فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) موجودة في أرض قم القسم الثاني(1)

فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) موجودة في أرض قم القسم الثاني(1)

الشباهة التاسعة: المواقف في الدفاع عن الإمامة

من أسمى المواقف التي ترفع من قيمة الإنسان هي دفاعه عن دينه وعقيدته وعن إمام زمانه الذي يمثل محور عقيدته التي يعتقدها، وحجة الله على خلقه وهو سبب بقاء وديمومة الحياة، فبذلك العمل يكون الدين مستمراً دائماً قائماً.

ومن أبرز المواقف التي جرت في الإسلام وذكرها التاريخ لنا هو جهاد المرأة وتضحياتها على مرّ العصور، فهي الركن الثاني المكمل لدور الرجل ولها القدرة على التأثير في القضايا لشأنيتها الخاصة التي تؤهلها للاختصاص بذلك، ومـن بين تاريخ تلك التضحــيات فاقت السيــدة

الزهراء (عليها السلام) في ذلك الجهاد كل النساء بمراتبه ووصلت لأعلاها، وهو الذي تمثل في دفاعها عن إمام زمانها علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي كان يمثل بقية الدين وحلقة الوصل بين الإمامة والنبوة، وهي في ذلك سارت على نهج أمها خديجة التي جاهدت قريش وساندت زوجها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وهو إمام ذلك الزمان، وما كل ذلك إلا لكون الزهراء أعرف الناس بمن يكون علي (عليه السلام) وأنه الحق الذي يدور معه حيث دار، والمهم في الأمر هو أنها لم تعتبر جهادها من ضربها ولا من مسألة فدك أيضاً مسألة شخصية، ولم تكن إجابتها القوم من وراء الباب تصرفاً شخصياً، بل كان كل ذلك تصرفاً ربانياً ودفاعاً عن الإمامة والخلافة التي يراد اغتصابها فهي تدرك أي مقام هذا الذي يريدون اغتصابه، فكانت تريد منع تشريع هذا الاغتصاب، ثم التخلص والتملص من تبعات سلبياته.

نعم، خرجت الزهراء لهم ومانعتهم ووقفت الموقف العظيم الذي كان هو قطب المواقف، فهي التي صبرت على الهجوم على منزلها وحرق دارها وضربها ولطمها إلا أنها لم تقبل بقود الإمامة وقتلها وأخد الخلافة الإلهية، حتى أنها جاءت إلى قبر الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وهمت بالدعاء على الغاصبين لولا أن أمير المؤمنين قد رفض ذلك وأنقد برفضه القوم الذين لا يستحقون ذلك الإنقاذ لهلكوا وأبيدوا، وكان ذلك من أعظم المواقف التي وقفتها (عليها السلام). تقول الرواية: «فقال علي (عليه السلام) لسلمان: أدرك ابنة محمد (صلَّى الله عليه وآله)، فإني أرى جنبتي المدينة تكفئان، والله إن نشرت شعرها، وشقت جيبها، وأتت قبر أبيها وصاحت إلى ربها، لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها وبمن فيها... فأدركها سلمان (رحمه الله) فقال: يا بنت محمد! إن الله بعث أباك رحمة فارجعي. فقالت: يا سلمان! يريدون قتل علي، ما على علي صبر، فقال سلمان: إني أخاف أن يخسف بالمدينة، وعلي (عليه السلام) بعثني إليك يأمرك أن ترجعي إلى بيتك. فقالت: إذاً أرجع وأصبر وأسمع له وأطيع»(2). وفي ذلك يقول إمامنا الباقر (عليه السلام): «والله لو نشرت شعرها لماتوا طراً»(3).

وكذلك سارت على هذا الخط ابنتها السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، تلك التي اعتصر قلبها من الألم ولوعة الفراق لما علمت بأن إمام زمانها وأخيها الإمام الرضا (عليه السلام) سيغادر من المدينة بالرغم لا بالرضا مقهوراً تاركاً عياله وأخواته وابنه الصغير الإمام الجواد (عليه السلام)، وكل ذلك بطلب من عدو الله وعدو رسوله المأمون (لعنه الله) الذي اغتال والدُه -هارون الرشيد- والدَها الإمامَ موسى بن جعفر (صلَّى الله عليه وآله).

وقد علمت من خلال ما جرى من تصرفات الإمام الرضا (عليه السلام) قبل سفره وإقامته مجلس العزاء على نفسه قبل رحيله بأنه لن يعود، فكانت في جملة الباكين عليه في ذلك المجلس، ولذا لم تكتف بوداعه بل بقيت تنظر إلى شخصه حتى فقدت خياله، يقول المحقق الشيخ محمد علي المعلم (رحمه الله): "حدثني أحد أساتذتي الأجلاء بأنه سمع أو قرأ في كتاب أنه لما سار ركب الإمام (عليه السلام) من المدينة صعدت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) على السطح، وبقيت تنظر إلى أخيها وهو يمشي حتى غاب عن عينيها"(4).

وهذا الموقف يحمل من الدلالات شيئاً كثيراً، ويبين مدى قوة الصلة بين الأخ وشقيقته، كما يدل على مدى آثار لوعتها بفراقه وحزنها عليه. وليست هذه الصلة الوثيقة بين الشقيقين لمجرد الرابطة النسبية وأنهما يلتقيان في أب واحد وأم واحدة كما قد يُتَصوَر، وإنما هي لعلمها ومعرفتها (عليها السلام) بمقام الإمامة ومعناها، المتمثلة في أخيها الإمام الرضا (عليه السلام) وإدراكها الخطر البالغ الذي سيواجه الدين ويقصم ظهر الإسلام إن فُقد أو استشهد حجة الله في أرضه.

