تمهيد
لا شك في ارتباط قسم من القرآن بأحداث قد حصلت في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله)، سواءً كانت حادثةً أو سؤالاً أو ظرفاً خاصاً، أي أنَّ الآيات كان نزولها في ظرف من الظروف التي كان يعيشها المسلمون ويحتاجون بإلحاح إلى مضامين تلك الآيات النازلة سواء كانت حاجتهم لتطبيق تلك المضامين على المستوى العقدي أم العملي، ومثال الأول ما ورد في قتل أسامة بن زيد يهودياً كان قد أظهر له الإسلام، فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}(1)، وكذا في حادثة مسجد ضرار، ومثال الثاني ما نزل في النضر بن الحارث(2)، حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}. فدعا على نفسه وسأل العذاب فنزل به ما سأل يوم بدر فقتل صبراً(3)، وكذا(4) ما ورد في {...قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}(5)، ومثال الثالث ما نزل من سورٍ في أيام الدعوة الأولى حيث تضمّنت رسماً لأساسيات الإسلام وبيان جملة من أحكامه المهمّة لمن يدخل في الإسلام كما في سورة البقرة حيث تضمّنت عدداً من أحكام الصيام والحج وتغيير القبلة وعدداً من الأفكار التي تساعد المسلمين في مواجهة اليهود، وكذا سورة النساء حيث كانت تتحدّث عن أحكام الزواج وإرث المرأة وغيرها من الأمثلة.
ولا شك في أن الكلام الملقى ضمن حادثة معيّنة ومن متحدّث معين لا بد من أن يكون له فهم خاص يتأثّر بتلك الظروف والملابسات المتعلقة به، فمثلاً في قوله تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(6)، ذمٌّ لكل من يفرح بما أوتيَ ولكل من يفرح في أن يُحمد على ما لم يفعل! وواضح أن هذا الفهم يؤدّي إلى خسران كل الناس وعذابهم وهو خلاف رحمته تعالى فلو وقفنا عند هذه الآية لوحدها لكان التشكيك بصحتها لا يفارقها، لكن لمّا علمنا عن اختصاصها بالمنافقين زال عنها ذلك لما ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) من أنّها نزلت في المنافقين الذين يحبّون أن يُحمدوا على غير فعل(7).
وكذا قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}(8) فهي بظاهرها تفيد جواز التوجّه في الصلاة إلى أي جهة، والحال أنّا لو وقفنا على سبب نزولها لوجدنا أنّها نزلت في غير الفريضة كالنافلة والسجود لسماع آية السجدة لما ورد من أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) صلّى على راحلته، في رحلته من مكة إلى المدينة وحين خرج إلى خيبر حيث جعل الكعبة خلف ظهره وصلّى التطوّع إيماءً(9).
ومن خلال ما ذكرنا يتّضح أن معرفة هذه الملابسات المتعلّقة بالآيات لها ما لها من الدخالة في تحديد فهم الآية أو لا أقلّ فإنّها: "تشكّل -وبشكل عام- قرينة لفهم القرآن بما هو كلام الله تعالى ذو معنى نزل متناولاً هذه الأحداث ومبيّناً لأسبابها وعلاجها"(10).
ومن هنا ذهب أبو الحسن بن أحمد الواحدي (468هـ) في كتابه(11) إلى المنع عن الادعاء عن فهم الآيات من دون الوقوف على قصّتها وبيان سبب نزولها، فقال في مقدّمة كتابه: "فآل الأمر بنا إلى إفادة المبتدئين بعلوم الكتاب، إبانة ما أنزل فيه من الأسباب، إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تُصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصّتها وبيان نزولها... ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدّوا في الطِّلاب"(12).
ولذا نلحظ المفسّرين للقرآن الكريم لا مفرّ لهم من تتبّع أسباب النزول من أحداث أو روايات منقولة عن الشاهد الحاضر، بل جعل البعض معرفة أسباب النزول شرطاً من شروط المفسّر وأحد معايير أهليّته للتفسير(13).
تعريف أسباب النزول
وما كنّا نعبّر عنه بالملابسات والأحداث والظروف التي كانت ترتبط بآي الذكر الحكيم هي ما يعبّر عنه بأسباب النزول، أو فقل "القرآن بوصفه مرتبطاً بوقائع معيّنة في عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) فيكون موضوعاً لعلم أسباب النزول"(14).
وعندئذٍ ليس لنا غرض في الحديث عن قصص الأنبياء -مثلاً- لخروجها عن هذا العلم، "فلا يمكن أن نعتبر من حياة يوسف [على نبيّنا وآله وعليه السلام] وتآمر أخوته عليه ونجاته وتمكّنه منهم سبباً لنزول سورة يوسف، وهكذا سائر المقاطع القرآنيّة التي تتحدّث عن الأنبياء الماضين وأُممهم"(15).
أول مصنّف في أسباب النزول
بعد انتقال الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى آلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب على نفسه ألاّ يضع رداءه على عاتقه إلا للصلاة حتى يؤلّف القرآن ويجمعه، وكان ما أراد فخرج إلى القوم بعد مدّة قضاها يجمع القرآن حتى دخل مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ليكشف عن القرآن الذي جمعه ويعرضه عليهم، لكنّهم لمّا علموا بما فيه أعرضوا عنه وجابهوه حتى خرج من المسجد ليخفي هذه النسخة من القرآن.
لك أن تسأل ماذا يحتوي هذا القرآن؟ والجواب هو أنّ من أهمّ ما ورد فيه التنزيل؛ أي بيان أسباب النزول للآيات والمصاديق(16) وغيره مما حُرمت الأمّة منه إلى يومنا هذا، يقول محمد بن سيرين فيما نقله عنه ابن حجر في صواعقه وغيره(17): "لمّا توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أبطأ عليّ عن بيعة أبي بكر، فلقيه أبو بكر فقال: أكرهت إمارتي فقال: لا، ولكن آليت لا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة، حتى أجمع القرآن، فزعموا أنّه كتبه على تنزيله -هنا قال محمد بن سيرين- لو أصبت ذلك الكتاب(18) كان فيه العلم"(19).
فمما ذكرنا يمكننا القول بأنّ مصحف عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بما احتواه يعتبر أول مصنف في علم أسباب النزول وإن لم يكن مصحفه خالصاً لذلك، لاشتماله على غيرها.
ولا يُنكر هنا أن من أقدم الكتب التي وصلت إلينا في هذا العلم هو كتاب (أسباب النزول)، للواحدي(20) (ت 468هـ) وهو كتاب جمع فيه أسباب النزول مرتبة على ترتيب سور القرآن، مروية بالإسناد غالباً وقد اعتمد على كتاب الواحدي من جاء بعده ممن ألف في أسباب نزول القرآن.
وقد سبق الواحدي في التأليف أبو الحسن ابن المديني(ت234هـ) شيخ البخاري فكتب أسباب النزول، ومن بعده أبو مطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس القرطبي (ت 402 هـ).
ما هي مصادر أسباب النزول:
لو لم يحجب مصحف علي (عليه السلام) لقلنا بأنّه أول مصدر بين أيدينا لمعرفة أسباب النزول، لكن مع غيابه عنّا، فإن هنا مصدران:
المصدر الأول: نقل الصّحابة: ويشترط في الصحابيّ:
أن يكون ممن شهد الوحي والتنزيل لا أنّه سمع، إلا أن يكون قد سمع من الرسول (صلّى الله عليه وآله) أو مُسنداً إليه (صلّى الله عليه وآله) بطريق مقبول.
العدالة وإلا فإنّ الباب مفتوح لقبول كل من تحدّث في أسباب النزول ويكون عندئذ باباً واسعاً للقصّاصين وغيرهم ممن ينسجون الأحداث ويدخلون الإسرائيليات على أنّها أسباب للنزول.
وهناك شرط في المرويّ وهو أن يكون جارياً مجرى بيان أن سبب النزول كما لو عبّر بمثل (حدث كذا فنزلت الآية... أو سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن كذا فأنزل الله كذا...).
فبضمّ هذه الشروط لما تقدّم قد قيل بأنّ الطريق منحصر في الصّحابة، لأنّ "معرفة أسباب النزول أمرٌ يحصل للصحابة بقرائن بالقضايا، وربما لم يجزم بعضهم، فقال: أحسبُ هذه الآية نزلت في كذا..."(21) فـ"إذا أخبر الصّحابيّ الذي يشهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن: أنّها نزلت في كذا، فإنّه حديث مسند.."(22).
المصدر الثاني: المعصوم (عليه السلام): هذا المصدر للأسف لا يعتنى به كثيراً فقد وردت روايات ليس عددها بالقليل عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) تذكر أسباب النزول لجملة من الآيات الشريفة وهذه الروايات نجدها مبثوثة في كتب التفسير الحديثية وقد نجد بعضها في الموسوعات الحديثية(23)، وهذه لا تحتاج إلا إلى النظر في أسانيدها. وأكتفي بنقل بعض منها.
*ورد عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ}(24)، قال نزلت في عليّ (عليه السلام) حين بات على فراش رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(25).
*ورد في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): «قال الباقر (عليه السلام): فلما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ}(26)، وذكر الذباب في قوله: {إنَّ الَّذِينَتَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً}(27)، ولما قال {مَثَلُ الَّذِينَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(28). وضرب المثل في هذه السورة بالذي استوقد نارا، وبالصيب من السماء.
قالت الكفار والنواصب: وما هذا من الأمثال فيضرب؟! يريدون به الطعن على رسول الله (صلّى الله عليه وآله). فقال الله: يا محمد (إن الله لا يستحي) الحديث»(29).
*ورد في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) «قال الله (عزَّ وجلَّ) لقوم من مردة اليهود ومنافقيهم المحتجنين(30)، الأموال الفقراء، المستأكلين للأغنياء الذين يأمرون بالخير ويتركونه، وينهون عن الشر ويرتكبونه، قال: يا معاشر اليهود {تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} الحديث»(31).
ضياع بعض أسباب النزول
للأسف الشديد جداً لم تكن روايات أسباب النزول مستثناة من أيدي العابثين في الدين فكان لها نصيب من الضياع في صور مختلفة:
1- خفاء بعض روايات أسباب النزول بسبب الحقد على أهل البيت (عليهم السلام) فـ"هذا العداء والتعصّب كان سبباً لكتمان الكثير من أسباب النزول المرتبطة بأهل البيت (عليهم السلام)"(32)، وخير مثال الآية 207 من سورة البقرة المتقدمة فإنّها نزلت في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). وعندما تراجع كتب التفسير والكتب التي تتحدّث عن أسباب النزول فإنّك لا تجد لعلي (عليه السلام) أدنى ذكر! مع أنّهم قد اعتبروها نازلة في ثلاثة وفئة وليس فيهم علي (عليه السلام)، فمنهم من قال بنزولها في حق صُهيب (أبو يحيى) وهو شيخ كبير في السن وقع في أيدي المشركين فعذّبوه ومنعوه من الالتحاق بالرسول (صلّى الله عليه وآله) فما كان له إلا أن يدلّهم على ماله في مكة مقابل إطلاقه... وكان ذلك، فلمّا وصل إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) قال له (صلّى الله عليه وآله): نعم البيع بيعك(33). ومن قال بنزولها في صهيب وشخصين آخرين هما أبو ذر وجندب بن السكنى(34)، ومن قال بنزولها في من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر اعتماداً على قول عمر بن الخطاب لها عندما سمع رجلاً يقرؤها قال: إنّا لله قام رجلٌ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل(35) بل ذهب أكثر المفسّرين إلى أن نزولها كان في صهيب(36).
2- دخول الإسرائيليات فقد "كان بعض الصحابة والتابعين يعتمدون على الإسرائيليات في تفسير القرآن وهذا سبب مشكلة في إتاحة الفرصة لمن أسلم من أهل الكتاب أن يختلق ما ليس موجوداً حتى في التوراة والإنجيل، فظهرت حركة اتّخذت من سرد الحوادث التاريخية حرفة خاصّة، وبرزت الإسرائيليات التي تتحدّث عن أحداث وهميّة"(37) وهذا ما سبب فتح الباب على مصراعيه لتنتشر العدوى إلى المسلمين فنجد بعض الرواة "لا ينقل السبب من طريق المشافهة والتّحمّل والحفاظ، بل ينقل قصّةً ما ثم يحمل الآيات عليها حملاً ويربطها ربطاً، وفي الحقيقة سبب النزول الذي يذكره إنّما هو سبب اجتهاديّ نظري وليس بسببٍ شاهده بالعيان وضبطه بحدوده الدقيقة والشاهد على ما نقول التناقض الكثير في هذه الأحاديث ونعني به أن الآية الواحدة يذكر فيها عدّة أحاديث في أسباب النزول يناقض بعضها بعضاً ولا يمكن جمعها بشكل من الأشكال... ولهذا لا يمكن الاطمئنان حتى على الأحاديث التي أسانيدها صحيحة، لأن صحّة السند يرفع الكذب عن رجال السند أو عدم تضعيفهم، ولكن احتمال الدس أو إعمال النظر الخاص يبقى لحاله"(38)، ولذا لا بد من محاكمة روايات النزول وعرضها على القرآن وردّ المدسوس منها وطرحها.
واكتفي بمثالٍ لما نقطع بأنّه مدسوس مع وثاقة رجال سنده(39)، ما جاء عن الواحدي "أن رسول الله كان إذا برز سمع منادياً يناديه يا محمد (صلّى الله عليه وآله)، فإذا سمع الصوت انطلق هارباً وقال له: ورقة بن نوفل إذا سمعت النداء فأثبت حتى تسمع ما يقول لك، قال: فلما برز سمع النداء، يا محمد (صلّى الله عليه وآله) فقال لبيك قال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال:{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ* الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} حتى فرغ من فاتحة الكتاب"(40).
ووجه القطع هو مما ثبت في مثل ما عن زرارة أنّه سأل الإمام الصادق (عليه السلام): «كيف لم يخف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيما يأتيه من قِبَل الله أن يكون مما ينزغ به الشيطان؟ فقال (عليه السلام): إنّ الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه»(41).
3- الوضع لأغراض مرحليّة بسببه يضيع السبب الحقيقي أو يجمله فيحرف البوصلة عن الفهم الصحيح للآية.
فمثلاً ما ورد في سنن الترمذي بسنده عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منّا، وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأتُ: قل يا أيّها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون. قال: فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}(42)(43)، وقال فيه حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب. وذكر مثله الواحدي مع اختلاف يسير وعدم ذكر لاسم علي بن أبي طالب(44).
وكل من يعرف شيئاً عن عليّ بن أبي طالب لا يتردد في إنكار هذا الحديث والجزم بوضعه لأغراض يعرفها المطّلعون على التاريخ، والغريب أنّ بعضهم يجعله دليلاً على أن «الخمر لم تكن محرّمة في صدر الإسلام، وقد كان الصحابة يشربونها وربما سكروا منها كما جاء صريحاً» وذكر الحديث(45).
مسائل في أسباب النزول
وما يلحظ من خلال البحث في أسباب النزول أن يقف الباحث عند جملة من المسائل التي لا بد من تحريرها وبيان الحق فيها حتى لا يحصل الزيغ في هذا الأمر فتحتاج إلى بحث ووضع الضوابط فيها، وأشير إلى بعض منها على نحو الإجمال مكتفياً بالإشارة فقط تاركاً التفصيل إلى بحث أوسع إن شاء الله تعالى.
من هذه المسائل: الخلط بين السبب والإخبار، تعدد الأسباب للآية الواحدة، التنافي بين سبب النزول مع الآية، وغيرها من المسائل التي يمكن إدراجها.
وأكتفي بالتمثيل إلى المسألة الأولى ملحوظة عند بعضهم -حتى المتعمّقون في هذا الفن- فإنّك تجدهم يخلطون بين السبب والإخبار في بعض المواضع؛ فلا يفرّقون في الروايات التي تذكر أسباب النزول والروايات التي تُذكر على أنّها إخبار بالماضي، وللتمثيل على هذا قول الواحدي في سورة الفيل أنّها نزلت في قصة أصحاب الفيل، فقال: «نزلت في قصّة أصحاب الفيل، وقصدهم تخريب الكعبة، وما فَعل الله تعالى بهم: من إهلاكهم وصرفهم عن البيت. وهي معروفة»(46) فتعقّبه السيوطي في كتابه مشيراً إلى هذا الخلط فقال: «والذي يتحرر في سبب النزول أنّه ما نزلت الآية أيام وقوعه ليخرج ما ذكره الواحدي في سورة الفيل من أنّ سببها قصّة قدوم الحبشة، فإنّ ذلك ليس من أسباب النزول في شيء بل هو من باب الإخبار به عن الوقائع الماضية...»(47).
هذه إطلالة مجملة على هذا العنوان. أسأل المولى القدير أن يوفقنا لبسطه.
***
* الهوامش:
(1) كما في تفسير القمي، ج1، ص156. وننقل الرواية للفائدة «قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فإنها نزلت لما رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من غزوة خيبر وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، وكان رجل من اليهود يقال له مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى فلما أحس بخيل رسول (صلّى الله عليه وآله) جمع أهله وماله وصار في ناحية الجبل فاقبل يقول أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فمر بأسامة بن زيد فطعنه فقتله، فلما رجع إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخبر بذلك فقال له رسول (صلّى الله عليه وآله) قتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقال يا رسول الله إنما قال تعوذاً من القتل، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): فلا شققت الغطاء عن قبله ولا ما قال بلسانه قبلت، ولا ما كان في نفسه علمت، فحلف بعد ذلك أنه لا يقتل أحد اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فتخلف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حروبه، وأنزل الله في ذلك {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا.. الخ}.
(2) هنا سؤال إلى الله تعالى ذكره.
(3) كما عن الواحدي في أسباب النزول، ص466، حديث839، تحقيق: كمال بسيوني زغلول.
(4) سؤال موجّه للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقد اقتضت الحكمة الإلهية بجواب خاص نزل في هذه الآية.
(5) سورة الإسراء: 85.
(6) سورة آل عمران: 188.
(7) تفسير القمّي، 1ج، ص135. وكذا في تفسير أساب النزول للواحدي صفحة140 عن أبي سعيد الخدري: أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كانوا إذا خرج رسول الله إلى الغزو تخلّفوا عنه، فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبّوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا؛ فنزلت: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ} الآية.
(8) سورة البقرة: 115.
(9) كما ورد في تفسير العياشي، ج1، ص75، حديث80: «قال أبو جعفر (عليه السلام): أنزل الله هذه الآية في التّطوّع خاصّة {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إن الله واسع عليم}، وصلّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إيماءً على راحلته أينما توجّهت به حين خرج إلى خيبر وحين رجع من مكة وجعل الكعبة خلف ظهره»، هذا من طرقنا أما من طرق العامة فهذا السبب أحد الآراء لاختلافهم في سبب نزولها.
(10) تفسير سورة الحمد، السيد محمد باقر الحكيم، ص20.
(11) المسمّى بأسباب النزول، وقد قال عنه السيوطي في كتابه أسباب النزول صفحة 9 «أشهر كتاب في هذا الفن».
(12) أسباب النزول، الواحدي، ص10.
(13) كما في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي، ج1، ص24، ناقلاً عن الزمخشري قوله: «إن العلماء... بيّنوا في المفسّر أيضاً شرائط، لا يحلّ التعاطي لمن عري عنها، أو هو فيها ضالع، وهي أن يعرف خمسة عشر علماً على وجه الإتقان والكمال: اللغة، النحو، التصريف، الاشتقاق المعاني، البيان، البديع، القراءات، أصول الدين، أسباب النزول والقصص، الناسخ والمنسوخ، الفقه، الأحاديث المبيّنة لتفسير المجمل والمبهم، علم الموهبة وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم.».
(14) علوم القرآن، السيد محمد باقر الحكيم، ص20.
(15) المصدر السابق، ص39.
(16) كما جاء في الاحتجاج، ج1، ص383: «ولقد احضروا الكتاب كملاً مشتملاً على التأويل، والتنزيل، والمحكم، والمتشابه، والناسخ والمنسوخ».
(17) الصواعق المحرقة، ابن حجر العسقلاني، ص126: (ط المحمّديّة).
(18) يريد مصحف عليّ (عليه السلام).
(19) تاريخ الإسلام، الذهبي، ج3، ص637.
(20) هو الإمام العلامة أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي النيسابوري، ولد وتوفي في نيسابور، مذهبه في العقيدة أشعري وفي الفقه شافعي.
(21) الإحكام، ابن دقيق العيد، ج4، ص147.
(22) معرفة علوم الحديث، الحاكم، ص20.
(23) أرجو من كل من يقرأ هذه الكلمات أن يدعو للعبد أن يوفقني الله إلى إتمام جمع هذه الروايات مع أسانيدها في كتاب يجمع أسباب النزول من روايات الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) مع الإشارة إلى ما ورد في كتب العامة.
(24) البقرة: 207.
(25) (نقلاً عن تفسير البرهان) الشيخ في أماليه: قال: حدثنا جماعة عن أبي مفضّل، قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن يحيى بن صفوان الإمام بأنطاكية، قال: حدّثنا محفوظ بن بحر، قال: حدّثنا الهيثم بن جميل، قال: حدّثنا قيس بن الربيع عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين... الحديث. الأمالي، ج2، ص159، حديث165.
(26) الحج: ٧٣.
(27) الحج: 73.
(28) العنكبوت: 41.
(29) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)، المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام)، ص٢٠٥.
(30) المخفون للأموال.
(31) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)، المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام)، ص233-٢٣٤.
(32) علوم القرآن، السيد محمد باقر الحكيم، ص331.
(33) أسباب النزول، الواحدي، ص67، رقم122.
(34) أسباب النزول، السيوطي: ص40، حديث124.
(35) أسباب النزول، الواحدي، ص68، رقم125.
(36) العجاب في بيان الأسباب، شيخ الإسلام أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني (ت852هـ)، ص335.
(37) علوم القرآن، السيد محمد باقر الحكيم، ص298 (بتصرّف).
(38) القرآن في الإسلام، السيد محمد حسين الطباطبائي، ص124.
(39) العجاب في بيان الأسباب، ابن حجر العسقلاني، ص66، حيث قال: (قلت: وهو مرسل، ورجاله ثقات)
(40) أسباب النزول، الواحدي، ص21، رقم19.
(41) تفسير العيّاشي، محمد بن مسعود العياشي، ج2، ص201، حديث 106.
(42) سورة النساء: 43.
(43) سنن الترمذي، ص67، حديث 3026: ط مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض.
(44) أسباب النزول، الواحدي، ص157، رقم316. وفي هامشه أنه أخرجه الحاكم في المستدرك (2/75)، وغيره.
(45) حاشية ردّ المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الإمام حنيفة النعمان، محمد أمين الشهير بابن عابدين، ج4، ص202.
(46) أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص49.
(47) أسباب النزول، السيوطي، ص8.
0 التعليق
ارسال التعليق