آثار الذنوب

آثار الذنوب

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطاهرين، واللعن الدائم المؤبّد على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(1)، وجاء في دعاء كميل بن زياد - الّذي علّمه إيّاه أمير المؤمنين (عليه السلام)-: «اللهم اغفر لي الذنوب الّتي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب الّتي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب الّتي تغيّر النعم، اللهم اغفر لي الذنوب الّتي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب الّتي تنزل البلاء »(2).

اهتمّ الشارع اهتماماً بالغاً بمسألة الذنب، وخطورة الذنب، وتأثيره السلبيّ الكبير على نفس المذنب، وعلى حياته، وعلى غيره من الناس، وغير الناس، لذا جاءت الآيات الكثيرة الّتي تتحدّث عن المعاصي والذنوب، وعن الطاعة والالتزام؛ وذلك لأنّ ترك الذنوب، والتزام الطاعة، هو الهدف الّذي من أجله خُلق الإنسان، وبهما تتحقّق معرفته الصحيحة لربّه (سبحانه وتعالى)، ولذا يعبّر زين العابدين (عليه السلام) عن الذنب بأنّه فجيعةٌ عظيمةٌ: «ولا تفجعني فيه - وفي غيره من الليالي، والأيّام - بارتكاب المحارم، واكتساب المآثم»(3).

والهدف الأساس من تأكيد الآيات والروايات على خطورة الذنب - وتأثيره السلبيّ - هو: تقبيح الذنب في نفس الإنسان، وخلق حالة الكراهية له في قلبه، وتخويفه من الوقوع فيه؛ فإنّ الإنسان بمقدار ما يدرك من تأثيرٍ سلبيٍّ للذنب، فإنّه لا يقدم عليه، وهذا هو سرّ عصمة الأنبياء، والأئمة، والأولياء؛ حيث أطلعهم الله على حقائق الذنوب، فلا يقربوها؛ لما لهم من إدراكٍ كاملٍ بتأثيرها السلبيّ الخطير، ونحن في هذه الوقفة القصيرة نريد أن نقف على بعض الآثار السلبيّة للذنوب.

السقوط من عين الله:

«إلهي، إن كانت الخطايا قد أسقطتني لديك، فاصفح عنيّ بحسن توكّلي عليك»(4)، أوّل تأثيرٍ سلبيٍّ توجبه الذنوب هو: السقوط من عين الله، فإنّ الذنب يعني التجرّؤ على الله، ويعني الانقياد لأسر النفس والشهوات؛ لأنّ المذنب عبد نفسه، ورقٌّ لشهواته، ومن حاله كذلك يكون صغيراً وذليلاً عند الله، وربما كان في أعين الناس من المقدّسين، إلاّ أنّه في الميزان الواقعيّ ليس إلاّ عبداً ذليلاً لشهواته ورغباته، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أزرى بنفسه من ملكته الشهوة، واستعبدته المطامع»(5) ومعنى سقوط العبد من عين الله: تسافل كماله، وقلّة رعاية الباري له، وبخلافه، فإنّ العبد عندما يعتني به ربّه، ويتوجّه إليه، فإنّه يتكامل بذلك، ويعظم عند الله.

تأذّي أهل البيت (عليهم السلام):

أعطى الله أهل البيت (عليهم السلام) القدرة على الاطّلاع على جميع أعمال العباد، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(6) أنّ (المؤمنون) هم أهل البيت (عليهم السلام)، لذا فإنّهم يفرحون إذا ما عمل الناس صالحاً، ويتأذّون فيما إذا عمل الناس سوءاً، وقد ورد عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، يقول: «مَا لَكُمْ تَسُوءونَ رَسُولَ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله)؟! فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ نَسُوؤُهُ؟! فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيْهِ؟! فَإِذَا رَأَى فِيهَا مَعْصِيَةً سَاءَهُ ذَلِكَ، فَلا تَسُوءُوا رَسُولَ اللهِ، وَسُرُّوهُ»(7)، وهكذا الحال بالنسبة إلى جميع أهل البيت (عليهم السلام) كما تذكر الروايات، فقد جاء عن يعقوب بن شعيب، قال: سألتُ أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ) عن: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}. قال: «هم الأئمّة»(8)، ويقول الشيخ الجواديّ الآمليّ في قوله تعالى ـ حكايةً عن لسان إبراهيم ـ: {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ}(9): إنّ هذا الخطاب ليس خاصّاً بإبراهيم فحسب، وليس خاصّاً بحال عبادة الأصنام، بل شأن كلّ وليٍّ - في كلّ زمانٍ ومكانٍ- أن يقول لكلّ من يعصي: أفٍّ لك، ولما تعبد. فصاحب الزمان (عليه السلام) (وعجل الله له الفرج) الآن يقول لكلّ من يتجرّأ على الله: أفٍّ لك، ولما تعبد. فإنّ كلّ من يعصي الله عَبَدَ غيره، وأشرك.