ثم إنه بعد أن هاجها غيابه وخوف اغتياله من قِبل المأمون، قررت السفر إليه، وتحمل جميع أعباء السفر بقطع تلك المسافة العظيمة جداً والخطرة من المدينة حتى خراسان من أجل معرفة أحوال إمامها والدفاع عنه من ظلم الأرجاس، حتى عانت ما عانت في الطريق -من قتل العباسيين لإخوتها- الأمرّين، وتعرضت قافلتها للمآسي والويلات وكل ذلك احتسبته في سبيل الله والدفاع عن الإمامة، فأشاع بعض ولاة المأمون فيهم خبر موت أخيها الرضا (عليه السلام)، وقدم لها السم على بعض النقولات، فحال ذلك بينها وبينه.

الشباهة العاشرة: الابتلاءات

من أهم الأمور التي تؤكد عليها الروايات في رفع مقام الإنسان المعنوي هو تحمله للابتلاءات والمصائب واجتيازه لهذا الاختبار العظيم، فإن الله إذا أراد أن يرفع مقام إنسان امتحنه وصب عليه صنوف وأنواع الابتلاءات ليعرف قوة مناعته الإيمانية ومدى صبره وتحمله فيرقيه بذلك درجات.

ويقول التاريخ إن أقسى وأعظم أنواع الابتلاءات التي مرت في البشرية هي التي مرت على أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في تاريخهم الحافل بالمآسي والآلام، ومن أقسى تلك المصائب عليهم (عليهم السلام) أن الأيدي الآثمة قد تجاوزت الحد في خصومتها وعدوانها عليهم، لتتجاوز الأعراف والعادات، فتمتد لتهتك حرماتهم، وتكشف أستارهم، وتعتدي على نسائهم بالضرب والسلب والنهب والأسر والتشهير. فإنه ليس بعد قتل المعصوم ما هو أفظع وأفجع مما جرى على بنات الرسالة وعقائل الوحي ابتداءً من ما جرى على جدتهم (عليها السلام) الزهراء وحتى آخرهم، فإذا كان المتآمرون في السقيفة قد وضعوا الأساس حين استطالت أيديهم فضربوا الزهراء (عليها السلام)، وهي بضعة النبي (صلَّى الله عليه وآله) بالسياط ولطموها على خدها ووكزوها بالسيف وأسقطوا حملها في وحشية لم يوجد لها مثيل، فإن بني أمية وبني العباس جاؤوا ليكملوا ما تبقى من حلقات هذا المسلسل، فجرى ما جرى في كربلاء والشام على نساء الحسين (عليه السلام) ما يندى له الجبين، ويعتصر له القلب من عظائم لا يسع المقام لذكرها، واستمر ذلك على حرمهم بعد استلام العباسيين الحكم حتى زمان سيدتنا المعصومة (عليها السلام)، فقد خرج محمد بن جعفر في زمان الرشيد أو المأمون (كما هو متفق عليه بين الرواة)، وأعلن الدعوة إلى نفسه، وقد حذره الإمام الرضا (عليه السلام) من مغبّة ذلك وأخبره بأنه أمر لا يتم وأن حركته فاشلة، فأرسل العباسيون جيشاً بقيادة عيسى بن يزيد الجلودي (لعنه الله) وأمروه إن ظفر به أن يضرب عنقه، وأن يغير على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً، ففعل الجلودي ذلك، وقد كان [ذلك بعد] مضي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)، فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضا (عليه السلام) [و] هجم على داره مع خيله، فلما نظر إليه الرضا (عليه السلام) جعل النساء كلهن في بيت ووقف على باب البيت، فقال الجلودي لأبي الحسن (عليه السلام): لا بد من أن أدخل البيت فأسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين، فقال الرضا (عليه السلام): أنا أسلبهن لك، وأحلف أن لا أدع لهن شيئاً إلا أخذته، فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن، فدخل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) فلم يدع عليهن شيئاً حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأزرهن إلا أخذه منهن، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير(5).

فكيف تتصور حال الإمام الرضا (عليه السلام) وهو يرى بنات رسول الله قد سلبن من كل شيء، وما حال تلك النساء المروعات. فهذا شيء يسير ورد لنا من معاناة السيدة المعصومة (عليها السلام) وأخواتها وأهل بيتها من ظلم وترويع وسبي منذ صغر سنها، وهو الذي جعل أيام حياتها قصيرة ممتزجة بالآلام والمآسي. 

فقد فتحت السيدة المعصومة عينيها على الدنيا في أيام محنة أبيها الكاظم (عليه السلام)، وقد أحاطت به البلايا والسجون وهي في صغر سنها، حتى سمعت بخبر شهادة أبيها (عليه السلام) مسموماً غريباً محمولاً على نعش تحوطه السلاسل والأغلال وهو الذي أفجعها، وما تلا ذلك من أحداث مروعة تعتصر لها الأفئدة تحرّقاً، فرأت تلك الأخطار التي تحدق بأهل هذا البيت (عليهم السلام)، ولكنها تدرك بأن لهذه القضايا جذوراً تمتد إلى زمان جدتها الزهراء (عليها السلام)، فمن ذلك اليوم الذي عانت فيه أمها فاطمة (عليها السلام) آلام الظلم والعدوان، ومن ذلك اليوم الذي نحي فيه جدها أمير المؤمنين (عليه السلام) عن منصب الإمامة أصبح أهل هذا البيت عرضة لظلم الظالمين وتعدي الغاشمين.

وبعد شهادة أبيها ينتقل أخيها إلى خراسان حيث الغربة والعناء وفراق الأهل، وهو الذي جعل قلبها يعتصر الألم ولوعة الفراق، لكونه لن يعود لها بعد ذلك اليوم، فقامت وأعدت العدة للسفر له بعد عام من غيابه في ركب قوامه اثنان وعشرون شخصاً ضم بعض إخوتها وفي طليعتهم السيد أحمد ومحمد والحسين أبناء الإمام الكاظم (عليه السلام) (كما في بعض المصادر)، وبعض أبنائهم وغلمانهم، فساروا يقطعون القفار واتخذوا من الطريق المؤدي إلى قم مساراً لهم إلى طوس.

