الملخص:
(تعرَّض الكاتب إلى مسألة شخصنة الدين والمقصود منها ربط الدِّين بالأشخاص، فبعد أن ذكر ما يدلُّ ضرورة شخصنة الدِّين بشكلٍ إجمالي، ذكر ثلاثة آراء حول ذلك، مناقشاً للرَّأيين الأوَّلين وهما الرفض المطلق والقبول المطلق للشَّخصنة، واختار الرَّأي الثَّالث والذي يذهب إلى أنَّه لا بدَّ من شخصنة الدِّين، أي ربطه مع غير المعصوم في زمن الغيبة، ولكن ضمن قيود ضوابط معينة، مستعينا في بيان ذلك بروايات أهل البيتi)
مقدمة:
ورد عن سيِّدنا ومولانا الإمام الصَّادق(ع) أنَّه قال:{مَنْ دَخَلَ فِي هَذَا الدِّين بِالرِّجَالِ أَخْرَجَهُ مِنْهُ الرِّجَالُ كَمَا أَدْخَلُوهُ فِيهِ ومَنْ دَخَلَ فِيهِ بِالْكِتَابِ والسُّنَّةِ زَالَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ أَنْ يَزُولَ.}([1]).
يُعدُّ ربط الدِّين بالأشخاص جدليَّة واسعة على المستوى النَّظري، وآثاره ممتدَّة على المستوى التَّطبيقي، منها ما هو سلبي، ومنها ما هو إيجابي، ومن أجل تبيُّن حقيقة الأمر، وما ينبغي فيه، فلنتناول هذا الموضوع -على سعتِه- مختصرينه في أربع نقاط:
النَّقطة الأولى: تحليل جذور (شخصنة الدِّين)
وهنا أمورٌ تبيِّن موقع الشَّخصنة في معادلة التَّديُّن:
1) إنَّ التديُّن مسألة فطريَّة، جُبل عليها كلُّ النَّاس، وهي موجودة في أعماقهم من أصل خلقتهم.
2) يتفرَّع على الأمر الأوَّل أنَّ النَّاس كلَّهم على دين، إلا ما ندر ممَّن شذَّ عن هذه الفطرة ادَّعاءً، وهو رغم ذلك لو رجع إلى أعماقه لوجد نفسه متعلِّقة بدينٍ، وبربٍّ، فهذه المسألة الفطريَّة أوجبت أن تكون مسألة التَّديُّن مسألة عامَّة.
3) إنَّ تحقيق التديُّن -فكرًا وسلوكًا- لا يمكن أن يحصل عادةً إلا بالأخذ عن أحد، فالدِّين -أيُّ دين- يحتاج إلى قيِّم؛ ولذا نجد أصحاب الأديان يرجعون في نهاية الأمر إلى رؤوسٍ وقادةٍ، تُؤخذ عنهم معالم الدِّين وتوجيهاته، أنبياء كانوا، أو أوصياء، أو رهبانًا، أو أحبارًا، أو علماء، وهكذا، فالدِّين في جهة الأخذ مآله إلى رأس يُؤخذ عنه.
4) من هنا تنبثق مسألة الارتباط العاطفي بهذا الرَّأس؛ إذ أنَّه متفضِّل -في الواقع، أو في نظر المتديِّن على الأقل- على المتديِّن، بإرشاده إلى ما ينبغي، وما لا ينبغي، فتتكوَّن على إثر ذلك رابطة عاطفيَّة قد تفوق الرَّابطة العاطفيَّة النَّسبيَّة، فيُعشَق القائدُ الدِّيني أكثر حتى من عشق الأب، والأمِّ، والأخ، والصَّديق.
5) لا شكَّ أنَّ هذه الرَّابطة العاطفيَّة هي الرافد الذي لا غنى عنه، الذي يضمن استمرار عمليَّة الأخذ، وإلا فإنَّ النَّاس ليست مجبورة على الأخذ من شخصيَّة منبوذة ومكروهة لديهم، ومن هنا ورد عن الباقر(ع): >الدِّين هُوَ الْحُبُّ وَالْحُبُّ هُوَ الدِّين< ([2])، فإنَّ الرَّابطة العاطفيَّة بأرباب الدِّين وقادته ركنٌ أساسٌ في إشباع حاجات عمليَّة التَّديُّن.
6) في نفس الوقت الذي تكون فيه الرَّابطة العاطفيَّة برؤوس الدِّين ركنًا أساسًا في تلقِّي الدِّين والعمل به، إلا أنَّها من الخطورة بمكان، بحيث قد تنقلب على صاحبها بآثار عكسيَّة خطيرة جدًا، حين يُخطئ المتديِّن تحديدَ مصداقِ هذا الرَّأس، فيُخطئ بذلك ما أراد طلبَه من دِينٍ، ومن هنا جاءت فكرة ضرورة الارتباط بالمعصوم وحده؛ لأنَّه لا ضمانة حقيقية لأخذ الدِّين كما نزل من دون أيِّ إضافة أو نقيصة أهوائيَّة أو ذوقيَّة، إلا بالأخذ عن خصوص المعصوم وحده، وحينها سيكون هذا الارتباط العاطفي مُنتجًا ثمرته المرجوَّة، وإلا كان خطرًا داهمًا.
من هنا ورد عنهمi هذا المعنى مستفيضًا، فعن الثُّمالي قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ ع عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ}، قَالَ: >عَنَى اللَّهُ بِهَا مَنِ اتَّخَذَ دِينَهُ رَأْيَهُ مِنْ غَيْرِ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى<([3])، وعنه(ع): >مَنْ دَانَ اللَّهَ بِغَيْرِ سَمَاعٍ عَنْ صَادِقٍ أَلْزَمَهُ اللَّهُ الْبَتَّةَ [التيه] إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ<([4])، وعنه(g): >أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَقٌّ ولَا صَوَابٌ إِلَّا شَيْءٌ أَخَذُوهُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ ولَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَقْضِي بِحَقٍّ ولَا عَدْلٍ إِلَّا ومِفْتَاحُ ذَلِكَ الْقَضَاءِ وبَابُهُ وأَوَّلُهُ وسُنَنُهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ g، فَإِذَا اشْتُبِهَتْ عَلَيْهِمُ الْأُمُورُ كَانَ الْخَطَأُ مِنْ قِبَلِهِمْ إِذَا أَخْطَئُوا، والصَّوَابُ مِنْ قِبَلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍg إِذَا أَصَابُوا<([5])، وعنه(g): >كُلَّمَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ بَاطِلٌ<([6])، وهذا شاملٌ لما خرج شيء منه من هذا البيت، واختلط بغيره، فإنَّه ككلٍّ ليس من هذا البيتi.
وعن الصَّادق(g): >كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ شِيعَتِنَا وهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِعُرْوَةِ غَيْرِنَا<([7])، وعن أبي بصير عن أبي عبد الله(g) قال: قال لي: >إِنَّ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} فَلْيُشَرِّقِ الْحَكَمُ ولْيُغَرِّبْ، أَمَا واللَّهِ لَا يُصِيبُ الْعِلْمَ إِلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَبْرَئِيلُg<([8]).
إذن: الأصلُ في الأخذ أن يكون عن المعصوم لا غير، وأيُّ أخذٍ أو اتصالٍ بغيرِ المعصوم فليس بحجَّة، ولا قيمة له في نظر أهل البيتg.
7) يبقى الكلامُ في أنَّ هذا الأخذ المباشر عن المعصوم إذا كان غير متاح -كما هو الأمر في زماننا، بل حتى في زمانهمi في كثير من الحالات- فما هو العمل؟ مع ضمِّ الرُّؤية السَّابقة إلى ما تفرضه الظُّروف -التي تفرض عدم إمكان الاتِّصال بالمعصوم دومًا حتى في عصر ظهوره فضلًا عن عصر غيابه- فقد جرت السِّيرة المُمضاة من أهل البيتi على الأخذ من صدور الرِّجال الذين يُعدُّون الأقرب إلى المعصوم قدر الإمكان، مع العلم بالفارق الكبير بينهما، ولذا جاءت السلسلة كالتالي: الأصل، وهو الله تعالى، ثمَّ فروعه مُمثَّلة في النَّبي(e)، والأئمة الأطهار(i)، ثمَّ الفقهاء العدول، ثمَّ العلماء العاملون، فهو خطٌ واحدٌ، وسلسلةٌ واحدةٌ، مع حفظ الفارق بين المعصوم وغيره.
8) مع انتهاء السِّلسة تنزُّلًا بغير المعصوم اضطرارًا، نشأت عندنا مسألة في غاية الأهمية، وهي مسألة شخصنة الدِّين، أي ربطه بالشَّخصيات غير المعصومة، وإعمال عاطفة الحبِّ في هذا الارتباط في أوجها، بحيث يكون التعلُّق مطلقًا بغير المعصوم، فانفتح الباب وفقًا لذلك إلى إدخال الفساد، وخلط الغثِّ بالسَّمين؛ حيث لا يُؤمَن من نفس الصَّالح المأخوذ عنه ألَّا يقع في الخطأ كونه غير معصوم، هذا من جهةٍ، ومن جهة أخرى لا يُؤمَن ألَّا يُؤخَذ عن النَّموذج المرتضى عندهمi؛ حيث قد يشتبه المؤمن في تحديد مصداق من يأخذ عنه، فيقع بين يدَيْ دجَّالٍ يدَّعي القِّيادة الدِّينية بأيِّ شكلٍ من أشكالها، فيكون ضحيتَه عقيدةً وسلوكًا من حيث يعلم أو لا يعلم.
والسُّؤال المهمِّ هنا: كيف نعالج هذه المشكلة الواردة؟! فمن جهة: لا بدَّ من شخصنة الدِّين ولو بمقدار؛ حيث اتَّضحت أهمية ربط الدِّين بالأشخاص في تحقيق عملية التديُّن، وتلبية متطلباتها، ومن جهة أخرى: قد نكون بذلك في وارد نسبة ما ليس في الدِّين إلى الدِّين، فتفسد العقيدة، ويفسد السُّلوك، ويضيع الهدف من الشَّخصنة حينئذٍ!
النُّقطة الثَّانية: الآراء حول (شخصنة الدِّين)
وهنا تأتي عدَّة نظريات، فإنَّ ربط الدِّين بالأشخاص في هذا العصر -بعد الفراغ من ضرورة ربطِه بالمعصومينi، وأخذه عنهم- فيه آراء متعدِّدة:
الرَّأي الأوَّل: الرَّفض المطلق لشخصنة الدِّين في غير المعصوم
بمعنى عدم جواز الأخذ من غير المعصوم، إلا أن يكون راويًا عنهم، فالأخذ حقيقة عن المعصوم فقط، وما الرَّاوي إلا واسطة للتوصِّل إليهمi، وكأنَّ أصحابَ هذا الرَّأي يرون التمحُّض في النَّظر إلى هذه الواسطة بعين الطَّريقيَّة.
وتختلف دوافعُ هؤلاء، فهم صنفان:
1) (المُحدَثون): وهم من يرى أنَّ الفُقَهاء ما هم إلا قطَّاع طُرق، ومتمصلحون، يتاجرون بفقاهتهم، ويطلبون الدُّنيا، والوجاهة، ومن هنا يُنظِّرون إلى ضرورة الانفكاك عن خطِّ الفُقَهاء، وإلغاء التبعيَّة لهم، والتَّعامل المباشر مع الموروث الرِّوائي لأخذ الدِّين عنه دون واسطة، اعتمادًا على العقل.
2) (المُحدِّثون): وهم من يرى ضرورة الرُّجوع إلى الفقهاء، ولكن بمعنى أنَّهم رواةٌ، ونقَّادٌ للأخبار، متخصصِّون فيها، فقط يحددِّون ما يمكن أخذُه منها، وما لا يمكن الاعتماد عليه منها، وليس لهم أن يجتهدوا بابتداع الآراء من خلال استنطاق النُّصوص برؤيةٍ تجديديَّةٍ، أو تحليليَّةٍ، أو موضوعيَّة، بل عليهم أن ينظروا في الأخبار بنحو نمطيٍّ تقليديٍّ؛ لأنَّ أهل البيتi خاطَبوا النَّاس بهذا النَّمط التقليديِّ، فلا وجهَ حينئذٍ لإعطاء هذه النُّصوص مداليل ظنيَّة لا تحتملها ألفاظها.
وربَّما استندوا في ذلك إلى مفاد عديدٍ من الرِّوايات، منها ما عن الصَّادقg: >اعْرِفُوا مَنَازِلَ الرِّجَالِ مِنَّا عَلَى قَدْرِ رِوَايَاتِهِمْ عَنَّا<([9])؛ فإنَّ ظاهرها أنَّ منازل الفقهاء عندهمi بقدر روايتهم، وبحسب خبرتهم في ما يتطلَّبه علم الرِّواية، وأمَّا الدِّراية، فلم تُؤخَذ موضوعًا في الحكم بقرب منزلتهم منهمi.
وكذا ما جاء من روايات في بيانِ بطلان الرَّأي، والاستحسان، والاجتهاد، طريقًا لكشفٍ واقعيٍ للأحكام، ممَّا يُفهم منه ضرورة الاقتصار على ظواهر ما جاء عنهمq، دون محاولة تعميقِه بما لا يحتمله لفظه، ثمَّ نسبته إليهمq دون وجه حق.
الرأي الثاني:القبول المطلق لشخصنة الدِّين:
بمعنى ضرورة الذَّوبان في الأشخاص؛ استعاضةً بذلك عن غياب المعصوم؛ فإنَّ حالة الذَّوبان في القائد الدِّيني حالة فطريَّة، ومطلوبة، لتحقيق التَّديُّن الصَّحيح، وعلى هذا فإنَّ هؤلاء الأشخاص واسطةٌ في أصل الموضوع، ولكن هذه الواسطة لها موضوعيَّة، وليست منظورة فقط على نحو الطريقيَّة، والتَّعبير الأوضح المُعبِّر عن هذه الحالة: أنَّ الذي يُؤخذ عنه تُنظر وساطتُه بمنظارٍ بعيدٍ؛ لحفظ أصل الأخذ عنهمi، إلا أنَّ المطلوب الواقعي في هذه النَّظريَّة هو النَّظر إلى المأخوذ عنه الدِّين بنظر الموضوعيَّة؛ تغليبًا لها على ملاحظة الطَّريقيَّة فيه، فيُحصر الإسلام فيه مطلقًا، ويُنوَّه على تقدُّمه، وفضله، واستحقاقه لهذا التَّقديم دونَ غيرِه، ويُتعامل معه -في كثيرٍ من الأحيان- كالمعصوم تمامًا، إلا في مساحات ضيِّقة يضَّطر أصحاب هذه الرُّؤية إلى التَّنويه عليها؛ حفظًا لأصل نظريَّة العصمة.
الرَّأي الثَّالث: القبول المقيَّد لشخصنة الدِّين
إنَّ الشَّخصنة عند هؤلاء أمرٌ بيْن أمرين، فالشَّخص الذي يُؤخذ عنه يُلحظ بلحاظ الطريقيَّة، وبلحاظ الموضوعيَّة أيضًا في نفس الوقت، أمَّا اللحاظ الأوَّل؛ فلأنَّ المطلوب الأساس منه أن يوصِل لرأي أهل البيتi، فإنَّ رأي أهل البيتi عليه المدار حقيقة، ولا خصوصيَّة للرَّأي المستقل عنهم، مهما بلغت مداركه من خبرة، وتجربة، وسداد، إلا بمقدار ما يعبِّر عنه كلُّ ذلك من الأخذ عنهمi على وجه الخصوص، وأمَّا اللحاظ الثَّاني؛ فلأنَّ الواسطة يُطلب فيها مجموعة من الخصال الدقيقة، التي متى اختلَّ بعضُها فإنَّ الطريقيَّة تختلُّ، فلا بدَّ من توفُّر الواسطة على أمور يُنظر إليها بلحاظ الموضوعيَّة في الشَّخص الواسطة.
وهذه الآراء تحتاجُ إلى مناقشةٍ من أجل أن يتبيُّن الصَّحيح من بينها، فأيُّ هذه الآراء هو الصَّحيح؟ هذا ما نذكره في النقطة التالية:
النُّقطة الثَّالثة: مناقشة الآراء الثلاثة
مناقشة الرَّأي الأول
مناقشة الصنف الأوَّل(المُحدَثين):
أولًا: إنَّ إلغاء دور العلماء والمتخصِّصين خلاف الإملاءات الفطريَّة والعقلائيَّة كما اتَّضح ممَّا سبق، وهو يفتح باب الفوضى الفكريَّة، والتَّضارب في الآراء المُحمَّلة على النُّصوص من دون حجَّة.
ثانيًا: إنَّ الدَّعوة إلى قطع العلاقة مع العلماء بتعميم بعض الحالات من الدَّجل الواقع في ادعاء المناصب الدِّينية على كلِّ من شغل هذه المواقع، تُعدُّ دعوى بعيدةً عن الموضوعيَّة، والواقعيَّة، والإنصاف.
ثالثًا: هذا الرَّأي خلاف ما أرشد إليه أهل البيتi أنفسهم من ضرورة اتباع العالم بالشُّروط التي ستتَّضح فيما يأتي إن شاء الله، ففكرة هؤلاء تنقض نفسها بنفسها؛ إذ أنَّها تدعِّي ضرورة الأخذ عن أهل البيتq بالسُّنة المحكيَّة مباشرة، وما دور الفقهاء إلا الرِّواية، ولا شغل لنا بدرايتهم البتَّة، فالحجَّة عندهم هو نفس هذه الرِّوايات، ثمَّ إنَّ نفسَ هذه الرِّوايات ترشِدُ بتظافر واستفاضة حجةٍ إلى ضرورة الأخذ عن خصوص العالم، وعدم الانفصال عنه في فهمِ الدِّين، فكان الطَّريق الذي ارتضوه في اتباع الدِّين بنفسه مبطلاً لحجتهم في بطلان اتباع العلماء.
ومن ذلك ما ورد عن الصادق(ع): >مَنْ دَانَ اللَّهَ بِغَيْرِ سَمَاعٍ مِنْ عَالِمٍ صَادِقٍ أَلْزَمَهُ اللَّهُ التَّيْهَ إِلَى الْعَنَاء...<. ([10])
مناقشة الصنف الثَّاني(المُحدِّثين):
أولًا: إنَّ فتح باب الدِّراية للجميع والاقتصار في التَّواصل مع الفقهاء على أنَّهم مجرَّد وسائط ورواة فقط، يعني جعل حديثهمi شرعة لكلِّ وارد، ويلزم منه أن يفتي كلُّ غير ذي علم بجهله في الدِّين؛ لأنَّه عثر على رواية هنا، أو على حديث هناك، ويلزم منه أن يُنسب إلى الشَّارع ما ليس فيه، وفتح باب البدعة، والإفتاء بغير علم، والتَّوهين من الدِّين، والاستنقاص من حديثهم، وتحكيم الهوى والاستحسان، والخبط في معالجة ما روي عنهم إذا كان متضاربًا في ظاهره، والنَّظر إلى مطلق مع إغفال مقيِّده، والإفتاء وفقًا لعام مع إلغاء مخصِّصه، وعدم التفريق بين الناسخ ومنسوخه، وما ورد من خبر تقية، وما ورد منه جدًّا، وغير ذلك من مستلزمات الصنعة التي لا يقدر عليها حتى العالم إن لم يكن فقيهًا مجتهدًا، فضلًا عن عامة النَّاس، فكيف يُتعاطى حينها مع الفقيه كناقل فقط؟! ومن الذي سيميِّز السُّنة المحكيَّة عن السُّنة الواقعيَّة بنحو الحجة؟! ومن الذي سيتمكَّن من ترتيب الأثر؟!
وقد ورد ما دلَّ على أنَّ الرِّواية وحدها لا تكفي، وأنَّها حين تذكر مجرَّدة عن ملاحظة الدِّراية، فإنَّها تأتي بمعنى إرادة اللازم بذكر الملزوم، فالرِّواية ملزوم، والدِّراية هي اللازم، وهي المراد أساسًا، والقيمة لها، وما قيمة الرِّواية إلا بقيمة درايتها. جاء عن الصَّادق(g): >اعْرِفُوا مَنَازِلَ شِيعَتِنَا عِنْدَنَا عَلَى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ عَنَّا وفَهْمِهِمْ مِنَّا<([11])، وعنه(ع): >اعْرِفُوا مَنَازِلَ شِيعَتِنَا بِقَدْرِ مَا يُحْسِنُونَ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ عَنَّا، فَإِنَّا لَا نَعُدُّ الْفَقِيهَ مِنْهُمْ فَقِيهاً حَتَّى يَكُونَ مُحَدَّثاً<، فَقِيلَ لَهُ: أَويَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُحَدَّثاً؟ قَالَ: >يَكُونُ مُفَهَّماً، والْمُفَهَّمُ مُحْدَّثٌ<([12]).
ثانيًا: إنَّ الملحوظ أنَّهمi أعطوا كلَّ واحد بمقدار استعداده، فمن جهة اقتصروا في بعض الأحاديث على المستوى الواضح في الفهم العرفيِّ النمطيِّ المتعارف، مخاطبين به النَّاس العاديين، ومن جهة أخرى أفاضوا الكثير من خزائن علومهم على من كان يمتلك استعدادًا لتلقِّيها من أصحابهم الخلَّص(رض)، فحصر ما أُثر عنهم في النَّمط الأوَّل بلا وجهٍ، ويدلُّ على ذلك طوائف من رواياتهمi، منها:
1) ما دلَّ على أنَّ حديثهم صعب مستصعب. ([13])
2) ما دلَّ على أنَّ في حديثهم محكمًا ومتشابهًا. ([14])
3) ما تحدَّث فعلًا وفقًا للنمط الثاني الذي لبَّى حاجة الخُلَّص، فتعمَّق في بيان خزائن علومهم(i).
إذن: لا شك أنَّ أحاديثهم(i) لم تكن على نسق واحد محصور في المخاطبات السطحيَّة العرفيَّة، فلا بدَّ من الشَّخصنة إذن، بمعنى الرُّجوع إلى غير المعصوم لفهم ذلك كلِّه، وعدم الاستقلال بفهمه بلا حجَّة ظاهرة.
ثالثًا: إنَّ التتبُّع يقضي بأنَّ من الرِّوايات ما لوحظ فيه خصوص الرَّاوي بالنِّسبة إلى تحديد مناط الأخذ عنه، بغض النَّظر عن المروي، ومنها ما لوحظ فيه خصوص المروي، بغض النَّظر عن الرَّاوي، ومقتضى الجمع بين الأمرين هو: أنَّ الشَّارع قد اهتمَّ بالأمرين معًا، وهذا ما يلزمنا بنتيجة مفادها: أنَّ التوصُّل إلى رأي أهل البيتi لا يمكن إلا بملاحظة الرَّاوي والمروي معًا، ممَّا يعني حتميَّة شخصنة الدِّين في غير المعصوم، بسبب انحصار الطَّريق -في التوصُّل إلى دين المعصوم- بهذا الطَّريق العقلائي الذي يلحظ خصوصيات الرَّاوي، ولكن بشروط بيَّنوهاi، متى ما اتُّبعت، أخذنا بأقربها احتمالًا لإصابة دينهمi، ومتى ما أُخلَّ بها، فإنَّ نتيجة ذلك هي الابتعاد عن منهجهم، وعن دينهمi.
والنَّتيجة: أنَّ ربط الدِّين بأشخاص أهل البيت(i) في هذا العصر، لا يمكن أن يكون إلا بربطه بوسائط وأشخاص من غير المعصومين(i)، وهذا هو الطريق العرفيُّ، والفطريُّ، والعقلائيُّ المُمضى من عندهم(i)، وبهذا يتَّضح بطلان الرأي الأول، وأنَّ النَّظر إلى الفقهاء بعين الطريقية البحتة أمرٌ مخالف للفطرة، والسِّيرة العقلائيَّة، والسيرة المتشرعيَّة، فنبقى حينئذٍ بين أمرين: أن ننظر إليهم بعين الموضوعيَّة فقط. أو أن ننظر إليهم بعين جامعة بين الأمرين.
مناقشة الرَّأي الثَّاني (القبول المطلق لشخصنة الدِّين):
وأكتفي هنا بمناقشتين:
المناقشة العُقلائيَّة:
إنَّ حالة الذَّوبان في غير المعصوم ما لم تكن مستندة إلى ضوابط، فإنَّها ستكون أمام محكٍّ خطير جدًا، قد يؤدِّي إلى عكس النَّتائج المرجوَّة من اتِّباع قادة الدِّين ومرجعياته، ولا ضمانة حينئذٍ من الانحراف، وعلى ذلك شواهد كثيرة، دلَّت على أنَّ الارتباط العاطفيَّ غير الموزون، والذي لا يتَّكئ على ضوابط علميَّة وعمليَّة واضحة، يجعل الإنسان بمثابة الأعمى، ويجعله مستعدًا لضرب الثَّوابت -فضلًا عن غيرها- للمحافظة على الصُّورة التي حملها تجاه محبوبه، فكم من الضَّلالات التي وقعت، والبدع التي انتشرت، كان أساسها الارتباط بأشخاص مرضى، يتخضَّعون، ويتخشَّعون، ويتلاعبون بالكلام والمصطلحات،، فيُغوون، ويُضلُّون، يُؤخذ عنهم الدِّين مختلَطًا، فمن هذا ضغث، ومن هذا ضغث، وتكون النتيجة فكرًا هجينًا، وعاطفة مختلَّة، وعقيدة فاسدة، وادعاءً لمظلوميات لا واقع لها، فانظر بالتعمُّق والتحليل إلى أساس دعاوى السَّفارة، ودعاوى المرجعيَّة الفاسدة، ستجد أنَّ أساسها هو الارتباط العاطفيُّ غير الموزون بالشخصيات غير المعصومة، وحينها تتَّضح خطورة شخصنة الدِّين مع هذا الرأي..
وقد ورد عن النَّبي صلى الله عليه وآله >أخوف ما أخاف على أمّتي كلَّ منافق عليم اللسان<([15]).
لا يُقال: إنَّ مثل هذه الشَّخصنة هي التي حفظت الدِّين، وأنتجت ما أنتجت من مجتمعات مستميتة في فهم الدِّين الحقِّ، مضحيَّة في سبيله.
لأنَّا نقول:
إنَّ صحَّة المصداق في بعض الأحيان، ما لم يكن موزونًا ومضبوطًا بفكرة علمية ثابتة، ظنٌّ لا يُغني من الحقِّ شيئًا، فإنَّ الذي وصل إلى المصداق الصَّحيح اليوم، قد يصل إلى غيره غدًا، فالتَّعويل الحقُّ على الميزان العلمي، لا على الظُّنون، والرَّجم بالغيب، والفرصة التي قد تُتاح، وقد لا تتاح.
المناقشة الرِّوائيَّة:
نهى أئمة أهل البيتg عن هكذا ارتباط ما لم يكن مضبوطًا بميزان علمي وأسس واضحة، فمَّما ورد في ذلك:
1) عن النَّبي(e): >غَرِيبَتَانِ؛ كَلِمَةُ حِكْمَةٍ مِنْ سَفِيهٍ فَاقْبَلُوهَا، وكَلِمَةُ سَفَهٍ مِنْ حَكِيمٍ فَاغْفِرُوهَا<([16])، وعن الصادق(g): >إِنَّ الْحِكْمَةَ لَتَكُونُ فِي قَلْبِ الْمُنَافِقِ فَتَجَلْجَلُ فِي صَدْرِهِ حَتَّى يُخْرِجَهَا فَيُوعِيَهَا الْمُؤْمِنُ، وتَكُونُ كَلِمَةُ الْمُنَافِقِ فِي صَدْرِ الْمُؤْمِنِ فَتَجَلْجَلُ فِي صَدْرِهِ حَتَّى يُخْرِجَهَا فَيَعِيَهَا الْمُنَافِقُ<([17])، هذان الحديثان يبيِّنان واقع حال غير المعصوم، فربما صدرت الحكمة عن صدر منافق، نتيجة رجوعه لفطرته السليمة القابعة في أعماقه، فأثَّر بها على قلب المؤمن، وربما صدرت كلمة النِّفاق عن صدر المؤمن، لمحلِّ عدم عصمته، فأثَّرت في قلب المنافق، فعزَّ التمحُّض في الإيمان أو في النِّفاق عند عاديِّ النَّاس، والقاعدة العامة التي توجب الحذر من كلِّ أحد هي هذه، فالأصل أنَّ غير المعصوم هذا هو حاله، إلا ما خرج بدليل ممَّن قذف الله تعالى حبَّهم في قلوب المؤمنين لصفاء سريرتهم المدلول عليه بكثرة التَّجربة وتكرارها، والتي يُبرزها لنا ظاهرهم الحسن بنحو مستمِّر يصعب ثباته لو كانت صفة الإيمان عندهم مستودعًا لا مستقرًا.
فما دلَّ على توصيف واقعِ المأخوذ منه ما دام غير معصوم، يستدعي طريقة تعامل حذرة دائمًا في عملية الأخذ، فالمأخوذ منه على صلاحه، لا يسلم من الخطأ والزَّلل ما لم يكن معصومًا، فلا بدَّ حينئذٍ من التَّعامل مع هذا الواقع –منطقيًا- بحسبه، فلا تُغمَض العين في الأخذ منه دون تحكيم دائم للعمومات والثَّوابت.
2) عن الثُّمالي عن الصادق(g): >إِيَّاكَ والرِّئَاسَةَ، وإِيَّاكَ أَنْ تَطَأَ أَعْقَابَ الرِّجَالِ< قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَمَّا الرِّئَاسَةُ فَقَدْ عَرَفْتُهَا، وأَمَّا أَنْ أَطَأَ أَعْقَابَ الرِّجَالِ فَمَا ثُلُثَا مَا فِي يَدِي إِلَّا مِمَّا وَطِئْتُ أَعْقَابَ الرِّجَالِ، فَقَالَ لِي: >لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ، إِيَّاكَ أَنْ تَنْصِبَ رَجُلًا دُونَ الْحُجَّةِ فَتُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ<([18]).
قال العلامة المجلسي: "بيان: ظنَّ السَّائل أنَّ مراده(g) بوطئ أعقاب الرِّجال مطلق أخذ العلم عن النَّاس، فقال(ع): المراد أن تنصب رجلا غير الحجَّة فتصدِّقه في كلَّ ما يقول برأيه من غير أن يسند ذلك إلى المعصوم(ع)، فأمَّا من يروي عن المعصوم أو يفسر ما فهمه من كلامه لمن ليس له صلاحية فهم كلامه من غير تلقين، فالأخذ عنه كالأخذ عن المعصوم، ويجب على من لا يعلم الرُّجوع إليه ليعرف أحكام الله تعالى"([19]).
3) ورد عن الأمير(ع): >..إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ بَلْ بِآيَةِ الْحَقِّ..<([20])، وظاهر هذا الحديث التنبيه على خطورة الارتباط بالرِّجال غير المعصومين بحيث يُؤخذ الدِّين عنهم بلا تمحيص وتدقيق فيما يصدر عنهم، وبالتَّسليم المطلق لما يقولون، بحيث يُتعامل معهم كالتَّعامل مع المعصوم.
والنَّتيجة: أنَّ الرأي الثَّاني ليس صحيحًا، كما هو الأمر في الرأي الأول، ومع ملاحظة ذلك كلِّه، تتَّضح صحة النَّظرية الثالثة فحسب، وهي: أنَّ التَّوصل إلى الدِّين كما أنَّه يحتاج إلى شخصنة في غير المعصوم، وكما أنَّه يحتاج إلى ارتباط عاطفي بالمأخوذ عنه ولو لم يكن معصومًا، فهو في نفس الوقت يحتاج إلى تحرِّي الضوابط الدقيقة وتطبيقها في هذا الشخص الذي سيؤخذ عنه دين الله تعالى.
ومن هنا يأتي السُّؤال: ما هي تلك الضَّوابط التي حدَّدها أهل البيتq لتكوين هذه الرَّابطة العاطفيَّة مع غير المعصومين، لتحقيق هدف الوصول إلى المعصومين، ورأيهم، وهديهم؟ هذا ما سيبحث في النُّقطة التَّالية إن شاء الله تعالى.
النُّقطة الرَّابعة: الضَّوابط الملحوظة لحفظ التَّطبيق الصَّحيح لـ(شخصنة الدِّين):
أولًا: الضَّوابط الملحوظة في المأخوذ عنه:
1) تمحُّض المأخوذ عنه في الأخذ عن أهل البيت(i): أي أن يكون من يُؤخذ عنه يأخذ من نبعٍ صافٍ، أمَّا من لا يأخذ عن أهل البيت، أو يأخذ عنهم وعن غيرهم بحيث يصدِّر فكرًا هجينًا منبهرًا بما لدى غير المعصومين(i)، فهو ليس أهلًا لأنَّ يتموضع في هذا الموضع الحسَّاس، وقد نقلنا سابقاً عن الباقر(g): >فَلْيُشَرِّقِ الْحَكَمُ ولْيُغَرِّبْ، أَمَا واللَّهِ لَا يُصِيبُ الْعِلْمَ إِلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَبْرَئِيلُg<([21]).
2) أن ينعكس العلم بقيَمه في سلوك المأخوذ عنه: ورد أنَّه من وصية ذي القرنين: >لَا تَتَعَلَّمِ الْعِلْمَ مِمَّنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ لَا يَنْفَعُك<([22])، وهذه الوصية ناظرة إلى ضرورة ملاحظة السمت الأخلاقي للمأخوذ عنه، دون الاكتفاء بقدرته على الكلام والإقناع في حدِّ ذاتها، فالعالم ينبغي أن يكون متهذِّبًا بما يعلم، وإلَّا كان قاطع طريق، وهذه واحدة من أهمِّ العلامات التي ينبغي أن يتحرَّاها المؤمن في من يأخذ عنه دينه، فليس العلم كلَّ شيء، بل انعكاسات ذلك العلم في القول والفعل دليلٌ على صدق ذلك العلم، ونقائه، وصفائه، بل يُفهم من الرِّوايات أنَّ المعلومات والاصطلاحات التي يستعملها مدَّعي العلم، إذا لم تجد أثرها في سلوكه، فإنَّ ذلك لا يصحُّ أن يُسمَّى علمًا من الأساس، فمن يقول ما لا يفعل، ويعلم ما لا يعمل به، فلا يُؤمَن أن يكون وجهًا يُقصد لأخذ معالم الدِّين؛ إذ أنَّ نفسه الأمَّارة حينئذٍ ستكون ذات أثر في عملية تبليغ الدِّين، فهذه علامة، من كان معتدًّا بنفسه، منفعلًا بخلق الغرور والتكبر، مترِّفعًا على الآخرين، غير متأدِّب مع أقرانه من العلماء، همُّه تسقيطهم، واتهامهم بالجهل، أو بالتغرير بالنَّاس، فلا يرعوي في سبيل ذلك أن يكذب عليهم، أو أن يقتطع، أو أن يلتقط في فكره الهجين، وينسب ذلك كلَّه إلى نفسه، ويسرق جهود الآخرين، فإنَّ ما بني على باطل لا ينتج إلا باطلًا، وما خبث لا يخرج إلا نكدًا، فاعلم حينها أنَّ صاحب هذه الدَّعوى باطل، وقوله باطل، وفعله باطل، فلا يؤخذ عنه الدِّين؛ لأنَّه ينطق عن الشَّيطان، لا عن الله تعالى.
وهنا مسألة، وهي أنَّ بعض الأحاديث تدعو لأخذ الحكمة ولو من منافق، وبعضها يأمر بأخذ الدِّين من خصوص العالم التَّقي، ويلزم بضرورة النَّظر إلى من يأخذ عنه، فهل هناك تهافت؟!
الجواب: أنَّ الطَّائفة الأولى ناظرة إلى حالة ضرورة استتباع الحكمة بغض النَّظر عن طريقها، أو أنَّها ناظرة إلى الأخذ العابر بعد الفراغ من متانة الأصول التي يبني عليها الآخذ في تقييم ما يأخذه، وأنَّه من الحكمة لا من الباطل، وأمَّا الطَّائفة الثَّانية فهي ناظرة إلى الأصول، وإلى مرحلة البناء، ففي هذه المرحلة لا يجوز الأخذ إلا ممن فُرِغ من كونه ممَّن يُؤخذ عنه بتوفر الشروط فيه.
ثانيًا: الضَّوابط الملحوظة في الآخذ:
1) ضرورة تحصيل البصيرة: عن الأمير(g): >أَوْ مُنْقَاداً لِأَهْلِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَة<([23]).
2) إنَّ ملاحظة حسن السمت وثباته علامة مقرِّبة لتحقيق الاطمئنان بصفاء من يُؤخذ عنه، ورد في البحار: "قَالَ رَجُلٌ لِلصَّادِقِg: فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مِنَ الْيَهُودِ لَا يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ إِلَّا بِمَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ ذَمَّهُمْ بِتَقْلِيدِهِمْ والْقَبُولِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ وهَلْ عَوَامُّ الْيَهُودِ إِلَّا كَعَوَامِّنَا يُقَلِّدُونَ عُلَمَاءَهُمْ؟! فَإِنْ لَمْ يَجُزْ لِأُولَئِكَ الْقَبُولُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ لَمْ يَجُزْ لِهَؤُلَاءِ الْقَبُولُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ! فَقَالَg: >بَيْنَ عَوَامِّنَا وعُلَمَائِنَا وبَيْنَ عَوَامِّ الْيَهُودِ وعُلَمَائِهِمْ فَرْقٌ مِنْ جِهَةٍ وتَسْوِيَةٌ مِنْ جِهَةٍ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ اسْتَوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَمَّ عَوَامَّنَا بِتَقْلِيدِهِمْ عُلَمَاءَهُمْ كَمَا ذَمَّ عَوَامَّهُمْ، وأَمَّا مِنْ حَيْثُ افْتَرَقُوا فَلَا< قَالَ بَيِّنْ لِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ قَالَg: >إِنَّ عَوَامَّ الْيَهُودِ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا عُلَمَاءَهُمْ بِالْكَذِبِ الصَّرِيحِ، وبِأَكْلِ الْحَرَامِ، والرِّشَاءِ، وبِتَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ عَنْ وَاجِبِهَا بِالشَّفَاعَاتِ والْعِنَايَاتِ والْمُصَانَعَاتِ، وعَرَفُوهُمْ بِالتَّعَصُّبِ الشَّدِيدِ الَّذِي يُفَارِقُونَ بِهِ أَدْيَانَهُمْ، وأَنَّهُمْ إِذَا تَعَصَّبُوا أَزَالُوا حُقُوقَ مَنْ تَعَصَّبُوا عَلَيْهِ، وأَعْطَوْا مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَعَصَبُّوا لَهُ مِنْ أَمْوَالِ غَيْرِهِمْ، وظَلَمُوهُمْ مِنْ أَجْلِهِمْ، وعَرَفُوهُمْ يُقَارِفُونَ الْمُحَرَّمَاتِ، واضْطُرُّوا بِمَعَارِفِ قُلُوبِهِمْ إِلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا يَفْعَلُونَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ عَلَى اللَّهِ، ولَا عَلَى الْوَسَائِطِ بَيْنَ الْخَلْقِ وبَيْنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ ذَمَّهُمْ لِمَا قَلَّدُوا مَنْ قَدْ عَرَفُوا، ومَنْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِهِ، ولَا تَصْدِيقُهُ فِي حِكَايَاتِهِ، ولَا الْعَمَلُ بِمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِمْ عَمَّنْ لَمْ يُشَاهِدُوهُ، ووَجَبَ عَلَيْهِمُ النَّظَرُ بِأَنْفُسِهِمْ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِK؛ إِذْ كَانَتْ دَلَائِلُهُ أَوْضَحَ مِنْ أَنْ تَخْفَى، وأَشْهَرَ مِنْ أَنْ لَا تَظْهَرَ لَهُمْ، وكَذَلِكَ عَوَامُّ أُمَّتِنَا إِذَا عَرَفُوا مِنْ فُقَهَائِهِمُ الْفِسْقَ الظَّاهِرَ، والْعَصَبِيَّةَ الشَّدِيدَةَ، والتَّكَالُبَ عَلَى حُطَامِ الدُّنْيَا وحَرَامِهَا، وإِهْلَاكِ مَنْ يَتَعَصَّبُونَ عَلَيْهِ، وإِنْ كَانَ لِإِصْلَاحِ أَمْرِهِ مُسْتَحِقّاً، والتَّرَفْرُفِ بِالْبِرِّ والْإِحْسَانِ عَلَى مَنْ تَعَصَّبُوا لَهُ، وإِنْ كَانَ لِلْإِذَلَالِ والْإِهَانَةِ مُسْتَحِقّاً، فَمَنْ قَلَّدَ مِنْ عَوَامِّنَا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ فَهُمْ مِثْلُ الْيَهُودِ الَّذِينَ ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّقْلِيدِ لِفَسَقَةِ فُقَهَائِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ حَافِظاً لِدِينِهِ مُخَالِفاً عَلَى هَوَاهُ مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ، وذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْضَ فُقَهَاءِ الشِّيعَةِ لَا جَمِيعَهُمْ، فَأَمَّا مَنْ رَكِبَ مِنَ الْقَبَائِحِ والْفَوَاحِشِ مَرَاكِبَ فَسَقَةِ فُقَهَاءِ الْعَامَّةِ فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُمْ عَنَّا شَيْئاً ولَا كَرَامَةَ، وإِنَّمَا كَثُرَ التَّخْلِيطُ فِيمَا يُتَحَمَّلُ عَنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفَسَقَةَ يَتَحَمَّلُونَ عَنَّا فَيُحَرِّفُونَهُ بِأَسْرِهِ لِجَهْلِهِمْ، ويَضَعُونَ الْأَشْيَاءَ عَلَى غَيْرِ وُجُوهِهَا لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ، وآخَرِينَ يَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ عَلَيْنَا، لِيَجُرُّوا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا مَا هُوَ زَادُهُمْ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، ومِنْهُمْ قَوْمٌ نُصَّابٌ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْقَدَحِ فِينَا، فَيَتَعَلَّمُونَ بَعْضَ عُلُومِنَا الصَّحِيحَةِ، فَيَتَوَجَّهُونَ بِهِ عِنْدَ شِيعَتِنَا، ويَنْتَقِصُونَ بِنَا عِنْدَ نُصَّابِنَا، ثُمَّ يُضِيفُونَ إِلَيْهِ أَضْعَافَهُ، وأَضْعَافَ أَضْعَافِهِ مِنَ الْأَكَاذِيبِ عَلَيْنَا، الَّتِي نَحْنُ بُرَآءُ مِنْهَا، فَيَقْبَلُهُ الْمُسْتَسْلِمُونَ مِنْ شِيعَتِنَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ عُلُومِنَا، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا، وهُمْ أَضَرُّ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا مِنْ جَيْشِ يَزِيدَ(عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ) عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّg وأَصْحَابِهِ؛ فَإِنَّهُمْ يَسْلُبُونَهُمُ الْأَرْوَاحَ، والْأَمْوَالَ، وهَؤُلَاءِ عُلَمَاءُ السَّوْءِ النَّاصِبُونَ الْمُتَشَبِّهُونَ بِأَنَّهُمْ لَنَا مُوَالُونَ، ولِأَعْدَائِنَا مُعَادُونَ، يُدْخِلُونَ الشَّكَّ والشُّبْهَةَ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا، فَيُضِلُّونَهُمْ، ويَمْنَعُونَهُمْ عَنْ قَصْدِ الْحَقِّ الْمُصِيب<([24]).
3) رغم ضرورة ملاحظة حسن السمت لاستقراب صلاح المأخوذ منه، فإنَّ التَّحصين ضدَّ سهولة الانخداع، والتَّدقيق في المصداق جيدًا، وعدم التَّسرع في الانقياد إلى كلِّ من ادعى فضلًا، وعلمًا، وصلاحًا، يُعدُّ أمرًا ضروريًا أيضًا، فلا بدَّ من هذه الموازنة.
فعن السَّجادg: >إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ حَسُنَ سَمْتُهُ وهَدْيُهُ، وتَمَاوَتَ فِي مَنْطِقِهِ، وتَخَاضَعَ فِي حَرَكَاتِهِ، فَرُوَيْداً لَا يَغُرَّنَّكُمْ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُعْجِزُهُ تَنَاوُلُ الدُّنْيَا، ورُكُوبُ الْمَحَارِمِ مِنْهَا، لِضَعْفِ بُنْيَتِهِ ومَهَانَتِهِ، وجُبْنِ قَلْبِهِ فَنَصَبَ الدِّين فَخّاً لَهَا، فَهُوَ لَا يَزَالُ يَخْتِلُ النَّاسَ بِظَاهِرِهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ حَرَامٍ اقْتَحَمَهُ.
فَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ مِنَ الْمَالِ الْحَرَامِ، فَرُوَيْداً لَا يَغُرَّنَّكُمْ، فَإِنَّ شَهَوَاتِ الْخَلْقِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَنْبُو عَنِ الْمَالِ الْحَرَامِ وإِنْ كَثُرَ، ويَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى شَوْهَاءَ قَبِيحَةٍ، فَيَأْتِي مِنْهَا مُحَرَّماً.
فَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنْ ذَلِكَ، فَرُوَيْداً لَا يَغُرَّنَّكُمْ، حَتَّى تَنْظُرُوا مَا عُقْدَةُ عَقْلِهِ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَتْرُكُ ذَلِكَ أَجْمَعَ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ إِلَى عَقْلٍ مَتِينٍ، فَيَكُونُ مَا يُفْسِدُهُ بِجَهْلِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ بِعَقْلِهِ.
فَإِذَا وَجَدْتُمْ عَقْلَهُ مَتِيناً فَرُوَيْداً لَا يَغُرَّنَّكُمْ، حَتَّى تَنْظُرُوا مَعَ هَوَاهُ يَكُونُ عَلَى عَقْلِهِ أَوْ يَكُونُ مَعَ عَقْلِهِ عَلَى هَوَاهُ، وكَيْفَ مَحَبَّتُهُ لِلرِّئَاسَاتِ الْبَاطِلَةِ، وزُهْدُهُ فِيهَا، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ خَسِرَ الدُّنْيا والْآخِرَةَ بِتَرْكِ الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا، ويَرَى أَنَّ لَذَّةَ الرِّئَاسَةِ الْبَاطِلَةِ أَفْضَلُ مِنْ لَذَّةِ الْأَمْوَالِ، والنِّعَمِ الْمُبَاحَةِ الْمُحَلَّلَةِ، فَيَتْرُكُ ذَلِكَ أَجْمَعَ طَلَباً لِلرِّئَاسَةِ، حَتَّى إِذَا قِيلَ لَهُ: (اتَّقِ اللَّهَ، أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ولَبِئْسَ الْمِهادُ)
فَهُوَ يَخْبِطُ [خَبْطَ] عَشْوَاءَ، يَقُودُهُ أَوَّلُ بَاطِلٍ إِلَى أَبْعَدِ غَايَاتِ الْخَسَارَةِ، ويَمُدُّ يَدَهُ بَعْدَ طَلَبِهِ لِمَا لَا يَقْدِرُ [عَلَيْهِ] فِي طُغْيَانِهِ، فَهُوَ يُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، ويُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَا يُبَالِي مَا فَاتَ مِنْ دِينِهِ إِذَا سَلِمَتْ لَهُ رِئَاسَتُهُ الَّتِي قَدْ شَقِيَ مِنْ أَجْلِهَا.
فَأُولَئِكَ [مَعَ] الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ولَعَنَهُمْ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً، ولَكِنَّ الرَّجُلَ كُلَّ الرَّجُلِ، نِعْمَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ هَوَاهُ تَبَعاً لِأَمْرِ اللَّهِ، وقُوَاهُ مَبْذُولَةً فِي رِضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، يَرَى الذُّلَّ مَعَ الْحَقِّ أَقْرَبَ إِلَى عِزِّ الْأَبَدِ مِنَ الْعِزِّ فِي الْبَاطِلِ، ويَعْلَمُ أَنَّ قَلِيلَ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ ضَرَّائِهَا يُؤَدِّيهِ إِلَى دَوَامِ النِّعَمِ فِي دَارٍ لَا تَبِيدُ ولَا تَنْفَدُ، وإِنَّ كَثِيرَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ سَرَّائِهَا إِنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ يُؤَدِّيهِ إِلَى عَذَابٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ ولَا زَوَالَ.
فَذَلِكُمُ الرَّجُلُ نِعْمَ الرَّجُلُ، فَبِهِ فَتَمَسَّكُوا، وبِسُنَّتِهِ فَاقْتَدُوا، وإِلَى رَبِّكُمْ فَبِهِ فَتَوَسَّلُوا، فَإِنَّهُ لَا تُرَدَّ لَهُ دَعْوَةٌ، ولَا تُخَيَّبُ لَهُ طَلِبَة<([25]).
3) ضرورة القدرة على الفصل بين العالم، والمدَّعي، فإنَّ العالم الحقّ يحافظ على صفاء المنقول، بينما المدَّعي الذي لا ينفعل بما ينقل، فإنَّه ينقله بكدر وشوائب نفسيَّة قد تحرف المنقول عن مساره الصَّحيح، فيُنسب إلى الدِّين زورًا وبهتانًا، فالوعاء الكدر، ليس كالوعاء النَّظيف، ومعرفة أنَّ في الواقع ما يعبِّر عن الاثنين، يستدعي حذرًا في الأخذ، تحريًّا للتمييز بينهما، جاء عن الباقر(g): >إِنَّ لَنَا أَوْعِيَةً نَمْلَؤُهَا عِلْماً وحُكْماً ولَيْسَتْ لَهَا بِأَهْلٍ، فَمَا نَمْلَؤُهَا إِلَّا لِتُنْقَلَ إِلَى شِيعَتِنَا، فَانْظُرُوا إِلَى مَا فِي الْأَوْعِيَةِ فَخُذُوهَا، ثُمَّ صَفُّوهَا مِنَ الْكُدُورَةِ تَأْخُذُونَهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً صَافِيَةً، وإِيَّاكُمْ والْأَوْعِيَةَ فَإِنَّهَا وِعَاءُ سَوْءٍ فَتَنَكَّبُوهَا<([26])، ويبيِّن هذا الحديث الشَّريف أنَّهم(i) مضطرون للتعامل مع حملة العلم لتحقيق عملية النقل والتناقل، وأنَّ بعض أوعية العلم ليست صافية في كلِّ حين، باعتبار عدم عصمتها، فلا بدَّ وأن يُتعامل معها بحذر، وبعين التَّدقيق، من أجل التوصُّل إلى فصل ما مِن عندهم، عن ما مِن عند أهل البيت(i)، فلا يُغتشُّ بالخليط.
وجاء عن الصادق(g): >اطْلُبُوا الْعِلْمَ مِنْ مَعْدِنِ الْعِلْمِ، وإِيَّاكُمْ والْوَلَائِجَ، فِيهِمُ الصَّدَّادُونَ عَنِ اللَّهِ<، ثُمَّ قَالَ >ذَهَبَ الْعِلْمُ، وبَقِيَ غُبَّرَاتُ الْعِلْمِ فِي أَوْعِيَةِ سَوْءٍ، فَاحْذَرُوا بَاطِنَهَا؛ فَإِنَّ فِي بَاطِنِهَا الْهَلَاكَ، وعَلَيْكُمْ بِظَاهِرِهَا فَإِنَّ فِي ظَاهِرِهَا النَّجَاةَ<([27])، قال العلامة المجلسي في شرح هذا الحديث: "لعلَّ المراد بتصفيتها تخليصها من آرائهم الفاسدة، أو من أخبارهم التي هم متهمون فيها لموافقتها لعقائدهم، والمراد بباطنها عقائدها الفاسدة، أو فسوقها التي يخفونها عن الخلق"([28]).
4) يُفهم من بعض الأحاديث أنَّ التقوى والتوكُّل على الله تعالى، والاعتماد عليه يعدُّ عاملًا مساعدًا للتوفيق في اختيار المأخوذ عنه ومنه، فعن الباقر(g): >إِنَّ الْقُرْآنَ شَاهِدُ الْحَقِّ، ومُحَمَّدٌe لِذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ، فَمَنِ اتَّخَذَ سَبَباً إِلَى سَبَبِ اللَّهِ لَمْ يُقْطَعْ بِهِ الْأَسْبَابُ، ومَنِ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ سَبَباً مَعَ كُلِّ كَذَّابٍ، فَاتَّقُوا اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ أَعْلَامَ دِينِكُمْ، ومَنَارَ هُدَاكُمْ، فَلَا تَأْخُذُوا أَمْرَكُمْ بِالْوَهْنِ، ولَا أَدْيَانَكُمْ هُزُؤاً فَتَدْحَضَ أَعْمَالُكُمْ، وتُخْبِطُوا سَبِيلَكُمْ، ولَا تَكُونُوا أَطَعْتُمُ اللَّهَ رَبَّكُمْ، اثْبُتُوا عَلَى الْقُرْآنِ الثَّابِتِ، وكُونُوا فِي حِزْبِ اللَّهِ تَهْتَدُوا، ولَا تَكُونُوا فِي حِزْبِ الشَّيْطَانِ فَتَضِلُّوا، يَهْلِكُ مَنْ هَلَكَ، ويَحْيَا مَنْ حَيَّ، وعَلَى اللَّهِ الْبَيَانُ؛ بَيَّنَ لَكُمْ فَاهْتَدُوا، وبِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ فَانْتَفِعُوا، والسَّبِيلُ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً<([29]).
وعن الصادق(g): >[لَا جَرَمَ] أَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ -مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَوَامِّ- أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِلَّا صِيَانَةَ دِينِهِ وتَعْظِيمَ وَلِيِّهِ، لَمْ يَتْرُكْهُ فِي يَدِ هَذَا الْمُلَبِّسِ الْكَافِرِ، ولَكِنَّهُ يُقَيِّضُ لَهُ مُؤْمِناً يَقِفُ بِهِ عَلَى الصَّوَابِ، ثُمَّ يُوَفِّقُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْقَبُولِ مِنْهُ، فَيَجْمَعُ لَهُ بِذَلِكَ خَيْرَ الدُّنْيَا والْآخِرَةِ، ويَجْمَعُ عَلَى مَنْ أَضَلَّهُ لَعْنَ الدُّنْيَا وعَذَابَ الْآخِرَةِ<([30]).
5) ضرورة تحديد الضَّوابط العلمية في الأخذ، والابتعاد عن الاقتصار على العاطفة في الاتباع، فمهما بلغ المأخوذ عنه من حسن في السمت، والهيئة، فإنَّ الارتباط به عاطفيًا بنحو لا أساس علمي واضح له -بل مجرد ارتباط بالشَّخص أكثر من كونه ارتباطًا بالدِّين نفسه- لا محالة يؤدِّي إلى الخروج من الدِّين كما دخل المرء فيه من بوابة العاطفة المجرَّدة عن التَّحقيق والتثبُّت.
ورد عن الصادق(g): >مَنْ عَرَفَ دِينَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ زَالَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ أَنْ يَزُولَ، ومَنْ دَخَلَ فِي أَمْرٍ بِجَهْلٍ خَرَجَ مِنْهُ بِجَهْل<([31])، وعنه(g): >مَنْ دَخَلَ فِي هَذَا الدِّين بِالرِّجَالِ أَخْرَجَهُ مِنْهُ الرِّجَالُ كَمَا أَدْخَلُوهُ فِيهِ، ومَنْ دَخَلَ فِيهِ بِالْكِتَابِ والسُّنَّةِ زَالَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ أَنْ يَزُولَ<([32]).
والنتيجة: أنَّ التَّعامل مع الشَّخص غير المعصوم على أنَّه الدِّين نفسه ليس صحيحًا، بل هو أخطر ما يكون على دين المرء، وأمَّا أخذ الدِّين عن غير المعصوم إذا كان مُعبِّرًا -وفق الموازين العلمية- عن المعصوم، بانحفاظ الضَّوابط العلمية والعملية فيه، فليس هذا يُعدُّ أمرًا حسنًا فحسب، بل هو أمر ضروري، حيث لا طريق لأخذ الدِّين حينئذٍ غير هذا الطريق، إلا أن يكون رجوعًا إلى هوى والعياذ بالله.
([1]) الغيبة للنعماني، ص: 22.
([2]) المحاسن للبرقي ، ج1، ص: 263.
([3]) بصائر الدرجات في فضائل آل محمدK، محمد بن الحسن الصفار، ج1، ص: 13.
([4]) بصائر الدرجات في فضائل آل محمدK، محمد بن الحسن الصفار، ج1، ص: 14.
([5]) الأمالي (للمفيد)، ص: 96.
([6]) بصائر الدرجات في فضائل آل محمدK، محمد بن الحسن الصفار، ج1، ص: 511.
([7]) صفات الشيعة، الشيخ الصدوق، ص: 3.
([8]) بصائر الدرجات في فضائل آل محمدK، محمد بن الحسن الصفار، ج1، ص: 9.
([9]) رجال الكشي - اختيار معرفة الرجال، ص: 3.
([10]) الغيبة للنعماني، النص، ص: 134
([11]) الغيبة للنعماني، النص، ص: 22.
([12]) رجال الكشي - اختيار معرفة الرِّجال، ص: 3.
([13]) منها ما عن الإمام الباقر عليه السلام َ: >قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: إِنَّ حَدِيثَ آلِ مُحَمَّدٍ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يُؤْمِنُ بِهِ إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَوْ عَبْدٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَان..< بصائر الدرجات، الصفار، ج1، ص: 21
([14]) منها ما عَنْ أَبِي حَيُّونٍ مَوْلَى الرِّضَا [عن الرضا] ع قَالَ: >مَنْ رَدَّ مُتَشَابِهَ الْقُرْآنِ إِلَى مُحْكَمِهِ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ثُمَّ قَالَ إِنَّ فِي أَخْبَارِنَا مُتَشَابِهاً كَمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ ومُحْكَماً كَمُحْكَمِ الْقُرْآنِ فَرُدُّوا مُتَشَابِهَهَا إِلَى مُحْكَمِهَا ولَا تَتَّبِعُوا مُتَشَابِهَهَا دُونَ مُحْكَمِهَا فَتَضِلُّوا< عيون أخبار الرضاo، الشَّيخ الصَّدوق، ج1، ص: 290.
([15]) نهج الفصاحة ، ص: 174.
([16]) المحاسن للبرقي، ج1، ص: 230.
([17]) بحار الأنوار (ط - بيروت)، ج2، ص: 94.
([18]) الكافي للشيخ الكليني(ط - الإسلامية)، ج2، ص: 298.
([19]) بحار الأنوار (ط - بيروت)، ج2، ص: 83.
([20]) الأمالي (للمفيد)، ص: 5.
([21]) بصائر الدرجات، الصفار، ج1، ص: 9.
([22]) الدعوات (للراوندي) ،ص: 63.
([23]) الغيبة للنعماني، ص: 21.
([24]) بحار الأنوار (ط - بيروت)، العلامة المجلسي، ج2، ص: 87-88.
([25]) التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكريo، ص: 53-55.
([26]) بحار الأنوار (ط - بيروت)، العلامة المجلسي، ج2، ص: 93.
([27]) المصدر السابق.
([28]) المصدر السابق.
([29]) المحاسن، ج1، ص: 268-269.
([30]) التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكريo، ص: 301.
([31]) بحار الأنوار (ط - بيروت)،العلامة المجلسي، ج23، ص: 103.
([32]) الغيبة للنعماني، ص: 22.
0 التعليق
ارسال التعليق