غريب ٌهو الإنسان، يأبى ويتمرد ويستكبر، فقد حدد له الطريق السليم والمنهج القويم من قبل عليم حكيم ومع ذلك تراه يحيد عن هذا المنهج ويتخذ من دونه بدلا، قال تعالى:(إن الإنسان ليطغى)(1) فقد وضع الباري عز وجل دستوراً للحياة الإنسانية متمثلا في أنظمة وقيم وآداب يضمن للحياة الإنسانية تكاملها ويكفل لها أمانها واسقرارها ووصولها إلى مبتغاها، فالله عز وجل إنما خلق الخلق لهدف راجع للمخلوقين لا لحاجة في نفسه ولا لنقص فيه يسده تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا ً، ولكن ومع ذلك تجد الإنسان غافلا وساهيا وغير مدرك لهذا المعنى، فكم من الأسس والأنظمة التي جاءت بها الشريعة الغراء لم يلتزم بها الإنسان بل استنكرها وعدها من التخلف والرجعية وعدم مواكبة العصر. ومن هذه الأمور القضايا المتعلقة بالمرأة في المجتمع، فالإسلام قد قام بتحرير المرأة و حفظ لها كرامتها وعزتها بعد أن كانت مضطهدة مقهورة تعاني من صنوف القسوة والظلم والحرمان من حقوقها الطبيعية، فقد كان المجتمع آنذاك ينظر للمرأة نظرة سلبية، والشيء العجيب الذي يدل على تردي ذلك المجتمع، أنه كان ينظر لإناث الحيوانات نظرة إيجابية، بخلاف نظرته لإناث الإنسان، فالبقرة مثلاً عندما تلد أنثى، فإن صاحب الحيوان يفرح، لأن هذه الأنثى سوف تلد أيضا ً، وهكذا، أما عندما تلد ذكراً تراه يحزن ويرى أن هذا الذكر ينقطع وينتهي، أما عندما تولد له بنت من زوجته ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، قال تعالى (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم)(2)، وقد شاع أيضاً عندهم أنه إذا ولدت نساؤهم البنت سارعوا إلى دفنها حية وهم يرددون (دفن البنات من المكرمات) قال تعالى (وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت)(3)، أما الإسلام العظيم فقد أحدث تطوراً كبيراً في موقف المجتمع من المرأة، فها هو رسول الله(ص) قد قلب موازين الجاهلية الجهلاء فعنه(ص) أنه قال : (نعم الولد البنات المخدّرات من كانت عنده واحدة جعلها الله له ستراً من النار ومن كانت عنده ابنتان أدخله الله بهما الجنة ومن كن ثلاثاً أو مثلهن من الأخوات وضع عنه الجهاد والصدقة)(4)، فجاء الإسلام صائناً للمرأة حافظاً لها، فلذلك وضع لها آدابا في سلوكها متى ما تمسكت بها حفظت طهرها وقدسيتها وأمانها وقيمتها العالية، ومع هذا كله نجد في هذا العصر أنه بدلا من أن تتمسك المرأة بهذه النظم والآداب التي حددتها الشريعة نراها تتغافل ذلك و تخلع تاج العفة والطهارة وتتمرد على فطرتها وطبيعتها وخصوصيتها التي تخمرت مع طينتها، لتتحول تلك النظرة القدسية للمرأة إلى نظرة استغلالية بهيمية، في عصر ٍ ضاعت فيه الفضيلة وتغلغلت فيه الرذيلة احتاجت المرأة إلى ما يصون عزتها ويزين خلقها، احتاجت إلى خلق تزكي به نفسها فتخرج من مستنقع القذارة إلى فردوس الطهارة، من درن التحلل إلى زينة العفة، من الوقاحة إلى الحياء. روي عن رسول الله(ص) : (الحياء زينة الإسلام)(5).
تعريف الحياء
الحياء لغة (في قواميس اللغة العربية) : انقباض النفس عن القبائح وتركه.(6) ورد عن الأمير(ع) (الحياء يصد عن فعل القبيح)(7) وأيضاً يطلق الحياء على الانقباض والانزواء، الحشمة، الرجوع والتوبة، الانكسار والتغير وانتكاس القوة.(8)
(الاشتقاق اللغوي) : والحياء مشتق من الحياة، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح. فكلما كان القلب أكثر حياة كان الحياء أتم.
الحياء اصطلاحاً (في اصطلاح علماء النفس) : الخضوع لجهاز القيم، بمعنى أن الشخصية تمتنع عن القيام بأية ممارسة تتنافى مع المعايير الخلقية أو الاجتماعية التي تعورف عليها. وتقابلها الوقاحة، وتعد الوقاحة سمة للشخصية المنحرفة اجتماعيا ً، بصفة : أنها تعبير عن عدم خضوع الشخصية للمعايير والضوابط الاجتماعية.(9) وتظهر آثار الحياء على الشكل أحياناً مثل احمرار اللون واضطراب النظرات والسلوك الأخلاقي.(10)
ممن الاستحياء ؟
الاستحياء من الخالق : وهو أرقى وأشرف أنواع الحياء قال أمير المؤمنين(ع) (أفضل الحياء استحياؤك من الله)(11).
وللاستحياء من الله أشكال وصور(12)، منها حياء ارتكاب المعصية وهو ماسمي في الروايات بحياء الذنب، ومن أمثلة ذلك مثال سيدنا آدم(ع) حينما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها، عندها ظل يجري ويهرول داخل الجنة فسأله جل جلاله: إلى أين يا آدم أفرارا مني؟ فرد عليه قائلا: لا يا ربي بل حياء منك !(13).
فنجد العبد المذنب يعود من وكر الذنب والهوى والمعصية إلى الله في خجل وانكسار، فهو لايجد عذراً يقدمه إلى الله تعالى غير الاعتراف بسوءاته وسيئاته، وهذا يتلخص في قوله (ربّ إني أستغفرك استغفار حياء)(14).
وتفصيل ذلك أن العبد المؤمن قد يغفل وتزل قدمه ويعصي جبار السماوات من دون التفات، قد أعمت عينه اللذة المؤقتة الزائفة، ولكن سرعان مايستيقظ ولايجد بداً من العودة، ولايجد باباً يطرقه غير باب الرحيم سبحانه، ولايجد ملجأً يلجأ إليه وملاذاً يلوذ به إلا الله سبحانه وتعالى فيعود مطرقاً منكسراً مستحيياً خجولا، كيف وقد عصى ملك الملوك العالم بخائنة الأعين وماتخفي الصدور، فيقف العبد الجاني عند باب الله(15) ويبدأ بصف كلمات التوبة والاستغفار والندم (إلهي لأن طردتني من بابك فبمن ألوذ)(16) وينصهر الحياء والألم فيذوب دموعاً تحت آماقه وتتكسر نبرات صوته وهو يردد في خشوع (فوا أسفاه من خجلتي وافتضاحي، ووالهفاه من سوء عملي واجتراحي)(17) ولايجد بدا من الاعتراف بحياته فيقول (ها أنا ذا يا إلهي واقف بباب عزك وقوف المستسلم الذليل، وسائلك على الحياء مني سؤال المعيل)،(ولم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك)(18) ويظل واقفاً على باب القدس منتظراً الإذن بالدخول إلى ساحة التوابين متفنناً بأنواع الدعاء، ولعمري إنه لايؤدي حق اعتذار جنايته ولو نطق بجميع جوارحه بالاعتذار لأن الجناية الحقيرة تعظم مع عظم المجني عليه ومع لحاظ إحسانه إلى الجاني (لاتنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى من عصيت) فإذا جاوزت العظمة الحد وكثر الإحسان فوق حد الإحصاء(19) قصرت الألسن عن أداء حقه والأعمار عن بلوغ غايته، فإذا كان التائب مستشعراً لهذه الأمور عارفاً بها يزيد ذلك في حياته فيجتهد بكل جهده ومقدوره في الاعتذار والبكاء وإذا كان عارفاً بقدر رحمة ربه وأنها وسعت كل شيء وكان على يقين من ذلك فلابد أن تبعث هذه المعرفة في قلبه شوقاً إلى التوبة والمشتاق لا يحتاج إلى تعليم مراسم الوداد ولايمتنع عن الجهد والاجتهاد في الوصول إلى مشوقه ورضاه، وعرض الشوق والملق بما لايخطر على ضمير غيره(20) فهو يعلم أنه قصد ملكا عظيما لا يطأ بساطه إلا المطهرون، فإذا علم الله من قلبه صحة الاضطرار، وصدق الالتجاء إليه، نظر إليه بعين الرحمة والرأفة، وأذن له بالدخول إلى دار التوبة بلطفه وكرمه وعطفه وقبل توبته واستمع لكلامه، فطوبى له ثم طوبى فقد ضمه الله إلى كنف رأفته وحنانه وكان عليه كالأب العطوف، والأم الرؤوف، بل وأشفق منهما، ويكون مصداقاً لقوله (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)(21).
ويوجد مرتبة أرقى من هذه المرتبة في الاستحياء من الله سبحانه تستفاد من بعض الأدعية والروايات(22)، وهو الحياء قبل ارتكاب أي فعل يؤدي إلى مخالفة أوامر الله وهو ناتج من المراقبة الدائمة ويدل على يقين ومعرفة ويقظة، قال رسول الله(ص) (استحيِ من الله استحياءك من صالحي جيرانك فإن فيها زيادة اليقين)(23)
وقال الإمام زين العابدين(ع) (خف الله لقدرته عليك، واستحيِ منه لقربه منك)(24) وعن أمير المؤمنين(ع) (اتقوا معاصي الله في الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم)(25) وقال الإمام الخميني (العالم محضر الله فلا تعصوا الله في محضره)، فالعبد المراقب لنفسه المستشعر لمراقبة الله عز وجل(26) يستحي أن يخطو خطوة تهوي به إلى درك معصية الله فهذا الحياء يبعث على الطاعة ويمنع عن المعصية بل يمنع أي عمل ليس فيه قصد القربة لله ولسان حاله دائماً (عميت عين لا تراك عليها رقيبا)(27).
وقد استوقفتني رواية جسدت أروع معاني الاستحياء من الله سبحانه وتمثلت في ريحانة الجنة وأم الأئمة السيدة الزهراء بأبي وأمي قالت فاطمة(ع) : (قلت : يا أبة أهل الدنيا يوم القيامة عراة ؟ فقال : نعم يا بنية، فقلت : وأنا عريانة ؟ قال : نعم وأنت عريانة وأنه لايلتفت فيه أحد إلى أحد، قالت فاطمة(ع) : فقلت له : واسوأتاه يومئذ من الله عز وجل فما خرجت حتى قال لي : هبط علي جبرئيل الروح الأمين(ع) فقال لي : يا محمد أقرأ فاطمة السلام وأعلمها أنها استحيت من الله تبارك وتعالى فاستحيى الله(28) منها فقد وعدها أن يكسوها يوم القيامة حلتين من نور)(29) وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على ذوبانها صلوات الله عليها في الذات الإلهية وإلا من في ذلك اليوم المهيب الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت يلتفت إلى مثل هذه المعاني ؟
الاستحياء من المخلوق : يستحي الإنسان من البشر أكثر مما يستحي من الله في غالب الناس وذلك لقلة معرفته وسوء اختياره، فهو عاشق للمادة أكثر من الغيب ويتأثر بالمحسوس أكثر مما يتأثر بالمجرد، مع أن الحياء من المخلوق يكون نتيجة طبيعية للحياء من الخالق. ولكن لحمقه وسفهه يفرط في جنب الله ليكبر في عين الناس فيتغافل قول أبي عبد الله(ع): (يا إسحاق خف الله كأنك تراه، فإن كنت لاتراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم استترت عن المخلوقين بالمعاصي وبرزت له بها فقد جعلته في حد أهون الناظرين إليك)(30) فتعساً لمن جعل الله أهون الناظرين إليه بعدم استحيائه منه واستحيائه من الناس، فالإنسان إنما يستحي ممن يكبر في نفسه أن يطلع على عيبه ولذلك نجد أنه لا يستحي من الحيوان ولا من الأطفال الذين لا يميزون، بينما نجده يستحي من العالم أكثر مما يستحي من الجاهل ومن الجماعة أكثر مما يستحي من الواحد، ومن هنا نكتشف دناءة من جعل الخالق دون المخلوق.
بغض النظر عن ذلك نجد أن الحياء من الناس له آثار اجتماعية مهمة كمنع الجرائم وحفظ الإنسان من التلوث بالذنوب والأعمال المنافية للآداب، وله دور كبير في الحفاظ على أخلاق المجتمع ومنع التفسخ والعهر والعري، فلولا الحياء من الناس لما ارتدع الإنسان عما ترغب إليه نفسه من القبيح ولكان الإنسان والبهيمة على حد سواء في عدم مراعاة الغير. فنلاحظ أن هناك أفراد مستهترين، قد أسرهم الهوى وقيدتهم الشهوة غير مبالين بقوانين الشريعة ورعاية الآداب، فلا يتورعون عن ارتكاب الجرائم وإشباع غرائزهم، لكن الحاجز الذي يقف أمام تنفيذ رغباتهم قد لا يكون التدين وخوف الله بل هو الحياء من الناس، فيخافون استياء الرأي العام واستنكاره فيمتنعون عن القيام بذلك. فهو من صفات النفس المحمودة التي تستلزم الانصراف من القبائح وتركها، قال الإمام الصادق(ع) : (من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه ولم يصل ذا رحم ولم يؤد أمانة ولم يعف عن فاحشة)(31)،وقد قال الشاعر:
ورب قبيحة ما حال بيني وبين ركوبها إلا الحياء
لذلك فعندما نرى إنساناً لا يكترث ولا يبالي فيما يبدر منه من مظهره أو قوله أو حركاته يكون سبب ذلك قلة حيائه وضعف إيمانه كما جاء في الحديث :(إذا لم تستحيِ فافعل ما شئت)(32)
وقد قال الشاعر:
إذا رزق الفتى وجهاً وقاحاً تقلب في الأمور كما يشاء
ولم يك للدواء ولا لشيء يعالجه به فيه عناء
فمالك في معاتبة الذي لا حياء لوجهه إلا العناء
وقال آخر :
يعيش المرء ما استحيى بخير ويبقى العود مابقي اللحاء
فلا والله مافي العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستحيِ فافعل ما تشاء
وقد كانت العرب في جاهليتها الأولى تستحي، فهذا عنترة يقول:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
وقال طرفة بن العبد وهو من شعراء الجاهلية :
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياؤك فاحفظه عليك فإنما يدل على وجه الكريم حياؤه
وقبل بزوغ فجر الإسلام، نشبت ذات يوم معركة طاحنة بين قبيلتي بني عامر وبني كنانة في سوق عكاظ، سميت في التاريخ (بحرب الفجار)، وسبب تلك المعركة هو حياء امرأة، فيحكى أن امرأة من بني عامر كانت جالسة بسوق عكاظ فطاف بها شاب من قريش من بني كنانة فسألها أن تكشف وجهها فأبت، فجلس خلفها وهي لا تشعر وعقد ذيلها بشوكة، فلما قامت انكشف جسمها من الخلف فضحك الناس منها، فنادت المرأة يا آل عامر، فثاروا بالسلاح، ونادى الشاب يا بني كنانة، فاقتتلوا(33).
وذكروا أيضا أن للحياء أنواع أخرى كالحياء من النفس والحياء من الملكين(34) ولكن يمكن إدراجهما في الصنف الثاني.
محل الكلام : سيكون الكلام بإذن الله في السطور الآتية عن النوع الثاني وهو الحياء من المخلوق بالرغم من أن الحياء من الله أفضل، لأن الحياء من المخلوق في بعض صوره يكون كاشفاً عن الحياء من الخالق، فهو نتيجة طبيعية للحياء من الله كما أسلفت، فالحياء من الناس لا ينفصل عن الحياء من الله، بل هو في الحقيقة حياء من الله لا من الناس، ولكن لما كان الموضوع الذي أنوي التحدث عنه بالأساس يرتبط بالجنبة الاجتماعية أكثر، وله آثار اجتماعية حساسة، سنتكلم بإذن الله في الحياء من المخلوق، لعلنا نرتقي من الاستحياء من الناس إلى الاستحياء من الله فمن لم يستحيِ من الناس لم يستحيِ من الله، و (من لم يتق ِ وجوه الناس لم يتق ِ الله) و (من لم يستحييِ من الله في العلانية لم يستحييِ منه في السر)(35).
حياء المرأة
قبل التطرق إلى حياء المرأة لابد من الإشارة إلى أن الحياء من الحالات النفسية التي تختص بالإنسان فقط، إذ لا توجد في بقية الحيوانات، وقد ذكر الإمام الصادق(ع) ذلك لتلميذه المفضل الجعفي في الحديث القيم الذي أملاه عليه حول التوحيد، فقال : (أنظر الآن يا مفضل إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره، العظيم غناؤه، أعني الحياء)(36). وكذلك العلماء المعاصرون فإنهم يعتبرون الحياء من الصفات الخاصة بالإنسان :
(يعتقد مارك توين أن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يستحي أو يشعر بأنه في حاجة إلى الحياء. ويقول الدكتور فلاسن أستاذ جامعة روجستر في تأييد هذه النظرية : إن الحياء علامة السلامة، وهو متداول ومألوف عند جميع أفراد البشر حتى أولئك الحفاة العراة. ولذلك فإنه يعتقد بأن مايبعث على تصاعد الدم في وجه الإنسان هو الشعور الناشئ من إخفاء حقيقة ما)(37).
والحياء ليس صفة مختصة بالنساء فقط بل الحياء يعتبر حسناً للرجال أيضاً قال الفرزدق في مدح الإمام زين العابدين(ع) :
إذا رأته قريش قال قائلها: إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يغضي حياء ً، ويغضى من مهابته ما يكلم إلا حين يبتسم
وقد كان رسول الله(ص) أشد حياء ً من العذراء في خدرها(38)، قال الإمام الحسن(ع) في خطبة له (أنا ابن النبي المصطفى، وأنا ابن من علا الجبال الرواسي، وأنا ابن من كسا محاسن وجهه الحياء، أنا ابن فاطمة سيدة النساء، أنا ابن قليلات العيوب نقيات الجيوب)(39)فالحياء إذن صفة مشتركة وهي صفة المؤمنين رجالاً كانوا أم نساء ً فعن أبي عبد الله(ع) : (لا إيمان لمن لا حياء له)(40)، وعن رسول الله(ص) أنه قال : (الحياء والإيمان في قرن واحد، فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر)(41)، وروي أن الرسول(ص) مر على رجل وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله: (دعه فإن الحياء من الإيمان)(42).وهو أبرز ما يتميز به الإسلام من فضائل، فقال(ص): (إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء)(43). وقال الطريحي : (لما قتل أصحاب الحسين كلهم وتفانوا وأبيدوا ولم يبق أحد، بقي(ع) يستغيث فلا يغاث وأيقن بالموت أتى إلى نحو الخيمة وقال لأخته : إئتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد من القوم، أجعله تحت ثيابي لئلا ّ أجرّد منه بعد قتلي. قال : فأرتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب، ثم أوتي بثوب فخرقه ومزّقه من أطرافه وجعله تحت ثيابه، وكانت له سراويل جديدة فخرقها أيضاً لئلا ّ تسلب منه)(44) وروي أيضا (أن رجلا بلا أيد ولا أرجل وهو أعمى، يقول : رب نجني من النار فقيل له : لم تبق لك عقوبة، ومع ذلك تسأل النجاة من النار ؟ قال : كنت فيمن قتل الحسين(ع) بكربلاء فلما قتل رأيت عليه سراويلا وتكة حسنة(45) بعد ماسلبه الناس فأردت أن أنزع منه التكة، فرفع يده اليمنى ووضعها على التكة، فلم أقدر على دفعها فقطعت يمينه ثم هممت أن آخذ التكة فرفع شماله فوضعها على تكته فقطعت يساره، ثم هممت بنزع التكة من السراويل، فسمعت زلزلة فخفت وتركته فألقى الله علي النوم، فنمت بين القتلى فرأيت كأن محمدا(ص) أقبل ومعه علي وفاطمة فأخذوا رأس الحسين فقبلته فاطمة، ثم قالت : ياولدي قتلوك قتلهم الله من فعل هذا بك ؟ فكان يقول : قتلني شمر وقطع يداي هذا النائم - وأشار إلي فقالت فاطمة لي : قطع الله يديك ورجليك، وأعمى بصرك، وأدخلك النار، فانتبهت وأنا لاأبصر شيئا وسقطت مني يداي ورجلاي، ولم يبق من دعائها إلا النار)(46) وعن صادق أهل البيت(ع) : (مامشى الحسين بين يدي الحسن(ع) قط، ولابدره بمنطق ٍ إذا اجتمعا تعظيماً له)(47)، ولا أجد تعبيراً أعلق به على ذلك أفضل من قول النبي(ص) : لو كان الحياء صورة ً لكان الحسين(ع)(48).
ولكن تأخذ صفة الحياء أهمية أكبر بالنسبة للمرأة، فهي تصونها عن الابتذال، وتجعلها أكثر رزانة وانضباطاً وأبعد عن مواقع الفتنة والإثارة، فأولى الناس بخلق الحياء هم النساء، وملحوظ أن المرأة بطبيعتها أكثر نزوعاً إلى الحياء من الرجل. بحيث أنه يعتبر من أبرز ميزاتهن، و حياء المرأة أسمى بكثير من حياء الرجل وما يخدش حياءها أقل وأدق مما يخدش حياء الرجل حتى ورد في حديث عن رسول الله(ص) أنه قال:(الحياء عشرة أجزاء فتسعة في النساء وواحد في الرجال)(49) وإن بهاء المرأة وجمالها في حيائها بل تفقد المرأة أنوثتها وإنسانيتها عندما تفقد حياءها وقيل أيضاً إذا فقد حياء المرأة جاز القول بأن المخلوق الذي أمامنا مخلوق آخر لا يسمى بالمرأة(50)، ويُضرب المثل بين الرجال عادة بحياء المرأة، فإذا أريد المبالغة في نعت رجل بالحياء، يقال أنه أكثر حياء من فتاة، وقد احترم الشرع هذه الميزة في المرأة بل وعدها قيمة إيجابية فاعتبر سكوتها حين تسأل عن رأيها في الزواج ممن تقدم لخطبتها حياء ً وخجلا ً، دليلاً على رضاها(51)، ولم يعتبر ذلك في الرجل، ويقال أيضاً أن المرأة تزداد جمالاً في عيني الرجل المتقدم لها عندما يزداد رأسها انخفاضا، وتزداد وجنتيها احمرارا،ويتناثر عرق الحياء على محياها كاللؤلؤ على صفيحة نور، قال أعرابي : الوجه المصون بالحياء، كالجوهر المكنون في الوعاء، فكلما زادت المرأة حياءً زاد إعجابا ًبها، فهو دليل العفة والفضيلة، قال الشاعر يصف حياء المرأة واحتجابها :
من الأوانس مثل الشمس لم يرها في ساحة الدار لا بعل ولا جار
وقد قيل : الحياء جمال في المرأة وفضيلة في الرجل.
إننا في هذه الأيام في أشد الحاجة لحياء المرأة المسلمة لينضبط حياء المجتمع،فإذا اتسمت المرأة بالحياء استحى المجتمع من التعرض لها بأذى، وإذا اختل حياء المرأة، تزلزلت أقدامها وعصفت بها الفتن وأصبحت سلعة رخيصة تباع بأبخس الأثمان، ويعبث بها أرباب الفساد وأئمة الهوى، فتكون المرأة هنا غاوية للمجتمع وسبباً للقبائح والجرائم. فحياء المرأة إذن يمكن أن يمثل في وجوده حركة المجتمع، سواء كانت حركة تكاملية إذا كانت المرأة متكاملة، أو كانت حركة تسافلية إذا كانت المرأة متسافلة.
ونحتاج إلى المبالغة في حياء المرأة خصوصاً في هذا العصر، مترفعين عَمَّن يصف ذلك بالغلو والتشدد، ولابد أن تترقى عن حد الوجوب والحرمة إلى ما هو أعلى وأسمى، فكم من الأشخاص تمسكوا ببعض الأفعال بدعوى الحليّة وعدم الحرمة وكان ذلك مقدمة للسقوط في الهاوية.
آثار حياء المرأة
الحياء كما تقدم في التعريف هو الخضوع لجهاز القيم، وهذه القيم إما فطرية إنسانية أو مكتسبة، والمكتسبة قد تكون مكتسبة من أسس إيمانية أو من البيئة.والذي نتحدث عنه ههنا هو القيم الفطرية والمكتسبة الإيمانية، أما القيم التي ما أنزل الله بها من سلطان فلاحاجة لنا بها ونضرب بها عرض الجدار لأنه قد تكون هناك فئات تدعي أنها تقدم قيما فاضلة ولكن في الحقيقة قيمها تقتل القيم الإنسانية الفطرية. فكلامنا فعلاً يقع في بعض آثار الحياء الإيمانية الواضحة في السلوك البشري التي تصعد بالمرأة في مدارج الكمال والطهر، ومن آثار حياء المرأة :
1-الستر والعفاف : قال الأمير(ع) (على قدر الحياء تكون العفة)(52) وعنه(ع) (ثمرة الحياء العفة)(53).(إن الله يحب الحيي المتعفف)(54)
من القضايا المهمة التي شدد عليها الإسلام قضية الحجاب، واستعمال مصطلح الحجاب للمرأة استعمال جديد نسبيا ً، أما في مصطلح الفقهاء القدامى فقد كانت كلمة (الستر) هي المستعملة بمعنى الحجاب اليوم(55).
لكي لا تتحول المرأة إلى أداة إغراء للمجتمع، وضع لها الشارع المقدس حصناً منيعا ً، فجعلها تضع لباساً على جسمها بطريقة تسهم في ستر مفاتنها وتعمل على حجب الجانب البدني والمادي في جسد المرأة لصالح إظهار الجانب الإنساني والمعنوي في شخصيتها،ومنعها من التبرج(56) والعري، فإن العري صفة بهيمية لا يميل الإنسان إليه إلا إذا تسافل وعد في صف البهائم، وإن رؤية العري جمالا هو فساد في الذوق الإنساني وقتل للفطرة السليمة.فالحجاب في واقعه منع لغلبة البعد الحيواني على البعد الإنساني والعقلي في شخصية الإنسان، والحجاب في جوهره إعلان شأن العقل على غيره وإظهار له، إذن الحجاب ناصر للعقل والبعد المعنوي والجانب المتعالي على الشهوة والبعد الحيواني والجانب المتسافل في شخصية الإنسان، ورحم الله من قال (الحجاب حجاب للشهوة وسفور للعقل) ‘ و الحجاب في روحه دعوة إلى التقوى، قال تعالى (يبني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون)(57). والحقيقة هي أن (الحجاب) أو لبس القماش ما هو إلا جزء من (الحجاب الإسلامي)، والحجاب الإسلامي هو : عنوان تلك المجموعة من الأحكام الاجتماعية المتعلقة بوضع المرأة في النظام الإسلامي، والتي شرعها الله سبحانه وتعالى لتكون الحصن الحصين الذي يحمي المرأة، والسياج الواقي الذي يعصم المجتمع من الافتتان بها. فالحجاب ليس مجرد لباس، بل ستر للغرائز الحيوانية وستر للرذيلة وستر لكل الأخلاق السيئة، وهو ماينسجم مع طبيعة الفطرة الإنسانية القائمة على حفظ أغلى وأثمن ما لدى الإنسان، فهو الحافظ لكرامة المرأة ومعنوياتها.
وقد حث الرسول الكريم على قضية الحجاب أيما حث، وأنذر تاركته بالوعيد والحميم، فعن أمير المؤمنين(ع) : قال : (دخلتُ أنا وفاطمة على رسول الله(ص)، فوجدته يبكي بكاءً شديداً، فقلت : فداك أبي وأمّي يا رسول الله ما الذي أبكاك ؟ فقال : يا علي، ليلة أُسرِيَ بي إلى السماء رأيتُ نساءً من أمتي في عذاب شديد، فأنكرتُ شأنهنّ فبكيت لما رأيت من شدّة عذابهنّ،.....ومن ضمن تلك النساء..... قال : رأيت امرأة (معلّقة بشعرها يغلي دماغ رأسها)..... فلما سألته الزهراء(ع) عن سبب ذلك.... قال : أما المعلّقة بشعرها فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال.......)(58).
من حكم الحجاب
قال تعالى (يا أيها النبي قُلْ لأزواجك وبَناتِكَ ونساءِ المؤمنين يُدْنِينَ عليهنَّ من جلابيبِهنَّ ذلك أدنى أن يُعرَفْنَ فلا يؤذَيْنَ وكان الله غفوراً رحيماً)(59)
التفسير : أي ستر جميع البدن أقرب إلى أن يُعرَفْن أنهنّ (أهل الستر والصلاح) فلا يؤذَين، أي لا يؤذِيهنّ (أهلُ الفسق) بالتعرض لهنّ.(60)
وهنا يحافظ الإسلام على المرأة من الأذية بتشريعه للحجاب، فإن الخصائص الموجودة لديها من الممكن أن تسبب عادة ً في الأذية بالنسبة إليها، فإننا نلاحظ دائماً أن الشباب الفاسد إنما يتحرش بالخفيفات المستهترات العاريات، فإذا قيل له : لماذا تتحرش بالنساء ؟ يقول : لو لم يكن هن راغبات في ذلك لما خرجن إلى الشارع على هذه الصورة الفاضحة. فإذا رأى هؤلاء أن نساءنا متمسكات بحجابهن، فسيدركون أنهن من النسوة العفيفات النجيبات، فينتاب اليأس الذين في قلوبهم مرض.فهنا يتضح أن الحجاب عفاف، يفقأ عين الشر ويقطع يد الإثم. قال الشاعر:
فلن تخشى حياءً من رقيب ولم تخشى من الله الحسابا
إذا سارت بدا ساق وردف ولو جلست ترى العجب العجابا
بربك هل سألت العقل يوماً أهذا طبع من رام الصوابا
أهذا طبع طالبة لعلم إلى الإسلام تنتسب انتساباً
ما كان التقدم صبغ وجه وما كان السفور إليه باباً
شباب اليوم يا أختي ذئاب وطبع الحمل أن يخشى الذئابا
ففي هذا العصر أصبحت المرأة جسدا يعرى ليلبي احتياجات الاستهلاك وتغير موضة الأزياء وإنتاج المصانع الرأسمالية من مساحيق زينة وتجميل، فلتعلم المرأة المسلمة قيمة الحجاب ومدى عظمة الإسلام الذي وضع الحجاب ونهى عن السفور، فهاهو (جورج رائيلي اسكات) الكاتب الإنكليزي في كتابه (تاريخ الفحشاء) يقول : إن من الأسباب التي قوضت الخلق والأدب في انكلترا والأقطار الأوربية وتدهور المرأة واشتغالها بالفسق والفجور والتعهر، هي : (الولوع الفاحش بالتبرج الذي قد بعث في نفس كل فتاة أشد الحرص على الأزياء الفاتنة الغالية من أحدث الطرز وأدوات الزينة والزخرف من شتى الأنواع وهذا أكبر أسباب هذه الفحشاء.....)(61).
قال تعالى (وإذا سألتموهن متاعاً فسئلوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن)(62).
التفسير : إذا مست الحاجة إلى تكليمكم أزواج النبي(ص) فكلموهن من وراء حجاب وقوله (ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن) بيان لمصلحة الحكم(63). ويمكن الاستفادة من الآية الآنفة الذكر التي تتكلم عن عدم الأذية لنساء المؤمنين، أن الحكم بوجوب الحجاب لايختص بنساء النبي(ص) بل هو مشترك بين جميع النساء، كما يمكن تعميم عبارة (ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن) التي تبين مصلحة الحكم على جميع النساء، وبالتالي فإن الآية المذكورة ألزمت الرجال المسلمين أيضاً باحترام حجاب النساء الأجنبيات كافة(64).
ومن هنا نعرف ضرورة التزام المرأة بالحذر والدقة الشديدة والبالغة من أي شيء قد يتحوّل في شخصيتها لعامل إثارة و إغراء، وتكون قضية السِّتر هي قضيتها التي لا تقبل المساومة عليها أبداً، لكون حجاب المرأة ضرورة اجتماعية ملحة، ولتحافظ على طهر قلبها ونقائه.
روي أنه خرجت امرأة من صالحات نساء قريش إلى بابها لتغلقه، ورأسها مكشوف، فرآها رجل أجنبي فرجعت وحلقت رأسها، وكانت من أحسن النساء شَعرا ً، فقيل لها في ذلك، قالت : ما كنت لأدع على رأسي شعراً رآه من ليس بمحرم.(65) ورحم الله امرأة كانت فقدت طفلها فوقفت على قوم تسألهم عن طفلها فقال أحدهم: تسأل عن ولدها وهي تغطي وجهها. فسمعته فقالت: (لأن أرزأ في ولدي خير من أن أرزأ في حيائي أيها الرجل).
بيد العفاف أصون عز حجابي وبعصمتي أسمو على أترابي
2-تجنب الاختلاط : أيضاً من الآثار البارزة لحياء المرأة تجنب الاختلاط بالجنس المخالف حفاظاً على الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة، ولا مآخذة شرعية طبعاً إذا أرادت المرأة الملتزمة بحدود الحجاب الشرعي الذهاب إلى السوق مثلاً ما لم تنجر إلى الفساد، فلا (وجوب شرعي) في المقام، ولكن يجب على المرأة المسلمة أخلاقياً (وجوب أخلاقي) الابتعاد عن الرجل الأجنبي مهما أمكن والسعي في انحصار عملها في البيت.
وقد تطرأ ظروف خاصة وتقتضي المصلحة الاجتماعية والسياسية مشاركة النساء في التجمعات العامة، فيلزم هنا أيضاً فصل تجمع النساء عن الرجال قدر الإمكان فإن اختلاط المرأة مع الرجل الأجنبي، ذو قيمة أخلاقية سلبية من وجهة نظر الإسلام(66).
جاء في وصية الإمام علي(ع) لابنه الإمام الحسن(ع) (واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن،فإن شدة الحجاب أبقى عليهن، وليس خروجهن بأشد من إدخالك عليهن من لا يوثق به عليهن. وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل)(67)
وهناك حديث ثمين جداً بأن يكون نصيحة ووصية أخلاقية لابد أن يضعها المجتمع نصب عينيه وهو حديث مروي عن سيدة النساء وسيدة العفة والأخلاق(ع) والحديث ملخصاً كما يلي :
(سأل رسول الله(ص) الناس يوماً : ما أفضل شيء للمرأة ؟ فلم يستطع أحد أن يجيب. وكان الحسن بن علي صغيراً حاضراً في المجلس، فحكى القصة لأمه الزهراء فقالت : أفضل شيء للمرأة هو ألا يراها أجنبي، وألا ترى أجنبيا ً)(68).
فإن هذا الحديث صريح وواضح في أرجحية بعد المرأة عن الرجل.
إشكال : إن هذين الحديثين وما يشبههما من أحاديث لم يستند إليها الفقهاء في استنباط حكم إلزامي لوجود أدلة قطعية أخرى من الآيات والروايات تخالف الظاهر من معنى هذه الأحاديث، فالفقهاء أجازوا الاختلاط إذا التزمت المرأة بحدود الحجاب الشرعي.
الجواب : إن جميع الاستثناءات الإسلامية هي من باب رفع الحرج والضيق، أما الأرجحية الأخلاقية في التحجب، وبعد المرأة عن الرجل وإيجاد الحريم بينهما، فأمور باقية على حالها(69)، وهذا الوجوب كما تقدم هو على نحو الأمر والوجوب الأخلاقي الإرشادي لا على نحو الوجوب الشرعي الإلزامي، والأول أرقى وأفضل من الثاني حتما ً، وإن الكيّس الفطن لا يطمع في الداني مع وجود العالي.
إذن تلخص مما سبق أن مما يوصي به الإسلام كأمر أخلاقي هو تجنب الاجتماعات المدنية المختلطة قدر الإمكان. فإن العلاقة بين رجل وامرأة أجنبيين علاقة خطرة جداً فهذه العلاقة كما يعبر عنها (الوحل الذي تنزلق فيه الفيلة)، و مجتمعنا اليوم يرى بنفسه أضرار الاجتماعات المختلطة، فها هو الغرب بنفسه يذعن ويعترف بأضرار الاختلاط، ونذكر هنا أقوال البعض في نتائج الاختلاط في الغرب لعل نساءنا يتعظن بذلك قبل أن يسبق السيف العذل، وينخدعن بالشعارات الكاذبة، فإن الشقي من وعظ بنفسه، والسعيد من وعظ بغيره :
من نتائج الاختلاط في العمل تقول السيدة (اللادي كوك) : إن الاختلاط يألفه الرجال ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى قدر الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، ولايخفى ما في هذا من البلاء العظيم على المرأة، فيا أيها الآباء لايغرنكم بعض دريهمات تكسبها بناتكم باشتغالهن في المعامل ونحوها ومصيرهن إلى ماذكرناه، فعلموهن الابتعاد عن الرجال، إذ دلنا الإحصاء على البلاء الناتج من الزنا يعظم ويتفاقم بين الرجال والنساء، ألم تروا أن أمهات أولاد الزنا هن من المشتغلات في المعامل ومن الخادمات في البيوت ومن أكثر السيدات المعرضات للأنظار ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية للإسقاط لرأينا أضعاف ما نرى الآن(70).
ومن حصاد بعض مدارس الغرب المختلطة :
يقول الباحث السوسيولوجي الفرنسي "ميشال فيز" مؤلّف كتاب "مطبّات الاختلاط المدرسي": "لم يحقق الاختلاط النتائج التي كانت مرجوّة منه على الإطلاق، فعلى صعيد العلاقات بين الذكور والإناث، لم تؤد تجارب الاختلاط إلى بروز علاقات أكثر توازنا وفقا لمبادئ المساواة والاحترام المتبادل، بل بالعكس تولّد قدر متزايد من العنف في الإطار المدرسي، فحسب تقرير لوزارة التربية الفرنسية، نُشر في مارس 2003، تم تسجيل 1400 حادثة اعتداء أو عنف ذات طابع جنسي في المدارس التكميلية الفرنسية البالغ عددها 7859 مدرسة، خلال موسم دراسي واحد! الشيء الذي لم يكن ليخطر في أذهان الذين تحمسوا للاختلاط في الستينيات، لأنهم كانوا يتصوّرون أنه يحقق للفتيات المساواة، في حين أن النتائج جاءت عكسية تماما، فالبنات في المدارس المختلطة أصبحن عرضة بشكل متزايد للاعتداءات الجنسية وللعنف الذكوري بمختلف أشكاله".
ويقول الباحث "أندريه روش"، مؤلف كتاب "تحوّلات الهوية الذكورية"، إن الاختلاط في حد ذاته أدى إلى إفراز وخلق فوارق جديدة تتمثل في تراجع قدرات التلاميذ الذكور على التحصيل العلمي، بدءًا من السلك التكميلي حتى نهاية الثانوي، حيث لا يتجاوز عدد الناجحين الذكور في امتحان الباكالوريا 63 بالمائة من مجموع المسجلين في المدارس المختلطة، في حين أن نسب النجاح في المدارس الخاصة (الدينية) التي لا تعتمد الاختلاط يصل إلى 76 بالمائة.
ويُرجع الباحث روش أسباب هذه الظاهرة إلى التأثيرات السلبية لوجود البنات والذكور في أقسام مشتركة، خصوصاً في سن المراهقة، حيث يؤدي ذلك إلى تراجع قدرات الذكور على التركيز والتحصيل العلمي.
والمفعول ذاته موجود أيضا لدى البنات، لكنهن في العادة أكثر انضباطا والتزاما بالقواعد الدراسية من الذكور، ولذا فإن هذه الانعكاسات بالنسبة لهن محدودة جدا.(71)
و يقول (جوان هول) مدير مدرسة " ليدرشيب شارتير " للبنات في ولاية شيكاغو(الأمريكية) أن المدرسة بدأت تطبق برنامج فصل البنات عن الأولاد منذ العامين الماضيين حيث ضمت 325 فتاة واليوم يوجد لدينا قائمة انتظار لأكثر من 400 فتاة، ويرى هول أن البنات يتعلمن بصورة هادئة خالية من التصرفات المزعجة التي كانت تصدر منهن للفت نظر الأولاد المراهقين حيث ينتبهن إلى دروسهن بدرجة عالية بالإضافة إلى حريتهن في الحديث بدون خجل أو تردد.(72)
ولقد قام بعض الباحثين بدراسة عاجلة لمعدلات تزايد الطلاق في العالم الغربي، فوجد أن ظاهرة الخيانة الزوجية، وتهيئة المناخ الملائم لها، وهو الاختلاط بين الجنسين، كان وراء تزايد معدل الطلاق في الغرب(73).
3- السكينة والوقار : عن رسول الله(ص) :(إن من الحياء وقاراً وإن من الحياء سكينة)(74).
لابد للمرأة من الالتزام بالوقار والحشمة حين التحدث مع الرجال، إذا اقتضت الضرورة ذلك، وأن لا يكون لحن كلامها مثيراً لأهواء الرجال، قال تعالى (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفا)(75).فإذا أرادت المرأة أن توصل صوتها إلى أجنبي بقصد التهييج والتحريك، فقد ارتكبت محرما شرعيا. والوقار هو تماسك الشخصية في سائر تصرفاتها، قال الشريف الرضي :
وقور: فلا الألحان تأسر عزمتي ولاتمكر الصهباء بي حين أشرب
ولا أعرف الفحشاء إلا بوصفها ولا أنطق العوراء والقلب مغضب
ومن آثار حياء المرأة الأدب وعدم التلفظ بكلمات بذيئة، قال الإمام الصادق(ع): لاتذهب الحشمة بينك وبين أخيك، فإن ذهاب الحشمة ذهاب الحياء، وبقاء الحشمة بقاء المودة)(76)، وأن يكون الهدوء تاجها وأن لايرتفع صوتها، لا سيما إذا كانت في محضر الأجانب، لتحفظ جمالها وجلالها،فمن كثر وقاره كثرت جلالته.(77)
نساء خالدات
لقد بزغت في سماء التاريخ شموس لايمكن أن تغيب، ويحل محلها الظلام، وهي أولى بالتأسي والاقتداء، من السافرات المتبرجات اللائي ذاع صيتهن المزعج هذه الأيام، فعلى المرأة المؤمنة أن تقتدي بمن كان الطهر والحياء ملئ كيانهن لا من يخجل القلم عن تسطير أفعالهن، فقد قال النبي الكريم(ص) : (من أحب قوماً حشر معهم، ومن أحب عمل قوم ٍ أشرك في عملهم)(78).
لقد خلَّد القرآن الكريم ذكر امرأة من أهل هذا الخلق (الحياء)، وقد ورد ذلك في قصة ابنتي شعيب(ع) حيث أرسلت إحداهما من قبل أبيهما لدعوة موسى(ع)، قال الله عنها :{فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(79).
فالله سبحانه يمدح هذه الصفة في المرأة وهي أن تتعامل مع الرجل الأجنبي عنها وهي تشعر بالحياء،فتنكير الاستحياء في الآية للتفخيم، والمراد بكون مشيها على استحياء ظهور التعفف من مشيتها(80)، والنصوص المفسرة تذكر لنا أن الفتاة كانت من الخَفِرات ِ اللواتي لايُحسِنّ المشي بين يدي الرجال، ولا الكلام معهم، وخير دليل على ذلك أنها جاءت إليه تمشي على استحياء بلا تبذل، ولا تبجح، ولا إغواء، وكلماتها التي خاطبت بها موسى(ع)، إذ أبانت مرادها بعبارة قصيرة واضحة في مدلولها، من غير أن تسترسل في الحديث والحوار معه (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ماسقيت لنا)، كل هذا من آثار الفطرة النظيفة والتربية الراقية.
فهذه المرأة نالت وسام تخليد ذكرها في القرآن لما اتصفت من خلق رفيع فهي (خَفِرة تمشي على استحياء، ولاتتحدث مع الرجال إلا لضرورة).
ولا يدري من وقف على أحداث هذه القصة التي جرت لنبي الله وكليمه موسى(ع) أيعجب من حياء المرأة أم من حيائه(ع)، فإن موسى(ع) لما اضطر إلى الذهاب مع الفتاة، أمرها بالمشي خلفه، حتى يتجنب النظر إلى ماتكرهه السماء.(81)
ويذكر القرآن الكريم خلق امرأة أخرى، مصطفاة من الله، وسيدة نساء أهل زمانها، مريم ابنة عمران، فإنها لما اتخذت من دون القوم حجابا ً، وخلت لوحدها، أرسل الله إليها ملكا عظيما تجسد لمريم على شكل إنسان جميل لا عيب فيه ولانقص قال تعالى (فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا)(82).
ولا توصف حالة مريم وهي التي كان يضرب بها المثل بين الناس في العفة والتقوى، عندما شاهدت هذا المنظر، وهو دخول رجل أجنبي في محل خلوتها، فكم داخلها من الرعب والاضطراب، ولذلك فإنها – وبشكل مباشر- (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ً)(83).
وهاهي السيدة خديجة(ع) تشمخ في أدبها واستحيائها في طلبها من زوجها لاسيما مع مقام النبوة المهيب، فقد روي أنه لما اشتد مرضها أوصت لرسول الله(ص) بوصايا ولما وصلت للوصية الثالثة قالت : (أما الوصية الثالثة : فإني أقولها لابنتي فاطمة وهي تقول لك فإني مستحية منك يا رسول الله، فقام النبي وخرج من الحجرة فدعت بفاطمة وقالت (يا حبيبتي وقرة عيني قولي لأبيك : إن أمي تقول : أنا خائفة من القبر أريد منك رداءك الذي تلبسه حين نزول الوحي تكفنني فيه) فخرجت فاطمة وقالت لأبيها ما قالت أمها خديجة، فقام النبي(ص) الرداء إلى فاطمة، وجاءت به إلى أمها، فسرّت به سروراً عظيماً(84).
أما أكمل نساء العالمين فاطمة الزهراء(ع)، فقد كانت تخجل النسيم، من شدة حياءها وكمال عفتها، كيف لا وهي أدنى وأقرب النساء من ربها سبحانه وتعالى، وهي القائلة (إن أدنى ما تكون المرأة من ربها أن لاترى الرجال ولا يراها)(85).
فإنّ العفة والحجاب من ذاتيات سيدة النساء، وقد أعطت للمرأة المسلمة الدروس في ذلك لتكون في قمة الكمال، فإن كمال الحقيقة الإنسانية في المرأة هو الحقيقة الفاطمية.
روي أنه دخل أعمى - بعد الاستئذان – بيت الإمام علي(ع)، وكان رسول الله(ص) حاضراً هناك.
فرأى رسول الله(ص) الزهراء(ع) قامت، وابتعدت عن ذلك الرجل واحتجبت منه.
فقال النبي: (لم حجبتيه وهو لا يراك ؟)
قالت: يارسول الله إن لم يكن يراني فإني أراه، وهو يشم الريح.
وانبرى الرسول(ص) يمجد فيها هذه الروح قائلاً : (أشهد أنك بضعة مني)(86).
ولم تحافظ الزهراء على حجابها وحيائها في حياتها وحسب، بل حافظت عليهما حتى بعد موتها بأبي وأمي، فقد جسدت لنا بنت الطهر ذروة العفة والحجاب عندما ذكرت الزهراء لأسماء بنت عميس في أواخر حياتها كيفية حمل الناس للموتى من النساء، وأبدت قلقها من ذلك قائلة : (إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء، أن يطرح على المرأة الثوب، فيصفها لمن رأى، فلا تحمليني على سرير ظاهر، أستريني، سترك الله من النار)(87).
وفي يوم المحشر أيضاً لا يرى خيال فاطمة، فعن رسول الله(ص) أنه قال: إن الله تعالى إذا بعث الخلائق من الأولين والآخرين، نادى منادي ربنا من تحت عرشه : يا معشر الخلائق غضوا أبصاركم لتجوز فاطمة بنت محمد سيدة نساء العالمين على الصراط، فتغض الخلائق كلهم أبصارهم، فتجوز فاطمة على الصراط(88).
ولعمري لو اقتدت نساء الكون بفاطمة، لزهد الرجال في الحور العين، ولأضحت نساؤنا في أعلى عليين، ولبنت مجتمعاً إسلامياً متطوراً قائماً على الشرف والفضيلة. وعلى أي حال فإن حجاب سيدة النساء كان نوراً لكل فتاة تريد أن تعيش عزيزة في المجتمع. يقول الشيخ الأصفهاني :
وخدرها السامي رواق العظمة وهو مطاف الكعبة المعظمة
حجابها مثل حجاب الباري بارقة تذهب بالأبصار
ثمثل الواجب في حجابها فكيف بالإشراق من قبابها
ولا أدري ما أقول في زينب(ع)، فهي وارثة خلق أمها، وهي امرأة ربيت في حجر الزهراء، وتوجيهات علي، فمن ذا يستطيع أن يتكلم عن شخصيتها، و عن جلالة قدرها، ويحدثنا التاريخ عنها بما يدهش العقول، ويحير الألباب، وقد كانت زينب العفاف عينه، والحشمة ذاتها، فقد حدث يحيى المازني قال : كنت في جوار أمير المؤمنين في المدينة مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله مارأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتا ً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله(ص) تخرج ليلاً والحسن عن يمينها، والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين(ع) أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين(ع) فأخمد ضوء القناديل فسأله الحسن(ع) مرة عن ذلك فقال(ع) : أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب(89).
فإن علياَ(ع) لا يريد أن تلحظ شخص ابنته عين، إنها بحق درة مصونة وجوهرة مكنونة، وسأذكر بعضاً من مواقفها البطولية الدالة على شدة حرصها على الحجاب، في أحلك الأوقات وأصعب الظروف، في ختام البحث إذا وفقني الله تعالى لذلك.
ومات الحياء
لايخفى أن الحياء من الناس، يكون عندما يعتبر المجتمع تلك الأعمال مذمومة ومستهجنة. أما المجتمع المصاب بالانحراف والضلال، المبتعد عن تعاليم السماء، الذي تفقد فيه بعض المفاسد والمعاصي قبحها، ويعتبرها الجميع أموراً اعتيادية، فإنه لا يقف الانحراف في ذلك المجتمع عند فقدان الحياء، بل قد يتفاخرون بأعمالهم المنافية للحياء والأدب، ويعدون منكرها متخلفا، أو رجعيا، أو مناهضا لحقوق المرأة والمجتمع، وقد وصل الحد في بعض المجتمعات، إلى كسر طوق الحياء تماما ً، فهناك مجتمعات في هذا العصر، ترى في العفة والامتناع عن العلاقات الجنسية غير المشروعة جموداً وتخلفا، وتعتبر الحرية في العلاقات غير المشروعة مثالاً للتقدم والوعي والنضوج !!! في مثل هذه المجتمعات لا يوجد معنى للحياء ومراقبة للأفكار العامة، ونذكر ههنا بعض الأمثلة عن واقع المرأة في المجتمع الغربي ونعرج بعدئذٍ على المجتمع العربي والإسلامي وحالته المزرية في هذه الأيام وليعذرني القارئ على ما سأذكره من أمثلة سلفا ً.
في الغرب :لقد كشف الغرب عن عورته جهاراً نهاراً بلا خجل ولا استحياء متفاخرا متبجحا بذلك، وأقتصر هنا على مثالين لواقع المرأة الغربية، فإن مظاهر التحلل في الغرب واضحة كالشمس إذا انقشع السحاب :
(يونايتد برس لقد أعلن (الدكتور رونالد جبسون) قبل أيام في مؤتمر جمعية الأطباء البريطانية، عند قراءة تقرير يتعلق بالقضايا الجنسية، بأنه في إحدى المدارس الإنكليزية للبنات كانت الفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين ال 14 وال 15 سنة يضعن شارات خاصة على صدورهن، تشير الى أنهن قد فقدن بكارتهن ! لقد أدى هذا التقرير إلى اضطراب شديد في الأوساط الدينية ومن قبل أولياء أمور الفتيات، وأكد الدكتور جبسون في مؤتمر جمعية الأطباء البريطانية أن انعدام الضبط الخلقي يسيطر على جميع نقاط البلاد، واعتبر الطب الروحي الجديد مقصراً كل التقصير، ولقد أعلن (الدكتور امبروس لينك) وهو من المعنيين الاختصاصيين في الأمراض الجنسية بعد أيام من ذلك بأنه منذ عام 1957 وحتى الآن فقد ظهر مرض جنسي جديد بين الشبان الأحداث. وقد شاع بين الفتيان الذين تتراوح أعمارهم بين ال 15 وال 19 عاماً بنسبة 3، 67%، أما بين الفتيات اللاتي في نفس السن فقد ازداد المرض بنسبة 4، 65%.(90)
قال الأستاذ أبو الأعلى المودودي في كتابه (الحجاب) : (وبلغ من شيوع الفحشاء في فرنسا، قبل الحرب العالمية الأولى، أن النساء اللواتي كن يحترفن البغاء ما يقارب نصف مليون، كما جاء في تقرير(مسيو بيلو) ويخمن القاضي الأمريكي (لندسي) أن 45% من فتيات المدارس يدنسن أعراضهن قبل تخرجهن وترتفع هذه النسبة كثيراً في مراحل التعليم العالية.
وقد بلغت نسبة الحبالى من تلميذات المدارس الثانوية في (دنفر) عاصمة ولاية (كولورادو) عن طريق البغاء نسبة 48%.(91) وقد ذكر أن مليون امرأة تقريباً عملن في البغاء بأمريكا خلال الفترة من 1980م إلى 1990م، ويولد سنوياً أربعة ملايين طفل غير شرعي في الولايات المتحدة.
في المجتمعات العربية والإسلامية : شاعت الوقاحة، حتى أصبحت أمراً عادياً في بعض هذه المجتمعات، ونرى ذلك واضحاً من تمرد الجيل الصاعد شباباً وشابات على التقاليد والأعراف، والفقهيات والأخلاقيات الأسرية والاجتماعية، مما يساعد على موت الحياء وتنبيه عامل الجرأة على ممارسة الرذائل الأخلاقية، التي كانت في يوم من الأيام تستحي المرأة في مجتمعنا من مجرد الحديث عنها، فضلاً عن ارتكابها أمام الآخرين، اليوم أصبحت هذه الممارسات التي كانت في دائرة محرمة عند كثير من النساء من المباحات التي لاتخجل من ممارستها، كل ذلك بسبب البعد عن إرشادات الإسلام، وتقليد الغرب، وسوء التربية.
وقد بدأت هذه الظواهر في المجتمعات الإسلامية تنتشر، ومن مظاهر تحلل المرأة المسلمة أنها استبدلت عباءة الرأس الزينبية بعباءة الكتف أو غيرها من العباءات التي قد تفصل الجسم وتظهر مفاتن الجسد، وهي تعلم أن العباءة الزينبية الأصيلة أعف وأستر، وأخرى أخذت تشارك في التجمعات المختلطة بدعوى المشاركة السياسية أو المشاركة في الجمعيات التي تنادي بحقوق المرأة، فأخذ يعلو صوتها ويرتفع، وتتجادل مع الرجال وما أشبه، وثالثة تعمل في دوائر مختلطة وأخذ يتصفح وجهها الأجانب بحجة التمدن والتطور.
وقد ازداد الأمر سوءاً يوماً بعد يوم، فعندما فسخت فتيات الإسلام من أمة محمد(ص) الحياء أصبحن في حالة يرثى لها، وفي وضع يشكى منه، ودب الانحراف في صفوفهن، فقامت بعضهن بنزع الحجاب، والخروج إلى الأسواق متطيبات متجملات لابسات لأنواع الحلي والزينة، لا يبالين بنظر الرجال إليهن، بل ربما يفتخرن بذلك، فتجسدت شيطاناً مغوياً للشباب، وبالنتيجة صرن يتعرضن للمعاكسات من الشباب المنحرف، ففي الدراسة التي أجريت عن العوامل الاجتماعية المؤدية إلى الجرائم الجنسية في المجتمع السعودي عام 1414 للهجرة، تبين أن (2. 41%) من المحكوم عليهم بأفعال جنسية محرمة، كانت بداية انحرافهم وجنوحهم الجنسي هو ارتياد الأسواق التي تتردد عليها النساء بكثرة، وأبرز ذلك البحث الميداني أن ظاهرة مضايقة النساء في الأسواق بقصد المعاكسة، ترتبط كثيراً بسلوك المرأة ولبسها وحركاتها، فقد ثبت من الدراسات الاجتماعية على المجتمع السعودي، أن العوامل المرتبطة بالإجرام الجنسي، كان بينها علاقة أكيدة وقوية بين سلوك المرأة في طريقة لبسها وتعطرها وحركتها، وبين ارتكاب الجرائم الأخلاقية.(92)
فهنا يذوب عفاف المرأة المسلمة، وتستغلها أنياب الذئاب البشرية لإشباع جوعها، فتزل قدمها وينفرط العقد وتظل هي في حسرتها وآلامها :
عِقدُ العفافِ ثمينٌ حينَ تحفظهُ بنتُ المكارمِ أو في الوحلِ ينفرطُ
فالعفاف تاج، بل كنز حقيقي لا تراه أو تعرف قيمته الحقيقية إلا عيون النادمات.
وهذا ليس ببعيد عن مجتمعات اليوم فقد دبت في عروقها الفحشاء والرذيلة، وربما فرضت هذه الرذيلة بقوة القانون في بعض الأحيان.
ئفانجر بعض الشباب والشابات إلى هذه الممارسات غير الأخلاقية، غير مبالين، قد أشاحوا بوجوههم عن الحياء والعفة، وأذكر على سبيل المثال ما تناقلته وسائل الإعلام عن مشرفة اجتماعية في إحدى المدارس أنها شاهدت فتيات مراهقات يحفرن أسماء من يحببن على أيديهن، من المغنين والراقصات وماشابه من أضرابهم.(93) وغير ذلك كثير مما يندى له الجبين.
وقد صدمت عندما قرأت ما طالعتنا به الصحف بأن إحدى النساء المسلمات العرب والتي تعد في صف المشاهير قد قامت بما لا يجرؤ عليه الغرب نفسه، فقد قامت بخلع ملابسها تماما في ساحة واشنطن سكوير بارك ووقفت عارية كما ولدتها أمها... وأمام وسائل الإعلام والسائحين كتبت على ظهرها باللون الأحمر عبارات تطالب بإيقاف الحرب في العراق وفلسطين.. !!
ومن المضحك المبكي ما قالته بعد ذلك في حوار صحفي حيث قالت : آمل ألا يساء فهمي وبشكل خاص من قبل الناس المتدينين، فالله ضد الحرب وأي شيء نقوم به للتعبير عن رأينا سيكون ضد الظلم.. !!(94)
ومن هنا أرادت هذه العارية خلق تشريع جديد يقتضي إطاعة الله من حيث يعصى، إذ الغاية عندها تبرر الوسيلة، تحرير المقدسات على حساب الحياء والعفة، فجسدها العاري سيحل لنا مشكلة العراق و فلسطين !!
ولو كانت مقاومة الظلم بالتعري لتحول كل الرجال إلى ظالمين ليستمتعوا بمفاتن النساء في الشوارع.. (إن لم تستحيِ فاعمل ماشئت)
وأحمد الله تعالى على أن هذا الحدث قد لاقى معارضة واستنكار نوعاً ما من قبل المجتمع المسلم، أما بعض الانحرافات فقد عدها المجتمع من الفضائل، وقد اعتبر رسول الله(ص) هذه الظاهرة من أخطر المشاكل الاجتماعية، قال رسول الله(ص):
كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر ؟ !
فقيل له : ويكون ذلك يا رسول الله ؟ !
قال : نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف ؟ !
قيل: يارسول الله ويكون ذلك؟ !
قال : نعم، وشر من ذلك. كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟!(95)
وكل هذه الأمثلة غيض من فيض عما يحدث في واقعنا المر من ذهاب الخلق والتفسخ، قال الشاعر :
وإنما الأمم الأخلاق مابقيت فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
بيت العنكبوت
لقد ظهر في هذه الأيام من يحاول أن يتحذلق، ويبرر تصرفاته غير المسؤولة وأفعاله الوقحة، ببعض الشعارات واللافتات الخادعة التي هي كالقبور،(ظاهرها مزين وباطنها جيفة)، فهذه الشعارات لا تعدو كونها مطيّة لوصولهم إلى رغباتهم وإشباع شهواتهم، ومن المأسف حقا في هذه الأيام، إنخداع المرأة المسلمة بهذه الشعارات، مما سبب موت الحياء لديهن وظهور تلك المظاهر المخزية الآنف ذكر بعضها.
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرّهن الثناء
ومن تلك الشعارات :
الحرية : ارتفعت في الآونة الأخيرة أصوات الداعين لتحرير المرأة، وطالبوا بتحرير المرأة مما يسمونه عادات وأعراف بالية قديمة، فلا بد للمرأة من التحرر والاختلاط والمشاركة في كل شيء يروق لها لتأخذ بذلك المرأة حقوقها المغصوبة.
ونقول في ذلك، لابأس بالمطالبة بالحرية التي تقف عند حدود الشرع المقدسة،باعتبار أن كمال الإنسان هو في عبوديته لا في حريته، عبوديته وإطاعته لله سبحانه وتعالى، واحترامه للقيم، وإن تسافل الإنسان هو في عصيانه لله وتمرده على القيم، فكلما كان الإنسان أعبد وأطوع، كلما كان أكمل وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى، قال الإمام الصادق(ع) : (العبودية جوهرة كنهها الربوبية)(96)، ومن هنا كان من جملة ما نستدل به على أفضلية الإمام علي(ع) على باقي الصحابة، كونه أعبد الصحابة لله سبحانه، فلما كان أعبدهم كان أفضلهم، فالمنهج السليم والطريق الآمن للوصول إلى الكمال الفطري المنشود للطبيعة الإنسانية، يكمن في العبودية لله سبحانه وتعالى.قال أمير المؤمنين(ع) :(من قام بشرائط العبودية أهل للعتق)(97). ومن هنا كان العبد المطيع لله هو الحر الحقيقي.
وهذه الشرذمة تصور العبودية لله سبحانه وتعالى بسجن لابد من تحرير المرأة منه، فتخرج المرأة إلى أحضانهم ليستغلوها بمختلف الصور، فهم في الحقيقة أخرجوا المرأة من عبودية الله إلى سجن مظلم محكم، فهم عبّاد الشهوة والغريزة، قد أسرتهم وأحكمت قيودها عليهم، فالذي ينقاد لرغباته وأهوائه ليس حرا ً، بل هو عبد ذليل لشهوته قال الأمير(ع) :(عبد الشهوة أذل من عبد الرق)(98)،والأحرار الحقيقيون هم الذين يستطيعون السيطرة على حب الشهوة بقوة الإيمان والعقل، وفي ظل الأخلاق و الفضائل قال الأمير(ع) : (من ترك الشهوات كان حرا ً)(99).
ومن الظريف حقاً ما ذكرته مندوبة الأمم المتحدة بعد أن رأت مخاطر إطلاق الغرائز على حريتها في السويد، فتقول في تقرير لها (إن من حق المرأة السويدية أن تطالب بحريتها فإن المرأة في الشرق العربي قد وصلت إلى قمة حريتها في ظلال الإسلام)(100)
وقصة بشر الحافي مع الإمام الكاظم(ع) تعطي جواباً وافياً لمن تأمل ودقق البصر.
المساواة بين الرجل والمرأة : من الشعارات التي أصمت آذاننا بنعيقها في هذه الأيام، المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة.
ونقول في ذلك، هناك فرق كبير بين المساواة والعدل بين الرجل والمرأة، فالعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، أما المساواة فهي التساوي بينهم في كل شيء.
ونحن إنما نطالب بالعدل لا بالمساواة لأن الرجل جنس، والمرأة جنس مختلف، ولايمكن المساواة بين جنسين مختلفين في كل شئ، فخصوصيات الرجل تختلف عن خصوصيات المرأة، فلا يمكن إنكار التفاوت الفسيولوجي والسيكيولوجي (النفسي) الموجود بين الرجل والمرأة، وإذا كان كذلك، إذن فمن المستحيل أن نتوصل إلى ما يسمونه بالمساواة، فكيف نسوي بين اثنين متفاوتين بالفطرة مختلفين في النوع ؟
إذن المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة في واقعها ظلم للمرأة، لأنها لم تعط كل ذي حق حقه، فهي لم تعط المرأة حقها الطبيعي وفقاً لاحتياجاتها الجسمية والنفسية.
فكان من الأفضل، لو استبدل أولئك شعارهم هذا، بالمطالبة بالعدل بين الرجل والمرأة، ولتطبيق العدل نحتاج إلى حاكم هو أعدل من في الوجود لتطبيق الحكم العادل، والله سبحانه هو أحكم الحاكمين ولا عدل أفضل من عدل الله، وما الله بظلام للعبيد.
وقد أعرضت عن الإطالة في سرد الشعارات وردها، لأن البحث في ذلك لايستحق الإطناب، ولتعلم المرأة المسلمة أن هذه الشعارات واللافتات التي يحتمي بها أولئك هي في الضعف كبيت العنكبوت بل أوهن من بيت العنكبوت قال تعالى (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون)(101).
الحياء السلبي
الحياء كما تقدم مفهوم قيميّ يحتل مكانته الرفيعة في ثقافتنا وقيمنا خصوصاً بالنسبة للمرأة، ولكن يوجد في بعض الروايات والنصوص ما يفهم منها أن الحياء مذموم وغير مستحسن من قبل الشرع، أو أنه قد ترد روايات تذكر لنا أفعال نساء عظيمات ممن قد عصمهم الله من الخطأ والزلل قد يفهم منها أن هذه الأفعال منافية لبعض آثار الحياء المتقدمة الذكر، فكيف يمكن التوفيق بين كون الحياء أمر إيجابي وهذه الأخبار ؟
1-الخجل المفرط :
يمكن الجواب عن النوع الأول من الأخبار والتي تذم الحياء، بأن الحياء في الرواية المقصود منه باصطلاح علم النفس الحديث (الخجل المفرط)، والخجل المفرط من الصفات الذميمة التي تصيب الإنسان منذ طفولته، وتلازمه حتى نهاية عمره بصورة مرض مزمن يؤلم صاحبه، يؤدي إلى انقباض النفس وانزوائها وانطوائها على نفسها، هذه الحالة النفسية تنبع من الشعور بالخسة وعقدة الحقارة في الغالب، وهذه الحالة التي تنتسب في أحد أشكاله إلى الشذوذ وتعتبر انعداما للشخصية،و تمتد بجذورها إلى أساليب التنشئة الطفلية التي يتعرض لها الطفل من خلالها إلى خبرات مؤلمة : تحسسه بالدونية وتفاهة ذاته وانحطاطها، فينسحب ذلك على استجابته حيال الظواهر التي يواجهها: حيث يتحرج من مقابلة الغرباء، أو يتهيب من الدخول في المجالس أو الدوائر الرسمية، أو يتخوف من إلقاء خطبة أو محاضرة... وهلم جرا ً.
ومن الواضح هنا أن أمثلة الحياء المذكور (الخجل المفرط) : تشل الشخصية عن ممارسة وظيفتها، ومن هنا ذكرت الروايات الشريفة أنماطاً من هذا الحياء المذموم :
الخجل والجهل : إن من بعض منتكسات الخجل المرضي هو الحرمان من اكتساب المعرفة والتعلم، فإن الإفراط في ممارسة الحياء، واستخدامه في غير موضعه، ليس حالة صحيّة، ولا تدخل ضمن الحياء المحبّذ والمطلوب. بل تعبرّ عنها النصوص بأنها مؤشر حماقة وجهل. جاء في الحديث عن رسول الله(ص): (الحياء حياءان : حياء عقل، وحياء حمق، فحياء العقل هو العلم، وحياء الحمق هو الجهل)(102)
ويعلّق الشيخ المجلسي على هذا الحديث بقوله: يدل على انقسام الحياء إلى قسمين: ممدوح ومذموم، فأما الممدوح فهو حياء ناشئ عن العقل، بأن يكون حياؤه وانقباض نفسه عن أمر يحكم العقل الصحيح، أو الشرع بقبحه، كالحياء عن المعاصي أو المكروهات. وأما المذموم فهو الحياء الناشئ عن الحمق، بأن يستحي عن أمر يستقبحه أهل العرف من العوامّ، وليست له قباحة واقعية، يحكم بها العقل الصحيح، والشرع الصريح، كالاستحياء عن سؤال المسائل العلمية، أو الإتيان بالعبادات الشرعية، التي يستقبحها الجهال(فحياء العقل هو العلم) أي موجب لوفور العلم، أو سببه العلم المميّز بين الحسن والقبح، وحياء الحمق سببه الجهل وعدم التمييز المذكور، أو موجب للجهل(103).
قال الإمام الصادق(ع) : (من رق وجهه رق علمه)(104)بينما الحياء الإيجابي لايمنع من التعلم. قال أمير المؤمنين(ع): (ولا يستحينَّ أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه)(105).
الخجل والحرمان : قال أمير المؤمنين(ع) :(قرن الحياء بالحرمان)، وعنه(ع) : (الحياء محرمة) وعنه(ع) : (الحياء يمنع الرزق)(106)، لذلك نجد حرص النبي الأكرم على عدم استغلال هذه الظاهرة، قال(ص) : (ما أخذ بسوط الحياء فهو حرام)(107) إشارة منه إلى أنه يكون الأخذ هنا كالأخذ الغصبي.
الخجل والضعف : من الواضح أن هذه الصورة المرضية تكسب صاحبها ضعفاً في الشخصية،عن الإمام الصادق(ع) : (الحياء على وجهين، فمنه ضعف ومنه قوة، وإسلام وإيمان)(108) عن الأمير(ع) : (لكل شيء آفة وآفة العلم النسيان، وآفة العبادة الرياء، وآفة اللب العجب، وآفة الحياء الضعف.......)(109).وهنا قد تتعطل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الخجل قد يمنع صاحبه عن قول كلمة الحق، قال أمير المؤمنين (ع): (من استحيى من قول الحق فهو أحمق)(110). قال تعالى (يجاهدون في سبيل الله، ولايخافون لومة لائم)(111).
2- الحياء والتكليف الشرعي :
ويمكن الجواب عن النوع الثاني من الأخبار والتي تذكر قيام بعض النساء الشامخات في سماء العقيدة، بإلقاء الخطب على الملأ مثلا ً، والدفاع عن حقوقها وحقوق المضطهدين من الناس، بأن الحياء لا يتنافى مع المطالبة بالحقوق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقدم، فحياء المرأة لا يعني سكوتها على الباطل، فعندما يكون المجتمع الإسلامي معرضاً للخطر، يجب أن تقوم المرأة بدورها الأساسي في مواجهة هذا الخطر والدفاع عن الإسلام طبقاً للأحكام الشرعية، وضمن المواصفات الشرعية التي حددتها الشريعة الإسلامية المقدسة، ولذلك قد تقتضي الضرورة خروج المرأة في مسيرات احتجاجية والمطالبة بإقامة حدود الله، وأذكر على سبيل المثال حين دعى سماحة العلامة الشيخ عيسى قاسم إلى مسيرة جماهيرية من منبر صلاة الجمعة للوقوف دون تطبيق قانون الأسرة المخالف للشريعة، الذي حاولت الحكومة تطبيقه، يقول أيده الله ورعاه :(أجزم أنّ من واجبي شخصياً أن أدعو إلى هذه المسيرة المباركة وأن أخرج فيها وحتى لاأكون شيطاناً أخرس، وهي مسيرة لكل الأعمار، لكل المستويات، للرجل والمرأة، وأخص المرأة لتفحم بموقفها الرسالي الصريح المعلن الذي تخندق مع الإسلام كل الأصوات المفترية على المرأة المسلمة والتي تريد أن تستغفلها وتستخفها وتظن أنها قابلة للاستخفاف)(112) ثم أن الحياء قرين التكليف، والكمال ينتج من مدى انقياد المرء لتكليفه، فحياء المرأة هو في تأديتها لتكليفها الشرعي الملقى على عاتقها، وعدم تأديتها لتكليفها بسبب انقباض النفس وانطوائها يكون حياء ً سلبياً غير محبذ من قبل الباري عز وجل. وتدل على ذلك رواية عن الإمام علي(ع) قال : (هبط جبرئيل على آدم(ع) فقال : يا آدم إني أمرت أن أخيرك بين ثلاث، فاختر واحدة ودع اثنتين، فقال له آدم : ياجبرئيل وما الثلاثة ؟ فقال : العقل والحياء والدين، فقال آدم(ع) : فإني قد اخترت العقل، فقال جبرئيل(ع) للحياء والدين : انصرفا ودعاه، فقالا :ياجبرئيل إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال : فشأنكما وعرج)(113).
فنجد في التاريخ نساء حاولن طيّ صفحات الظلم والاستكبار بخطبهن الخالدة.
الشهيدة آمنة الصدر (بنت الهدى) مثلاً قد شخصت تكليفها وخطبت في الناس تأسياً واقتداء بسيدتها الزهراء(ع)، فسيدة نساء العالمين، وقفت في وجه الظالمين وخطبت في القوم خطبة، يعجز البلغاء عن نظم مثلها، ومع ذلك حافظت على حيائها ولم تتنازل عنه، فإنها إذا تنازلت عن حيائها تنازلت عن دينها، فيحدثنا التاريخ أن سيدة العفة والطهارة، بالغت في حجابها ولاثت خمارها على رأسها، وذهبت إلى المسجد يحوطها لمّة من نسائها، تطأ ذيولها، تمشي في سكينة ووقار، ماتخرم مشيتها مشية رسول الله(ص)، ولما دخلت المسجد نيطت بينها وبين الرجال ملاءة، ثم خطبت فيهم(114).
مع النهج الزينبي العفيف
وأختم حديثي بمثال آخر، وهو لرائدة البطولة والفداء، سيدة المصائب والبلايا، السيدة زينب(ع)، فهي التي لم تتوان لحظة عن نصرة الدين الحنيف، فقدمت إخوتها وأبنائها قرابين، وتحملت مشقة السفر الطويل، وكانت لها في كل محطة من محطات الحدث موقف تنصر به الحق وتزهق به الباطل، ونجدها دائماً وأبداً تحافظ على مكانة نساء أهل البيت، فلشدة حرصها(ع) على أن لاينظر أحد في وجوه حرم المصطفى(ص) أرادت أن تكون الرؤوس أمام الموكب لينظر الناس إليها باعتبارها شيئاً ملفتاً وبالتالي سيقل النظر تلقائياً إلى وجوه السبايا وخصوصاً النسوة، وأثناء دخول السبايا إلى الشام نلمح ملمحاً آخر لدى نساء الحسين في الحرص على أن لا تتصفح وجوه النساء، فقد ورد ما نصه : (ودنا سهل بن سعد الساعدي من سكينة بنت الحسين وقال : ألك حاجة ؟ فأمرته أن يدفع لحامل الرأس شيئاً فيبعده عن النساء ليشتغل الناس بالنظر إليه)(115).
و لما دخلت السبايا مجلس يزيد (لعنه الله)، بدأت سيدة البلاغة خطبتها المشهورة وكان كلامها من القوة بحيث هدد ملك يزيد (لعنه الله) بالفناء، وكان في كلامها من حلاوة الألفاظ وطراوتها، وبلاغة المعاني وعمقها، ما يخرس الفصيح، ويعجز البليغ، وقد ركزت سيدتنا زينب(ع) في خطبتها على قضية الستر، وكانت كلماتها تبكي الحجارة، وتفتت الصخر الأصم، تقول بأبي هي وأمي ليزيد (... أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك،وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، يتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي، وكيف يرتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن......)(116)
من هذا كله نستنتج أن المرأة المسلمة لا بد أن تحافظ على حيائها مهما أمكن، فتكون حريصة على أن لا ينظر إليها الرجال، وأن تكون المرأة ميالة إلى عدم الاختلاط(117)، وإن كان هناك خروج أو شيء يدعو إلى الاختلاط فيقتصر على ما لابد منه، أما أن يصبح الاختلاط مألوفاً ويصبح الرجل يتحدث مع المرأة دون غض النظر... أو أن تتحدث المرأة مع الرجل من دون أدنى غض للبصر.... فإن ذلك غريب كل الغرابة وبعيد كل البعد عن النهج الزينبي العفيف.
اللهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة...... وتفضل على مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرحمة، وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) العلق:6و9
(2) النحل: 58
(3) التكوير:8 و9
(4) مستدرك الوسائل / النوري الطبرسي : ج15 ص116 ب3 ح17707
(5) في ضمن ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله)، أنه نظر إلى رجل يغتسل بحيث يراه الناس، فقال : (أيها الناس إن الله يحب من عباده الحياء والستر، فأيكم اغتسل فليتوار من الناس، فإن الحياء زينة الإسلام) مستدرك الوسائل للنوري ج1 ص 488. وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (أفضل ملابس الدين الحياء).
(6) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص270
(7) ميزان الحكمة،ج2، ص953
(8) إحياء الحياء ص24
(9) دراسات في علم النفس الإنساني للدكتور محمود البستاني، ج2، ص42
(10) علم النفس التحليلي / د. محمد حسين ضيائي، ص165
(11) ميزان الحكمة،ج2، ص957
(12) روي عن الرسول صلى الله عليه وآله : الحياء خمسة أنواع : حياء ذنب، وحياء تقصير، وحياء كرامة، وحياء حب، وحياء هيبة، ولكل واحد من ذلك أهل، ولأهله مرتبة على حدة. مستدرك الوسائل ج8 ص464
(13) مضمون رواية في كنز العمال للمتقي الهندي ج 15 ص 607
(14) من دعاء يستحب قراءته بعد زيارة الإمام الرضا (ع)، مفاتيح الجنان ص575
(15) جاء في الصحيفة السجادية عن الإمام زين العابدين (ع) : (إلهي أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوك سميته التوبة، فقلت : توبوا إلى الله توبة نصوحا. فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه ؟
(16) الصحيفة السجادية (مناجاة التائبين)
(17) المصدر السابق
(18) الصحيفة السجادية، من دعائه إذا نزل به كرب أو بلية.
(19) قال تعالى (وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها) إبراهيم، 34
(20) المراقبات : الملكي التبريزي، ص259
(21) البقرة، 222
(22) كما جاء في بعض مقاطع دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين (ع) : (أنا يارب الذي (لم أستحيك في الخلاء)..(أنا الذي أمهلتني فما ارعويت وسترت علي فما استحييت)
(23) ميزان الحكمة،ص957
(24) المصدر السابق
(25) الفتاوى الميسرة، السيد السيستاني ص373
(26) قال جل شأنه (أفمن هو قائم ٌ على كل نفس بما كسبت إن الله كان عليكم رقيبا)
(27) من دعاء الإمام الحسين (ع) يوم عرفة.
(28) وليس المراد من حياء الله انقباض النفس، إذ هو تعالى منزه عن الوصف وإنما المراد بحياء الرب من عبده حياء كرم وبر وجود وجلال، وأنه تارك للقبائح فاعل للمحاسن، فإنه تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً ويستحي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام.
(29) بحار الأنوار، 43، ص55
(30) الكافي، ج2، 68
(31) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة / الشيخ محمد تقي التستري، ج13، ص288
(32) ميزان الحكمة، 956
(33) الشاب بين العقل والعاطفة ج1، ص 278.
(34) عن الأمير(ع) (من تمام المروة أن تستحي من نفسك)، وعن رسول الله (ص) (ليستحي أحدكم من ملكيه اللذين معه) / ميزان الحكمة ص957، 958
(35) ميزان الحكمة، ض956
(36) الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفسي، ج2، ص236
(37) المصدر السابق، ص237
(38) مستدرك الوسائل / النوري الطبرسي، ج8،ص465
(39) إحياء الحياء،ص80
(40) ميزان الحكمة، ص955
(41) وسائل الشيعة / الحر العاملي، ج12، ص168
(42) الكامل، عبد الله ابن عدي، ج3، ص53
(43) ميزان الحكمة ص954
(44) مع الركب الحسيني /ج4، ص414
(45) التكة : هي رباط السروال أو الحزام.
(46) بحار الأنوار / المجلسي، ج45، ص312
(47) إحياء الحياء ص177
(48) مائة منقبة /محمد بن أحمد القمي، 136
(49) ميزان الحكمة، ج2، ص959
(50) مجلة رسالة القلم، العدد الثالث، ص165
(51) راجع، منهاج الصالحين / السيد علي السيستاني، ج3، ص30،يقول في مسألة 79 : لايكفي الرضا القلبي في صحة العقد وخروجه عن الفضولية وعدم الاحتياج الى إجازة، فلو كان حاضراً حال العقد راضياً به إلا أنه لم يصدر منه قول أو فعل يدل على رضاه فالظاهر أنه من الفضولي، فله أن لا يجيز ويرده، نعم في خصوص البكر إذا ظهر من حالها الرضا وإنما سكتت ولم تنطق بالإذن لحيائها كفى ذلك وكان سكوتها إذنها.
(52) ميزان الحكمة ج2، ص953
(53) إحياء الحياء ص 74
(54) ميزان الحكمة، ج6، ص2657
(55) مسألة الحجاب / الشهيد مطهري،ص66
(56) قال تعالى (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) الأحزاب 33
(57) الأعراف :26
(58) البحار، ج8، ص9
(59) الأحزاب : 59
(60) تفسير الميزان / العلامة الطباطبائي، ج16، ص45
(61) المرأة المعاصرة / عبد الرسول الغفار،ص90
(62) الأحزاب :53
(63) تفسير الميزان / العلامة الطباطبائي، ج16،ص343
(64) الأخلاق في القرآن / الشيخ المصباح اليزدي،ج3، ص86، مع تغيير طفيف في العبارة.
(65) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد المعتزلي، ج20،ص410
(66) راجع الأخلاق في القرآن لليزدي ج3، ص86
(67) مسألة الحجاب / الشهيد مطهري، ص192
(68) المصدر السابق،ص193
(69) راجع المصدر السابق.
(70) المرأة المعاصرة / عبد الرسول الغفار، ص253
(71) لها أون لاين 26-جماد ثاني-1426 ه:: 01-أغسطس-2005
(72) مجلة عربيات/ 20سبتمبر، 2002
(73) الإنحرافات الإجتماعية / عبد العظيم المشيخص،ص101
(74) إحياء الحياء ص76.
(75) الأحزاب 32
(76) إحياء الحياء ص170
(77) المصدر السابق ص 136
(78) مستدرك الوسائل، ج12، ص108
(79) القصص، الآية : 25
(80) راجع تفسير الميزان / العلامة الطباطبائي، ج16،ص26
(81) راجع قصص القرآن / للدكتور محمود البستاني ج2، ص 152
(82) مريم، 17
(83) مريم، 18
(84) حياة الصديقة فاطمة / محمد جواد الطبسي، ص70
(85) المصدر السابق، ص149.
(86) نهج الحياة /محمد الدشتي الطبراني، ص 44.
(87) المصدر السابق، ص46.
(88) البحار / العلامة المجلسي ج17، ص243
(89) وفيات الأئمة / الشيخ فرج القطيفي،ص435_436.
(90) راجع، الطفل بين الوراثة والتربية، ج2، ص247
(91) راجع، المرأة المعاصرة، ص134، ص135.
(92) راجع، الانحرافات الاجتماعية، ص264
(93) نقلاً عن أحد المنتديات الاجتماعية.
(94) جريدة حديث المدينة بتاريخ 17/8/2005
(95) الطفل بين الوراثة والتربية ج2، ص246
(96) ميزان الحكمة ج3 ص1798
(97) المصدر السابق.
(98) الطفل بين الوراثة والتربية، ج2، ص269
(99) المصدر السابق.
(100) المجموعة القصصية / الشهيدة آمنة الصدر،ص491
(11) العنكبوت : 41
(102) ميزان الحكمة، ص955
(103) بحار الأنوار ج68 ص331
(104) ميزان الحكمة، ج2، ص955
(105) نهج البلاغة – قصار الحكم 82
(106) المصدر السابق
(107) إحياء الحياء،ص81
(108) ميزان الحكمة، ص955
(109) إحياء الحياء،ص81
(110) ميزان الحكمة، ص956
(111) المائدة :54
(112) خطبة الجمعة / شوال 1426ه 4/ 11/2005موال 1426ه 4/ 11/2005م
(113) من لايحضره الفقيه / الشيخ الصدوق، ج4، ص417
(114) راجع / حياة سيدة النساء / باقر شريف القرشي، ص346
(115) في محراب كربلاء / الشيخ حسين كوراني، ص162
(116) المصدر السابق
(117) قال رسول الله (ص) : (لو تركوا صاحب الحياء ما جالس أحدا ً) / مستدرك الوسائل، ج8، ص465
0 التعليق
ارسال التعليق