ولكن ما إن وصل ركبهم لساوة -وهي بلدة لا تبعد كثيراً عن قم- حتى حوصر الركب من قبل ولاة المأمون، ودخل الطرفان في معركة دامية مؤلمة، وذُكر أنهم أشاعوا فيهم أنه إذا كان الغرض الوصول إلى لقاء الرضا فإن الرضا قد مات، الأمر الذي قد أدى إلى زعزعة أفراد هذا الركب وتشتت شمله وتفرقه في أطراف البلاد، فقتل وشرد كل من فيه وكان ذلك كله بمرأى من السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) حين شاهدت مقتل إخوتها وأبنائهم صرعى قد قطعت أجسادهم، ورأت تشرد من بقي منهم، حتى أصابها الحزن الشديد وضعفت قواها وعلى أثر ذلك اشتد بها المرض، وزاد بعض المؤرخين المصيبة عظماً حينما قال: بأنها قد سُمت أثناء ذلك لكي يتخلص الأعداء من شخصيتها وتأثيراتها على بلادهم، وهي الوسيلة السريعة التي استخدمها العباسيون في القضاء على الكثير من أهل بيتها (عليهم السلام) وهو أمر غير مستبعد فما منهم إلا مقتول أو مسموم، وأن للسم طرائق متعددة أيسرها أن يوضع على سرج الحصان وأحداج الإبل فيفتك بصاحبه.

حتى سألت السيدة (عليها السلام) عن المسافة بينها وبين قم فقيل لها عشرة فراسخ، فأمرت خادماً لها لم يصبه القتل أن يحملها إلى قم، ومكثت في قم في منزل موسى بن خزرج الأشعري سبعة عشر يوماً حتى استشهدت غريبة مظلومة بعد طيلة معاناة ومحن مريرة لتموت كما ماتت جدتها شهيدة مظلومة صابرة محتسبة وهي تحمل الآلام الجسدية والروحية من أعداء أهل البيت لعنهم الله وأخزاهم(6).

الشباهة الحادية عشر: التجهيز

من الخصائص العظيمة المخصوصة التي اشتركت فيها كريمة أهل البيت (عليها السلام) مع جدتها الزهراء (عليها السلام) ومع سائر المعصومين (عليهم السلام)، بأن الذي قام بتجهيز الاثنين حين الدفن والمواراة هو الإمام المعصوم، الأمر المنبئ عن مكانة عالية حازتها السيدتان الجليلتان، فإن تلك الخصوصية التي كانت للمعصوم حصلت نفسها للسيدة المعصومة. فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) هو متولي تجهيز الزهراء (عليها السلام) مع حضور خادمتها أسماء، ومتولي دفنها وإنزالها في القبر كما في مشهور الأخبار.

وكان الذي جهز السيدة المعصومة (عليها السلام) هو الإمام المعصوم، مع صحة تفسير الخبر الوارد في ذلك بكونه المعصوم لما حصل في الأمر من خوارق، فقد ذكر بعض الرواة أنها (عليها السلام) لما توفيت أمر موسى [بن خزرج الأشعري] بتغسيلها وتكفينها، وصلى عليها ودَفَنها في أرض كانت له، وهي الآن روضتها(7).

بينما ذكر آخرون أنه لما توفيت فاطمة [(عليها السلام)] وغسلت وكفنت حملوها إلى مقبرة (بابلان) ووضعوها على سرداب حفر لها، فاختلف [عندها] آل سعد في من ينزلها إلى السرداب، ثم اتفقوا على خادم لهم صالح كبير السن، يقال له (قادر). فلما بعثوا إليه رأوا راكبين مقبلين من جانب الرملة وعليهما لثام، فلما قربا من الجنازة نزلا وصليا عليها ثم نزلا السرداب وأنزلا الجنازة ودفناها فيه ثم خرجا، ولم يكلما أحداً وركبا ولم يدر أحد من هما...(8).

والاحتمال المرجح عند المحققين في أن هذين الراكبين هما الإمامان المعصومان الرضا والجواد (عليهما السلام)، جاءا ليتوليا أمر الصلاة عليها وإنزالها في قبرها ودفنها، وكان حضورهما عن طريق الإعجاز، بعد أن طويت لهما الأرض من خراسان حيث كان الإمام الرضا (عليه السلام)، ومن المدينة حيث كان الإمام الجواد (عليه السلام).

الشباهة الثانية عشر: العمر

عرفت الزهراء سلام الله عليها مع ما تحمل من عظمة بصغر سنها وقلة مدة حياتها ولما كان موتها ليس طبيعياً يعرف سبب صغر عمرها، فالغالب أن الإنسان لا يموت في ذلك العمر، وعلى هذا المنوال شابهت السيدة المعصومة (عليها السلام) جدتها الزهراء (عليها السلام) في ذلك فقد قضت نحبها في عمر الشباب وكان عمرها قريباً من عمر جدتها فتشابهت الاثنتان في صغرهما، ولم تهنئا من هذه الحياة الزائلة.

فبالنسبة إلى عمر الزهراء (عليها السلام) فإن المشهور بين الشيعة أنها ولدت بمكة ليلة الجمعة في الساعة الأخيرة منها بخمس سنين بعد البعثة، وأقامت مع أبيها ثمان سنين بمكة، ثم هاجرت (عليها السلام) إلى المدينة، وأقامت فيها مع أبيها أيضاً عشر سنين، ومع علي (عليه السلام) بعد وفاة أبيها مدة قليلة اختلف في تعيين قدرها وعليه اختلف في مقدار عمرها.

ومجمل الأقوال إنّه قبض النبي (صلَّى الله عليه وآله) ولها ثمانية عشر سنة بلا زيادة ونقيصة، أو مع نقيصة سبعة عشر يوماً، أو ثلاثة وثمانين يوماً، أو مع زيادة سبعة أشهر، أو ما دونها. واختلف في مدة عمرها بعد النبي (صلَّى الله عليه وآله) أنها ثمانية أشهر، أو سبعة أشهر، أو أربعة أشهر، أو ثلاثة أشهر، أو مائة يوم، أو خمسة وسبعون يوماً، أو اثنان وسبعون، أو شهران، أو خمسة وأربعون، أو أربعون. وقال جماعة: عمرها (عليها السلام) على التحقيق ثمانية عشر سنة وأربعون يوماً، منها ثمان سنوات قبل الهجرة وعشرة بعد الهجرة، والباقي بعد وفاة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).

وقال آخرون: الأصح أن عمرها ثمانية عشر سنة إلا سبعة عشر يوماً، فسبع سنين وتسعة أشهر في مكة قبل الهجرة، وعشر سنين إلا يومين بعد الهجرة، وخمسة وسبعون يوماً بعد وفاة أبيها، وبالجملة يكون عمرها (عليها السلام) ثمانية عشر سنة بزيادة أشهر في الجملة أو نقيصة كذلك(9).

وأما عن عمر السيدة المعصومة (عليها السلام) فقد اتفقوا على أن وفاتها كانت عام 201هـ، بينما اختلفوا في سنة ولادتها، والمأخوذ به أنها سلام الله عليها قد ولدت في المدينة المنورة في غرة ذي القعدة سنة 173هـ(10) وهو وإن كان كاتبه لم يشر إلى مستنده في تحديد هذا التاريخ إلا أنه الأقرب فلا يمكن أن يتصور أن عمرها الشريف كان أقل من اثنين وعشرين عاماً -كثمانية عشر عاماً الذي قال به البعض- أي لا يتصور أن تكون ولادتها بعد عام 179هـ، وذلك لأن الإمام الكاظم (عليه السلام) قد فارق بيته ومدينه جده إلى بغداد في شوال سنة 179هـ، وعليه فولادة السيدة المعصومة كان قبل هذا التاريخ، وليس كما ذكر بعضهم بأنه كان سنة 183ه‍، فإنها سنة شهادة أبيها الكاظم (عليه السلام) ويستبعد ولادتها فيه، وذلك لأن الإمام (عليه السلام) على أقل التقادير كان في السجن في الأربع السنوات الأخيرة مما لا يمكنه الإنجاب في تلك الفترة، وعليه فيكون عمر السيدة المعصومة (عليها السلام) على أقل التقادير حين وفاتها اثنين وعشرين سنة، ولكن الأقرب أن سنها كان أكثر من ذلك إذ إنها كانت كبرى أخواتها الفواطم المنتسبين لها من طرف الأب فلا يمكن ولادتها قبلهم إلا قبل أن يدخل الإمام السجن وقبل استشهاده.

لذا فأقرب الأقوال تماشياً مع الصحة هو القول الذي ذكره صاحب سفينة البحار في أن سنة ولادتها كانت عام 173هـ، وبناء عليه تكون السيدة فاطمة قد عاصرت من حياة أبيها عشر سنوات، غير أن السنين الأربع الأخيرة من عمره (عليه السلام) كان فيها رهين السجون، فلم تحظ منه إلا بست سنوات، ويكون عمرها حين وفاتها عندئذ هو ثمان وعشرين سنة أي في ريعان شبابها كعمر جدتها الزهراء (عليها السلام).

الشباهة الثالثة عشر: الاختصاص بزيارة مأثورة

وهي من الخصائص الجليلة التي شابهت فيها السيدة المعصومة أمها الزهراء (عليها السلام)، حينما حظيت بزيارة مأثورة من المعصومين (عليهم السلام) من بين الكثير من نظيراتها من أبناء المعصومين وذراريهم مع بلوغهم المراتب، وكما خصت جدتها الزهراء (عليها السلام) بزيارة عن المعصوم، خصت هي كذلك بذلك الشرف والوسام الكبير.

فذكر في زيارة السيدة الزهراء (عليها السلام) أنه قال محمد بن أحمد بن داود، عن محمد بن وهبان البصري، عن الحسن بن محمد بن الحسن السيرافي، عن العباس بن الوليد المنصوري، عن إبراهيم بن محمد بن عيسى بن محمد العريضي قال: حدثنا أبو جعفر -الإمام الباقر (عليه السلام)- ذات يوم فقال: «إذا صرت إلى قبر جدتك فاطمة (عليها السلام) فقل: (يا ممتحنة امتحنك الله الذي خلقك قبل أن يخلقك... الزيارة)»(11)، وهناك بعض الزيارات الأخرى للزهراء (عليها السلام) يذكرها العلماء في كتبهم.

وبالنسبة للسيدة المعصومة (عليها السلام) فقد روى العلامة المجلسي (قدِّس سرُّه) في البحار، قال: رأيت في بعض كتب الزيارات: حدث علي بن إبراهيم عن أبيه، عن سعد، عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، قال: «يا سعد عندكم لنا قبر، قلت: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى (عليها السلام)، قال: نعم، من زارها عارفاً بحقها فله الجنة، فإذا أتيت القبر فقم عند رأسها مستقبل القبلة، وكبر أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمد الله ثلاثاً وثلاثين تحميده، ثم قل: السلام على آدم صفوة الله... الزيارة»(12).

وهناك زيارة ثانية للسيدة فاطمة المعصومة ذكرها الشيخ محمد علي حسن الكاتوزيان في كتابه (أنوار المشعشعين) وقال إنه نقل الزيارة من كتب معتبرة وبإسناد صحيح(13).

كما أن هناك زيارة ثالثة للمعصومة (عليها السلام) ذكرها المولى حيدر الخوانساري في كتابه زبدة التصانيف(14).

ولها زيارة رابعة ذكرها أبو القاسم الكرماني عن أبيه الآقا محمد خان الكرماني في كتابه (وادي السلام)(15).

ومما هو جدير بالذكر أنه ورد عن المعصوم في كيفية زيارة المعصومة أن يسبح الزائر لها قبل الزيارة بتسبيح جدتها الزهراء (عليها السلام)، وهذه الكيفية لم ترد وتأتي في الكثير من زيارات المعصومين (عليهم السلام)، وفي ذلك ما فيه من السر الذي لا يمكن لهذا العقل البشري من إدراكه وتصور معناه، ولعله ينبئ عن إحدى العلامات للعلاقة والخصوصية بين شباهتها بجدتها الزهراء (عليها السلام).

الشباهة الرابعة عشر: استحباب الزيارة ووجوب الجنة لفاعلها

بينت لنا روايات أهل العصمة استحباب زيارة فاطمة الزهراء (عليها السلام) جاعلة الجنة ثواباً لمن زارها، وعلى ذلك كانت زيارة حفيدتها السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) فإن لزيارتها مثل خصائص الأولى، فقد ورد أيضاً من الأحاديث الصحيحة في وجوب الجنة لمن زار قبرها، وإنه وإن لم يكن هناك ملازمة بين العصمة ووجوب الجنة في الزيارة، إلا أنه لم يعهد ورود ذلك وصدوره من إمام معصوم في شأن غير المعصوم، حتى أن ثلاثة من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) يؤكدون على ذلك من وجوب الجنة لزيارتها!

فجاء في حق سيدة نساء العالمين (عليها السلام) أنه يستحب زيارتها استحباباً مؤكداً إجماعاً، بل هو من ضروريات المذهب كما يقول به الفقهاء، وذلك في بيتها والروضة والبقيع لجهل موضع قبرها، فروي عن يزيد بن عبد الملك عن أبيه عن جده قال: دخلت على فاطمة (عليها السلام) فبدأتني بالسلام، ثم قالت: (ما غدا بك؟) قلت: طلب البركة، فقالت الزهراء (عليها السلام): «أخبرني أبي وهو ذا، أنه من سلم عليه وعليَّ ثلاثة أيام، أوجب الله له الجنة». قلت: في حياته وحياتك؟ قالت (عليها السلام): «نعم، وبعد موتنا»(16).

وفي المقابل ورد الترغيب في زيارة السيدة المعصومة (عليها السلام) من قبل المعصومين، والتحفيز بالجنة عند زيارتها وهي أقصى درجة يتمناها المؤمن في جزائه، ومن تلك الروايات ما تقدم ذكره عن عدة من أهل الري أنهم دخلوا على أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) وقد قال (عليه السلام) لهم: «...وإن لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة»، قال الراوي: وكان هذا الكلام منه-الإمام الصادق (عليه السلام)- قبل أن يولد ابنه الكاظم(17).

ومنها: ما روي عنه أيضاً -الإمام الصادق (عليه السلام)- أنه قال: «إن زيارتها تعدل الجنة»(18).

ومنها: ما رواه الصدوق بسنده عن سعد بن سعد، قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليها السلام)، فقال (عليه السلام): «من زارها فله الجنة»(19).

ومنها: ما روي عن سعد عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال: قال: «يا سعد عندكم لنا قبر، قلت: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى (عليها السلام)، قال: نعم، من زارها عارفاً بحقها فله الجنة»(20).

ومنها: ما روي عنه أيضاً -الإمام الرضا (عليه السلام)- أنه قال: «من زار المعصومة بقم كمن زارني»(21).

ومنها: ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي الجواد (عليه السلام) أنه قال: «من زار قبر عمتي بقم فله الجنة»(22).

وغيرها من الروايات الدالة على فضل زيارتها، وما أعده الله تعالى ثواباً لزائرها وهو الجنة.

الشباهة الخامسة عشر: زيارة الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف) لقبريهما

من الأمور المقطوع بها عندنا هي زيارة الإمام الحجة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) لمشاهد أهل البيت (عليهم السلام) وعلى رأسهم جدته المعصومة الكبرى (عليها السلام) في عصر غيبته لوجود الدلائل العديدة على ذلك، فإن إمامنا (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) يعيش في هذه الدينا التي نعيش بها وبذلك لا تسقط عنه أعمال وأحكام الأحياء، غاية الأمر أن أنظارنا محجوبة عن رؤية أنواره، وأنه (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ليس كبقية البشر في مسألة خفاء قبر الزهراء (عليها السلام) بكونه يجهل موضع قبرها (عليها السلام) المخفي فلا يعرف أين يتوجه إليه فيقصده، وإنما هو علاّمة الغيوب وخزانة الأسرار. بل إن زيارة الزهراء (عليها السلام) وبقية المعصومين (عليهم السلام) من المستحبات المؤكدة الثابتة في المذهب، ومن الثابت أن المعصوم لا يترك المستحبات وهو الذي يأمر الناس بها، فهو بزيارة قبر أمه أولى من غيره في ذلك، وليس لكونها مستحبة فحسب كما ذكرنا وانما لكونها جدته المنفرع منها، ففي زيارته لقبرها صلة لرحمه ومن المعلوم ان صلة الرحم لا تقطع في الحياة ولا بعد الممات كما دلت الروايات على ذلك، فكيف بصلة المعصومين الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون. ولذا كانت سيرة المعصومين قائمة على زيارة قبر الزهراء (عليها السلام) وقبر الرسول (صلَّى الله عليه وآله) والحسن والحسين (عليهما السلام) وغيرهم (عليهم السلام)، كأمير المؤمنين (عليه السلام) مثلاً الذي لم ينقطع عن زيارة قبر الزهراء (عليها السلام)، وإمامنا الحجة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) أولى بأن يتأسى بجده الأمير في ذلك.

فهذه الخصوصية ثابتة لمراقد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ولكن السؤال هو كيف في زيارته لغيرهم كالسيدة المعصومة التي هي محل البحث؟

نقول: بما أن للسيدة المعصومة شأناً خاصاً من الشأن عند أهل البيت (عليهم السلام) كما بينه قول المعصوم في زيارتها، فلا يستغرب في أن يأتي الإمام الحجة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) لزيارة قبرها الشريف في قم المقدسة، كيف لا وهي عمته التي لا بد له أن يصلها، وأن زيارتها قد ثبت استحبابها بقول أكثر من معصوم في ذلك، لذا فإنه لا استبعاد في زيارته لها.

وهناك ما يؤيد ذلك وهو ما ذُكر في مذكرات آية الله الشيخ مرتضى الحائري نجل مؤسس الحوزة العلمية بقم المقدسة آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري، فقد نقل فيها (قدِّس سرُّه) ما مضمونه:

انه لم يكن يرتضي ما يقوم به بعض العلماء والفقهاء، وأهل التحقيق والتدقيق عند زيارة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) من الوقوف عند رأسها واستقبال القبلة، ثم البدء في السلام والتحية، وقراءة المأثور من زيارتها (عليها السلام). وذلك لأن السلام عادة وعرفاً يكون عند استقبال ومواجهة من يريد الإنسان السلام عليه، لا أن يقف على رأسه مستقبلاً القبلة، حيث يكون الجسد الطاهر على يسار الإنسان.

مضافاً إلى أن الصندوق المبارك الموضوع على القبر الشريف يكون منحرفاً باتجاه اليمين، وليس بحسب وضع الشباك المنير، مما يؤدي إلى أن يكون الرأس الشريف خلف ظهر الزائر الواقف في هذا الاتجاه حين الاشتغال بالسلام وقراءة الزيارة.

لذلك كله لم يرتض الشيخ ما يقوم به بعض الخواص من زوارها (عليها السلام)، لكنه يرى ذات ليلة في المنام أنه قد تشرف بزيارة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وإذا به يرى قدوم ثلاثة رجال عليهم الهيبة والوقار، يتوسطهم من يشار إليه بإنّه الإمام المهدي صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، ثم يأتون حتى يقفوا خلف الشباك المبارك مما يلي الرأس مستقبلي القبلة ويبدؤون بزيارة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، لكنه لم يسمع عبارة الزيارة وألفاظها.

وعند انتباهه من النوم يراجع أسناد الزيارة المأثورة عن الإمام الرضا (عليها السلام) والتي تزار بها السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) فيرى أن الإمام يوصي سعداً بأن يقف للزيارة عند رأسها مستقبل القبلة. وذلك على نحو ما رآه في المنام من زيارة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) لها(23)، وعلى النهج المأثور عند أهل البيت (عليهم السلام) في آداب زيارة مراقدهم من استقبال مراقد خصوص المعصومين عند زيارتهم -وهم وجه الله الذي منه يؤتى-، واستقبال القبلة عند زيارة مراقد غيرهم-غير المعصومين-، فاتضحت له بتلك الرؤيا حقيقة المسألة.

الشباهة السادسة عشر: التجلي الملكوتي

لما ثبت استحباب زيارة القبور خصوصاً زيارة مراقد المعصومين (عليهم السلام) منهم، وبعد تظافر الروايات وتعددها في ذلك الصدد، والذي فيها ما فيها من الثواب العظيم، وتجديد البيعة والولاء مع المعصوم وتكامل الإيمان، وكذلك من التشرف بتقبيل الموضع الذي ضم الجسد الطاهر المقدس والتبرك به، والأخذ من ترابه للاستشفاء كما ورد عن بعض المعصومين (عليهم السلام)، ونيل شرف الوصول إلى تلك البقع الطاهرة التي يهبط ويصعد فيها الملائكة في رعيل متصل بالسماء، ويتحقق فيها التوفيق للدعاء في خصوص ذلك الموضع تحت تلك القبة وهي موضع تنزل الرحمة واستجابة الدعاء، فإن ذلك العمل عظيم والجنة عالية لا يمكن لأي مؤمن تفويتها عليه وغض النظر عنها.

ولكن عندما يريد المؤمن أن يحظى بتلك الدرجات والمقامات بالتشرف لزيارة قبر الزهراء (عليها السلام) حفيدة سيد الأوصياء والأنبياء، لا تراه يجد سبيلاً لذلك مما يفتح له باب الحسرة والتأوه، لاختلاف الرواة والعلماء وتعدد أقوالهم في تحديد موضع دفنها (عليها السلام)، فبعضهم يحتمل بأنها دفنت بالبقيع -لبعض القرائن-، ويحتمل بعضهم: أنها دفنت بالروضة، ويقول آخرون بأنها دفنت في بيتها، فلما زاد بنو أمية (لعنهم الله) في المسجد صارت من جملة المسجد. ولم يتوصل أحداٌ منهم حتى هذا اليوم إلى برهان قاطع ليثبت فيه موضع القبر الشريف لتلك الحوراء النورانية، فبقي ذلك يشكّل سراً من أسرار الزهراء (عليها السلام) المحيرة منذ استشهادها وحتى يومنا، بعدما لم يكشف لنا أحداٌ من المعصومين ذلك ولم يصرح عن موضع القبر.

إلا أنه شاءت الأقدار الإلهية أن يعوض الله شيعتها المحترقة قلوبهم، المحرومين من بركات فيض أنوار ضريح ابنة نبيهم -الذي سيبقى سراً مخفياً مستودعاً كاشفاً وشاهداً للعالم وللأجيال القادمة على أكبر ظلامة في بنت نبي هذه الأمة سيدة نساء العالمين (عليها السلام)، حتى يأذن الله بأخذ ثارات الزهراء (عليها السلام) فينكشف للعيان بيد فرج آل محمد (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)- بقبر سيدةٍ جليلةٍ شبيه للزهراء (عليها السلام) يقبع قبرها في عش آل محمد، ومأوى الشيعة، وهي صاحبة العصمة الصغرى سيدة العفة والتقوى فاطمة بنت موسى الكبرى (عليها السلام)، وذلك لما حازت من شأن رفيع أشار إليه المعصومون (عليهم السلام)، وهو الذي تعرض له أهل المعنى من تجلي قبر الزهراء (عليها السلام) في قبر ابنتها المعصومة (عليها السلام)، فإن من أراد أن يحظى بشرف التبرك والوصول إلى قبر الزهراء (عليها السلام) أمكنه فعل ذلك بزيارته للمعصومة (عليها السلام) لأن قبرها تجلى فيه شخص الزهراء. ومن أراد أن يعزي الزهراء (عليها السلام) في يوم شهادتها ويأتي إلى قبرها، فبإمكانه فعل ذلك بالإتيان إلى قبر المعصومة، كما يفعل ذلك بعض مراجعنا وعلمائنا في يوم شهادتها (عليها السلام) فإن قبر المعصومة هو قبر أمها الزهراء المخفي.

والمعصومون في إشاداتهم وإعطائهم الأوسمة عارفون ومطّلعون على من يمتلك المراتب العالية ويستحقّها لإبرازه وإظهاره وجعله محلاً لاستجابة الدعاء، وكما تبين منهم كيف أنهم وهبوا السيدة أم البنين (عليها السلام) وساماً خاصاً في جعلها باباً لاستجابة الدعاء.     

وقد التُفِتَ إلى ذلك بعد نقل اللقاء الشهير الذي حصل للفقيه الوقور السيد محمود(شمس الدين) بن السيد علي (شرف الدين) الحسيني المرعشي النجفي (1260-1338هـ)(24) (والد سيدنا المرعشي السيد محمد حسين (شهاب الدين) مع الإمام المعصوم (عليه السلام) في مسجد السهلة، والذي تعرض إليه بعض العلماء الثقات في كتبهم ومنهم المحقق الشيخ محمد علي المعلم (قدِّس سرُّه) الذي يذكره بسند متصل فيقول: (نقل لي صديقي العزيز المحقق الشهير الفاضل السيد مهدي الرجائي -ورأيته في أكثر من كتاب(25)- عن السيد محمود المرعشي، عن أبيه السيد شهاب الدين(المرجع الشهير)، عن جده السيد محمود المرعشي، أنه [قال:] كان يريد معرفة قبر الصديقة الزهراء (عليها السلام)، وقد توسل إلى الله تعالى من أجل ذلك كثيراً، حتى أنه دأب على ذلك أربعين ليلة من ليالي الأربعاء من كل أسبوع في مسجد السهلة بالكوفة، وفي الليلة الأخيرة حظي بشرف لقاء الإمام المعصوم (عليه السلام)، فقال له الإمام (عليه السلام): (عليك بكريمة أهل البيت)، فظن السيد محمود المرعشي أن المراد بكريمة أهل البيت (عليهم السلام) هي الصديقة الزهراء (عليها السلام) فقال للإمام (عليه السلام): جعلت فداك إنما توسلت لهذا الغرض، لأعلم بموضع قبرها، وأتشرف بزيارتها، فقال (عليه السلام): (مرادي من كريمة أهل البيت قبر السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في قم). ثم قال: (إن الله تعالى قد جعل قبر الصديقة الزهراء من الأسرار، وقد اقتضت الإرادة الإلهية تبعاً لبعض المصالح أن يكون قبرها مخفياً لا يطلع على موضعه أحد من الناس، فلا يمكن الإخبار عنه، ولكن جعل الله قبر السيدة فاطمة المعصومة موضعاً يتجلى فيه قبر الصديقة الزهراء (عليها السلام)، وإنما قدر لقبر الصديقة الزهراء (عليها السلام) من الجلال والعظمة والشأن -لوكان معلوماً ظاهراً- جعله الله تعالى لقبر السيدة المعصومة). وعلى أثر ذلك عزم السيد محمود المرعشي على السفر من النجف الأشرف إلى قم لزيارة كريمة أهل البيت (عليها السلام)(26) ليحظى بشرف التبرك بقبر الزهراء (عليها السلام) وزيارتها المتجلي ذلك في قبر ابنتها، وتبعه ابنه السيد المرعشي وأولاده حتى استوطنوا قم وجعلوها بلدهم بعدما كانت النجف لتلك الرؤيا، وكان السيد المرعشي (قدِّس سرُّه)-الابن- يجل ويعظّم مرقدها بشدة لذلك، حتى عرف عنه أنه كان أول السابقين لدخول حرمها فجراً منتظراً افتتاحه بشكل يومي مدى حياته، وأنه الذي أوصى بدفنه بقربها.

