مقدِّمة:
ارتكزت حركات الأنبياء والأئمةi على أساس التَّوحيد، وتمحورت حول مبدأ التمسُّك التَّام بولاية الله سبحانه، وتولِّي أوليائهi، وهذا من أبده البديهيَّات التي تشكِّل منطلقاً أساساً في تفسيرِ تفاصيل حركاتهمi، إلا أنَّنا نبقى بحاجةٍ إلى شيءٍ من التَّحقيق في هذا الأساس لتوسيع مدى الاستفادة، وللتمكِّن من التنبُّه للمصاديق الخفيَّة من تطبيقاته، وهذا ما أريدُ أن أقفَ عليه عبر ثلاث نقاط.
النقطة الأولى: معنى التَّولي وموقعيته.
النقطة الثانية: الاتجاه الصحيح لبوصلة التَّولي.
النقطة الثالثة: تنظير وتأسيس لمفهوم التَّولي على هدي قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(هود:113).
النُّقطة الأولى: معنى التَّولي وموقعيَّته
أولاً: المعنى اللُّغوي للتَّولِّي
التَّولي من: «الوَلْي»، قال المصطفوي: "والتحقيق: أنّ الأصل الواحد في المادّة هو: وقوع شيء وراء شيء مع رابطة بينهما.. وأمّا مفاهيم القرب والحبّ والنصر والمتابعة: فمن آثار الأصل باختلاف الموارد. فمن مصاديقه: الولاية بمعنى تدبير أمور الغير، والقيام بكفاية جريان حياته ومعاشه، فإنّ الوليّ والمتولَّى واقع وراء المتولَّى عليه، والرابطة بينهما تدبير الأمور، والقيام به..
ومن مصاديق الأصل: "التَّولي"، وهو: اختيار الولاية بأن يختار استقراراً وراء المتولَّى عليه حتّى يدبّر أموره..
ويستعمل التَّولي بمعنى الإدبار والإعراض، وهذا من لوازم الولاية، فإنّها تلازم التحوّل والانحراف عن موارد أخر، فالنظر في المقام إلى جهة الولاية والوقوع وراء شيء، ويفهم مفهوم الإعراض التزاماً. مضافاً إلى أنّ الإعراض أيضاً يكون من مصاديق الأصل، إذا كان بمعنى الوقوع فيما وراء الأمر الأوّل، أي الخروج عن البرنامج المعهود إلى ورائه..
فظهر أنّ الأصل الثابت في المادّة: هو الوقوع فيما وراء شيء، سواء كان بنظر التربية والتدبير كما في مقام الولاية، أو بنظر الخلاف والعداوة والإعراض، كما في وقوع في محلّ في مقابل شيء، وفي جهة الإدبار منه"[1].
والنَّتيجة أنَّ للتوليِّ جهتين من حيث المعنى، وكلاهما مستعملتان في كلمة (التَّولي)، الأولى: اتخاذ الولِّي واختياره، وهذا يعني التبعية، والرجوع، والأخذ.
والثانية: الإعراض، وهو إمَّا مفهوم من الأصل، أو أنَّه معنى يلازم المعنى الأول، ناتج عنه؛ حيث إنَّ التَّوجه إلى جهة يلازم الإعراض عمَّا يقابل هذه الجهة.
والمعنى الذي نريد أن نتكلَّم عنه هنا هو المعنى الأول، وهو:
(الاتِّباع، والاعتماد، والرُّجوع إلى الولي بعد اتخاذه، واعتماده، والأخذ منه في شؤون الحياة كمستند ثابت).
وإن كان المعنى الثَّاني (الإعراض) مقصوداً بالتَّبع أيضاً.
ثانياً: تحليل موقعيَّة التَّولي في الحياة
في تحليل مسألة التَّولي -بعد تحديد معناه-، نذكر ثلاثة من الأمور المتسلسلة:
أولاً: إنَّ كون الإنسان تابعاً آخذاً -متَّكئاً على غيره في شؤونه- تعتبر مسألة وجدانية، وذلك بغض النَّظر عن درجة التبعية، ومصداقها، ومجالها، فالملحوظ -الذي يحكم به الوجدان- أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش مستقلاً مطلقاً بمعزل عن أي اعتماد واتباع وأخذ من أطراف أو أشخاص أخرى، فهو يرجع -في الجملة- إلى معارف الآخرين، وتجاربهم، وأعرافهم، وتواضعاتهم، وأفعالهم، وسلطانهم، واقتدارهم، وغير ذلك.
ثانياً: ليس المقصود من عدم خلو أحد من التبعية والاتكاء هنا هو افتقاد الكلِّ للخيار في القرار مطلقاً، أو ما يتكلَّمون عنه -ويحاربونه- من التطبيل والتخدير بتبعية القطيع الحاصلة بالعاطفة بعيداً عن التفكير والتمحيص، فإنَّ هذا -وإن كان أنموذجاً للتبعية المتحقِّقة عند كثير من الناس- إلا أنَّه أنموذج سيء للتبعية، لا نرمي به الجميع، بل المقصود هو: حالة الرجوع والاطمئنان والسكون للأفكار، والأفراد، والأفعال، والهيمنات، والتفاعل مع البيئة، والمحيط، والمناهج؛ للأخذ منها، ولتبيّن الرأي، ولممارسة السلوك، ولتحصيل المصالح، ولتجنِّب المفاسد.
ولو كان ذلك الرجوع في مقدمات الأفكار -أو مقدّمات السلوكيَّات والتوافقات، والتعاقدات- إلى حين انقلابها إلى قناعات، أو اتفاقيَّات، أو عقيدة يستقلُّ بها الفرد عن تقليد الآخرين، فقد يكون الإنسان مالكاً خيارَه في الفكرة، إلا أنَّه كان تابعاً في التوصِّل إليها بالنظر في أفكار الآخرين، والتمييز بينها، بل قد يكون مبتدعاً لفكرة لم يسبقه إليها أحد، مختلقاً لها، إلا أنَّه كان تابعاً في كيفية تشكيل أصولها مادةً وهيئةً، بانياً على جهود الآخرين، مطوِّراً لها، متكئاً عليها بنحو عام.
وإذا كان هذا هو الحال في الأفكار، فالحال في القرارات العملية والسلوكيَّات أوضح؛ لأنَّها مترشِّحة عن الأفكار والقناعات، وهكذا نرى العالم كلَّه مبنيّاً على أساس اتفاقيات وعقود وتحالفات يرجع فيها الأضعف للأقوى، ومن لا يكون الطرف المتعاقد فيها مباشرة، فإنَّه متأثِّر بها لا محالة، منحاز إليها أو إلى ما يقابلها، وهذا يبين أنَّ التَّولي مسألة حاكمة في العلاقات الخاصَّة والعامَّة، الفرديَّة والمجتمعيَّة.
إذاً: المقصود من التَّولي -الذي لا يخلو منه أحد- هو حالة الاستناد، والانتماء، والرُّكون، والأخذ، وقد يدِّعي الكثيرون حالة الاستقلال التام، إلا أنَّهم غافلون في ذلك عن حالة الاتكاء المسبقة التي أوصلتهم إلى هذا الادعاء، فتجد أكثرهم مقلِّدين، منقادين، تابعين لمن دعى إلى خدعة الاستقلال التام.
ثالثاً: مع فرضية عموم فكرة الأخذ والتَّولي على الجميع، يأتي هنا هذا التساؤل: من أين جاء هذا الاتفاق الفكري أو العملي -أو هما معاً- على مسألة التَّولي؟!
ويمكن الإجابة عن ذلك بمستويين:
المستوى الأوَّل: الفطريَّة
أي أنَّ تركيبة الإنسان من الأساس مبنيَّة على الحاجة، والضعف، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}(النساء:28)، فهي مفطورة على استجلاب المصالح، والنُّفرة من المفاسد والنواقص بالرجوع إلى الأقوى الذي يمتلك المصلحة، ويقدر على جلبها، ويتمكَّن من الإبعاد عن المفسدة الحاصلة فعلاً، أو المختلقة التي قد يفتعلها المأخوذ منه.
والنفس البشرية نشّادةٌ للكمال المادي، والمعنوي، وقد أُودعت هذه الفطرة -وكُوِّنَت هذه التركيبة- من أجل حفظ وتسيير الإنسان في حياته؛ ليكون لها معنى، ولحفظ النوع، وللتحفيز، فتصوَّر إنساناً لا يرغب في المكاسب، ولا ينفر من المفاسد، ولا ينشد الكمال والقوة، ولا يرغب في سدِّ النقص، ثمّ لا يشعر بحاجته أصلاً، فكيف ستكون حياتُه؟! وكيف ستكون حياة المجتمع بناءً على ذلك؟! قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}(الزخرف:32).
المستوى الثَّاني: أصل الوجود وحقيقته
فمرةً يُنظر إلى الحاجة في تركيبة الإنسان بهذا المعنى المتقدِّم (أنَّها طبيعة مودعة فيه لبعض المصالح في تسيير أمور معاشه)، ومرةً يُنظر إليها على أنَّها كامل حقيقته، لا أنَّ حقيقته شيء، وحاجته شيءٌ آخر، وقد رُكِّبت الحقيقة من الحاجة وغيرها.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ}(فاطر:15).
وقال عزَّ من قائل: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}(الإنسان:1).
وقال تعالى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}(مريم:67).
فكيف لا يكون الإنسان فقراً محضاً ولم يكن شيئاً من الأساس، وقد كان بحاجة تامَّة لمن يرجِّح طرف الوجود على طرف العدم في إمكانه، فإذا رُجِّح طرف الوجود، فهل يمكن ادعاء الاستقلال التام بعده -وقد انبثق أصلُ الوجود من الحاجة المطلقة-؟!
وهذا المعنى أبلغ وأدقُّ في تفسير مركزية التَّولي عند الإنسان؛ حيث إنَّ سائر شؤون الإنسان نابعة من تحقُّق وجوده، فإذا كان أصلُ تحقُّق وجوده من العدم، والحاجة، والضعف، والفقر، فهو كذلك في كلِّ شؤونه، حيث إنَّ النتيجة لا تكون أفضل من المقدمة بحال، والفرع المرتبط بأصله لا يكون أقدر من الأصل، ومن هنا نعلم أنَّ مسألة التَّولي مسألة متغلغلة في جميع شؤون الحياة، شاملة لكلِّ أحوال الإنسان.
النَّتيجة:
1) إنَّ التَّولي هو: الاعتماد الحقيقي على صاحب القدرة، والاستعانة بذي التأثير، والرُّجوع التكويني إليه في مجالات الحياة المختلفة؛ طلباً لسدِّ النواقص، وتلبية الحاجات، وتنمية الكمالات، والاستعانة به على إدارة الشؤون.
2) إنَّ التَّولي مسألة فطرية لا تنفكُّ عن خلقة الإنسان، بل إنَّها تعبِّر عن جانب الأصالة في تفسير أصل حقيقة الوجود فيه.
3) إنَّ التَّولي محور الوجود والحياة، والخطأ في تحديد مركزه واتجاهه الصحيح سيعني الخطأ في قناعات وقرارات وسلوكيات الحياة أجمع.
ومن هنا تتّضح خطورة المسألة، فأنتقل إلى النُّقطة الثَّانية.
النُّقطة الثَّانية: الاتجاه الصَّحيح لبوصلة التَّولي
ممَّا اتَّضح من تحليلٍ لمسألة التَّولي وموقعيته في الحياة، يتَّضح أنَّ التَّولي سلوك تكويني حقيقي، وليس اعتبارياً، وبالتالي فإنَّ جميع آثاره واقعية، وهي تؤثِّر في تفاصيل حياة الإنسان مهما حاول إنكار أصل التَّولي، أو تأثيراته، فيأتي هنا السُّؤال الأهم -بعد وضوح الصورة-: إلى أين ينبغي أن تتَّجه بوصلة هذا التَّولي؟!
وللإجابة على هذا التساؤل، هناك لحاظات عدَّة يمكن أن تكون منطلقاً للإجابة، وما يعنينا من بينها هو اللحاظ الديني؛ لأنَّ الإجابة ستعتمد على طبيعة الرؤية الكونية العامَّة التي يحملها الإنسان في تفسيره لواقعيات هذه الحياة واعتبارياتها المترتِّبة عليها، فهذا النوع من الإجابات جذريٌّ، وممَّا يمكن أن نستفيده -بعد طيِّ المراحل الأساسية لهذه الرؤية، وعلى ضوء أطروحة القرآن الكريم- ثلاثة أمور:
الأمر الأوَّل: انحصار طريق التَّولي في طريقين
والمقصود من الانحصار: أنَّ مآلات التَّولي -بمختلف درجاته ومجالاته- تنتهي -لا محالة- إلى أحد طريقين لا ثالث لهما:
الطريق الأول: تولِّي الله سبحانه.
والطريق الثاني: تولِّي الشيطان.
وقد يبرز هذا الانقسام الثنائي بتعابير أخرى تبيِّن أساس هذه القسمة الثنائية، مثل: الظلمة والنور، الحقُّ والباطل، الخير والشرُّ، الكفر والإيمان، الهدى والضلال، الصلاح والفساد، الفلاح والخسران، الجنَّة والنَّار، ومع اتضاح أساس القسمة -الذي ينتهي في صيغته العملية إلى مفترق طريقين: إمَّا إلى الله تعالى، وإمَّا إلى الشيطان- فإنَّ كلَّ ما قابل الرجوع إلى الله تعالى سيكون -حسب أدبيات المنظومة الدينية الواضحة- نحو الشيطان، مهما كان غلاف الرجوع المقابل، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ}(فاطر:19-20-21).
وقال سبحانه: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}(الشورى:7).
وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(آل عمران:85) ، والدين هو المرجعية العليا للأخذ، وتترتَّب عليها سائر مصاديق الرجوع والأخذ والتَّولي.
وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾(يس :60)، والعبادة أقصى درجات الرجوع والتَّولي، وهي بين الله تعالى وبين الشيطان كما في الآية، ومن أوضح ما يصرِّح بهذا الحصر قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}(الحج: 62).
وبناء على هذه الآيات واضحة الدلالة في الحصر، يتّضح الأمر الثاني بالضرورة.
الأمر الثَّاني: تحديد بوصلة التَّولي
لا شكَّ أنَّ القرآن بيَّن اتجاه التَّولي محصوراً في الله سبحانه وما يكون في طوله، معبِّراً عنه، كالنَّبيe، والمعصومينi، وذلك إما بالدعوة الصريحة إلى هذا التَّولي، وإما بالنهي عن تولِّي رموز الطريق الآخر، وإما بالاثنين معاً، ومن تلك الآيات:
على لسان صالح(على نبينا وآله وعليه السلام): {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}(الشعراء: 150-152).
على لسان موسى(على نبينا وآله وعليه السلام): {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}(القصص: 17).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(المائدة: 51).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}(الممتحنة: 1).
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ}(الممتحنة: 4).
{لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الممتحنة: 8-9).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}(الممتحنة: 13).
{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(المائدة: 80-81).
وغير ذلك الكثير من الآيات الدالة على حرمة تولِّي غير الله تعالى، والسُّؤال: لماذا؟! والجواب يأتي بيانه في الأمر الثالث.
الأمر الثَّالث: سبب تحديد بوصلة التَّولي في الله تعالى وحده
يمكن أن نذكر ثلاثة أسباب رئيسية:
السَّبب الأوَّل:
إنَّ الغرض من التَّولي لا يتحقَّق حقيقةً إلا بالرجوع إلى الله تعالى، وتولِّي غيره مجرَّد أمانٍ زائفٍ، فقد قلنا إنَّ الغرض من التَّولي هو سدّ الحاجات باللجوء إلى صاحب القدرة، وواضح أنَّ غير الله تعالى لا قدرة حقيقية مستقلَّة لديه عن قدرة الله تعالى، فتولِّيه مجرَّد زخرف وخدعة، والرُّكون إليه تعويل على سراب، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}(الحج: 71).
وبعبارة أخرى: إنَّ الولاية الإلهية سلطة تكوينية متغلغلة ومطلقة، تُنتج تبعيَّة حقيقيَّة تامَّة في كلِّ تفاصيل الوجود وما يترتَّب عليه، وهذه الولاية مسيِّرة للكون أجمع بنظام واحد صيغته: (من وإلى الله تعالى)، فمن حاول أن يخرج عن هذه الولاية ومقتضياتها إلى ولاية غير الله تعالى، فإنَّه يضادُّ نظاماً كاملاً، سيحاربه ليرجعه قهراً.
وعليه: فإنَّ المصالح التي تبرق أمام ناظريه في اتخاذ سبيل ولاية غير الله تعالى بتولِّي الشيطان وجنوده من الإنس والجنِّ ليست سوى سراباً؛ لأنَّه ليس ثمَّة مصلحة أصلاً تنبثق من سلطة حقيقية لغير الله سبحانه، فكلُّ ما في مقابل طريقه سبحانه خِداع، ولهو، وغرور واقعاً، ولذلك عُدَّ الخروج عن ولايته سفهاً في القرآن، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}(البقرة: 130).
أما من اتخذ ولاية الله سبيلاً في خطوات حياته، لا في ادعاءاته، فإنَّه يمشي على الطريق متماهياً مع حركة المنظومة التكوينية (من وإلى الله)، فنصرة الله تعالى له تكوينية حينئذٍ، تترتُّب قهراً وفقاً لمعادلة المنظومة، ولا طريق للفلاح حقيقةً سوى ذلك، رغم كلِّ الصعوبات والتحدِّيات.
وممَّا يبيِّن ذلك ما جاء عن الأميرg حينما وفد عليه وفد يتقدمهم شخص اسمه نرسا: «فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ: >يَا نَرْسَا، أَخْبِرْنِي عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ كَمْ كَانُوا؟< قَالَ: كَانَتْ مُلُوكُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ الْآخِرَةِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مَلِكاً، قَالَ: >فَكَيْفَ كَانَتْ سِيرَتُهُمْ؟< قَالَ: مَا زَالَتْ سِيرَتُهُمْ فِي عِظَمِ أَمْرِهِمْ وَاحِدَةً حَتَّى مَلَّكْنَا كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ، فَاسْتَأْثَرَ بِالْمَالِ والْأَعْمَالِ، وخَالَفَ أَوَّلِينَا، وأَخْرَبَ الَّذِي لِلنَّاسِ، وعَمَّرَ الَّذِي لَهُ، واسْتَخَفَّ بِالنَّاسِ، وأَوْغَرَ نُفُوسَ فَارِسَ حَتَّى ثَارُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، فَأَرْمَلَتْ نِسَاؤُهُ، ويَتِمَ أَوْلَادُهُ، فَقَالَ: >يَا نَرْسَا، إِنَّ اللهَa خَلَقَ الْخَلْقَ بِالْحَقِّ، ولَا يَرْضَى مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِالْحَقِّ، وفِي سُلْطَانِ اللَهِ تَذْكِرَةٌ مِمَّا خَوَّلَ اللهُ، وإِنَّهَا لَا تَقُومُ مَمْلَكَةٌ إِلَّا بِتَدْبِيرٍ، ولَا بُدَّ مِنْ إِمْرَةٍ، ولَا يَزَالُ أَمْرُنَا مُتَمَاسِكاً مَا لَمْ يَشْتِمْ آخِرُنَا أَوَّلَنَا، فَإِذَا خَالَفَ آخِرُنَا أَوَّلَنَا، وأَفْسَدُوا هَلَكُوا وأَهْلَكُوا<[2]. لاحظ الربط عندهg بين خلق الله تعالى الخلق بالحقِّ، وضرورة انعكاس ذلك على الصعيد السياسي والاجتماعي، وإلا بار الأمر وفسد، وقد فسَّرg ذهاب ملك كسرى بذلك.
السَّبب الثَّاني:
علاوة على كون تولِّي غير الله تعالى لا يحقِّق الغرض، فإنَّه ناقض للغرض، معاكس لاتجاهه أيضاً؛ وذلك لأنَّ نتائج تولِّي غير الله تعالى نتائج كارثية وعكسية على مستوى الدنيا والآخرة رغم كلِّ ما يلوح في الأفق من مكاسب آنية مزينة بزيف، فإنَّ هذا النوع من التَّولي ناقض للغرض؛ لأنَّ >الظّلم بوار الرّعيّة<[3]، كما ورد عن الأميرg، والباطل زهوق، يأكل في نفسه بنفسه، {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا * وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(الإسراء: 80-81)، ومن اتّخذ هذا الطريق مخذول من صاحب القدرة الحقيقية، قال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(البقرة: 257)، وقال عزَّ من قائل: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (النساء: 119).
السَّبب الثَّالث:
إنَّ تولِّي غير الله تعالى يحقِّق -من حيث المصداق- مفاهيم قبيحة مخالفة للفطرة والإنسانية، فهو يعني ما يقابل كلَّ ما تقدَّم من المفاهيم الحسنة، فتولِّي الله تعالى أخذٌ بالحقِّ، وغيره باطل، وتولِّي الله تعالى هدى، وغيره ضلال، وتولِّي الله تعالى خير، وغيره شرُّ، وهكذا، وكلُّ هذه مفاهيم يدرك الإنسان وجداناً حسنها أو قبحها، وقيمته مرهونة بتفعيلها، وهو يختار لنفسه الحسن أو ما يقابله، ولا شكَّ أنَّ الإنسان السَّوي سيختار تولِّي الله سبحانه ما دامت مفاهيم الحسن مختزلة في هذا النوع من التَّولي.
النَّقطة الثَّالثة: تنظير وتأسيس لمفهوم التَّولي على هدي الآية
وهي قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(هود: 113).
بعد التأسيس العامِّ لمسألة التَّولي بالتعرُّف على معناه، وموقعه في الحياة، وتأثيرِه العامِّ الشَّامل، وخطورته، وتحديد بوصلته، وبيان أسباب هذا التحديد، نأتي الآن لتثبيت هذه الرؤية العامَّة بتناول واحدة من أوضح الآيات الهامَّة التي تنطوي على معان ودلالات خطيرة في هذا الشأن بالذَّات، حتى صارت بمثابة القاعدة الفقهية التي رتَّب الفقهاءُ عليها آثاراً وتطبيقات واسعة، وهي قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}، وهي الآية التي جاءت متمِّمة للآية التي ورد فيها أنَّها شيَّبت رسول اللهe لعظم ما فيها من أمر ونهي، أمَّا الأمر فهو قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}، وأمَّا النهي فهو ما في الآية المذكورة: {وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(هود: 112).
ثمَّ ما في نفس الآية مورد البحث التي جاءت بعدها مباشرةً، قال العلامة الطباطبائي في الميزان: "وهذه آية ذكر رسول اللهe أنَّها شيَّبته على ما في الرواية، فإنَّ الآيتين -كما هو ظاهر للمتدبِّر- ظاهرتان في أنَّ الرُّكون إلى الظالمين من الكافرين طغيانٌ يستتبع مس النَّار استتباعاً لا ناصر معه، وهو الانتقام الإلهي لا عاصم منه ولا دافع له"[4].
ولنا مع هذه الآية الكريمة وقفة يمكن أن تكون أساساً تنظيرياً حاسماً في مسألة التَّولي، وتتكوّن هذه الوقفة من أربعة أمور:
الأمر الأول: معنى الرُّكون
اختلفوا ظاهراً في تحديد المعنى الدقيق للركون، فبمراجعة كلمات اللغويين والمفسِّرين نتحصَّل -تقريباً- على أربعة معان عامَّة، إضافة إلى جملة من المصاديق التي ذُكرت على أنَّها معان، ومن تلك المعاني: أنَّ الرُّكون هو "مطلق الميل"[5]، أو أنَّه "الميل القليل اليسير"، أو أنَّه "مطلق الاعتماد"، أو أنَّه: "السكون إلى الشيء بمحبته، ونقيضه: النفور"[6].
وقد ورد عنهمi أنَّ الرُّكون هو: «المودة، والنصيحة، والطاعة»، وهذه مصاديقه، ونتائجه.
وقد حقَّقه المصطفوي بقوله: "والتحقيق: أنّ الأصل الواحد في هذه المادّة هو: الميل مع السكون إليه، وهذا هو الفرق بينها وبين موادّ الميل، السكون، الثبوت، الاعتماد والانحراف، وغيرها.."[7].
وحقَّقه العلامة الطباطبائي بقوله: "والحقَّ أنَّه الاعتماد على الشيء عن ميل إليه، لا مجرَّد الاعتماد فحسب، ولذلك عُدّي بـ(إلى) لا بـ(على)، وما ذكره أهل اللغة تفسير له بالأعمِّ من معناه على ما هو دأبهم"[8].
والمتحصِّل: أنَّ الرُّكون هو: اعتماد، ولكنَّه ليس أيّ اعتماد قد يكون آنياً، أو لمصلحة ضيِّقة، أو لفرض ظرف جزئي، بل يأتي هذا الاعتماد عن ميل، ورغبة في التطبيع، نابع من الاطمئنان، لا تتخلَّله أي نفرة، أو حذر، أو ضيق.
الأمر الثَّاني: متعلَّق الرُّكون
وقع الرُّكون متعلَّقاً للنهي، ولكن: ما هو متعلَّق الرُّكون نفسه؟ أي: نحن منهيون في الآية عن الرُّكون إلى الذين ظلموا في أيِّ شيء؟
والجواب متصيَّدٌ من نفس الآية الشريفة حيث تقول: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوْا}؛ أي: لا تركنوا إلى الذين ظلموا من جهة ظلمهم، فإنَّ الوصف مشعرٌ بالعليَّة، فالمنهي عنه هو الاعتماد على أهل الظلم، وموادعتهم، في مطلق حركتهم الظُّلْميَّة العامَّة، بحيث يكون الرَّاكن في حالة تماهٍ مع رمزيَّة الظلم ابتداءً من مفهومه، ومروراً بما يتفرَّع عليه من مفاهيم، كالإجرام، والإفساد، والسرقة، والقتل، والعنف، والاستبداد، ونهب الحقِّ، وغير ذلك، وانتهاءً بتطبيقاته المشاريعية والجزئية، هذا فضلاً عن أن يدخل في إعانة أهل الظلم في جزئيَّة من جزئيِّاته، ناهيك عن أن يمارس الظلم في حدِّ ذاته.
ولا يخفى أنَّ الآية بذلك تتكلَّم عن مجرَّد الاقتراب من الظلم، وأنَّه موجب لمسِّ النَّار، فمجرَّد الميل إليه، ومجرَّد الارتياح، ومجرَّد الاعتياد، مجرَّد ذلك مورد تحذير ووعيد، فالآية تتكلَّم هنا على مستوى المفهوم في قيمته العمليَّة، فضلاً عن ترتيب آثاره على أرض الواقع لاحقاً بالتوغُّل في الظلم، أو حتى ممارسته.
وقد ورد عن الإمام السجادg: >فكونوا عباد الله من القوم الذين يتفكَّرون، ولا تركنوا إلى الدنيا؛ فإنَّ الله تعالى قال لمحمَّدٍe:{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}<[9]، وفي هذا الخبر يتَّضح جوهر الرُّكون إلى الذين ظلموا في تطبيق الإمامg، وأنَّه في أصله ركون إلى الدنيا، ورغبة في تحصيل ملذَّاتها، ومن هنا ننفتح على حقيقة هذا الرُّكون الذي هو {إلى الذين ظلموا}، أنَّه يأخذ حكم من سكن إلى متاع الغرور، واللهو، واللعب، وسائر صفات الدنيا التي ذُكرت صراحةً في القرآن الكريم، هذا هو جوهر متعلَّق الرُّكون.
يقول العلامة الطباطبائي:"فالرُّكون إلى الذين ظلموا هو نوع اعتماد عليهم عن ميل إليهم، إمَّا في نفس الدِّين، كأنْ يذكر بعض حقائقه بحيث ينتفعون به، أو يغمض عن بعض حقائقه التي يضرُّهم إفشاؤها، وإمَّا في حياة دينية، كأنْ يسمح لهم بنوع من المداخلة في إدارة أمور المجتمع الدِّيني بولاية الأمور العامَّة، أو المودَّة التي تفضي إلى المخالطة والتأثير في شؤون المجتمع أو الفرد الحيويَّة. وبالجملة: الاقتراب في أمر الدِّين أو الحياة الدينيَّة من الذين ظلموا بنوعٍ من الاعتماد والاتكاء يخرج الدِّين -أو الحياة الدينيَّة- عن الاستقلال في التأثير، ويغيرهما عن الوجهة الخالصة، ولازم ذلك السلوك إلى الحقِّ من طريق الباطل، أو إحياء حقٍّ بإحياء باطل، وبالآخرة: إماتة الحقِّ لإحيائه"[10].
وقال أيضاً:"وقد تحصَّل ممَّا تقدَّم من الأبحاث في الآية أمور: الأوَّل: أنَّ المنهي عنه في الآية إنَّما هو الرُّكون إلى أهل الظلم في أمر الدِّين أو الحياة الدينيَّة، كالسكوت في بيان حقائق الدِّين عن أمور يضرُّهم، أو ترك فعل ما لا يرتضونه، أو توليتهم المجتمع، وتقليدهم الأمور العامَّة، أو إجراء الأمور الدينيَّة بأيديهم وقوَّتهم، وأشباه ذلك..
الثَّالث: أنَّ الآية بما لها من السياق المؤيَّد بإشعار المقام إنَّما تنهى عن الرُّكون إلى الذين ظلموا فيما هم فيه ظالمون، أي بناء المسلمين دينهم الحقّ -أو حياتهم الدينيَّة- على شيءٍ من ظلمهم، وهو أن يراعوا في قولهم الحقّ -وعملهم الحقّ- جانب ظلمهم وباطلهم، حتى يكون في ذلك إحياء للحقِّ بسبب إحياء الباطل، ومآله إلى إحياء حقٍّ بإماتة حقٍّ آخر كما تقدَّمت الإشارة إليه.
وأمَّا الميل إلى شيءٍ من ظلمهم وإدخاله في الدِّين، أو إجراؤه في المجتمع الإسلامي، أو في ظرف الحياة الشخصيَّة، فليس من الرُّكون إلى الظالمين، بل هو دخول في زمرة الظالمين"[11].
إذاً: نحن نتكلَّم هنا عن رتبة متدنيَّة جداً في التفاعل الإيجابي مع الظلم، بحيث يكون مقدِّمة للتأثير في استقلالية الفرد والمجتمع، هذا الذي تحذِّر منه الآية، وتهدِّد فيه بمساس النَّار، وهذا له مصاديق قد تكون خفيَّة، فالآية تشمل الموارد التالية:
أن أتكلَّم بكلمةٍ فيها نصرة لمنهج الكفر، أو تقوية لمشروعه، ولو بنفي المشروع، أو التشكيك في (المؤامرة).
أن أهزأ برافضٍ للاستكبار، وأرميه بالسَّفه.
أن أثبِّط من همَّةِ المتَّخذ لطريق الإنكار.
أن أسكت وأتفرَّج حيث لا ينفع السكوت والتفرج، وأن تكون اللامبالاة هي سيِّدة الموقف.
فضلاً عن الترويج إلى ثقافة الإلحاد والاستكبار والتحلُّل تحت مسمَّيات برَّاقة.
فضلاً عن أن أكون مسهماً في كسر حواجز القيم والأعراف بما يمكِّن أهل الاستكبار من النفوذ للتأثير في المجتمع المسلم.
فضلاً عن مدِّ يد العون والاستعانة فكرياً، وإعلامياً، واقتصادياً، وعسكرياً، وإدارياً.
فافهم ذلك كلَّه، ولا تستثنِ نفسك منه إلى حدِّ الاطمئنان بأنَّك بعيد كلَّ البعد عن صور الرُّكون الخفيَّة، أجارنا الله تعالى من ذلك.
جاء في تفسير الأمثل: "في أيِّ الأمور لا ينبغي الرُّكون إلى الظالمين؟
بديهي أنَّه في الدرجة الأولى لا يصحُّ الاشتراك معهم في الظلم، أو طلب الإعانة منهم، وبالدرجة الثانية: الاعتماد عليهم فيما يكون فيه ضعف المجتمع الإسلامي، وسلب استقلاله، واعتماده على نفسه، وتبديله إلى مجتمع تابع وضعيف لا يستحقُّ الحياة؛ لأنَّ هذا الرُّكون ليس فيه نتيجة سوى الهزيمة والتبعية للمجتمع الإسلامي. وأمَّا ما نلاحظه أحياناً من مسائل التبادل التجاري والروابط العلميَّة بين المسلمين والمجتمعات غير الإسلامية على أساس حفظ منافع المسلمين، واستقلال المجتمعات الإسلامية وثباتها، فهذا ليس داخلا في مفهوم الرُّكون إلى الظالمين، ولم يكن شيئاً ممنوعاً من وجهة نظر الإسلام، وفي عصر النَّبي نفسهe والأعصار التي تلته كانت هذه الأمور موجودة وطبيعية أيضا"[12].
الأمر الثَّالث: حقيقة الرُّكون والموقف منه
من قوله تعالى: {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، يتَّضح أنَّ الآية تنبِّه على أنَّ الرُّكون إلى الظالمين حقيقته مسُّ النَّار لمن يركن، وقد عبَّر بالفاء {فتمسكم} إشارة إلى مباشرة المسِّ، لا أنَّه مؤجَّل للآخرة، والمفهوم من الآية أنَّ الرُّكون بمعنى الميل، والاقتراب، تكون نتيجته مسَّ النار، والمسُّ بداية الاتصال، أمَّا الكون من الظالمين -الذي يُعدّ الرُّكون مقدِّمة إليه- فليست حقيقته مسَّ النار، بل حقيقته الكون في النار، قال تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}(الشورى: 21-22).
وهذا يؤكِّد ما ذكرناه من أصالة الجانب التكويني في مسألة التَّولي، وأنَّها منطلقة من هذه الحقيقة الوجودية، وليست المسألة مجرَّد اعتبارات ومصالح جعليَّة تنشأ وتتغيَّر على مستوى الساحة السياسيَّة والاجتماعيَّة، بل إنَّ هذا المبدأ ركن ركين، يؤثِّر على حركة الإنسان في هذا العالم على المستوى الفردي والاجتماعي.
ومن هنا يؤسَّس إلى ضرورة إعلان الرفض لأيِّ حراك يتّجه هذا الاتجاه، لحفظ الصالح العام، ابتداءً من نفس عالم التكوين، وإلّا نزل الغضب مع التقصير في الرفض، ولا شكَّ أنَّ هذا الرَّفض ينبغي أن يكون محافظاً على الموازنات الشرعيَّة، فالحكم الشرعي هو الذي يحدِّد طريقته، ولكن لا تنازل عن أصل مبدأ الرفض لأيِّ تصرُّفٍ فيه ركون إلى المستكبرين الظالمين، وإن كان الرَّفض -حسب الظَّرف- سلبياً على أقلِّ التقادير، يقتصر على التنفُّر والصدِّ والإعراض، وعدم التعاون.
قال العلامة الطباطبائي-في بيان أساليب الدعوة الإسلامية وظهورها-: "وأمَّا الدعوة السلبيَّة فهو اعتزال المؤمنين الكافرين في دينهم وأعمالهم، وتكوين مجتمع إسلامي لا يمازجه دين غيرهم ممَّن لا يوحِّد اللهَ سبحانه، ولا أعمال غير المسلمين من المعاصي وسائر الرذائل الأخلاقية، إلا ما أوجبته ضرورة الحياة من المخالطة، قال تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، وقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}..، والآيات في معنى التبرِّي والاعتزال عن أعداء الدِّين كثيرة، وهي -كما ترى- تشرح معنى هذا التبري، وكيفيَّته، وخصوصيَّته"[13].
الأمر الرَّابع: الطَّريق المعقول لرفض الرُّكون
مع اتضاح معنى الرُّكون، ومتعلَّقه، وحقيقته، وأنَّ الموقف المطلوب تجاهه هو الرفض، نختم بهذا التنبيه الهامّ الذي يضع اليد على بداية الرفض للركون، والتي لا يمكن لأيِّ إنسان أن يتجاوزها في طريقه لرفض الرُّكون إلى الاستكبار والظلم الخارجي العام.
وحاصل هذا التنبيه: أنَّ الطريق لرفض الرُّكون الخارجي والابتعاد عنه، هو رفض الرُّكون الذي يبتدئ مع النفس كمصداق للظلم الذاتي، وتوضيح ذلك: أنَّ الله تعالى لمَّا قال: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوْا}، فإنَّه نهى -بحسب ما يستظهره العلامة الطباطبائي من سياق الآية- عن الرجوع إلى أصحاب المنهج العام في الظلم، الذي يديرون به حياة النَّاس وشؤونهم بسبيل الإفساد، إلا أنَّ ذلك لا يعني عدم إمكان استفادة مطلق النَّهي عن الرُّكون إلى كلِّ من تلبَّس بصفة الظُّلم من جهة تأثير هذا الظلم على الحياة ولو بنحو جزئي، فإنَّ الملاك هو الملاك، بل إنَّ هذا التأثير الجزئي هو بداية التمكين من التأثير الكلي المجتمعي.
فإذا اتضحت هذه التوسعة من حيث النهي عن الرُّكون بما يمتدُّ إلى أيِّ مصداق من مصاديق الظلم ولو كان جزئياً أو فردياً، فإنَّ أوَّل من ينبغي أن يتوجَّه التحذير منه بالنهي عن الرُّكون إليه هو نفس هذا الإنسان التي بين جنبيه، حين تتَّخذ طريق التقصير بالمعاصي، والذي أسماه الله تعالى ظلماً، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}(الطلاق:1)، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ}(النساء:110)، بل بيَّن القرآن ملازمة حالة الظلم هذه لجنس الإنسان في قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(الأحزاب:72) ، ممَّا يعني أنَّ من شأنه الظلم ابتداءً لنفسه غير صالح للرجوع الأصيل إليه لتولِّيه والأخذ منه، فالرجوع -أصل الرجوع- يجب أن تتّجه بوصلته لغير الإنسان الظلوم بطبيعته، فليس سوى الله تعالى.
هذا أصل، خرج منه من ثبتت عصمته وخروجه عن أدنى مراتب الظلم {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(البقرة:124)؛ لأنَّهم مرآة لله تعالى في أرضه، وبابه الأوحد، ولا سبيل إليه سبحانه إلا هم، وما دامت جهة المنع عن الرجوع مفقودة فيهم لجهة العصمة، فلا مانع من تبعيتهم وتولِّيهم والرجوع إليهم، بل يجب ذلك لانحصار تولِّي الله تعالى في تولِّيهم، ومن هنا نستطيع أن نرتِّب الثمرة العامَّة المهّمة وهي أنَّ الرجوع -بما هو رجوع معبِّر عن التبعية ولو في أدنى التفاصيل- إذا لم يكن في طول هذا الرجوع بحيث كان يعبِّر عن رؤية تمثِّل استقلال هذا الرجوع لهذا أو ذاك في نفسه، فإنَّه يمثِّل مرتبة من مراتب الرُّكون المنهي عنه، ومن هنا تتَّضح محوريَّة رفض الرُّكون والتَّولي لغير الله تعالى، أنَّها تبدأ من التنفُّر من ظلم النفس للنفس، أمَّا من عاش ظلماً لنفسه واعتاد الرُّكون -بل الاعتماد الكلي- على ذلك، فإنَّه سيتلكَّأ في رفض الرُّكون العام، ولن يقف مع المظلوم، بل ربَّما لا يتنفَّر ولو في أعماقه من أيِّ شكلٍ من أشكال الظلم، ولو بلغ مبلغه من الفحش والفظاعة.
قال السيد حيدر الآملي في (جامع الأسرار): "أي لا تميلوا إلى الذين ظلموا على أنفسهم بميلهم إلى الشرك الجليّ والخفيّ، لقوله تعالى أيضا: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾. ﴿فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾، أي: يجرّكم الشيطان وأهله بسبب ذلك إلى النار والجحيم"[14].
وهذا يؤكِّد أنَّ قولَه تعالى: {ولا تركنوا} فيه إشارة عرفانية حتى إلى هذه المرتبة من الرجوع، وإن كان سياق الآية -كما عن العلامة الطباطبائي- وارد في الظلمة الجائرين، فإنَّ هذا لا ينافي النَّظر إلى تجليَّات الآية وتأويلاتها، وهذا منها، وهو متَّسق مع أسس الدِّين وأصوله وذوق تشريعه المقدَّس.
إذاً: بداية الرفض لأيِّ شكلٍ من أشكال الاقتراب من الظلمة والمستكبرين هي في رفض ظلم النَّفس، وعدم اعتيادها على الظلم الذاتي، فضلاً عن الظلم للغير، وإلا فإنَّ لسان التحذير مخيفٌ عظيم، لاحظ قوله تعالى مخاطباً نبيَّهe: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}(الإسراء: 74-75)، فانظر إلى نتيجة الرُّكون والسكون إلى الظلمة، مع أنَّ ركونهe لا يتصوَّر فيه التبعيَّة لا المطلقة، ولا الجزئيَّة، بل هو -على فرضه- نحو ميل واطمئنان ضمن موازنة مصالح الإسلام، إلا أنَّه منهي عنه بهذا اللسان الحِدّي، مع ضرورة عصمته، وأنَّه لا يركن، والآية قالت: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ}، و(لو) حرف امتناع لامتناع، فالرُّكون لا يصدر من النَّبيe ولو قليلاً، وهذا لسان الخطاب معه e، فكيف بنا نحن حيث نطمئن ونسكن إلى كلِّ صادر ووارد من أهل الظلم والاستكبار المسيطرين على العالم، ونثق بكلِّ ما يأتون به في المعرفة، والتربية، والأخلاق، والسياسة، والاقتصاد، والقيم، والتحالفات، وسائر مجالات الحياة؟!
والحال أنَّنا مستغنون عن ذلك كلِّه بما لدينا من كنزٍ معرفي، وما يترتَّب عليه من تنظيم شأنِ الحياة كلِّه، ولكنَّنا مأخوذون بالبهرجة وزينة الحياة مع الأسف الشَّديد، ولهذا -ومثله- يأتي مثلاً إحياء عاشوراء الإمام الحسينg، فإنّ تولِّي سيد الشهداءg المطلق لله تعالى، أوجد حاكمية معرفية قيمية رمزية ممتدَّة، محورها هو الرُّجوع لله وحده..
وقد جاء في خطبتهg بمنى يخاطب العلماء: >اعْتَبِرُوا أَيُّهَا النّاسُ بِما وَعَظَ اللهُ بِهِ أَوْلِياءَهُ مِنْ سُوءِ ثَنائِهِ عَلَى الأحْبارِ، إِذْ يَقُولُ: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ}، وَقالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى قَوْلِهِ: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}، وإِنَّما عابَ اللهُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ لأنَّهُمْ كانُوا يَرَوْنَ مِنَ الظَّلَمَةِ الَّذينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمِ الْمُنْكَرَ وَالْفَسادَ، فَلا يَنْهَونَهُمْ عَنْ ذلِكَ؛ رَغْبَةً فيما كانُوا يَنالُونَ مِنْهُمْ، وَرَهْبَةً مِمّا يَحْذَرُونَ، وَاللهُ يَقُولُ: {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾، وَقالَ: {الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾، فَبَدَأَ اللهُ بِالأمْر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَريضَةً مِنْهُ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّها إِذا أُدِّيَتْ وَأُقيمَتْ، اسْتَقامَتِ الفَرائِضُ كُلُّها، هَيِّنُها وَصَعْبُها..
ثمَّ قالg: >اللّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ما كانَ مِنّا تَنافُساً في سُلْطان، وَلاَ الْتماساً مِنْ فُضُولِ الْحُطامِ، وَلكِنْ لِنُرِيَ الْمَعالِمَ مِنْ دينِكَ، وَنُظْهِرَ الإصْلاحَ في بِلادِكَ، وَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبادِكَ، وَيُعْمَلَ بِفَرائِضِكَ وَسُنَنِكَ وَأَحْكامِكَ، فَإِنَّكُم إِلاّ تَنْصُرُونا وَتُنْصِفُونا قَوِيَ الظَّلَمَةُ عَلَيْكُمْ، وَعَمِلُوا في إِطْفاءَ نُورِ نَبِيِّكُمْ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْهِ أَنَبْنَا وَإِلَيْهِ الْمَصيرُ<[15].
هذا كان منطلق سيد الشهداءg في النهوض، لرفض حالة الرُّكون إلى الذين ظلموا، وقد كانg يحصر التوجه في حركته نحو بناء الحكومة لتفعيل ولاية الله سبحانه، بل إنَّه كان ينطلق من تبعية مطلقة لأمرِ الله تعالى، وتولِّيه في كلِّ شأن، ومن كان هذا نوع حراكه، فإنَّه منتصر -مهما كان انعكاس ذلك التَّولي- بكلِّ المقاييس الحقيقية، وإن لم يكن كذلك على بعض المقاييس الاعتبارية الضيِّقة، بل إنَّ نفس ثبات الإمام الحسينg على الحقِّ بتولي الله حتى آخر نفس دون أدنى تنازل، رغم معرفته بنتيجة الشهادة والقتل، نفس ذلك يعتبر نصراً حقيقياً؛ لأنَّه رسَّخ وثبَّت رمزيَة التَّولي لله تعالى، فصار قاعدة معرفية وسلوكية يُبنى على أساسها، ويُميَّز على ضوئها، وصارت ضمانة للاستقامة، وحجَّة للصلاح، وعلى الفساد، على مرِّ العصور والأزمان، فأيُّ نصرٍ أقوى من هذا النَّصر؟ وهل يُقاس عليه نصرٌ آنيٌّ بتثبيت أركان دولة مئتي عام أو أكثر، ثمَّ ماذا؟ الفناء هو سيِّد الموقف، ولكن النصر الحقيقي هو النصر الذي يستبطن الخلود في ذاته وروحه، وهذا هو ما فعله الإمام الحسينg.
ومن هنا ينكشف مدى ضيق أن تُحاكم نهضة الإمام الحسينg بموازين النصر المتناهي، فإنَّ ذلك خطأٌ كبير، بل ينبغي أن يُتساءل عن سرِّ النصر اللامتناهي في هذه النَّهضة المباركة، والسِّر هو: مركزيَّة تولّي الله تعالى في جميع تفاصيل الحراك، وتثبيت ذلك كرمزية متغلغلة في الجزئيات، بعد الاحتكام إليها ككليات، والتبعية المطلقة لله هي سرُّ حياة نهضة الإمام الحسينg إلى يوم القيامة؛ لأنَّ الله تعالى هو الحياة، وهو القدرة، وهو السلطة، وهو التدبير الحقيقي، فمن تمسك به ضمن الخلود والاستمرار.
والحمدلله ربالعالمين.
[1] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن مصطفوي، ج13، ص203-204.
[2] بحار الأنوار، المجلسي، ج23، ص359.
[3] غرر الحكم، ص47.
[4] الميزان في تفسير القرآن، ج3، ص154.
[5] انظر: لسان العرب، ابن منظور، ج13، ص185.
[6] انظر: الفروق اللغوية، أبو الهلال العسكري، ص261.
[7] التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج4، ص223.
[8] الميزان في تفسير القرآن، ج11، ص50.
[9] الكافي، الكليني، ج5، ص75.
[10] الميزان في تفسير القرآن، ج11، ص50-51.
[11] الميزان في تفسير القرآن، ج11، ص55-57.
[12] تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج7، ص83.
[13] الميزان في تفسير القرآن، ج4، ص162.
[14] جامع الأسرار ومنبع الأنوار، ص90.
[15] تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص237و239.
0 التعليق
ارسال التعليق