تهيئة النفس للسقوط الكبير:

الذنوب تهيّئ النفس للوقوع في المنزلقات الخطيرة الّتي ربما لا يفتح للعبد بعدها بابٌ للرجوع، فالذنب على الذنب يسوّد القلب، ويهيّئ النفس لحالة الانحراف، والسقوط الكبير؛ لأنّ القلب كلّما فقد النور قلّت حصانته، وتهيّأ للوقوع في الذنب الكبير، كالشرك، والخروج على الإمام (عليه السلام)، كما حصل مع بعض أهل الكوفة مثلاً، وقد حذّرتْ روايات أهل البيت (عليهم السلام) من هذا الخطر الكبير، عن أبي بصيرٍ قال: سمعتُ أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتةٌ سوداء، فإن تاب انمحتْ، وإن زاد زادتْ، حتىّ تغلب على قلبه، فلا يفلح بعدها أبداً»(10)، من هنا يعلم الإنسان أنّه لا مبرّر للتساهل في أمر الذنوب، وإن صغرتْ.

عن الإمام الرضا (عليه السلام): «الصغائر من الذنوب طرقٌ إلى الكبائر، ومن لم يخف الله في القليل، لم يخفه في الكثير»(11).

الضعف عن تشخيص الحقّ:

قال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً}(12)؛ لأنّ: «المؤمن ينظر بنور الله»(13)، و«أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع»(14)، فكما أنّ التقوى من أسباب القدرة على التمييز بين الحقّ والباطل، فإنّ الذنوب من أسباب فقدان القدرة على تشخيص الحقّ من الباطل؛ لأنّ الذنوب تثير غباراً على قوّة العقل والفطرة الّتي أودعها الله في الإنسان لإدراك الحقّ(15).عن رسول الله  (صلَّى الله عليه وآله): «من قارف ذنباً فارقه عقلٌ لا يرجع إليه أبداً»(16)، وما أحوج الإنسان في حياته لتمييز الحقّ من الباطل، في الأفكار، والأفعال، وربما يؤدّي به ضعفه عن تمييز ذلك إلى التردّي، والانحطاط، واختيار سبيل الهاوية، والضلال، سيّما في الحالات المصيريّة.

فقدان المحبّة من القلوب:

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}(17)، وهذا وعدٌ إلهيٌّ بأنّ الله سيجعل لمن آمن واتّقى حبّاً في قلوب العباد، في الدنيا والآخرة، ولذا ورد في تفسير هذه الآية أنّ المراد به هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، من باب ذكر المصداق الأكمل، فإنّ الإنسان كلّما طهر وكمل أحبّه الناس أكثر؛ لأنّ الإنسان مجبولٌ على حبّ الكمال والطهر، وبعكس ذلك، فإنّ الإنسان كلّما تلوّث أكثر، قلّت محبّة العباد له، وهذا أحد أضرار الذنوب، فإنّ الذنب يلوّث الإنسان، ويتسافل به، ومن فوائد حبّ الناس للعبد في الدنيا قدرته على التأثير في قلوبهم، وهدايتهم، والاستعانة بهم على الخير، وقمع الظلم، فمن دون المحبّة لا يتحقّق ذلك، ولذا ورد في بعض الأدعية الطلب من الله بأن يجعل الإنسان محبوباً بين الناس، يقول زين العابدين (عليه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق: « اللهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ، وأبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبّة».

كراهية الحقّ والعمل الصالح:

تجعل الذنوب نفس الإنسان تميل إلى الباطل، وتأنس به، وتحبّه، وترغب فيه، فيرى نفسه منجذباً نحو الباطل، والعمل الطالح، ويرى نفسه كارهاً للحقّ والعمل الصالح، فلا يطيق أن يجلس مع ربّه ليناجيه، ولا يطيق أن يقوم من نومه ليصلّي، ولو فعل لكان ذلك على نفسه ثقيلاً جدّاً، وليس ذلك إلاّ لأنّ نفسه أنست بالباطل، ولم يعد يحبّ الخير، يقول زين العابدين (عليه السلام) في خطابه لربّه: «أو لعلّك رأيتني آلفُ مجالس البطّالين، فبيني وبينهم خلّيتني؟!»(18)، فإنّ من أسباب الألفة لمجالس البطّالين الذنوب، والمعاصي، والتجرّؤ على الله، وكثيرٌ من الناس يجد من نفسه النفور من الحقّ، وعمل الخير، ولا يجد مبرّراً واضحاً لذلك، وربما يكون ساخطاً على هذه الحالة الّتي يشعر بآثارها السيّئة في حياته ومصيره الأبديّ، ولو تأمّل هذا الإنسان قليلاً لوجد أنّ من أهم أسباب ذلك هو اقتراف الذنوب؛ لأنّ النفس الطاهرة تميل إلى الحقّ، فإذا تلوّثت مالت إلى الباطل على قاعدة: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}(19).

هتك العصم:

جاء في دعاء كميلٍ: «اللهم اغفر لي الذنوب الّتي تهتك العصم»، يقول المولى المازندرانيّ: «عصم كعِنَب، جمع عصمة، وهي خصلةٌ مانعةٌ من المعصية، شبهها بالساتر بقرينة الهتك، والذنوب إذا كثرت – وتراكمت - تهتكها، وترفعها بالمرّة، حتىّ لا يبالي المذنب بأيّ ذنبٍ ورد، ولا بأيّ وادٍ هلك، وقد يصدر الهتك من ذنبٍ واحدٍ كشرب الخمر»(20)، وليس للإنسان من مانعٍ عن ارتكاب المعاصي إلا هذه العصم الّتي جعلها الله في نفس الإنسان، فإذا فقدها فما الّذي بقي له؟! لا يبقى له إلاّ دواعي الفجور والعصيان، فلا تعود للإنسان فائدةٌ أو قيمةٌ تُقدّر، فيكون ـ بعد ذلك ـ الموتُ أولى له، « فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان، فاقبضني إليك، قبل أن يسبق مقتك إليّ، أو يستحكم غضبك عليّ»(21).

إنزال البلاء:

من رحمة الله بعبده أن يوجّهه نحوه بأيّ وسيلةٍ كانت؛ لكي يرزقه السعادة السرمديّة، وجعل لذلك وسائل كثيرةً، فأرسل له الرسل، وأعطاه فطرةً تحبّ الخير، وفي بعض الأحيان يوفّقه لجذباتٍ خاصّةٍ، فقد ورد: «إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحاتٍ، ألا فتعرّضوا لها»(22)، وأحياناً يرفع غفلته بأخذ عزيزٍ عليه؛ ليذكّره بالموت والآخرة، ومن وسائل التذكير طريقة إنزال البلاء والعذاب، كالزلزال، والفقر، والمرض، وأمثال ذلك؛ ليرجع عن غفلته، وتكبّره، وعصيانه لربّه، وهذا منطق المحبّ الّذي لا يقبل لمحبوبه إلاّ الخير، وإن كان ذلك بمظهر الغضب، فإنّ غضب الله عين رحمته؛ لأنّ رحمته سبقت غضبَه، «يا من سبقت رحمتُه غضبَه»(23)، وهذه واحدةٌ من فلسفات إنزال العذاب، نعم، أحياناً يكون العذاب للاستئصال والإفناء، وليس للتنبيه، كما حصل مع بعض الأمم السالفة، مثل قوم لوطٍ، وهذا لا يكون إلاّ حينما يكون المغضوب عليه لا يُرجى منه خيرٌ ولا هدايةٌ، قال تعالى - على لسان نوح -: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاّ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً}(24).

وقد ذكرت الروايات بعض الذنوب الّتي لها خصوصيّة إنزال البلاء، فقد ورد عن الإمام عليّ بن الحسين (صلَّى الله عليه وآله): «... والذنوب الّتي تنزل البلاء: ترك إغاثة الملهوف، وترك معاونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر»(25). وجاء عن الرضا (عليه السلام): «كلّما أحدث الناس من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون»(26). وعن الإمام عليٍّ (عليه السلام): «مجاهرة الله سبحانه بالمعاصي تعجّل النقم»(27).

حبس الدعاء:

العبد محض فقرٍ، وحاجةٍ، وخالقه محض الغنى، ومنه كمال العطاء، والفيض، لذا فإنّه ليس للعبد إلاّ اللجوء إلى ربّه، والتضرّع له، والطلب منه سبحانه؛ ليسدّ حاجته، وفقره، وإلاّ لو ترك الخالقُ عبدَه لهلك، وضاع، وتسافل، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(28)، وقال: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}(29)، فمن الخطر العظيم أن يحُبس دعاء العبد عن ربّه، فما هي حيلته عند ذلك؟! وما الّذي يفعله العبد عندما يسدّ عليه طريق الطلب والدعاء؟! يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في منجاته: «مولاي، يا مولاي، أنت المعطي، وأنا السائل، ومن يرحم السائل إلا المعطي؟!»(20)، والذنوب من أسباب حبس الدعاء، وعدم الاستجابة للدعاء، لذا فعلى العبد أن يبدأ كلّ دعاءٍ له بطلب التوبة؛ لتفتح له أبواب الإجابة، ويكون طاهراً متهيّئاً للجلوس بين يدي الله (سبحانه وتعالى)، وهذا من دواعي الخوف، والحذر من الذنوب.

وقوع المحذور:

رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «كتب رجلٌ إلى الحسين - صلوات الله عليه -: عظني بحرفين. فكتب إليه: من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو، وأسرع لمجيء ما يحذر»(31)، وهذه واحدةٌ من سلبيّات الذنوب، فعمر بن سعد (لعنه الله) مثلاً كان يرجو بقتل الحسين (عليه السلام) ملك الريّ، والرئاسة، والشهرة، والجاه، لكنّه بذنبه فوّت عليه ما يريد، وجاء ما يحذر من الذلّ، والهوان، والضعة في أعين الناس، حتىّ قُتل شرّ قتلةٍ، فلا فائدة في الذنب مطلقاً، حتىّ لذّته الدنيويّة مشوبةٌ بالمتاعب، والمنغّصات، لذا فإنّ العاقل لا يقدم على هكذا تجارةٍ؛ لأنّها تجارةٌ خاسرةٌ، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام): «إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا، فكيف الذنوب؟! وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض»(32).

الذلّ في الدنيا والآخرة:

الذنب، والعصيان، واتّباع الهوى، والعبوديّة للشهوات، تجعل الإنسان ذليلاً، ضعيفاً؛ فالإنسان المطيع لشهواته يشعر في نفسه دائماً بالصغار والذلّ؛ لأنّه أسير الشهوة، أسير الضعف والهوان، بينما يشعر الإنسان المتّقي المتحرّر من كلّ ما سوى الله بالعزّة، والقوّة، والكرامة؛ لأنّه متحرّرٌ، وعزيزٌ، نفسه عزيزةٌ، لا يبيعها إلاّ بالجنّة، أو لقاء الله، هذا في الدنيا، أمّا في الآخرة فالأمر أوضح، حيث يكون المذنب - الّذي لم يتب من ذنوبه – مفضوحاً، مكشوفاً عن قبائحه في أقبح الصور، فالذنب سببٌ للذلّ في الدنيا، والآخرة، وكذلك فإنّ غير المتّقي لا يشعر بالعزّة بين الناس؛ لأنّه لا يستند إلى ركنٍ وثيقٍ، وليس له الرابطة الوثيقة مع مصدر العزّة، والقوّة، وقد وضّح أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الحقيقة بقوله (عليه السلام): «من تلذّذ بمعاصي الله أورثه الله ذلاًّ»(33).

قسوة القلب:

خلق الله الإنسان، وأعطاه قلباً رقيقاً، متفاعلاً مع ما يلائمه من طهرٍ، وجمالٍ، وكمالٍ، فبالقلب يبكي شوقاً للقاء الله، وبالقلب يبكي خجلاً من الله، وبالقلب يتوجّه في صلاته؛ ليأنس بربّه، وبالقلب يندم على ما فرّط في جنب الله، وبالقلب يرقّ على أولاده فيرحمهم، وبالقلب يرقّ على المحرومين فيؤازرهم، وبالقلب يرحم زوجته، وبالقلب... فإذا قسى القلب قلّ تفاعله، وتحرّكه، فإنّ قسوة القلب حالةٌ مرضيّةٌ تصيب القلب، فتشلّ وظيفته الأساسيّة في حياة الإنسان، ألا وهي التفاعل مع الخيرات، والانجذاب لها، فإذا فقد الإنسان هذه الحالة لم يعد فيه خيراً، عن الإمام علي (عليه السلام): «ما جفّت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب»(34)، فيصير كالأسد الضرغام على أولاده، وزوجته، والضعفاء، ولا يعرف للخشوع في العبادة معنى.

زوال النعمة:

النعمة تارةً تكون مادّيّةً، كالأكل، والأولاد، والمسكن، وأخرى تكون معنويّةً، كالتوفيق لصلاة الليل، وجهاد الظالمين، أمّا النعم المادّيّة فقد جعلها الله وسيلةً للإنسان؛ ليصرفها في طريق الخير، عن علي (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} قال: «لا تنسَ صحّتك، وقوّتك، وفراغك، وشبابك، ونشاطك، أن تطلب بها الآخرة»(35)، أمّا النعم المعنويّة فهي عين التوفيق للخير والصلاح، ممّا يورث السعادة السرمديّة، والذنوب من أسباب زوال النعمتين؛ الدنيوية، والمادّيّة، عن عليٍّ (عليه السلام): «ما زالت نعمةٌ، ولا نضارة عيشٍ إلا بذنوبٍ اجترحوها، إنّ الله ليس بظلاّمٍ»(36). هذا بالنسبة لزوال النعم المادّيّة، أمّا بالنسبة لزوال النعم المعنويّة فقد رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ الرجل يذنب الذنب، فيُحرم صلاة الليل، وإنّ العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم»(37)، وعن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «اتّقوا الذنوب؛ فإنّها ممحقةٌ للخيرات، إنّ العبد ليذنب الذنب، فينسى به العلم الّذي كان قد علمه»(38)، فإنّ العلم من أعظم النعم المعنويّة.

 

الضنك في المعيشة:

قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}(39) يقول العلاّمة الطباطبائيّ (قدِّس سرُّه) في تفسير قوله تعالى:{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}: (أي: ضيّقةً، وذلك أنّ من نسي ربّه، وانقطع عن ذكره، لم يبقَ له إلاّ أن يتعلّق بالدنيا، ويجعلها مطلوبه الوحيد الّذي يسعى له، ويهتمّ بإصلاح معيشته، والتوسّع فيها، والتمتّع منها، والمعيشة الّتي أوتيها لا تسعه، سواء كانت قليلةً أو كثيرةً؛ لأنّه كلّما حصل منها واقتناها لم يرضِ نفسه بها، وانتزعت إلى تحصيل ما هو أزيد وأوسع من غير أن يقف منها على حدٍّ، فهو دائماً في ضيق صدرٍ، وحنقٍ ممّا وجد متعلّق القلب بما وراءه، مع ما يهجم عليه من الهمّ، والغمّ، والحزن، والقلق، والاضطراب، والخوف بنزول النوازل، وعروض العوارض، من موتٍ، ومرضٍ، وعاهةٍ، وحسد حاسدٍ، وكيد كائدٍ، وخيبة سعيٍ، وفراق حبيبٍ، ولو أنّه عرف مقام ربّه ذاكراً غير ناسٍ، أيقن أنّ له حياةً عند ربّه لا يخالطها موتٌ، ومُلْكاً لا يعتريه زوالٌ، وعزّةً لا يشوبها ذلّةٌ، وفرحاً، وسروراً، ورفعةً، وكرامةً لا تُقدّر بقدرٍ، ولا تنتهي إلى أمدٍ، وأنّ الدنيا دار مجازٍ، وما حياتها في الآخرة إلاّ متاعٌ، فلو عرف ذلك قنعتْ نفسه بما قُدّر له من الدنيا، ووسعه ما أوتيه من المعيشة، من غير ضيقٍ، وضنكٍ»(40).

الفضيحة في الدنيا:

ومن آثار الذنوب في الدنيا الفضيحة في الدنيا، فإنّ العبد يذنب، ويتجرّأ، ويعصي وهو في سترٍ من الله (سبحانه وتعالى)، حتىّ يصل إلى مرحلةٍ من التجرّؤ يعاقبه الله بفضحه في الدنيا قبل الآخرة، فيشعر بالذلّ، والصغار، وهو الخزي في الدنيا، الّذي أشارتْ إليه الروايات، ويرى بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ}(41) أنّ المراد من العذاب مرّتين هو الفضيحة في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وقد ورد عن سيف بن عميرة، قال: قال الصادق (عليه السلام): «إِنَّ للهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ أَرْبَعِينَ جُنَّةً، مَتَى أَذْنَبَ ذَنْباً كَبِيراً رَفَعَ عَنْهُ جُنَّةً، فَإِذَا اغْتَابَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ بِشَيْ‏ءٍ يَعْلَمُهُ مِنْهُ انْكَشَفَتْ تِلْكَ الْجُنَنُ عَنْهُ، وَيَبْقَى مَهْتُوكَ السِّتْرِ، فَيَفْتَضِحُ فِي السَّمَاءِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلائِكَةِ، وَفِي الأَرْضِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، وَلا يَرْتَكِبُ ذَنْباً إِلا ذَكَرُوهُ، وَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِهِ: يَا رَبَّنَا، قَدْ بَقِيَ عَبْدُكَ مَهْتُوكَ السِّتْرِ، وَ قَدْ أَمَرْتَنَا بِحِفْظِهِ. فَيَقُولُ (عزَّ وجلَّ): مَلائِكَتِي، لَوْ أَرَدْتُ بِهَذَا الْعَبْدِ خَيْراً مَا فَضَحْتُهُ، فَارْفَعُوا أَجْنِحَتَكُمْ عَنْه»(42).

والحمد لله ربّ العالمين.

 

* الهوامش:

(1) الروم:41.

(2) دعاء كميل بن زياد.

(3) مفاتيح الجنان: دعاء يوم الأحد.

(4) المناجاة الشعبانيّة لأمير المؤمنين (عليه السلام).

(5) ميزان الحكمة: التحذير من رقية الشهوة/ باب الهوى.

(6) التوبة:105.

(7) أصول الكافي: ج1/باب عرض الأعمال على الرسول والأئمة (عليهم السلام).

(8) نفس المصدر.

(9) الأنبياء:67.

(10) الكافي: ج2/باب الذنوب.

(11) ميزان الحكمة: الذنب/الصغائر طرقٌ إلى الكبائر.

(12) الأنفال:29.

(13) بحار الأنوار: ج7/323.

(14) نهج البلاغة: الحكمة 219.

(15) راجع تفسير الأمثل: تفسير الآية.

(16) ميزان الحكمة: باب الذنب/العاقل لا يذنب.

(17) طه:69.

(18) دعاء أبو حمزة الثماليّ: مفاتيح الجنان.

(19) الإسراء:84.

(20) شرح أصول الكافي: المولى محمّد صالح المازندرانيّ/ج10/428.

(21) الصحيفة السجّاديّة: دعاء مكارم الأخلاق.

(22) البحار:83/352.

(23) الصحيفة السجّاديّة: دعاؤه في عرفة.

(24) الجن:27.

(25) الموسوعة الفقهيّة الميسّرة: الشيخ محمّد عليّ الأنصاريّ/3/23.

(26) مكاتيب الرسول: الأحمديّ الميانجيّ: ج3/573.

(27) ميزان الحكمة: الذنب/المجاهرة بالذنب.

(28) غافر:60.

(29) الشعراء:77.

(30) مناجاة أمير المؤمنين في مسجد الكوفة: مفاتيح الجنان.

(31) ميزان الحكمة: الذنب/من حاول أمراً بمعصية الله.

(32) ميزان الحكمة: الذنب/العاقل لا يذنب.

(33) ميزان الحكمة: الذنب/ الابتهاج بالذنب.

(34) ميزان الحكمة: الذنب/ دور الذنوب في فساد القلب.

(35) تفسير الميزان: ج16/85.

(36) ميزان الحكمة: الذنب/ دور الذنوب في زوال النعمة.

(37) نفس المصدر.

(38) نفس المصدر.

(39) طه:124.

(40) تفسير الميزان: ج14/225.

(41) التوبة:101.

(42) مستدرك الوسائل: باب تحريم اغتياب المؤمن صدقاً.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا