آيـة الفـيء (فـدك)

آيـة الفـيء (فـدك)

قال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(1).

ذكر المفسّرون والمحدّثون والمؤرّخون سبب نزول هذه الآيات بما خلاصته: أنّه كانت في المدينة تعيش ثلاث قبائل من اليهود، وهم بنو النّظير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، ويذكر أنّهم لم يكونوا من أهل الحجاز أصلا، وإنّما قدموا إليها واستقرّوا فيها، وذلك لما قرأوه في كتبهم العقائديّة من قرب ظهور نبيّ في أرض المدينة حيث كانوا بانتظار هذا الظهور العظيم.

وعندما هاجر الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) إلى المدينة عقد معهم حِلفا بعدم تعرض كل منهما للآخر، إلا أنهم كلّما وجدوا فرصة مناسبة لم يألوا جهدا في نقض العهد، ومن جملة ذلك أنّهم نقضوا العهد بعد غزوة أحد التي وقعت في السّنة الثّالثة من الهجرة، فقد ذهب كعب الأشرف زعيم قبيلة بني النضير مع أربعين فارساً إلى مكّة، وهناك عقد مع قريش حلفاً لقتال النّبي (صلّى الله عليه وآله) ثم دخل أبو سفيان مع أربعين شخصاً وكعب الأشرف مع أربعين نفر من اليهود، ودخلا معاً إلى المسجد الحرام ووثّقوا العهد في حرم الكعبة، فعلم النّبي (صلّى الله عليه وآله) بذلك عن طريق الوحي، ولهم مؤامرة أخرى وهي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دخل يوماً مع شيوخ الصحابة وكبارهم إلى حيّ بني النظير، وذلك بحجة استقراض مبلغ من المال منهم كدية لقتيلين من طائفة بني عامر، وقد قتلهما عمر بن أميّة أحد المسلمين، وربما كان الهدف من ذلك معرفة أخبار اليهود عن قرب حتى لا يباغَت المسلمون بذلك، فبينما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يتحدّث مع كعب الأشرف إذ حيكت مؤامرة يهودية لاغتيال رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ إذ قال بعضهم: إنّه (صلّى الله عليه وآله) بعيد عن قومه وهو جالس بالقرب من حائطكم فليذهب أحدكم إلى السطح ويرميه بحجر عظيم ويريحنا منه، فقام عمر بن جحاش وأبدى استعداده لتنفيذ الأمر، وذهب إلى السطح لتنفيذ عمله الإجرامي إلا أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علم عن طرق الوحي بذلك فعاد إلى المدينة دون أن يتحدّث بحديث مع أصحابه إلا أنّ الصحابة تصوّروا أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سيعود مرة أخرى، ولما عرفوا فيما بعد أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) في المدينة عادوا إليها أيضاً، ولما علم الرسول (صلّى الله عليه وآله) نقض العهد أمر (صلّى الله عليه وآله) قومه ليستعدوا لقتالهم، وأوّل ما بدأ به الرسول (صلّى الله عليه وآله) أنّه (صلّى الله عليه وآله) قد أمر أحد أصحابه محمّد بن مسلمة أن يقتل كعب الأشرف زعيم اليهود وكانت بينهما الأخوة بالرضاعة فقتله، وبهذا أوجدت هزة وتخلخل في صفوف اليهود، ومن ثم تحرّك المسلمون لقتالهم، ولمّا أحسوا بذلك لجأوا إلى قلاعهم المحكمة وحصونهم القوية وأحكموا الأبواب، فحاصرهم المسلمون ثلاثة أيام ومنعاً لسفك الدماء اقترح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يتركوا ديارهم وأراضيهم ويرحلوا من المدينة فوافقوا على هذا، وحملوا مقدارا من أموالهم تاركين القسم الآخر حيث استقر قسم منهم في أذرعات الشام، وقليل منهم في خيبر وجماعة أخرى في الحيرة، وتركوا بقيّة أموالهم وأراضيهم وبساتينهم وبيوتهم بيد المسلمين، وكانت هذه الحادثة بعد غزوة أحد بستّة أشهر، وقال بعض: إنّها وقعت بعد غزوة بدر بستّة أشهر.

ولقد ذكرت الآية ذلك في أوّل سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}(2).

فهؤلاء كانوا مغرورين إلى حدّ أنهم اعتمدوا على حصونهم المنيعة وقدرتهم المادّية الظّاهريّة، ولكنّ الله تعالى يريد أن يبيّن للجميع أن لا قوة في الوجود تقاوم إرادته، فإنّ إخراج اليهود من ديارهم وأراضيهم بدون حرب دليل على قدرته تعالى وتحدّ لليهود الذين ظنّوا أنّ حصونهم مانعتهم من الله تعالى، وهذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين كما جاء في غزوة بدر {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}(3)، وجاء في الحديث عنه (صلّى الله عليه وآله): «نصرت بالرعب مسيرة شهر»، وهذا الرعب ليس فقط لمن كان يواجهه بل أصاب حتى من كان عنه بعيداً مسيرة شهر، وجاء في الحديث أنَّ ثلاثة جيوش تحت أمر الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) «الملائكة، المؤمنون، والرعب».

ومن الخوف الذي أدخل في قلوبهم أنّهم كانوا يخرِبون بيوتهم بأيديهم من داخل الحصن لأجل أن لا يقع شيء مفيد منها بأيدي المسلمين، أو لأجل أن ينسد الطريق على المسلمين كي لا يصلوا إليهم، وكان المسلمون يخربون الحصون من الخارج، فالنتيجة أنّهم وقعوا بيد المسلمين من دون سفك دم فانكسرت شوكتهم وتركوا أموالهم وخرجوا من المدينة، ولا شك في أن الجلاء عن الوطن وترك قسم كبير من الأموال بيد المسلمين هو بحدّ ذاته أمر مؤلم لهم، إذن في الوقت التي تعتبر القوى الماديّة أكبر سلاح لتحقيق الانتصار من وجهة نظر طلاب الدنيا نجد أنّ الجيوش اللامرئية أكثر قوة وانتصارا.

هذا وتفيد الآية أنّ الأرض التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب خاصة بالرسول (صلّى الله عليه وآله) من دون المسلمين، قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى...}.

وقال السيوطي في تفسيره(4) "أنّها كانت خاصة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ فكان ينفق على أهله منها نفقة سنتهم، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسّلاح عِدّة في سبيل الله".

ثم قال: "أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وداود والترمذي والنّسائي وابن المنذر عن عمر بن الخطاب: كان لرسول لله (صلّى الله عليه وآله) صفايا بني النضير وخيبر وفدك".

وذكر السيوطي في تفسيره عند تفسير آية {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}، من سورة الإسراء(5) حديثاً عن أبي سعيد الخدري «أنّه لمّا نزلت الآية دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاطمة؛ فأعطاها فدكاً».

وحديثاً آخر عن ابن عباس قال:«لمّا نزلت الآية أقطع رسول الله فاطمة فدكاً».

وهذا يكفينا في الردّ على نفس السيوطي(6) في قوله: وأخرج أبو عبيد في كتاب الأموال وعبد الحميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي... عندما اعترض عليٌّ وابن عباس في قضيّة فدك، واعترض عمر عليهما أمام عثمان وطلحة بن عبيد الله والزبير وعبد الرحمن بن عوف قائلا: أنشدكم بالله أيها الرّهط هل سمعتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: «إنّنا لا ننورث ما تركناه صدقة، إنّ الأنبياء لا تورث»، فقال القوم: نعم سمعنا ذاك، ومن ثم أشهد علياً والعباس على كلامه فقالا: نعم، ثم حدّث عمر قومه إنّ الله خص نبيه من هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره، يريد أموال بني النضير كانت نفلا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليس لأحد فيها حق معه.... إلى أن قال عمر: فكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يدّخر منه قوت أهله لسنتهم... إلى آخر كلامه.

مع أنّا نقول أولاً: سيأتي عن قريب البحث عن هذا الحديث(ما تركناه صدقة).

وثانياً: اعترفتم أنّها كانت خاصة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولما نزلت الآية {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}، أعطى رسول الله فاطمة فدكاً وهي حقّه يفعل به ما يشاء؛ لأنّه أمر إلهي لا يمكن أن يتخلّف (صلّى الله عليه وآله) عنه، وذلك جزاء لما صرفت أمها خديجة أم المؤمنين من أموالها لأجل الإسلام، فإذاً هذه الأموال صارت ملكاً خاصة لفاطمة (عليها السلام) فكيف تؤخذ منها.

وثالثاً: عندما توفي الرسول (صلّى الله عليه وآله) كانت فدك تحت ملكية فاطمة، ولا تحتاج أن تقيم البينة لقاعدة اليد، وهذه القاعدة قاعدة فقهية معروفة، وإلا فلا بد أن تلتزم أنّ على كل واحد منا أن يثبت للآخر أن ما تحت يده ملكه من المنزل وغيره، وذلك يوجب الاختلال في النظام، هذا والسيرة العقلائية جرت على خلاف ذلك.

رابعاً: قلنا: إنّ صاحب اليد لا يحتاج أن يقيم البينة، ولكن مع ذلك أقامت فاطمة (عليها السلام) البينة وأثبتت مدعاها بالبيّنة الشرعية إضافة إلى ثبوته بقاعدة اليد(7) احتجاجاً على القوم لأنّهم طالبوها بالبيّنة، وليت شعري ألم يعرفوا طهارة فاطمة ومنزلتها وأنّها الصدّيقة، بلى عرفوا ذلك وكان يكفي في تصديقها، بل كانوا على يقين أنّها صادقة، ومع ذلك طالبوها ولمّا جاءت بالشهود -زوجها أمير المؤمنين والحسن والحسين وأم أيمن- أبَوا عن قبول شهادتها.

وذكر الحمويني في معجمه(8) قضيّة فدك، وكذا ذكرها البلاذري في فتوح البلدان(9):

"ثم أدّى اجتهاد عمر بن الخطاب بعده لمّا ولي الخلافة وفتحت الفتوح واتّسعت على المسلمين أن يردّها إلى ورثة رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- فكان عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه)، والعبّاس بن عبد المطلب يتنازعان فيها، فكان عليّ يقول: إنّ النّبي -صلّى الله عليه وسلم- جعلها في حياته لفاطمة، وكان العبّاس يأبى ذلك ويقول: هي ملك لرسول الله -صلّى الله عليه وسلم- وأنا وارثه، فكانا يتخاصمان إلى عمر (رضي الله عنه)، فيأبى أن يحكم بينهما ويقول: أنتما أعرف بشأنكما أمّا أنا فقد سلمتها إليكم".

أقول: أمّا العبّاس فلا يحق له مطالبة الإرث من الرّسول (صلّى الله عليه وآله) مع وجود فاطمة فهي تحجبه إذ مع وجود الطبقة الأولى لا تصل النوبة إلى العمّ والخال وهم من الطبقة الثّالثة، وأمّا بعد فاطمة فهو لزوجها وولديها الحسن والحسين (عليهما السلام) وبناتها، والشيء الآخر أنّه لو كان هذا حق المسلمين كما قال أبو بكر لفاطمة (عليهما السلام) (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) فكيف يرجعها عمر إلى بني هاشم ويحرم المسلمين منها!! إذاً هذا دليل على أنّ فدكاً كانت خاصّة بالرسول (صلّى الله عليه وآله) وأعطاها فاطمة في حياته، وتكفي شهادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) على ذلك؛ فإنّهما الصّادقان المصدّقان، ثم لو لم يكن ملكا لفاطمة فكيف ردّ الخليفة الأموي عمر بن العزيز فدكاً إلى ولد فاطمة، ولمّا استلم الخلافة يزيد بن عبد الملك أخذها فلم تزل في يد بني أميّة إلى أن جاء دور أبي العبّاس السّفاح فدفعها إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وكان هو القيّم عليها يفرّقها في بني عليّ بن أبي طالب، فلمّا ولي المنصور الدوانيقي وخرج عليه بنو الحسن أخذها منهم، ولما ولي المهدي بن المنصور أعادها عليهم، ثم أخذها عنهم موسى الهادي ومن بعده إلى أيام المأمون فجاءه رسول بني عليّ بن أبي طالب فطالب بها، فأمر المأمون بأن تسجّل لهم فدكاً، فكتب السجّل وقرئ على المأمون، فقام دعبل الخزاعي (رضي الله عنه) وأنشد شعره وذلك في سنة 201هـ

أصبح وجه الزّمان قد ضَحِكا

                        بِرَدّ مأمون هاشم فدكا

 

وجعل المأمون فدكاً والعوالي في يد محمّد بن يحيى ين الحسين بن علي بن علي بن الحسين (عليهما السلام) ليعمرها ويستغلها ويقسّم دخلها بين ورثة فاطمة(10) (عليها السلام).

ثم لمّا ولي الخلافة جعفر المتوكّل العبّاسي أخذها منهم إلى يومنا هذا، فغصب حق آل الرسول وذويه {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(11).

وقال الباقر (عليه السلام): «ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ قال: من أكل من مال اليتيم درهماً، ونحن اليتيم»(12).

فكيف بمن يأكل أموال يتامى محمّد (صلّى الله عليه وآله) فإنّ خصمه في يوم القيامة جدّهم محمّد (صلّى الله عليه وآله) وجدّتهم فاطمة (عليها السلام) وعليّ (عليه السلام) وسوف يحرم من شفاعتهم، أمّا ما قاله الحمويني في معجم البلدان عن فدك من أنّه أدّى اجتهاد عمر ردها إلى ورثة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنّه تنازع عليّ والعبّاس أمام عمر فيها ومثله في لسان العرب لابن منظور؛ إذ قال: إنّ عمر سلّمها إليهما فهو غير تام.

والتحقيق: أنّ الذي ردّه عمر عليهما وكانا يتنازعان فيه هو الحوائط السّبعة التي وهبها له (صلّى الله عليه وآله) مخيرق اليهودي من بني النضير -قال السّمهودي عنه في كتابه وفاء الوفاء(13) كان مخيرق اليهودي حِبراً عالماً بالنّبي (صلّى الله عليه وآله)- وهي المعبّر عنها بصدقة النّبي بالمدينة.

وما أفاء الله على رسوله... فلم يرجع عمر فدكاً بل أرجع الحوائط السّبعة لا فدك.

وذكر البخاري -باب فرض الخمس من كتاب الجهاد- وأحمد في مسنده(14): "فدفعها عمر إلى عليّ وعبّاس، فأمّا خيبر وفدك فأمسكهما عمر، وقال: هما صدقة رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولى الأمر، وإنّما أعطى عمر سهم بني النّضير المسمّى بصدقة الرسول؛ لأنّه لما صارت في الفيء سعة، وكثر خمس الغنائم، واتّسعت البلاد، وزادت الأموال والخراج، وجعل عمر لكل واحدة من أزواج النبي (صلّى الله عليه وآله) عطاء من بيت المال، وردّ سهم بني النضير إلى عليّ والعبّاس، وجعلها فيهم ليعملوا بها كيف يشاءان"، فإذاً لم يرجع عمر فدكاً على فاطمة، ويكفينا قول أمير المؤمين (عليه السلام) في رسالته إلى عثمان بن حنيف عامله بالبصرة قائلا له: «... بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين. ونعم الحكم الله» (15).

وهذا دليل على أنّ فدكاً غصبت من أهل البيت بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولم تردّ عليهم في أيام الخلفاء الثلاثة.

ويؤيد ذلك أنّه لمّا ولي عمر بن العزيز الخلافة أرجع فدكاً على أولاد فاطمة (عليها السلام) وكتب إلى واليه بالمدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك فنقمت بنو أميّة ذلك على عمر بن عبد العزيز وعاتبوه فيه وقالوا: هجَّنت فعل الشيخين، فقال لهم: جهلتم وعلمتُ، ونسيتم وذكرتُ، فحدّثهم بحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في شأن فاطمة بنت رسول (صلّى الله عليه وآله)، قال (صلّى الله عليه وآله) في حقّها: «فاطمة بضعة منّي يسخطني ما أسخطها، ويرضيني ما أرضاها».

فهذا دليل على أنّ الشيخين لم يردّا فدكاً على فاطمة أو أبنائها، ولو أنّ عمر بن الخطاب ردّها عليهم لاسّتدل بفعله عمر بن العزيز على صحة ردها إلى ولد فاطمة (عليها السلام).

نكتة لطيفة: فيما ذكر من تخاصم عليّ (عليه السلام) والعبّاس عند عمر بن الخطاب، -وأنّ العبّاس كان يقول هي ملك لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنا وارثه، وكان (عليه السلام) يقول: إنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) أوقفها على خصوص فاطمة (عليها السلام)، فقال عمر لها: أنتما أعرف بشأنكما، أمّا أنا فقد سلّمتها إليكما(16)- أنّ نزاعهما كان صوريا أرادا من عمر أن يحكم لأحدهما على الآخر حتى يحتجّا على عمر بما حكم، فإن حكم لعلي (عليه السلام) فقد أقرَّ بأنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) جعلها لفاطمة في حياته فكيف غصبها منّا أبو بكر وأعانه عمر على ذلك، وإن حكم للعبّاس أقرّ بالميراث، وقد أنكره أبو بكر برواية (لا نورث) وساعده عمر على ذلك، ولذا لم يحكم بينهما لئلا يقع في أحد المحذورين(17).

يقول الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود -الكاتب المصري الشهير- في مقدمته لكتاب فدك للسيد القزويني: إنّ أرض فدك -نحلة أو ميراثاً- هي حقّ خالص لفاطمة لا يمكن الممارة فيه.... ثم قال: وإن طغى حديث "لا نورث".

حقّ أن نتساءل لماذا لم يعلن النّبي (صلّى الله عليه وآله) فيها حديثه هذا فيتصدق بها على قيد حياته؟ ولقد ثبت أنّه (صلّى الله عليه وآله) كان يملك قبيل وفاته سبعة دنانير خاف أن يقبضه الله وهي في حوزته فأمر أهله أن يتصدقوا بها، وألحّ عليهم ثم قال (صلّى الله عليه وآله): «ما ظنّ محمّد بربّه لو لقي الله وعنده هذه»، ثم أمر فتمّ التّصدق بها على الفقراء، فهل يمكن القول بأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي لم يغفل عن الدنانير على قلتها يغفل أمر الأرض وهي أكثر بكثير. وجاء في التنزيل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(18).

كلا لم يتصدّق محمّد بفدك لأنّها لا تقع في مجال تطبيق ذلك الحديث المنقول عن أبي بكر،  فلم تكن ملكاً له. بل كانت ملكاً لسواه... ملكاً لابنته الزهراء، لم ينازعها في ملكها أحد من الناس في حياة النّبي (صلّى الله عليه وآله).

أقول: خصوصاً بعد ما تلى عليهم {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}، وأمّا بعد مماته فلم ينازعها أحد من النّاس إلا أبا بكر نزعها من يدها وطالبها بالبيّنة، وصاحب اليد لا يطالب بالبينة والشهود، وحديث (لا نورث) لم يذكره غير أبي بكر، مدّعيا أنّه سمع الحديث من الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وأمّا عمر بن الخطاب فينقل الحديث عن أبي بكر ولا يدّعي أنّه سمعه من الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، فإذا كانت الصّدقة التي قيمتها سبعة دنانير للرسول (صلّى الله عليه وآله) يؤكد عليهم بإنفاقها ولم يسترح باله وهو في حالة مرض الموت حتى وضعت الصدقة في يده ثم ألح بإنفاقها فكيف بفدك التي تقدر بالدنانير والدراهم، ولم يخبر النّبي (صلّى الله عليه وآله) بقية أصحابه، وليس من اللازم على الأقل أن يخبر علياً (عليه السلام) بهذا الأمر الخطير، هذا عليّ (عليه السلام) يقول: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، كل باب منها يفتح ألف باب»، فهل من المعقول أن يسكت الرّسول عن هذه القضية الخطيرة وهو يعلم أنّه ستقع المنازعة بين أهله والمسلمين، بالله عليك حكّم عقلك وضميرك.

ويقول الشيخ محمود أبو ريّه في كتابه(19) أبو هريرة شيخ المضيرة، ونشرها في مجلّة الرّسالة المصرية العدد 518 من السّنة الحادية عشر عن موقف أبي بكر من الزهراء في هذا الميراث: "إنّنا إذا سلّمنا بأنّ خبر الآحاد الظّني يخصّص الكتاب القطعيّ، وأنّه قد ثبت أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (لا نورث)، وأنّه لا تخصيص في عموم هذا الخبر فإنّ أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة (رضي الله عنها) بعض تركة أبيها كأن يخصها بفدك، وهذا من حقه الذي لا يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للإمام (الخليفة) أن يخصّ من يشاء بما شاء، وقد خص هو نفسه الزبير بن العوام ومحمّد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النّبي (صلّى الله عليه وآله)، على أنّ فدكاً هذه التي منعها أبو بكر من فاطمة لم تلبث أن أقطعها الخليفة عثمان لمروان".

ونقول: صدَّق أبو بكر زوجات النّبي (صلّى الله عليه وآله) دون فاطمة الطاهرة المطهّرة الصدّيقة، المصدّقة، يُصدِّق زوجاته اللاتي لم تُعرف عنهنّ العصمة، وذلك حينما ادّعين ملكية البيوت من غير بينة ولا شهادة أحد لهنّ فيما ادّعين فكيف ملكت النّسوة الحجرات التي للنّبي (صلّى الله عليه وآله) بنص الآية الواردة في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}(20).

ولم تُملّك فاطمة فدكاً فيما ادّعته (مع أنّها صاحبة اليد مع ذلك أقامت البينة فردّت، نعم كتب لها أبو بكر كتاباً، ولكن عمر بن الخطاب لقيها في الطريق وأخذ الكتاب منها ومزّقه، فقال لأبي بكر: إذا صرفتها فيما تقول، فستأتي في يوم آخر تطالب بحق زوجها).

والتاريخ ساكت عن أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) أعطى الحجرات لزوجاته أو قسّمها بينهنّ، بل ذكر الطبري(21) بطرق متعددة أنّه قال (صلّى الله عليه وآله): «إذا متّ وجهّزتموني فضعوني في بيتي، وأشار إلى بيت عائشة»، ولو كان البيت مملوكا لعائشة لما صح منه أن ينسبه إلى نفسه، وإذا قيل بيت عائشة لمجرد سكناها فيه لا للملكية.

ومن المعلوم أنّ أمّهات المسلمين لهن التسع من الثمن؛ لأن الزوجة ترث الثمن من الدار فقط، فكيف ملكت عائشة وحفصة الدار كلها، ومنعتا فاطمة في حياتها، وبأيّ مسوّغ شرعي يدفن الشيخان في دار النّبي (صلّى الله عليه وآله)، فإن كان قبرهما بمقدار إرث ابنتيهما أي الثمن من التسع فالمفروض أن تبقيا في الدار(22) لأنّ بقيّة الدار رجعٌ إلى فاطمة، ومن بعدها إلى أبنائها الحسن والحسين وبناتها وبعلها، فكيف منع الإمام الحسن من الدفن بجوار جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو أحقّ بالدّفن بجوار رسول الله لقرب النّسب، وكونه ريحانته من الدنيا حتّى كان يقول (صلّى الله عليه وآله): «أحبّ الله من أحبّهما»، وحقّه أن يدفن عنده لأنّه الوريث للرسول من جهة أمّه فاطمة، فإن كنتم تقولون أنّه لا يرث وما تركه (صلّى الله عليه وآله) صدقة، فلماذا لا تقولون هذا بالنّسبة إلى أمهات المؤمنين، أو أنّ باءَكم تجرّ وباءُ أهل البيت لا تجرّ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنّ خصمكم الرسول الكريم، وفاطمة البتول، والحسن المظلوم.

قال السّمهودي في كتابه(23): "وفي الصحيح عن عروة بن الزبير أنّ عائشة أخبرته أنّ فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يقسّم لها ميراثها ممّا ترك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ممّا أفاء الله عليه فقال لها أبو بكر: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: لا نورث ما تركنا صدقة، فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفّيت، قال: وعاشت بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ستة أشهر" كما جاء في البخاري ومسلم وفي المستدرك للحاكم(24) بنفس السّند: أنّ فاطمة دفنت ليلاً، دفنها عليّ ولم يشعر بها أبو بكر".

وذكر الحلبي الشافعي في سيرته(25) والطبري في تاريخه(26):" احتجت بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على أبي بكر وقالت له: من يرثك قال أبو بكر: أهلي وولدي فقالت: فما لي لا أرث أبي، فقال لها: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول (لا نورث) فغضبت(رض) من أبي بكر وهجرته إلى أن ماتت، وقال: إنّها(رض) لقيته ولم تسلّم عليه ولا كلّمته".

وذكر ابن قتيبة(27) في تاريخه "أنّ أبا بكر وعمر استأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما، فأتيا علياً فكلماه، فأدخلهما عليها، فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها، فلم تردّ عليهما السلام".

أليس ردّ السلام واجب على المسلم، وهل يخفى ذلك على بنت الرسالة؟!

بل إنّها حوّلت وجهها إلى الحائط؛ لأنّها كانت ساخطة عليهما، وقالت لهما: «نشدتكما الله، ألم تسمعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي؟ قالا: نعم، سمعنا ذلك. قالت (عليها السلام): فإني أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، لئن لقيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأشكونّكما إليه، فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب باكياً أسفا... إلى أن قال: لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي»، وروى ذلك البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده(28)، ويكفينا هذا الحديث في رد جميع الأحاديث التي قالت أنّ فاطمة رضيت عن أبي بكر بعدما سمعت من أبي بكر أنّها صدقة، وطيّب خاطرها، فماذا يجيب أبو بكر وعمر يوم الحساب، وكيف يكون موقفهما أمام رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وهو القائل (صلّى الله عليه وآله) كما في الزمخشري في تفسيره(29) عند تفسير آية المودة في حديث «حرمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي»، بل ذكر ابن أبي الحديد في النهج(30) أنّها أوصت أن تدفن ليلاً بعدما خرج الرّجلان من عندها، وهي ساخطة عليهما، قائلة فإنّي أنشدك الله أن لا يصلّيا على جنازتي ولا يقوما على قبري، وروي أنّه (عليه السلام) عفا قبرها (عليها السلام) ورش أربعين قبراً في البقيع، ولم يرش قبرها حتى لا يهتدى إليه، وأنّهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها وإحضارهما للصلاة عليها...الخ.

وهذا ردّ على الشّرذمة الذين قالوا: إنّ أبا بكر صلى عليها!!

والعجب أنّه كيف لم يقدّر فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مع أنّها من مصاديق آية التطهير، والمباهلة، ومع وجود الأحاديث الكثيرة في حقها ومنها «فاطمة بضعة منّي، يرضى الله لرضاها ويسخط لسخطها»، وقد شهد هو وصاحبه على أنفسهما أنّهما سمعا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هذا الحديث فكيف رضي على نفسه سخط فاطمة، وكيف لم يقبل شهادة فاطمة (عليها السلام) مع أنّها لا تحتاج إلى أن تشهد على مالها، وهو قبل قول جابر بن عبد الله الأنصاري، في قضية ولم يطالبه بالبينة فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري(31): عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) قال: "لمّا مات النبي (صلّى الله عليه وآله) جاء أبو بكر مالٌ من قبل العلاء الحضرمي أمير البحرين، فقال أبو بكر: من كان له على النّبي (صلّى الله عليه وآله) دين أو كانت له قبله عِدةٌ فليأتنا، قال جابر فقلت: وعدني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه ثلاث مرات قال جابر: فعد في يدي خمسائة ثم خمسائة ثم خمسائة".

فهل من سائل لأبي بكر يسأله لماذا صدّق جابر بن عبد الله الأنصاري في ادعائه بأنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) وعده أن يعطيه هكذا وهكذا وهكذا فيملأ يديه ثلاث مرات دون أن يطلب منه شاهداً واحداً على ادعائه، فهل كان جابر (رضي الله عنه) أتقى لله وأبرّ من فاطمة سيّدة نساء العالمين، والأغرب من ذلك ردّ شهادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، والرّسول يقول في حقه: «عليّ مع الحق، والحق مع عليّ، يدور معه حيثما دار» «عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ».

وجاء في مسند أحمد بن حنبل عند قوله: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ}، وأنّها نزلت في عليّ (عليه السلام)، قال عليّ (عليه السلام) على منبر الكوفة: «أنا الصدّيق الأكبر».

وفي الصواعق المحرقة لابن حجر(32) أخرج ابن النجار عن ابن عباس أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) قال: «الصّديقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار صاحب ياسين، وعليّ بن أبي طالب».

فإذا كان عليّ (عليه السلام) بنصّ الآية والرواية صدّيق هذه الأمة، فكيف جاز لأبي بكر وعمر الرّد عليه والإنكار لشهادته.

ويذكر لنا التاريخ كما ينقل ابن أبي الحديد المعتزلي(33) "أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) قبل شهادة خزيمة بن ثابت وجعل شهادته شهادتين فسمّي خزيمة ذو الشهادتين، لأنّه شهد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حيث علم أنّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا يقول إلا حقّاً، فيجب على من علم أنّ فاطمة (عليها السلام) لا تقول إلا حقّاً قبول شهادتها".

وذكر المتقي الهندي(34) "عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقضون شهادة الواحد ويمين المدّعي، وجاء في صحيح مسلم(35) عن ابن عباس: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قضى بشاهد ويمين".

وقال النووي في الشرح(36) "جمهور علماء الإسلام من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار على أنّه يقضي بشاهد ويمين في الأموال، وبه قال أبو بكر، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعي، وأحمد، وفقهاء المدينة، وسائر علماء الحجاز، وجاء في ذلك الأحاديث"، فإذاً لا وجه لكلام أبي بكر لفاطمة جيئيني برجل آخر أو إمراة أخرى، لما اعترض عليها بأن أمّ أيمن إمراة أعجمية، وأما الحسن والحسين صغيران، والعجب هل نسي أبو بكر موقف الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع الحسنين عند المباهلة، وهل نسي أنّه نزلت فيهما آية التطهير. وهل نسي قوله (صلّى الله عليه وآله): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»، «الحسن والحسن سيدا شباب أهل الجنة»، والأعجب قول أبي بكر: إنّ علياً يجرّ النّار إلى قرصه، فهل هذا كلام يقال في حق أمير المؤمنين الذي قال رسول الله في حقه: «أقضاكم علي»، «علي مع الحق، والحق مع علي»، وممّن نزلت في حقه آية التطهير، والمباهلة، وهو نفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}، فهل أمير المؤمنين يشهد زوراً! أعوذ بالله، ألم يسمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الأحاديث الواردة في شهادة الزور، ويكفينا منها ما ذكره المتقي الهندي في كنزه(37): «من شهد شهادة زور فعليه لعنة الله».

 وروى أيضاً: «شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يبشّر بالنار»، فهل يتوقع من أبي بكر أن يرد شهادة فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والحسنين وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، مع ما قلنا من أنّها صاحبة يد لا تطالَب بالبيّنة، مع أنّها أتت بالبيّنة لكنّه ردّ بيّنتها، وهل يعقل أنّ الحديث الذي ذكره أبو بكر (لا نورث) تحدث به الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولم يسمعه غير أبي بكر، وهذا علي مع الرسول يسمع الأحاديث، وكذا ابن عباس حبر الأمة، وفاطمة، فهل كلهم لم يسمعوا، بالله عليك حكّم عقلك، فأيّ عذر تأتيان به يا ابن أبي قحافة ويا ابن الخطاب في يوم لا ينفع مال ولا بنون.

ولإتمام الحجّة على الخصم، وأنّ صاحب اليد لا يطالَب بالبيّنة، نذكر ما ذكره المتقي الهندي في كنزه(38) عن الشعبي  قال: «خرج علي بن أبي طالب إلى السوق فإذا هو بيهودي يبيع درعاً، فعرف علي الدّرع، فقال: هذه درعي سقطت عن جمل لي، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، ثم قال له اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين؟ فأتوا شريحاً.... قال شريح: ما تطلب يا أمير المؤمنين. قال: درعي سقطت عن جمل لي، فالتقطها هذا اليهودي، فقال شريح: ما تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي، فقال شريح: صدقت والله يا أمير المؤمنين إنّها لدرعك، ولكن لا بد من شاهدين، فدعا قنبراً مولاه، والحسن بن علي فشهدا أنّها لَدرعه، فقال شريح: أمّا شهادة مولاك فقد أجزناها وأمّا شاهدة ابنك لك فلا نجيزها، فقال علي: ثكلتك أمّك أما سمعت عمر يقول: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».

لاحظ الحديث أولاً: إنّ الدّرع لمّا كان بيد اليهودي لم يطالَب بالبيّنة لأنّه صاحب يد، بل طُلِبت البينة من علي بن أبي طالب، مع أن شريكاً صدّق أمير المؤمنين في قوله، ولكن حكم شريح حسب الموازين، فكيف طولبت فاطمة الصديقة الطاهرة المطهرة بالبيّنة، مع أنّها صاحبة يد وابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقاضي من قضاة المسلمين يعرف الميزان في الحكم فلا يطالب اليهودي لأنّه صاحب اليد، وخليفة المسلمين يطالب صاحبة اليد بالبيّنة مع أنّها الصّدّيقة المطهّرة.

وثانياً: لمّا أراد شريح ردّ شهادة الإمام الحسن (عليه السلام)، لأنّه لا تصحّ -على زعمه- شهادة الولد لوالده، وبَّخه الإمام أمير المؤمنين، أنّ منزلة الحسن ومكانته تختلف عن الآخرين، فلا يمكن قياس الإمام الحسن بالنّاس العاديين؛ لأنّ رسول الله بيّن مكانته ومنزلته، فكيف تُردّ شهادته.

والنّكتة اللطيفة الموجودة في هذا الحديث أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقل سمعت رسول الله، بل قال: قال عمر سمعت رسول الله، حتى لا يقال إنّ علياً زكّى ابنه، فمع أنّ الأحاديث في فضل الحسنين كانت متواترة بين المسلمين مع ذلك نسب إلى عمر، وللأسف الشديد ردّ شهادتهما عند أبي بكر وشهادة أبيهما أمير المؤمين ودعوى سيّدة نساء العالمين، فهم الخصماء عند الميزان، وبهذا لم تبق في البين أيّة حجة شرعيّة أو عرفية لغاصبي فدك وحقوق ذوي القربى ومن أهل البيت (عليهم السلام) وتمت الحجّة على المعذّرين لهم.

قال شريف مكة مشيراً إلى هذا المعنى:

جرّعاها من بعد والدها الغيظ

                        مراراً فبئس ما جرّعاها

 

ليت شعري ما كان ضرهما الحفظ

                        لعهد النّبي لو حفظاها

 

كان إكرام خاتم الرسل الهادي

                        البشير النّذير لو أكرماها

 

إنّ فعل الجميل لم يأتياه

                        وحِسان الأخلاق ما اعتمداها

 

أترى المسلمون كانوا يلمونهما

                        في العطاء لو أعطياها؟

 

كان تحت الخضراء بنت نبيّ

                        صادق ناطق أمين سواها؟

 

بنت من؟ أم من؟ حلية من؟

                        ويل لمن سنّ ظلمها وأذاها

 

وجاء في السّيرة(39): "نقل كلام سبط ابن الجوزي إنّ أبا بكر كتب لفاطمة بفدك ودخل عليه عمر فقال ما هذا فقال: كتاب لفاطمة بميراثها من أبيها، فقال: مماذا تنفق على المسلمين، وقد حاربتك العرب كما ترى ثم أخذ عمر الكتاب فشقه".

وقد أشار إلى ذلك ابن أبي الحديد في شرحه على النهج(40).

وأضاف: "فلما خرجت وبيدها الكتاب، فأخذ عمر منها الكتاب، ثم رجع إلى أبي بكر فقال: أعطيت فاطمة فدك وكتبت لها؟ قال نعم، فقال: إنّ علياً يجرّ إلى نفسه، وأمّ أيمن امرأة، وبصق في الكتاب فمحاه وخرقه. وكان حضور فاطمة عند أبي بكر وخطبتها بعد عشرة أيام من وفاة الرسول" (صلّى الله عليه وآله)، وأردف ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج(41) قائلاً:

"سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسّم ثم قال كلاماً لطيفا مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها، لجاءت إليه وادّعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن الاعتذار والموافقة بشيء، لأنّه سجّل على نفسه بأنّها صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة وشهود".

ثم قال ابن أبي الحديد تعليقاً على كلام أستاذه: "وهذا الكلام صحيح وإن كان أخرجه مخرج الدّعابة والهزل".

أما سرّ غصب فدك وحقوق أهل البيت (عليهم السلام) فقد بينه الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضّل بن عمر، قال: «لما بويع أبو بكر أشار عليه عمر أن يمنع علياً وأهل بيته، الخمس والفيء وفدكاً، فإنّ شيعته إذا علموا ذلك تركوه وأقبلوا إليك رغبة في الدنيا، فصرفهم أبو بكر عن جميع ما هو لهم».

تصلّب القوم أمام مطالبة فاطمة (عليها السلام):

كان الحاكمون قد اغتصبوا الخلافة من أهلها الشرعيين، واستولوا على مقاليد الأمور، والذي يغتصب الخلافة يسهل عليه أن يغتصب ما سواها، والذي يتحدى الله والرّسول لا يصعب عليه أن يتحدى فاطمة وعلياً والهاشميين، فعملوا على تقوية حكمهم، وإضعاف الجبهة المعارضة، وإرغامها بكل وسيلة، وإبعادها عن جميع الامتيازات الماديّة والمعنويّة.

أما الامتيازات المعنويّة: فقد أذابوها باستيلائهم على الحكم، ومنعهم بني هاشم أن تجتمع فيهم النّبوة والخلافة، قال عمر لابن عباس: كرهَت قريش أن تجتمع لكم النّبوة والخلافة، ذكره الطبري(42).

وأما الامتيازات الماديّة: فقد ذكر الإمام الصّادق للمفضّل بن عمر قول عمر لأبي بكر: إذا منع علي وأهل بيته من الخمس والفيء وفدكاً، فإنّ شيعته إذا علموا ذلك تركوه وأقبلوا إليك رغبة في الدنيا.

كما أنّهم إذا استولوا على الموارد الاقتصاديّة المهمّة لمناوئيهم، شغلوهم بمعيشتهم عن التفكير في السياسة والمنازعة في الخلافة، كما أرادوا إشغال معارضيهم بالأمور الجانبية دون التوغل في أعماق القضية الحقيقية وهي الخلافة الإسلامية.

ذكر السيد محسن الأمين في أعيانه(43): "أنّ الإمام موسى بن جعفر حدّ فدكاً لهارون عندما ألحّ عليه الرّشيد أن يأخذ فدكاً، فقال (عليه السلام): ما آخذها إلا بحدودها، قال الرّشيد وما حدودها؟ قال (عليه السلام): الحدّ الأوّل عدن، والحدّ الثّاني سمرقند، والحدّ الثّالث أفريقية، والحدّ الرّابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية، فقال الرّشيد فلم يبق لنا شيء فتحول من مجلسي، أي أنّك طالبت بالدولة الإسلامية في العصر العباسي بكاملها، فقال الإمام: قد أعلمتك أنّي إن حددتها لم تردّها".

وجاء في مجمع البحرين مادّة فدك:" أنّ علياً حدّها في زمانه بقوله حدّ منها جبل أحد، وحدّ منها عريش مصر، وحدّ منها سيف البحر، وحدّ منها دومة الجندل، وهذه الحدود التقريبية للعالم الإسلامي آنذاك".

ففدك تعبير ثانٍ عن الخلافة الإسلامية، والزهراء (عليها السلام) جعلت فدكاً مقدّمة للوصول إلى الخلافة فأرادت استرداد الخلافة عن طريقها كما قال علي بن الفاروقي أستاذ ابن أبي الحديد: لو أعطاها اليوم فدكاً بمجرّد دعواها لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه.

فدك في لسان الشعراء:

لدعبل بن علي الخزاعي قصيدة في هذا الأمر (وهو من الشّعراء المعروفين بالولاء والحبّ لأهل البيت (عليهم السلام) والمدافعين عنهم وإظهار مظلوميّتهم وذكر مصائبهم عن طريق أشعاره المرموقة) عندما دخل على الإمام الثّامن علي بن موسى الرّضا (عليه السلام) بمروٍ فقال: يا بن رسول الله، إنّي قد قلت فيك قصيدة وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك فقال (عليه السلام): هاتها، وهي مائة وواحد وعشرون بيتاً وهي المعروفة بالقصيدة التائية:

مدارس آيات خلت من تلاوة

                        ومنزل وحي مقفر العرصات

 

إلى أن تعرّض إلى قضيّة الفيء والخمس وفدك وغصبها قال:

أرى فيئهم في غيرهم متقسّما

                        وأيديهم من فيئهم صفرات

 

فلما بلغ إلى قوله هذا، بكى الإمام الرّضا (عليه السلام) وقال له: صدقت يا خزاعي.

ومن الشعراء المدافعين عن حريم أهل البيت وإظهار مظلوميتهم في قضيّة فدك الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان (الأمير أبو فراس الحمداني) كما جاء في أعيان الشّيعة هو أمير السّيف والقلم، كان شاعراً مجيداً، وبطلاً مقداماً، وكان موالياً لأهل البيت، ومتهالكاً في حبهم، وباذلاً للنفس والنفيس دونهم، ومدافعاً عنهم (عليهم السلام) في أشعاره الرائعة.

فقد دخل أبو فراس بغداد وأمر أن يشهر خمسمائة سيف خلفه وقيل أكثر، ووقف في العسكر وأنشد قصيدته الميمية التي تعرف بالشّافية:

الحق مهتضم والدين مخترم

                        وفي ءآل رسول الله مقتسم

 

يا للرّجال أما لله منتصر

                        من الطغاة؟ أما لله منتقم

 

ومن الشعراء المحبّين لأهل البيت ممن تعرّض إلى قضيّة فدك والفيء وغصبها، أبو الحسن علي بن عبد الله الوصيف النّاشئ الصغير البغدادي ومن أشعاره المعروفة:

بآل محمّد عرف الصّواب

                        وفي أبياتهم نزل الكتاب

 

وهم حجج الإله على البرايا

                        بهم وبحكمهم (وبجدهم) لا يستراب

 

ومن أشعاره المتضمنة لذكر الخمس والفيء والتّأسّف على وقوعه في أيدي غيرهم (عليهم السلام) وكون هذه من إحدى مصائب أهل البيت.

بني أحمد قلبي لكم يتقطع

                        بمثل مصابي فيكم ليس يسمع

 

فما بقعة في الأرض شرقاً ومغربا

                        وليس لكم فيها قتيل ومصرع

 

ظُلِمتم وقُتّلتم وقُسِّم فيئكم

                        وضاقت بكم أرض فلم يُحم موضع

 

وهناك الكثير من شعراء أهل البيت جزاهم الله خير الجزاء عن أهله، أنشدوا أشعاراً بهذا المضمون، وتكفينا أشعار دعبل الخزاعي أمام الإمام المعصوم (عليه السلام) وتأثّر الإمام (عليه السلام) بالبكاء، ولو كان كلام الخزاعي خلاف الواقع لا أقل لبيّن له أنّ فدكاً ليست لنا، وما فعله الخلفاء هو الصحيح، وحاشا الإمام علي بن موسى الرضا أن يخطّئ جدّه أمير المؤمنين وجدّته (عليهما السلام)، وأنهما طلبا شيئاً ليس لهما، فهذا أمر غير معقول أن يصدر من أهل بيت النّبوة وموضع الرسالة، فالقضيّة كانت عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم وشيعتهم وعلمائهم جميعاً كالشمس في رابعة النهار، ولا زالت عقيدة الشّيعة وعلمائهم في عصرنا إلى ظهور قائم آل محمّد (عليه السلام) كذلك وأنّ فدكاً غصبت من فاطمة، ومن لاحظ الأدلّة التي ذكرنا لا يبقى لديه ريب أو شك في أنّها غصبت من فاطمة لظروف سياسيّة ومن باب تقديم مصالحهم الشخصية فإنّ الملك عقيم، وحبّ الدنيا رأس كل خطيئة.

قال الشيخ الطبرسي في الاحتجاج، روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليهم السلام): «إنّه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة فدكاً وبلغها، لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لُمَّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مِشيتها مِشية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، فنيطت دونها مُلاءة، فجلست ثم أنَّت أنَّة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتجَّ المجلس، ثم أمهَلت هُنيئة حتى إذا سكت نشيج القوم، وهدأت فورتُهُم، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها وقالت: الحمد لله على ما أنعم، وله الشُّكر على ما ألهم...».

ونحن نذكر بعض المواضع الحساسة من الخطبة ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الاحتجاج.

«... وأنتم الآن تزعُمُون: أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهليّة تبغون {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}؟! أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلّى لكم كالشمس الضّاحية أنّي ابنته. أيّها المسلمون أَأُغلب على إرثي؟ يا بن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا إرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً! أفعلى عَمْدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}، وقال: فيما اقتَصّ من خبر يحيى بن زكريّا إذ قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} وقال: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} وزعمتم: أن لاحُظوة لي ولا إرث من أبي، أفخصَّكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟ فدونكها مَخطُومةً مرحُولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمّد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعُكم إذ تندمون، و{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}....إلخ »

لما أنتهت من خطبتها قال أبو بكر لها: وأنت يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء، صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك، ثم قال: فإنّي أشهد الله وكفى به شهيداً، أنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضةً ولا داراً ولا عقاراً وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة وما كان لنا من طُعمة فلوليّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه!! فهل ترين أن أخلف أباك؟.

فأجابته فاطمة قائلة: «سبحان الله! ما كان أبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن كتاب الله صادفا، ولا لأحكامه مخالفا! بل كان يتَّبع أثره، ويقفو سُوَرَه، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزُّور، إلى أن قالت: هذا كتاب الله حكماً عدلاً، وناطقاً فصلاً يقول: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} ويقول: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}، حتى  قالت: كلاّ {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}».

قال الشاعر مشيراً إلى خطبتها ورجوعها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام):

لم أنسها يوم وافت قبر والدها

                        خير البريّة من عرب ومن عجم

 

وافت وقد غصّ بالأنصار مسجده

                        والبغي قام بجمع فيه مزدحم

 

فأسدلوا دونها الأستار فابتدأت

                        لله تهدي بإفصاح من الكلم

 

كأنّها هي بالآيات تفرغ عن

                        فم النّبي أبيها في بيان فم

 

لم يهضموا فاطما إلاّ وقد علموا

                        بأنّ حيدراً منهم غير منتقم

 

ثم انثنت عن خطاب القوم راجعة

                        لبيتها تطأ الأذيال بالقدم

 

قالت أبا حسن ماذا القعود فقم

                        وحكِّم السّيف في الأعناق والقمم

 

ترضى بأنّ طغاة البغي تهضمني

                        وأنت تعلم ليس الهضم من شيمي

 

تبزّني نحلتي منّي بدين أبي قحا

                        فة حيث لم يبصر لدي حمي

 

فقال فاطمة صبراً فهنهي شجناً

                        وأطوى الجوانح أن تهجع على الكظم

 

إن الكفيل لمأمون ورزقك في

                        حكم الكتاب جليّ غير منكتم

 

وإرثك إن أضاعته العدا حنقاً

                        فلم يُضِع لك أجراً باري النسم

 

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم(44).

 

* الهوامش:

(1) الحشر: 6-7.

(2) الحشر: 2.

(3) الأنفال: 12.

(4) الدر المنثور: ج8، ص99.

(5) نفس المصدر: ج5، ص273-274.

(6) نفس المصدر: ج8، ص101.

(7) وهي قاعدة عقلائيّة مفادها الحكم بالبناء على ملكيّة المال لمن هو في يده، وقد أشار إليها أستاذنا آية الله الشيخ جواد التبريزي (قدِّس سرُّه) في كتاب فدك: 20، 27.

(8) معجم البلدان للحمويني، ج4، ص238 باب الفاء والدال.

(9) فتوح البلدان للبلاذري، القسم الأوّل: ص33.

(10) نهج الصّباغة في شرح نهج البلاغة للتّستري: ج5، ص324، نقلاً عن فتوح البلدان للبلاذري: ص46، ومعجم البلدان للحمويني: ج4، ص238.

(11) النّساء: 10.

(12) الوسائل، ج9، من أبواب ما يجب فيه الخمس، الباب1، الحديث1.

(13) وفاء الوفاء للسّمهودي، ج2، ص153.

(14) مسند أحمد بن حنبل، ج1، ص926.

(15) نهج الصّباغة في شرح نهج البلاغة للتّستري، ج5، ص308، منهاج البراعة، ج20، ص94.

(16) فدك، عبد الفتّاح عبد المقصود، ص890.

(17) ذكره السيد المرتضى في الفصول الممتازة، ج1، ص26، نهج الصّباغة للتّستري، ج5، ص329.

(18) التوبة: 34.

(19) أبو هريرة شيخ المضيرة، ط 3 دار المعارف: ص169.

(20) الأحزاب: 53.

(21) تاريخ الطّبري.

(22) إن قلت: قد يناقش المخالف في هذا بأن ما بقي لهما يكفي لسكناهما، أو يقول بأن دفن الشيخين لا يتزاحم مع سكانهما لأنّهما في باطن التراب وهما يعيشان فوق القرين؟

قلت: لو سلّمنا ما ذكر مع ذلك فالأمر مشكل؛ لأنه قلنا بأنّ الدار حق مشاع بين الورثة فيحتاج إلى الإذن من بقيّة الورثة، والحق أنّ الحسن والحسين وزينب لهم الحق في الدار من جهة سهم أمّهم فاطمة (عليه السلام) ومن المسلّم أنّه لم يكن برضاهم خصوصاً القضايا التي جرت على أمّهم فاطمة وأبيهم أمير المؤمنين من بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من حرق الدار وكسر الضّلع وغصب الخلافة.

(23) وفاء الوفاء(تاريخ المدينة).

(24) المستدرك للحاكم، ج3، ص162.

(25) السّيرة الحلبيّة: ج3، ص162.

(26) تاريخ الطّبري، ج3، ص361.

(27) الإمامة والسّياسة لابن قتيبة، ج1، ص30.

(28) البخاري، باب غزوة خيبر، ج5، ومسلم، ج5، ص154، ومسند أحمد، ج1، ص4ح4.

(29) الكشّاف، ج4، ص220.

(30) شرح النهج، ج16، ص104 ط بيروت.

(31) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل النّبي، وصحيح البخاري، باب من تكفّل عن ميّت دَينا، وفي كتاب الخمس في باب ما قطع النّبي (صلّى الله عليه وآله) من البحرين.

(32) ص76، ح30.

(33) شرح نهج االبلاغة، ج16، المجلّد الرّابع، ص101.

(34) كنز العمّال، ج7، ص23، كتاب الشّهادات، ح17786.

(35) ج5، ص128، باب وجوب الحكم بشاهد ويمين، كتاب الأقضية.

(36) كنز العمّال، ج17، ص18.

(37) ج17، ص18.

(38) ج7، ص24،كتاب الشّهادات، 17789-17795.

(39) السّيرة الحلبيّة، ج3، ص362.

(40) شرح نهج البلاغة، المجلّد 4، 16، ص101-102، ط بيروت، دار إحياء التراث.

(41) نفس المصدر: ص105.

(42) تاريخ الطّبري، ج5، وابن أبي الحديد، ج12،م3، ص94.

(43) أعيان الشيعة ج2، ص8.

(44) المصادر المعتمدة في هذا البحث: معالم الفتن ج1 ص314 لسعيد أيّوب، الإمامة والسياسة لابن قتييبة، الاحتجاج للطبرسي ج1 ص90-97، مجمع الزوائد للهيثمي ج7 ص49 عند تفسير الآية من سورة الإسراء، الأراضي لآية الله الشيخ محمّد إسحاق الفياض. ط النّجف، فدك للشّهيد آية الله السّيد محمّد باقر الصدر، وسائل الشيعة للحر العاملي (رحمه الله)، صحيح البخاري، صحيح مسلم، كنز العمّال للمتقي الهندي، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ط مصر بيروت، كتاب فدك للسّيد محمد حسن الموسوي القزويني، تفسير الكشّاف للزّمخشري، ج4، ص502، تفسير الأمثل ج5 ص395 و ج18 ص155-178، تفسير الفخر الرازي ج29 ص284، تفسير الميزان ج19 ص203،  النص والاجتهاد ص110و111، كتاب الخمس لآية الله الشيخ النوري الهمداني (دامت بركاته) ص121-145-183-213، سلسلة الآيات الباهرة في مناقب العترة الطاهرة لصاحب القلم.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا