أخبار التخيير بين القصر والتمام في المواضع الأربعة المشرَّفة (القسم الثالث)

أخبار التخيير بين القصر والتمام في المواضع الأربعة المشرَّفة (القسم الثالث)

 (هذا هو القسم الثالث والأخير من المقالة التي تعرض فيها الكاتب إلى الأخبار التي وردت في مسألة القصر والتمام في المواضع الأربعة المشرفة، مكة والمدينة والكوفة والحائر، وقد طعَّمها بنكات رجالية وسندية مهمة، والأخبار التي ذكرها الكاتب مرتبة بحسب الرواة، انتهى فيها في القسم الأول والثاني إلى الراوي السادس عشر، ويكمل هنا من الراوي السابع عشر):

السابع عشر: مـا رواه أبـو بصـير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وهي رواية واحدة، متحدة اللفظ والمعنى مع نظيراتها، كرواية خادم إسماعيل ورواية زياد القندي.

وهي ما رواه الشيخ الكليني في الكافي عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن سنان عن إسحاق بن جرير(1) عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «تَتِمُّ الصَّلاةُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاطِنَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ومَسْجِدِ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله) ومَسْجِدِ الْكُوفَةِ وحَرَمِ الْحُسَيْنِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ»(2).

ورواه عنه الشيخ في التهذيب(3).

وإسحاق بن جرير أبو يعقوب، ثقة، له كتاب معروف يرويه عنه جماعة، كما في فهرست النجاشي(4)، وذكر الشيخ في رجاله أنه واقفي(5)، ولم يغمز في مذهبه الآخرون من أصحابنا أصحاب التصانيف الرائجة إلى اليوم، وليس في الأخبار ما يؤيد قول الشيخ، ولم نقف لرواية لإسحاق عن أبي بصير إلا في هذا الموضع.

والكلام في أبي بصير طويل، خلاصته أن أبا بصير عند الإطلاق وعدم القرينة شخص واحد، هو يحيى بن القاسم الأسدي، وأما ليث بن البختري المرادي فقد شابه أبا بصير صفة وطبقة فكني بأبي بصير الأصغر -كحال مجموعة من الرواة الذين كنوا بناء على الصفة وهي الضرر- وهو المحكي في فهرست النجاشي(6)، وما وقع في كثير من المواضع من عطف ليث تفسيراً لأبي بصير في أخبار التراجم وارد مورد التَّوهم، حتى أن الخلط نقله الكشي في معرفة الرجال فقال ضمن من سماهم من فقهاء الأصحاب من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله‘: "قال بعضهم مكان أبي بصير الأسدي أبو بصير المرادي وهو ليث بن البختري"(7)، وتكرر هذا في موارد كثيرة، والأول -أي الأسدي- منهما جليل الشأن عظيم المنزلة حامل لأسرار النبوة والإمامة بلا ريب، والثاني واقفي مشكك مسيء للأدب مع الأئمة (عليهم السلام)، وهو الذي حكّ أو مسح على صدره مستهزءاً وقال: "ما أظن صاحبنا تناهى حلمه بعد"(8) يقصد الكاظم (عليه السلام)، وأما غيرهما ممن كني بهذه الكنية فمنصرف عنه الحديث، لاختلاف الطبقة تارة وعدم المشهورية تارة أخرى، وتفصيل المجمل من القول في محل يسع التفصيل.

وكان الشيخ الحر (رحمه الله) يميز ليث ابن البختري دائماً برواية عبد الله بن مسكان عنه، ويزيد في السند هذا المعنى فيقول:«يعني ليث بن البختري»، وهو المؤيد برواية الكليني: عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ وعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ جَمِيعاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ لَيْثٍ الْمُرَادِيِّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ قَالَ عَشْرَ مَرَّاتٍ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وقَبْلَ غُرُوبِهَا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ ولَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي ويُمِيتُ، ويُمِيتُ ويُحْيِي، وهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ، كَانَتْ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ»(9)، وهو المورد الوحيد في الكافي الذي كنى فيه ليث المرادي بأبي بصير، إذ عادة ما يذكره باسمه ليث بن يحيى.

كذلك ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في التهذيب -وهو موضع منفرد- تمييزاً لأبي بصير، قال: ما أَخْبَرَنِي بِهِ الشَّيْخُ أَيَّدَهُ اللَّهُ عَنْ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ سِنَانٍ عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَن‏ لَيْثٍ الْمُرَادِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي التَّيَمُّمِ قَالَ: «تَضْرِبُ بِكَفَّيْكَ عَلَى الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ»، ثم قال ذيل المبحث: "وَهَذَا لا يَنْقُضُ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ إِنْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّ الْخَبَرَيْنِ الأَوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ أَبِي بَصِيرٍ لَيْثٍ الْمُرَادِيِّ"(10) إلى آخر كلامه أعلى الله مقامه.

وفي الفقيه: رَوَى عَاصِمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ لَيْثٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فَقُلْتُ: مَتَى يَحْرُمُ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ وتَحِلُّ الصَّلاةُ صَلاةُ الْفَجْرِ فَقَالَ لِي: «إِذَا اعْتَرَضَ الْفَجْرُ فَكَانَ كَالْقُبْطِيَّةِ الْبَيْضَاءِ فَثَمَّ يَحْرُمُ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ وتَحِلُّ الصَّلاةُ صَلاةُ الْفَجْرِ» قُلْتُ: أَفَلَسْنَا فِي وَقْتٍ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ شُعَاعُ الشَّمْسِ قَالَ: «هَيْهَاتَ أَيْنَ تَذْهَبُ بِكَ تِلْكَ صَلاةُ الصِّبْيَانِ»(11)، وهو المورد الوحيد في الفقيه الذي ذكر كنيته على خلاف العادة من ذكر اسمه فقط، وهذا مورد آخر للتمييز بينهما.

وقال في موضع آخر -وهو الوحيد- مميزاً ليحيى بن القاسم: رَوَى عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ أَبَانٍ الأَحْمَرِ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الأَسَدِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «لَمَّا حَضَرَتِ النَّبِيَّ (صلّى الله عليه وآله) الْوَفَاةُ نَزَلَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)»(12) الحديث، وهذا على خلاف عادته في ذكر كنيته دون اسمه، على عكس ليث بن البختري المرادي.

وفي آخر وهو وحيد أيضا: وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (عليهم السلام) قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) الأَئِمَّةُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ»(13) الحديث، إذ عادة ما يطلق الكنية ويريد بها أبي بصير الأسدي الثقة الجليل.

وجرى هذا المجرى قبلهم البرقي في محاسنه، قال: وعنه [محمد بن علي]، عن أبيه، عن حمزة بن عبد الله، عن هاشم بن أبي سعيد الأنصاري، عن أبي بصير ليث المرادي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن نوحاً حمل في السفينة الكلب والخنزير، ولم يحمل فيها ولد الزنا، وإن الناصب شر من ولد الزنا»(14)، فميزه برواية الأنصاري.

وفي علل الصدوق: حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضال عن المفضل بن صالح عن أبي بصير ليث المرادي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لم سمي مسجد الفضيخ مسجد الفضيخ؟ قال: «النخل سمي الفضيخ فلذلك سميه»(15).

والطريق إلى كتابه عند الشيخ النجاشي يمر بابن فضال عن أبي جميلة -وهو المفضل بن صالح- عن أبي بصير ليث بكتابه، وهو المتعارف في الكتب والمذكور بلا كنية، مع تلقيبه بالمرادي في أكثرها.

وفي مشيخة الصدوق بيَّن طريقه لكتاب عبد الكريم بن عتبه فقال: "عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي، عن ليث المرادي، عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي"(16)، وكذا السند متكرر كثيراً إلى ليث المرادي.

فاتضح أن الأصل عند إطلاق أبي بصير -في الكتب الأربعة وما ذكرناه- هو الإشارة ليحيى بن القاسم الأسدي الجليل الشأن، وأن الأصل في البختري الإكتفاء باسمه (ليث المرادي أو ليث بن البختري) دون كنيته، وأنهم يميزون بينهم في تلك الموارد التي تخالف الأصل -وهي قليلة بلحاظ الرواة لا عدد الروايات- برواية ابن مسكان وعاصم بن حميد وهاشم بن أبي سعيد الأنصاري والمفضل بن صالح وعبد الكريم الهاشمي وأبان بن عثمان وأيوب بن الحر وأبي أيوب الخراز وعبد الله بن بكير وحميد بن المثنى أبي المغرا عن ليث بن البختري، كما بيّنا في طريقة الشيخ الحرّ (رحمه الله) في الوسائل، وأنت إن لاحظت ما عددناهم وجدت أكثرهم يروون عن ليث بن البختري بلا كنية، هذا ما وقفنا عليه بعد طول تتبع.

وعلى أيّ حال، فالرواية مقبولة، لا لتعيّن المقصود من أبي بصير يقيناً ولا لكون أبي بصير -أياً كان- ثقة، بل لأن الرواية مودعة في كتب الأخبار المعروفة الممحصة، ككتب محمد بن الحسين كما مرّ، وإسحاق بن جرير الثقة، فإن ملاحظة أخباره وشأن الرجاليين في توصيفه وتوثيقه يسكن النفس لصحة ما نقلوه عنه من كتابه، أضف إليه اتحاد مضمون هذا الخبر مع ما تقدم من الأخبار الصحاح.

والكلام في دلالتها هو بعينه الكلام في مثيلاتها السابقة.

الثامن عشر: ما رواه معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وهي رواية واحدة وردت بنحوين متفاوتين.

رواها الشيخ الصدوق -بسند صحيح- في العلل قال: حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثنا الحسين بن الحسن بن أبان عن الحسين بن سعيد عن حماد بن عيسى عن معاوية بن وهب قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): مكة والمدينة كسائر البلدان؟ قال: نعم، قلت قد روى عنك بعض أصحابنا أنّك قلت لهم: أتموا بالمدينة بخمس، فقال: إن أصحابكم هؤلاء كانوا يقدمون فيخرجون من المسجد عند الصلاة، فكرهت ذلك لهم فلذلك قلته» (17).

وروى الأخرى الشيخ في التهذيب بسنده عن موسى بن القاسم عن عبد الرحمن عن معاوية بن وهب قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ التَّقْصِيرِ فِي الْحَرَمَيْنِ والتَّمَامِ؟ فَقَالَ: لا تُتِمَّ حَتَّى تَجْمَعَ عَلَى مُقَامِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَصْحَابَنَا رَوَوْا عَنْكَ أَنَّكَ أَمَرْتَهُمْ بِالتَّمَامِ، فَقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَكَ كَانُوا يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ فَيُصَلُّونَ ويَأْخُذُونَ نِعَالَهُمْ ويَخْرُجُونَ والنَّاسُ يَسْتَقْبِلُونَهُمْ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ لِلصَّلاةِ، فَأَمَرْتُهُمْ بِالتَّمَامِ»(18).

وهما حديث واحد اختلفت ألفاظهما من جهة الرواة، يشهد له ذيل الخبرين، وذكرنا في طيّات ما سبق أن الترجيح لألفاظ رواية غير موسى بن القاسم، خاصة منها ما يتعلق بأمور الحجّ؛ فإنا وقفنا على الكثير من أخباره مما يتحد مع غيره في الروايات ويتفاوت في اللفظ ويشذ عنها، وهذه الرواية من تلك الأخبار التي رواها موسى بن القاسم في كتابه، لا أن الخلل وقع ممن روى عنه موسى؛ فإنه احتمال مرجوح بعد تقصي الأخبار ومقارنتها، ولا يقاس ضبط موسى بن القاسم في كتابه بضبط مثل حماد بن عيسى المتحرز عن التحديث بما سمعه خوفاً من التقصير في أدائه، أو الحسين بن سعيد الثبت، وهذا واضح لنا والحمد لله.

ومحمد بن الحسن في طريق العلل هو ابن الوليد.

والحسين بن الحسن بن أبان غير مصرح بتوثيقه، لكنه من أجلة الأصحاب على ما هو مقطوع به من اعتماد ابن الوليد ومحمد بن قولويه وأمثالهما عليه، ولم يغمز فيه بشيء، كيف ومنه أخذ الأصحاب كتب الحسين بن سعيد رواية وتحديثاً، وقد ورث تلك الكتب بعد وفاة الحسين بن سعيد في دار أبيه الحسن بن أبان في قم، بل كتب له الحسين بن سعيد نفسه، ففي كتاب الاختصاص المنسوب اشتباهاً للمفيد على الظاهر: «الحسين بن الحسن بن أبان قال: حدثني الحسين بن سعيد وكتبه لي بخطه بحضرة أبي الحسن بن أبان قال: حدثني محمد بن سنان، عن حماد البطحي، عن زميله -وكان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)- قال: إن نفراً من أصحابه قالوا: يا أمير المؤمنين إن وصي موسى كان يريهم العلامات بعد موسى»(19) الحديث.

قال الميرداماد في الرواشح: "الحسين بن الحسن بن أبان الثقة غير المشتبه أمره في الثقة والجلالة على الممارس الماهر... وبالجملة، الحسين بن الحسن بن أبان يروي عن الحسين بن سعيد الأهوازي كتبه ورواياته كلها، وهو ثقة، ثبت، صحيح الحديث إلا فيما يرويه عن محمد بن أورمة؛ فإن في ذلك تفصيلا"(20) انتهى، لكن المشايخ قد صرحوا بتمحيص روايات ابن ارومة وتنقيتها من الخلط ولم يرووا إلا ما ثبت لديهم.

وأما الحسين بن سعيد فهو الثبت الثقة التي تصحح الأخبار لورودها في كتابه، وحماد قد تقدم الكلام في شأنه، ومعاوية بن وهب لا تأمل في وثاقته وصحة طريقته، وأظن أن هذا الخبر قد نقل من كتابه فضائل الحج(21).

وفي السند الآخر: عبد الرحمن هو ابن أبي نجران الذي يروي عنه موسى بن القاسم كثيراً، وابن نجران "ثقة ثقة معتمد على ما يرويه‏"(22)، فيكفي الاطمئنان بصحة الطريق لكتابه لتصحيح إخباراته، وشواهد الاعتماد على مروياته واضحة للعيان.

فهذا الخبر صحيح عن الأثبات، وألفاظ الأولى هي الأقرب.

وأما من جهة الدلالة:

فالمختار أجنبية الخبر عن محل الكلام وذكره في مبحث أصل حكم صلاة المسافر أجدر، فإنه يقرر أصل حكم القصر والتمام واشتراكه بين البلدان، دون الحكم الآخر بأفضلية الإتمام لغير المقيم اختياراً، والداعي له ما أمر به (عليه السلام) مواليه في زمان خاص بما يخالف ذلك الأصل في صلاة المسافر، فمعاوية لما بدأ سؤاله عن مكة والمدينة واشتراكهما في الحكم مع البلدان المشروط فيها نية إقامة عشرة أيام، كان مدفوعاً بما سمعه من أمر الإمام (عليه السلام) بمخالفة ما قرر من أصل الحكم في القصر للمسافر، وليس في السؤال ولا الجواب حكم التخيير أو أفضلية الإتمام.

فتقتصر دلالتها على ما هو منصوص فيها، من أن الإمام (عليه السلام) أمرهم بالإتمام لخمس ليوافقوا طائفة من العامة فلا يتميزوا فيعرفوا ويصيبهم الأذى، بل سواء وافق الأمر بالخمس فتوى العامة أو لم يوافقهم فالحال واحد، فإنه ساتر عن معرفة مذهبهم.

قال الشيخ في التهذيب:

«عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ سَأَلَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) وأَنَا أَسْمَعُ عَنِ الْمُسَافِرِ إِنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِإِقَامَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ قَالَ: فَلْيُتِمَّ الصَّلاةَ فَإِنْ لَمْ يَدْرِ مَا يُقِيمُ يَوْماً أَوْ أَكْثَرَ فَلْيَعُدَّ ثَلاثِينَ يَوْماً ثُمَّ لْيُتِمَّ وإِنْ كَانَ أَقَامَ يَوْماً أَوْ صَلاةً وَاحِدَةً فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ: بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ خَمْساً فَقَالَ: (عليه السلام) قَدْ قُلْتُ ذَاكَ، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقُلْتُ أَنَا: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَيَّامٍ فَقَالَ: لا.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مَا يَتَضَمَّنُ هَذَا الْخَبَرُ مِنَ الأَمْرِ بِالإِتْمَامِ إِذَا أَرَادَ مُقَامَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ بِالْمَدِينَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ السِّنْدِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الْمُسَافِرِ يَقْدَمُ الأَرْضَ فَقَالَ إِنْ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ أَنْ يُقِيمَ عَشْراً فَلْيُتِمَّ وإِنْ قَالَ الْيَوْمَ أَخْرُجُ أَوْ غَداً أَخْرُجُ ولا يَدْرِي فَلْيُقَصِّرْ مَا بَيْنَهُ وبَيْنَ شَهْرٍ فَإِنْ مَضَى شَهْرٌ فَلْيُتِمَّ ولا يُتِمَّ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ إِلا بِمَكَّةَ والْمَدِينَةِ وإِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ والْمَدِينَةِ خَمْساً فَلْيُتِمَّ»(23).

فإنه لا تنافي بين الأمر بأحد فردي الواجب التخييري مع كونه موافقاً للتقية بل أفضل الفردين وهو الإتمام ولو في بعض المدة.

والعجب من الشيخ المجلسي (رحمه الله)؛ إذ قال تعليقاً على التقصير لخمس: "والأظهر عندي حمله على التقية، لأن الشافعي وجماعة منهم قائلون بإقامة الأربعة، ولا يحسبون يوم الدخول ويوم الرحيل فيتحصل خمسة ملفقة، وسياق الخبر أيضا يدل عليها كما لا يخفى على الخبير"(24).

فإن الخبر عن الصادق (عليه السلام)، وقد كانت شهادته (عليه السلام) سنة 148 للهجرة، وكان مولد الشافعي سنة 150 للهجرة في سنة وفاة أبي حنيفة ووفاته سنة 204 للهجرة، فكيف يُتَّقى؟، نعم لو قيل أن الإتمام لخمس موافق لأبي حنيفة فقيه الكوفة، أو مالك فقيه المدينة كما زعموا، لكان محتملاً، وفقهاء العامة كثيرون ومذاهبهم لا تحصى، والحمل عليها غير عزيز.

وأظن أن المجلسي (رحمه الله) قصد النسبة الكلية للشافعي التابع لجماعة من المتقدمين، وهو من كلام السيد المرتضى (رحمه الله) في الناصريات، إذ قال: "قال الشافعي: مدة الإقامة التي تنقطع بها أحكام السفر أربعة أيام، غير يوم الدخول ويوم الخروج، وهو قول مالك، وأحمد، وأبي ثور"(25).

وفي الانتصار: "وقال الشافعي ومالك وهو قول سعيد بن المسيب والليث: إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم"(26).

فالتقية تناسب مذهب مالك (ولد حدود 93- ت 179هـ) وسعيد بن المسيب (ت 94 هـ) أكبر فقهاء العامة في مكة والمدينة، والليث بن سعد (94هـ- ت 175هـ) كبير فقهاء مصر، وكأن فتواهم صارت مسلمة.

التاسع عشر: ما رواه قائد الحناط عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام).

وهو المروي في حاشية كامل الزيارات المطبوع بعنوان (زيادة من تلميذ المؤلف): ومن زيادة الحسين بن أحمد بن المغيرة ما في حديث أحمد بن إدريس بن أحمد بن زكريا القمي، قال: حدثني محمد بن عبد الجبار، عن علي بن إسماعيل، عن محمد بن عمرو، عن قائد الحناط، عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام)، قال: «سألته عن الصلاة في الحرمين، فقال: تتم ولو مررت به ماراً»(27).

وهذه الرواية ليست من أصل الكتاب، بل من رواية ابن تلميذه عن شيخه ابن قولويه، وأسندها للكتاب الشيخ الحر والمجلسي وتبعهما من تأخر عنهما.

والحسين بن أحمد بن المغيرة، مضطرب الحديث ثقة في روايته كما في وصف ابن الغضائري(28) وتبعه النجاشي(29)، ومعنى اضطراب الحديث عدم ضبط معناه ولفظه غالباً، وهو ممن أخذ عن جعفر بن محمد بن قولويه، وزاد بعض الأخبار في كامل الزيارات تارة بطريق شيخه ابن قولويه وأخرى نقلاً عن كتاب ابن إدريس وثالثة عن شيخه الحسن بن أحمد بن محمد بن علي الرازي المعروف بالرهوردي والذي روى عن الشيخ الصدوق، يدل على أن الزيادة هي من ألفاظ الحسين بن أحمد قوله في الموضع الثالث المشار إليه: "قال الحسين بن أحمد بن المغيرة: وحدثني أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن علي الرازي المعروف بالوهوردي بنيشابور بهذا الحديث، وذكر في آخره غير ما مضى في الحديثين الأولين أحببت شرحه في هذا الباب لأنه منه"(30).

والرواية نقلها -على احتمال- الحسين عن كتاب نوادر أبي علي أحمد بن إدريس كما نسبه له الشيخ النجاشي(31) والشيخ(32)، ولم يذكرا  له غير هذا الكتب.

ومحمد بن عمرو، هو محمد بن عمرو بن سعيد "الزيات المدائني، ثقة عين، روى عن الرضا (عليه السلام) نسخة" كما في فهرست النجاشي(33).

فمبتدأ السند إلى الحناط ثقاة معتمدون، أما قائد أو فائد الحناط فهو عامي على احتمال قوي، وهي كذلك مؤيدة بموافقة مضمونها بل لفظها لأخبار أخر كثيرة.

وتقدم في الحديث الخامس من الأحاديث المتقدمة قولنا أن رواية عبد الرحمن بن الحجاج -وفي طريقها محمد بن عبد الجبار كهذه الرواية- عن أبي عبد الله (عليه السلام): قَالَ: «أَتِمَّ وإِنْ لَمْ تُصَلِّ فِيهِمَا إِلاَّ صَلاَةً وَاحِدَةً»(34)، قريبة المعنى لقوله (عليه السلام): «تتم ولو مررت به ماراً»، ومع اشتهار هذا التعبير الظاهر في الوجوب لولا الصارف بكثرة أخبار التخيير وصراحتها، تولد وهم وجوب الإتمام في تلك المواضع الشريفة، وقد تعرضنا لمثاله ويأتي أيضا.

العشرون: ما رواه عمرو بن مرزوق عن أبي الحسن (عليه السلام)، وهي رواية واحدة.

رواها ابن قولويه في مزاره قال: حدثني علي بن حاتم القزويني، قال: أخبرنا محمد بن أبي عبد الله الأسدي، قال: حدثنا القاسم بن الربيع الصحاف، عن عمرو بن عثمان، عن عمرو بن مرزوق، قال: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الصلاة في الحرمين وفي الكوفة وعند قبر الحسين (عليه السلام)، فقال: أتم الصلاة فيهم»(35).

ورواه الشيخ المفيد عن شيخه ابن قولويه بنفس السند وشهد بصحته أول الباب(36) كما ذكرنا في أخبار سابقة.

وعلي بن حاتم القزويني "له كتب كثيرة جيدة معتمدة نحو من ثلاثين كتاباً على ترتيب كتب الفقه‏"(37)، وهو من أصحاب الإجازات والطرق كما تفصح به طرق النجاشي في فهرسته.

ومحمد بن أبي عبد الله الأسدي هو محمد بن جعفر بن محمد بن عون الأسدي أبو الحسين الكوفي‏، وكان ثقة صحيح الحديث، قال النجاشي: "إلا أنه روى عن الضعفاء"، وليس في هذا تهافت، إذ قد يروي الثقة ومن يصح حديثه عن رواة ضعاف في الحديث يحتمل الخطأ في مروياتهم، وأظن أنه قصد سهل بن زياد الذي وصف بالضعف في الحديث(38)؛ فإن أبا الحسين محمد بن جعفر الأسدي روى عنه كثيراً، لذا تجدالنجاشي عقّب ما قال في ترجمته بقوله: "وكان يقول بالجبر والتشبيه‏"، وكأنه أراد أن يشير إلى أن هذا سبب في شبهات دعته لما ذهب له، ويعلم من هذا سبب ما رمي به، على أنه قد عدَّه الشيخ في كتاب الغيبة من الأبواب الذين ترد عليهم الكتب ومن الخواص المعروفين، قال في الغيبة: "وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل، منهم أبو الحسين محمد بن جعفر الأسدي  (رحمه الله)"(39)، ثم روى أخباراً في هذا المعنى.

والقاسم بن الربيع الصحاف ابن بنت زيد الشحام، لم يصفه النجاشي(40) بشيء، ولعله لعدم ارتضائه ما ذكره شيخه ابن الغضائري من تضعيفه حيث قال: "كوفي، ضعيف في حديثه غال في مذهبه لا التفات إليه ولا ارتفاع به"(41)، ولعله لروايته رسالة مياح المدائني(42) وروايته عن ابن سنان، لذا قال ابن داوود: "ضعيف جدا غال يروي عن محمد بن سنان"(43)،، وقد بيَّنا لك حال محمد بن سنان على نحو الإجمال، وقد ورى كتبه نقّاد المحدثين الذين مرّ وصفهم وعرفت مسلكنا بما سطرنا عند ذكرهم.

وعمرو بن عثمان الخزاز "نقي الحديث صحيح الحكايات‏"، كما في فهرست النجاشي(44)، وأخباره المتفرقة تدل على علو قدمه في الحديث والعلم.

وأما عمرو بن مرزوق فلم يوصف بشيء فيما لدينا من كتب، وليست له رواية في كتبنا إلا هذه، وهو مولى عمرو الكرابيسي على ما قيل، وعلى هذا فيحتمل كونه عامياً، لكنه ممن رُوي عنه من صح حديثه واُعتمدت كتبه ممن مروا عليك.

وأبو الحسن (عليه السلام) مردد بين الكاظم والرضا (عليهما السلام)، ونرجح كونه الكاظم (عليه السلام)؛ فإن عمرو بن عثمان يروي بواسطتين غالباً عن الصادق (عليه السلام)، وبواحدة عن الكاظم (عليه السلام)، كما أن المروي عن الرضا (عليه السلام) أمره بالتقصير لدون العشرة.

وأما دلالة الخبر فمتحدة مع ما سبقه في الدلالة على أفضلية الإتمام، وسبق الحديث عن صيغة الأمر فيها بالإتمام المقرونة بارتكاز السائل على حكم القصر واستثناء المواطن الشريفة في الجواب، مع عدم القائل بوجوب الاتمام.

الحادي والعشرون: ما رواه صالح بن عبد الله الخثعمي عن أبي الحسن موسى والرضا والجواد (عليهم السلام)، وهي رواية واحدة.

رواها عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد عن كتاب عبد الله بن عامر عن ابن أبي نجران عن صالح بن عبد الله الخثعمي قال: «كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) أسأله عن أم ولد لي ذكرت أنها أرضعت جارية لي. فقال: لا تقبل قولها ولا تصدقها».

ثم روى أيضا بنفس السند السابق «كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) أَسْأَلُهُ عَنِ الصَّلاةِ فِي الْمَسْجِدَيْنِ أُقَصِّرُ أو أُتِمُّ؟، فَكَتَبَ (عليه السلام) إِلَيَّ: أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْتَ فَلا بَأْسَ، قال: وكتبت إليه أسأله عن خصي لي في سن رجل مدرك، يحل للمرأة أن يراها وتكشف بين يديه؟ قال: فلم يجبني فيها، قَالَ: فَسَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) عَنْهَا مُشَافَهَةً، فَأَجَابَنِي بِمِثْلِ مَا أَجَابَنِي أَبُوهُ، إِلا أَنَّهُ قَالَ: فِي الصَّلاَةِ قَصِّرْ»(45).

وقد روى محمد بن جرير بن رستم الطبري الآملي (رحمه الله) في دلائل الإمامة حديثا مماثلا رواه عن أبي خداش -ولا نتيقن عطفه على طريقه السابق، وهو: أبو المفضل محمد بن عبد الله -أي الشيباني- قال: حدثني أبو النجم بدر ابن عمار الطبرستاني، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي -أي الشلمغاني الملعون- قال: روى محمد بن المحمودي، عن أبيه - من كتابه كما هو الظاهر من سيرة المصنفين الذين يبتدئون بذكر صاحب الكتاب، قال:

«قال أبو خداش المهري: وكنت قد حضرت مجلس موسى (عليه السلام)، فأتاه رجل فقال له: جعلت فداك، أم ولد لي، وهي عندي صدوق، أرضعت جارية بلبن ابني، أيحرم علي نكاحها؟ قال أبو الحسن (عليه السلام): لا رضاع بعد فطام. فسأله عن الصلاة في الحرمين، فقال: إن شئت قصرت، وإن شئت أتممت. قال له: فالخصي يدخل على النساء؟ فأعرض بوجهه. قال: فحججت بعد ذلك، فدخلت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فسألته عن المسائل، فأجابني بالجواب. وقال: حضرت مجلس أبي جعفر (عليه السلام) في ذلك الوقت؟ قال: فقلت: جعلت فداك، إن أم ولد لي أرضعت جارية لي بلبن ابني، أيحرم علي نكاحها؟ فقال: لا رضاع بعد فطام. قلت: الصلاة في الحرمين؟ قال: إن شئت قصرت، وإن شئت أتممت. قال: قلت: الخادم يدخل على النساء؟ فحوّل وجهه، ثم استدناني فقال: وما نقص منه إلا الواقعة عليه»(46).

وصاحب السؤال الذي كان في المجلس الذي حضره ابو خداش -واسمه عبد الله بن خداش- هو صالح بن عبد الله الخثعمي نفسه صاحب المكاتبة والسؤال في رواية الحميري في قرب الاسناد، دلنا عليه رواية الكليني (رحمه الله) في الكافي عن «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خِدَاشٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لِي صَدُوقٍ زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْ جَارِيَةً لِي، أُصَدِّقُهَا؟، قَالَ: لاَ»، وبغض النظر عن اختلاف الألفاظ وبعض المعنى إلا أنه يتعين كونهما خبراً واحداً بطريقين، أحدهما الحميري عن كتاب عبد الله بن عامر عن ابن أبي نجران عن صالح بن عبد الله الخثعمي، والآخر الطبري بحذف الإسناد عن أبي خداش.

والذي يفهم أن أبا خداش قد سمع مسائل الخثعمي تقرأ في المجلس، وما ذكر في رواية أبي خداش من لقيا الإمامين الهمامين بعد الكاظم (عليهم السلام) والمعبر عنه بـ «قال: فحججت بعد ذلك» ضمير القول فيه يعود للخثعمي لا لأبي خِداش، بقرينة رواية قرب الإسناد المتقدمة، وأمر اتفاق الأسئلة في المجالس بعيد حمله على الصدفة!، والترجيح لرواية الحميري في قرب الإسناد؛ لمزايا الكتاب والمصنف والطريق، بل يُضعِفُ الاعتمادَ على رواية أبي خداش في الدلائل وصفُ النجاشي له بالضعف المنصرف للضعف في الحديث عادة، هذا كله في ضبط الخبر وجمع أشباهه المتحدة؛ هذا كله مع تأييد رواية الحميري بأمر الرضا (عليه السلام) السائل بالاتمام، الموافق للمنقول عنه (عليه السلام)، فلاحظ.

أما الرواية الأولى:

فكتاب قرب الإسناد من الكتب المعتمدة المشهورة في القرن الثالث والرابع الهجريين، والنسخة المتداولة اليوم هي النسخة المقروءة على محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري سنة 304 هـ وعليها قراءة ابن مهجنا وإجازة محمد بن عبد الله الحميري له، ثم استنسخها الشيخ ابن إدريس سنة 574 هـ ثم تعدد الناسخون فيما يحضرنا اليوم من الكتاب، وأفضل نسخه المتأخرة على ما رأيت هي النسخة المحفوظة في مكتبة السيد الجليل البروجردي (رحمه الله)، فقد كُتبت بأمره وعليها تصحيحات وتعليقات رشيقة مع مقابلة دقيقة، محفوظة تحت رقم 186.

والمهم في نسخ الكتاب أنه جاء في آخرها منقولاً عن خطّ محمد بن عبد الله بن جعفر: "قد أطلقت لك يا عمر وسعيد بن عمرو أن تروي هذا الكتاب عني عن أبي، على تمام هذا الكتاب، وما كان فيه عن بكر الأزدي وسعدان بن مسلم فاروه عن أحمد بن إسحاق بن سعد عنهما، وكتب محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري بخطه في صفر سنة أربع وثلاثمائة"(47).

والأزدي هو بكر بن محمد الأزدي، ذُكر كثيراً في الكتاب، وسعدان أقل منه، فالكتاب برواية محمد بن عبد الله الحميري، وهو لأبيه، روى هذه الأجزاء الثلاثة من الكتاب عنه ووصلتنا وحدها بطريق الشيخ ابن ادريس وبخطه، ولم تصلنا الأجزاء الأربعة الباقية، وزاد عليه أخباراً بطريقه، وبهذا ينقطع الخلاف في مؤلف الكتاب.

وعبد الله بن عامر الأشعري ثقة من وجوه الأصحاب وكبرائهم، روى عنه ابن أخيه الحسين بن محمد بن عامر والصفار وغيرهما، وروى هو عن ابن مهزيار وغيره.

وصالح بن عبد الله الخثعمي لم ينص على صفته، ولم يغمز فيه، وهو مقل في الرواية والمكاتبة، من أصحاب الصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام)، إلا أن رواية عبد الرحمن بن أبي نجران عنه وذكرها في كتبه كافية؛ قال الشيخ النجاشي في ابن أبي نجران: "كان عبد الرحمن ثقة ثقة معتمداً على ما يرويه‏"(48).

وأما الرواية الثانية:

فأبو جعفر الطبري "جليل من أصحابنا كثير العلم حسن الكلام ثقة في الحديث"(49)،‏ واختلف المتأخرون في اسم كتابه هذا، وله كتاب  المسترشد في الإمامة، ومقتضى صدقه عدم الحاجة لسند متصل لو كان يروي عن نسخة متقدمة عليه كما هو في المقام، فإن النقل عما لا يعتمد عليه ينافي الوثاقة وصدق القول وجلالة الشأن في العلم والدين.

وأبو خداش(50) هو عبد الله بن خداش المهري، ضعفه النجاشي وقال فيه "ضعيف جداً وفي مذهبه ارتفاع‏"(51)، وحكي توثيقه في الكشي(52)، لكن رواة كتابه فيهم الفضل ابن شاذان وصفوان وأحمد بن محمد بن يحيى فيمن كانوا من المدققة كابن شاذان ومن مقبولي الأخبار أو من نُقحت أخبارهم كأحمد بن يحيى، فلا ضير في صفة ضعفه؛ لكونها محتملة الوهن كعادة من رمي بالارتفاع بعد الضعف، مع الاطمئنان بعدم تسامح من رووا كتابه من الأكابر بإيداع كتبهم أخباراً يُعلم كذبها، نعم الكلام في ضبطه، وتقدم أنه لا يقدم خبره الذي في الدلائل على خبر قرب الإسناد.

أما دلالتها:

فرواية قرب الإسناد لا تنافي ما دل على التخيير؛ فظهورها في الإلزام ساقط بما دل على التخيير في جملة كثيرة من الأخبار التي ذكرناها، وذكر أحد فردي التخيير لا يخرج الحكم عن الاختيار، ونحن نختار حملها على التقية خصوصاً بالنسبة لزمن الرضا (عليه السلام) في المدينة الذي يرجح -مع الأمر بالتقصير لموافقته للعامة وظهوره في الأخبار الكثيرة- جانب الإتمام، ويؤيد الحمل على التقية أيضاً أن الروايات عن الرضا (عليه السلام) كلُّها تأمر بالتقصير لغير المقيم دون العشرة.

وخبر الدلائل لو تمّت شروط الركون إليه لكان مؤيداً لما سبق ومصدقاً للتخير.

الثاني والعشرون: ما رواه محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه السلام).

رواها الشيخ الصدوق في العيون، قال: «حدثنا الحاكم أبو محمد جعفر بن نعيم بن شاذان قال حدثني عمي أبو عبد الله محمد بن شاذان قال حدثنا الفضل بن شاذان قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته القنوت في الفجر» إلى أن قال: «وسألته عن الصلاة بمكة والمدينة تقصير أو تمام؟ فقال: قصر ما لم تعزم على مقام عشرة»(53).

وذكرنا سابقاً ما ذكره الصدوق في الخصال في صدر البحث ضمن الخبر الأول، قال بعد ذاك الخبر: "قال مصنف هذا الكتاب (رضي الله عنه): يعني أن ينوي الإنسان في حرمهم (عليهم السلام) مقام عشرة أيام ويتم ولا ينوي مقام دون عشرة أيام فيقصر، وليس ما يقوله غير أهل الاستبصار بشيء: أنه يتم في هذه المواضع على كل حال"(54).

وقال في الفقيه بعد صحيحة حماد(55): «قال مصنف هذا الكتاب (رحمه الله): يعني بذلك أن يعزم على مقام عشرة أيام»(56)، ثم صدقه برواية ابن بزيع هذه التي هي أحد عمدة أدلته (رحمه الله).

ورواها الشيخ في التهذيب بسنده إلى أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه السلام) بعينه(57).

وحمله الشيخ في التهذيب على كون جهة السؤال والجواب على من اعتقد وجوب الإتمام في أقل من مدة الإقامة المقررة في الحرمين.

وطريق الصدوق: جعفر بن نعيم بن شاذان شيخ الصدوق أكثر عنه وترضى وترحم، ولم يغمز فيه، يروي كثيراً عن عمه أبو عبد الله محمد بن شاذان بن خليل المذكور في السند وهو ممدوح في بعض أخبار الكشي وله كتاب، يروي كثيراً عن أخيه الفضل بن شاذان (رحمه الله)، فنعيم ومحمد والفضل إخوة، ولا بأس بالسند، بل هو صحيح اصطلاحاً بطريق الشيخ (رحمه الله).

وأما الدلالة:

فالأمر هين بعد ملاحظة أخبار المسألة؛ فإن كل أخبارها عن الرضا (عليه السلام) آمرة بالقصر لدون العشرة، وكذا خبرٌ واحدٌ للجواد (عليه السلام) -رواه الحضيني- آمر بالتمام تحت غطاء الإقامة وهو غير ظاهر في تعيّن القصر لغير المقيم، والأخبار الباقية بين المخيّرة والمفضلة للإتمام والآمرة به، وهذا مقوٍ للحمل على التقية بضميمة ظهور بعض الأخبار بأن إتمام الصلاة مما يُتَّقى منه.

الثالث والعشرون: ما رواه علي بن حديد عن الرضا (عليه السلام)، وهي وراية واحدة:

رواها الشيخ (رحمه الله) منفرداً في التهذيب والاستبصار بسنده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن حديد قال: «سألت الرضا (عليه السلام) فقلت: إن أصحابنا اختلفوا في الحرمين؛ فبعضهم يقصر وبعضهم يتم، وأنا ممن يتم على رواية قد رواها أصحابنا في التمام، وذكرت عبد الله بن جندب أنه كان يتم، قال: رحم الله ابن جندب، ثم قال لي: لا يكون الإتمام إلا أن تجمع على إقامة عشرة أيام، وصل النوافل ما شئت، قال ابن حديد: وكان محبتي أن يأمرني بالإتمام»(58).

وعلي بن حديد بن حكيم ضعّف الشيخ حديثه، ولم يرد فيه مدح أو ذم في فهرستي النجاشي والشيخ، قال النجاشي (رحمه الله): "روى عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)، له كتاب أخبرنا أبو عبد الله بن شاذان قال: حدثنا علي بن حاتم قال: حدثنا الحميري قال: حدثنا أبي عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن علي بن فضال عن علي بن حديد بكتابه"(59).

وما نقله الكشي عن نصر بن الصباح من أن علي بن حديد كان فطحياً(60) لم نجد أثره في المرويات، بل رواياته عن الرضا (عليه السلام) تورث الاطمئنان بأنه يسكن للمذهب الحق، واعتماد الأصحاب على كتابه ورواياته مع عدم التنصيص على مذهبه -كبني فضال- ينفي عملاً نسبته للفطحية، نعم، ذكرنا غير مرة أن كثيراً من الإمامية مالوا لعبد الله الأفطح عن شبهة ثم عادوا، فبقت نسبتهم إليه دون تحقيق.

وابن حديد ممن دلت بعض الأخبار على ملازمته للكتمان والتقية، منها ما رواه الكليني (رحمه الله) بسنده عن أبي علي بن راشد قال: «قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن مواليك قد اختلفوا، فأصلي خلفهم جميعا؟ قال: لا تصل إلا خلف من تثق بدينه، ثم قال: ولي موال(61)؟ فقلت: أصحابُ(62)، فقال مبادراً قبل أن أستتم ذكرهم: لا(63)، يأمرك علي بن حديد بهذا(64) -أو هذا مما يأمرك به علي بن حديد-؟ فقلت: نعم»(65)، وذكر الكشي عن علي بن محمد القتيبي قال: "حدثنا الفضل بن شاذان قال: كان أحمد بن محمد بن عيسى تاب واستغفر الله من وقيعته في يونس لرؤيا رآها، وقد كان علي بن حديد يظهر في الباطن الميل إلى يونس وهشام"(66)، والحديث متشعب ليس هذا محله.

وأما دلالتها:

فهي دالةٌ على جواز الإتمام إيماءً يفهمُ من ترحم الرضا (عليه السلام) على عبد الله بن جندب الذي كان يتم، وكذا دلت على اختلاف الأخبار -في زمن الرضا (عليه السلام)- بين أصحابنا مما لا يعلم كذبه بل يعلم صدوره حتى عمل به جمع منهم علي بن حديد، وهو أمر شبيه بما سأل عنه علي بن مهزيار الإمام الجواد (عليه السلام) وهو الحديث الرابع الآنف، ومن الملاحظ أن اختلاف الأخبار لم يقع إلا زمن الرضا  (عليه السلام)، ولم يرد عنه الأمر الصريح بالتقصير في ما عرضناه منها، ولذا وجب حمل الروايات عن الرضا (عليه السلام) على التقية، والقرينة عليها ما ذكرناه، فراجع.

وحمل الشيخ في التهذيب هذا الخبر وسابقه على وجوب الإتمام حسب القاعدة في الاقامة لعشر، وهو لا ينافي التخيير وأفضلية الإتمام، ثم قال: "ويحتمل هذان الخبران وجهاً آخراً -وهو المعتمد عندي- وهو أن من حصل بالحرمين ينبغي له أن يعزم على مقام عشرة أيام ويتم الصلاة فيهما وإن كان يعلم أنه لا يقيم أو يكون في عزمه الخروج من الغد، ويكون هذا مما يختص به هذان الموضعان ويتميزان به من سائر البلاد، لأن سائر المواضع متى عزم الإنسان فيها على المقام عشرة أيام وجب عليه الإتمام، ومتى كان دون ذلك وجب عليه التقصير، والذي يكشف عن هذا المعنى ما رواه"(67) واستدل بالخبر الآتي، والصحيح بل القريب للصريح أن الأمر بالإقامة غطاء تقية للإتمام، لا موضوعية له بالخصوص.

الرابع والعشرون: ما رواه الحضيني عن أبي جعفر الجواد (عليه السلام)، وهي رواية واحدة.

رواها الشيخ في التهذيب منفرداً بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن عبد الجبار عن علي بن مهزيار عن محمد بن إبراهيم الحضيني قال: «استأمرت أبا جعفر (عليه السلام) في الإتمام والتقصير، قال: إذا دخلت الحرمين فانو عشرة أيام وأتم الصلاة، فقلت له: إني أقدم مكة قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة قال، انو مقام عشرة أيام وأتم الصلاة».

ومحمد بن إبراهيم الحضيني الأهوازي أخو إسحاق بن إبراهيم الحضيني الذي أدخله الحسين بن سعيد على الرضا (عليه السلام) وعرف الحق، وأخوه حمدان الحضيني، يروي عنه ابن مهزيار، والحسين بن سعيد(68)، وروى هو عن يونس بن عبد الرحمن، وفي الكشي بسند فيه القلانسي المضعف بالاضطراب: «ابن مسعود قال حدثني حمدان بن أحمد القلانسي قال حدثني معاوية بن حكيم عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن حمدان الحضيني قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن أخي مات، فقال لي: رحم الله أخاك فإنه كان من خصيص شيعتي. قال محمد بن مسعود: حمدان بن أحمد من الخصيص؟ قال الخاصة الخاصة»(69).

لكن في خلاصة الأقوال للعلامة: «عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الحضيني»(70)، مقتصرا على النسبة مع حذف حمدان.

ولعل محمد بن إبراهيم الحضيني هو عم الحسين بن حمدان الحضيني أو الخصيبي صاحب الهداية الكبرى المتوفى سنة 358هـ وله مؤلفات توافق مذهب النصيرية الغلاة، ووالده هو المقصود في الرواية السابقة، ويضعف ببعد عصره.

وأما دلالتها:

فإنه لما لم يمكن الجمع بين نية الإقامة عشرة أيام مع الخروج لمنى والمناسك في أقل منها، ذهب الشيخ -كما تقدم كلامه- إلى أنه تعبد محمول على الوجوب، وذكرنا أن التعبد في مثل هذه المواضع التي صرح بأنها موارد تقية واستتار بعيد جداً.

وانفراد الشيخ (رحمه الله) بروايتها واضطراب القلانسي غير ضار؛ إذ مضمونها مؤيد بأخبار الباب العديدة، مع عدم إبائها للحمل على التقية، بل تعينها فيه.

الخامس والعشرون: ما رواه حمزة بن عبد الله الجعفري عن أبي الحسن (عليه السلام) وهو خبر مفرد.

رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) في الفقيه واعتمده، عن «مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الْبَرْقِيُّ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَعْفَرِيِّ قَالَ: لَمَّا أَنْ نَفَرْتُ مِنْ مِنًى نَوَيْتُ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ فَأَتْمَمْتُ الصَّلاَةَ، ثُمَّ جَاءَنِي خَبَرٌ مِنَ الْمَنْزِلِ، فَلَمْ أَجِدْ بُدّاً مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَلَمْ أَدْرِ أُتِمُّ أَمْ أُقَصِّرُ، وأَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام) يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَأَتَيْتُهُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ لِيَ: إرْجِعْ إِلَى التَّقْصِيرِ».

وهي -ورواية ابن بزيع عن الرضا (عليه السلام)المتقدمة- اعتمدها الصدوق في القول بوجوب الإتمام في الحرمين، ورده الشيخ في الاستبصار بقوله: "فالوجه في هذا الخبر أنه إنما أمره بالرجوع إلى التقصير لأنه لم يكن صلى بعد شيئاً من الصلوات الفرايض، فلما تغيرت نيته كان فرضه التقصير حسب ما فصله في الخبر الأول، ويكون قول السائل: «وكنت أتممت» محمولاً على النوافل دون الفرائض؛ لأن الذي يراعى فيه أن يكون صلى صلاة واحدة فريضة على التمام فحينئذ يجب عليه التمام بقية مقامه على ما بُيِّن في الخبر الأول"(71)، وأدرجة ضمن باب (المسافر يقدم البلد ويعزم على المقام عشرة أيام ثم يبدو له) ضمن الزيادات في التهذيب(72) وقال: "فالوجه في هذا الخبر أنه إنما أمره بالرجوع إلى التقصير إذا حصل مسافرا وخرج فأما قبل ذلك فلا".

والظاهر القوي خلاف ما أفاد (رحمه الله)؛ فإن قوله: «فأتممت الصلاة» ظاهر في أدائه لصلاة تامة، وقوله: «فلم أدر أتم أو أقصر» مردد بين كون الموضع منزله الذي نزل فيه -ولابد أن يكون خارج الحرم حتى يصح السؤال والتفريق- أو هو مكة بعد رجوعه من منزله، إلا إذا كانت القرينة على كون السؤال عن حكم مكة هي قوله: «وأبو الحسن يومئذ بمكة»؛ والحاصل أن الظاهر منها أن السؤال عن حكم صلاة لمن نوى الإقامة ثم طرأت عليه ضرورة قطعت إقامته فخرج عن البلد ثم عاد، والجواب على حسب القاعدة في الإقامة والسفر لكل البلدان بوجوب نية إقامة جديدة للإتمام وإلا فالمصير للتقصير، يؤيده ظاهر حال السائل في نيته الإقامة دون أن يتعرض في سؤاله لخصوصية الموضع المشرف.

ولكون موضوعها مبايناً لحكم القصر والإتمام في المواضع المشرفة لم يدرجها الشيخ (رحمه الله) في الباب المخصوص محل البحث، وكذا صنع الشيخ الحر (رحمه الله) في الوسائل(73).

هذه جملة الأخبار التي أوردها الشيخ الحر (رحمه الله) في وسائله، وللزيادة -فيما فات الشيخ الحر (رحمه الله)- في تعدادها وحصرها متسع، إلا أن الفائدة تحصل بما ذكرنا والمقام يناسبه مع ما قدمنا، ونسأل الله إتمام الباقي، ونستجديه من بركات غيثه الساقي، بمحمد وآله صلوات ربي عليهم في كل آن ماض وآتي.

حصيلة البحث

وقد تحصل من كل ماسبق: أن الأخبار متضافرة المعنى في التخيير، وأفضليّة الإتمام على التقصير في المواضع الأربعة المشرّفة، وأن التعارض الذي ادعي بين أخبارها ينحل بالقرائن والمتابعات، ومنها ما أوردناها شرحاً على أكثر الأخبار المعصومة المتقدّمة.

 

* الهوامش:

(1) في نسخة الوسائل المطبوع: حريز، وهو خطأ، والصحيح ما نقلناه من الكافي والتهذيب.

(2) الكافي 4: 586/ ح2.

(3) التهذيب 5: 432/ ح146.

(4) النجاشي: 71/ ر170.

(5) رجال الشيخ: 332/ ر24.

(6) النجاشي: 321.

(7) الكشي: 238/ ر431 (في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله ‘.

(8) الكشي: 172/ ر292 (في أبي بصير ليث بن البختري المرادي).

(9) الكافي 2: 518/ ح1.

(10) التهذيب 1: 209-211.

(11) الفقيه 2: 130/ ح1934.

(12) الفقيه 4: 163/ ح5370.

(13) الفقيه 4: 180/ ح5406.

(14) المحاسن 1: 185/ ح196.

(15) العلل 2: 459/ 1 ب 202.

(16) الفقيه (المشيخة) 4: 459.

(17) علل الشرايع 2: 454.

(18) التهذيب 5: 428/ ح131.

(19) الاختصاص: 326.

(20) الرواشح السماوية: 175-176/ الراشحة الرابعة والثلاثون.

(21) النجاشي: 412/ ر1097.

(22) النجاشي: 235/ ر622.

(23) التهذيب 3: 219-220/ ح57 وح58.

(24) البحار  86: 40/ (في من نوى الإقامة في بلد عشرة أيام).

(25) الناصريات: 258.

(26) الانتصار: 161.

(27) كامل الزيارات: 432 الهامش.

(28) رجال ابن الغضائري: 117/ ر189.

(29) فهرست النجاشي: 165/ ر68.

(30) كامل الزيارات (الهامش): 460/ ب 91.

(31) فهرست النجاشي: 92/ ر228.

(32) الفهرست: 64/ ر80.

(33) فهرست النجاشي: 369/ ر1001.

(34) التهذيب 5: 426/ ح127.

(35) كامل الزيارات: 431/ ر661.

(36) المزار للشيخ المفيد: 138/ 4.

(37) الفهرست: 285/ ر426.

(38) انظر أسانيد عيون اخبار الرضا (عليه السلام).

(39) الغيبة: 415.

(40) فهرست النجاشي: 317/ ر867.

(41) الغضائري: 86/ ر114.

(42) النجاشي: 424-425/ ر1140.

(43) رجال ابن داوود: 493-494/ ر386.

(44) النجاشي: 288/ ر766.

(45) قرب الإسناد: 304-305/ ح1194.

(46) دلائل الإمامة: 391، ورواه في المستدرك 6: 546/ ح9 عن إثبات الوصية بتفاوت.

(47) أنظر صور المخطوطتين المصورتين آخر مقدمة الكتاب ط آل البيت، ص33 و36، إضافة لنسخة السيد البرجردي المتقدمة.

(48) النجاشي: 235/ ر662.

(49) النجاشي: 376/ ر1024.

(50) قال ابن داوود في رجاله: 253-254 في (عبد الله بن خداش أبو خداش المهري): "رأيته في كتاب الرجال للشيخ بخطه في رجال الصادق (عليه السلام): (عبد الله ابن خراش، بالراء، البصري) وفي رجال الكاظم (عليه السلام) (عبد الله بن خداش، بالدال، أبو خداش المهري)".

(51) النجاشي: 228/ ر604.

(52) الكشي: 447.

(53) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 21/ح44 (في جوابه عن بعض المسائل).

(54) الخصال: 252.

(55) الحديث الأول الذي أوردناه.

(56) الفقيه 1: 422/ ح1283، بتحقيق الغفاري.

(57) التهذيب 5: 426/ ح128.

(58) التهذيب 5: 426/ ح128، باب الزيادات في فقه الحج.

(59) فهرست النجاشي: 274/ ر717.

(60) رجال الكشي: 570/ ر1078.

(61) في الوافي: «موالي»، والظاهر أنه سؤال يريد به الإمام (عليه السلام) أن يأمر بعده أبا علي بن راشد باتباعهم، لكن بن راشد أراد الافصاح عن أسمائهم، ولعلهم أتباع يونس وهشام كما في الكشي في روايتين كهذه الحاضرة صرح في الاولى بيونس والثانية بهشام.

(62) في الكافي (ط دار الحديث) 6: 325-326/ ح5253: «أصحابٌ» بضمتين منونة، والصحيح أنها مبتدأ مقطوع عن خبره، بدلالة قوله: « فقال مبادرا قبل أن أستتم ذكرهم: لا».

(63) أي لا تذكرهم بأسمائهم، ويكفي أن تقر بأنهم موال لي.

(64) أي يأمرك أن تصلي خلفهم.

(65) الكافي 3: 374/ ح5.

(66) رجال الكشي: 496/ في يونس بن عبد الرحمن ح952.

(67) التهذيب 3: 427.

(68) الكشي: 496/ ح953 في يونس بن عبد الرحمن.

(69) الكشي: 563/ ح1064 في محمد بن إبراهيم الحضيني.

(70) خلاصة الأقوال: 254/ ر70 الفصل 23 باب (محمد).

(71) الاستبصار 1: 239/ ح2.

(72) التهذيب 3: 221-222/ ح63.

(73) الوسائل8: 509/ ح2.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا