2- إنفاق الطيب لا الخبيث:
إذن الشرط الاول للإنفاق الصالح، أن يكون في سبيل الله، والشرط الثاني ألا يتبعه بالمن والأذى فلا نستثمر من أجل تكريس الطبقية في المجتمع، والشرط الثالث يبينه القرآن في هذه الآية ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي: ولا تتحروا صرف الرديء أو الحرام أو المشبوه مما عندكم مما لا تأخذونه لو دفع إليكم.
3- آثار الإنفاق:
ثم يحذرنا القرآن الكريم من الاستجابة لايحاءات الشيطان الذي ينادينا من داخل أنفسنا بأن لا تنفقوا لأنكم سوف تصبحون فقراء: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} بمن ينفق فيجازيه خيراً من لدنه. هذه حكمة وعلم الحياة ومعرفة بالقوانين الثابتة التي تحكمها، أن العطاء يزيد من المال والبخل ينقصه، ولكن ليس كل الناس يملكون الحكمة التي هي خير كثير لأنَّ التعرف على الحياة طريق للسيطرة عليها.
4- كتمان الإنفاق:
يقول الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} وهكذا مهدت هذه الآية للحديث عن كتمان الإنفاق، فما دام الإنفاق في سبيل الله وليس بهدف الاستعلاء على الناس، فهو عمل صالح ولا يضره علم الناس به، ولكن كتمانه أفضل لأنه يبعد العمل عن هواجس النفس ووساوس الشيطان.
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(40).
5- مصارف الإنفاق:
إلى هنا عرفنا شروط الإنفاق الصالح، يبقي أن نعرف جواب السؤال التالي: أين ننفق الأموال؟ ولمن؟ يجيب السياق القرآني على هذا السؤال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ(41) لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ}(42).
{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ} بحالهم وباطن أمورهم {أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}(43). في المسألة والتجمل في اللباس والستر لما هم فيه من الفقر وسوء الحال طلباً لرضوان الله وطمعاً في جزيل ثوابه، لكنك مع ذلك {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أي: بإلحاح، أو لا يسألون الناس أصلاً {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}(44).
وكلمة أخيرة في الإنفاق في سبيل الله، على الإنسان ألا يضع حداً لإنفاقه بل عليه أن ينفق متى ما وجد ثغرة في المجتمع فيحاول سدها بإنفاقه ويكون من {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}(45).
سبب نزول هذه الآية المباركة:
ورد في أحاديث كثيرة أن هذه الآية الشريفة نزلت في الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لأنه كان لديه أربعه دراهم فأنفق منها درهماً في الليل وآخر في النهار وثالث علانية ورابع خفية، فنزلت هذه الآية، كما في تفسير نور الثقلين(46).
وقد ورد مضمون هذا الحديث في كتب تفسير أهل السنة أيضاً، وينقله صاحب الدر المنثور عن ابن عساكر والطبراني وأبي حاتم وابن جرير وغيرهم، ويرى البعض أن علماء الشيعة بالاتفاق وأكثر علماء السنة ذهبوا إلى أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن علماء السنة، الواحدي، الثعلبي، الخوارزمي، السدّي، العكبي، الزمخشري، القشيري، ابن المغازلي، ابن أبي الحديد، وغيرهم وراجع تفسير البرهان.
ثبات أميرالمؤمنين (عليه السلام) في ساحات الحروب
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} أي: فلا تفروا منهم(47).
كما ذكر في الآيات التي سبقت هذه الآية الشريفة الحديث عن قصة معركة بدر وألطاف الله الكثيرة على المسلمين الأوائل من أجل أن يتخذ منها المسلمون العبرة والدرس في المستقبل، لذلك فإن هذه الآية المباركة التي ذكرناها والآيات التي سنذكرها لاحقاً توجه خطابها للمؤمنين وتأمرهم أمراً عامًا بالقتال.
والمراد من {لَقِيتُمُ} من مادة اللقاء بمعنى الاجتماع والمواجهة في ميدان الحرب. والمراد من {زَحْفًا} الزحف وهو الدنو قليلاً قليلاً والتزاحف التداني. واستخدام كلمة «زحف» تشير إلى أنه بالرغم من أنّ عدوكم قوي وكثير، وأنتم قليلون فلا ينبغي لكم الفرار من ساحة الحرب، وكما كان عدوكم كثيراً في ميدان بدر فثبتم وانتصرتم بالإرادة الإلهية. وانتصار الله سبحانه للمؤمنين لا يعني أبداً تخليهم عن مسؤولياتهم القتالية الخطيرة ومنها: الثبات في المواجهة في ميادين القتال وعدم الفرار تحت أي ضغط كان، اللهم الا تراجعاً تكتيكياً للعودة إلى الحرب في وضع أفضل. ومن هنا أفتى الفقهاء حول الصمود والثبات في مواقع القتال:
أ- على المقاتل أن يصمد في المعركة ما دام له قوة يرجي معها النصر.
ب- ليس من الانسحاب التحول من موقع لموقع، أو إعادة تنظيم الصفوف ثم العودة إلى المعركة إليها بقوة أكبر، أوالتراجع للإعداد والتسلح والتحيز إلى فئة أي عن طريق اختبار جماعة يتعاون معهم ضد العدو وما أشبه من الضرورات القتالية.
ج- تحديد تفاصيل الصمود والانسحاب يرتبط بالظروف المتغيرة، وعلى الفقيه الولي بيان ذلك معتمداً على رأي الخبراء العسكريين.
د- لا يجوز الفرار من الحرب «الزحف» لأنه يعد في الإسلام من كبائر الذنوب، إلافي الموارد التي يحددها الفقيه.
ويتلخص لنا مما تقدم:
أن الفرار من الحرب غير جائز في الإسلام بل ويعد من كبائر الذنوب إلا للأسباب المتقدمة ولذلك تذكر الآية بعد الآية المتقدمة جزاء من يفر من ميدان الحرب مع الإشارة لمن يستثنون منهم فتقول: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
وكلمة المأوى معناها الملجأ، وما تقرؤه في الآية محل البحث {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} فهو إشارة إلى أنّ الفارين يطلبون ملجأً لينقذوا أنفسهم من الهلكة، إلا إنّ ما يحصل هو خلاف ما يطلبون، إذ ستكون جهنم مأواهم، وليس ذلك في العالم الآخر فحسب، بل هو في هذا العالم إذ سيحترقون في جهنم الذلةِ والانكسار والضياع.
ولذا جاء عن الإمام الرضا (عليه السلام) في جواب أحد أصحابه حين سأله عن فلسفة تحريم الفرار من الجهاد فقال (عليه السلام): «وحرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة (عليهم السلام)، وترك نصرتهم على الأعداء، والعقوبة على إنكار ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية وإظهار العدل وترك الجور وإمانة الفساد، لما في ذلك من جرءة العدو على المسلمين وما يكون من السبي والقتل وإبطال دين الله (عزّ وجلّ) وغيره من الفساد»(48).
ومن ضمن الإمتيازات الكثيرة التي كانت عند الإمام علي (عليه السلام) وربّما يشير إلى نفسه أحياناً ليكون نبراساً للآخرين قوله (عليه السلام): «إني لم أفر من الزحف قط، ولم يبارزني أحد إلا سقيت الأرض من دمه»(49).
* الهوامش:
(1) سورة البقرة، الآية 124، والمراد من الابتلاء لغة هو الاختبار.
(2) روي عن ابن عباس أنه استخرج اختبارات إبراهيم من أربع سور قرآنية فكانت ثلاثين موضعاً، راجع تفسير المنار تفسير الآية المذكورة.
(3) سورة البقرة، الآية 30، ومعنى«جَاعِلٌ» الجعل والخلق والفعل والأحداث نظائر، وحقيقة الجعل تغيير الشيء عما كان عليه وحقيقة الفعل والاحداث الايجاد. وقوله تعالى: «خَلِيفَةً» الخليفة والإمام واحد في الاستعمال إلا أن بينهما فرقاً فالخليفة من استخلف في الأمر مكان من كان قبله والإمام مأخوذ من التقدم فهو المتقدم فيما يقتضي وجوب الاقتداء به وفرض طاعته.
(4) سورة البقرة، الآية124.
(5) أصول الكافي، ج1 ص199، كتاب الحجة، باب نادر وجامع في فضل الإمام وصفاته.
(6) بحارالانوار، ج23 ص6 حديث رقم 10.
(7) سورة الأنفال، الآية33.
(8) بحارالأنوار، ج23 ص19 حديث رقم14.
(9) نفس المصدر، ج 23 ص6 حديث رقم10.
(10) سورة الأحزاب، الآية43.
(11) تفسير نورالثقلين ج4 ص303.
(12) سورة السجدة، الآية24.
(13) ميزان الحكمة ج10 رقم الرواية2230.
(14) سورة التحريم، الآية4.
(15) يرى البعض أن كلمة «صالح» هنا، تأتي بمعنى الجمع، نظراً لأنّ واو «صالحوا» حذفت للإضافة لذا فإنها لم تظهر في رسم الخط القرآني، إلا أنّ هذا المعنى بعيد في نظر المفسر الكبير صاحب الأمثل.
(16) تفسير نورالثقلين ج5 ص370.
(17) تفسير مجمع البيان ج10 ص316.
(18) سورة الانبياء، الآية72.
(19) سورة يوسف، الآية101. انظر: تفسير روح البيان، ج10، ص: 53.
(20) يبدو أن محمد بن عباس هنا هو أبو عبدالله المعروف بابن الحجّام مؤلف كتاب ما أنزل من القرآن في أهل البيت الذي قال جمع من العلماء: أنه لم يؤلف كتاب مثله إلى الآن. جامع الرواة ج2 ص134.
(21) تفسير البرهان، للبحراني ج4 ص353، ذيل حديث2.
(22) هذا الحديث ـ حسب نقل الغدير ـ قد نقل في كتاب حلية الأولياء ج1 ص66.
(23) سورة مريم، الآية12.
(24) نفس السورة، الآية30.
(25) الغدير، ج3 ص240 بتصرف بسيط.
(26) سورة الفرقان، الآية54.
(27) سورة الأعراف، الآية44.
(28) تفسير مجمع البيان عند الآية المطروحة هنا.
(29) تفسير البرهان، للبحراني ج2 ص17.
(30) سورة التوبة، الآية3.
(31) تفسير المنار، ج8 ص426.
(32) تفسير روح المعاني، چ8 ص123.
(33) سورة البقرة، الآية207.
(34) كماجاء هذا في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج3 ص270.
(35) سورة التوبة، الآية111.
(36) نقل قصة هذه المعاملة ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج4 ص73.
(37) سورة البقرة، الآية261.
(38) نفس السورة، الآية262.
(39) نفس السورة الآية264 والتي سبقتها برقم 263.
(40) نفس السورة، الآية271.
(41) «أُحصِرُوا في سبيلِ اللهِ» أي: أحصرهم الجهاد أي: حبسهم فانقطعوا له.
(42) أي: لا يستطيعون ذهاباً بها للكسب لالتزامهم بالجهاد.
(43) بسبب الترفع والتنزه عن السؤال.
(44) سورة البقرة، الآية273.
(45) نفس السورة، الآية274.
(46) انظر الجزء ألأول ص290و291.
(47) سورة الأنفال، الآية15.
(48) تفسير نور الثقلين، ج2 ص138.
(49) نفس المصدر، ص139.
0 التعليق
ارسال التعليق