ومما يجعلنا نقوي من احتمالية صحة هذا اللقاء إضافة إلى سنده المتصل الموثوق، كون ذلك العمل الذي قام به (قدِّس سرُّه) من المجربات المشهورة عند القيام بأعمال مسجد السهلة لأربعين يوماً للالتقاء بالمعصوم (عليه السلام)، يقول العلامة المجلسي (قدِّس سرُّه) معقباً على بعض اللقاءات المذكورة في كتابه البحار: "أنه قد عُلِم من تضاعيف تلك الحكايات أن المداومة على العبادة، والمواظبة على التضرع والإنابة، في أربعين ليلة الأربعاء في مسجد السهلة أو ليلة الجمعة فيه أو في مسجد الكوفة أو الحائر الحسيني على مشرفه السلام أو أربعين ليلة من أي الليالي في أي محل ومكان، كما في قصة الرمان المنقولة في البحار طريق إلى الفوز بلقائه (عليه السلام) ومشاهدة جماله، وهذا عمل شائع، معروف في المشهدين الشريفين، ولهم في ذلك حكايات كثيرة... [و] الظاهر أن العمل من الأعمال المجربة، وعليه العلماء والصلحاء والأتقياء، ولم نعثر لهم على مستند خاص وخبر مخصوص، ولعلهم عثروا عليه أو استنبطوا ذلك من كثير من الأخبار التي يستظهر منها أن للمداومة على عمل مخصوص من دعاء أو صلاة أو قراءة أو ذكر أو أكل شيء مخصوص أو تركه في أربعين يوما تأثير في الانتقال والترقي من درجة إلى درجة، ومن حالة إلى حالة، بل في النـزول كذلك، فيستظهر منها أن في المواظبة عليه في تلك الأيام تأثير لإنجاح كل مهم أراده. ففي... النبوي المروي في لب اللباب للقطب الراوندي: من أخلص العبادة لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه...الخ"(27).

ويستشف من بعض ما يذكر أن روح الزهراء (عليها السلام) النورانية تحضر إلى قم المقدسة لابنتها بل وتشاركها في خصائص عالمها الأخروي(28).

الشباهة السابعة عشر: فضل موضع الدفن

لقد دفنت السيدة الزهراء (عليها السلام) في المدينة المنورة ودفنت حفيدتها السيدة المعصومة (عليها السلام) في قم، وحازت هاتان البقعتان من الشرف والفضل الكثير الكثير، حتى جاء ذكرهما على لسان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في حديثه، وتحدث عنهما وخصهما بخصائص، وكان ذلك قبل أن تدفن فيهما الفاطمتان، وذكرهما المعصوم في قوله ووَصَفَ بقاعهما بالحرم. فكما جعل الله بقعة المدينة حرماً لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وريحانته الزهراء محتمية في عرش مملكة أبيها وحرمه، فكذلك جعل الله قم المقدسة حرماً للإمام المعصوم (عليه السلام) وأبنائه، وحرم آل محمد وكانت السيدة المعصومة مصدر عطائه.

فقد جاء في ما رواه أنس بن مالك، قال: كنت ذات يوم جالساً عند النبي (صلَّى الله عليه وآله) إذ دخل عليه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال (صلَّى الله عليه وآله): «إليّ يا أبا الحسن، ثم اعتنقه وقَبَّلَ [ما] بين عينيه، وقال: يا علي إن الله عز اسمه عرض ولايتك على السماوات فسبقت إليها السماء السابعة فزينها بالعرش، ثم سبقت إليها السماء الرابعة فزينها بالبيت المعمور، ثم سبقت إليها السماء الدنيا فزينها بالكواكب، ثم عرضها على الأرضين فسبقت إليها مكة فزينها بالكعبة، ثم سبقت إليها المدينة فزينها بي، ثم سبقت إليها الكوفة فزينها بك، ثم سبق إليها قم فزينها بالعرب، وفتح إليه بابا من أبواب الجنة»(29).

وجاء من روايات أهل البيت (عليهم السلام) العديد من الروايات التي تذكر فضائل البقعتين وتخصهما بالفضل والمكانة نذكر منها هنا رواية أو روايتين -على نحو الاختصار- فمنها ما قاله رئيس المذهب الإمام الصادق (عليه السلام): «ألا إن لله حرماً وهو مكة، ألا إن لرسول الله حرماً وهو المدينة، ألا إن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ألا إن حرمي وحرم ولدي بعدي قم ألا إن للجنة ثمانية أبواب ثلاثة منها إلى قم...»(30).

ويبين بعض العلماء الأبواب الثلاثة المؤدية للجنة التي في قم مفسراً إياها ومحتملاً بكونها:1- السيدة المعصومة (عليها السلام) 2- مسجد جمكران 3- الحوزة العلمية. وهي الأقطاب الثلاثة المميزة لها.

ومنها في قم قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «صلوات الله على أهل قم، ورحمة الله على أهل قم، سقى الله بلادهم الغيث»(31).

الشباهة الثامنة عشر: بقاء محل عبادتهما

أي بقعة من بقاع الأرض يعبد فيها الله ويطاع لهي موضعٌ مبارك يستحق التقديس والإكرام وإبقاءه نظيفاً طاهراً لما اكتسب من قداسة ذكر وعبادة الله فيه، وورد أن الأرض عندما ينزل فيها أحد فإنها إما أن تكون من المصلية عليه أو تكون من اللاعنين له، وأن بقعة الأرض التي يسجد ويعبد الله عليها لتصبح منشرحة متنورة وتتباهى على جاراتها من البقع، يقول الرسول (صلَّى الله عليه وآله) في وصيته لأبي ذر: «يا أبا ذر، ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له بها يوم القيامة، وما من منزل ينزله قوم إلا وأصبح ذلك المنزل يصلي عليهم أو يلعنهم، يا أبا ذر ما من صباح ولا رواح إلا وبقاع الأرض ينادي بعضها بعضا يا جارة هل مرّ بك اليوم ذاكر لله أو عبد وضع جبهته عليك ساجداً لله تعالى؟ فمن قائلة: لا، ومن قائلة: نعم، فإذا قالت نعم اهتزت وانشرحت وترى أن لها الفضل على جارتها»(32).

حتى ذكر الفقهاء باستحباب نقل الميت لموضع صلاته مع اشتداد النزع عنده لما لموضع العبادة من خصوصية في ذلك، فقد روي في الوسائل عن طب الأئمة مسنداً إلى حريز قال: «كنا عند أبي عبدالله -جعفر الصادق- (عليه السلام) فقال له رجل: إن أخي منذ ثلاثة أيام في النزع وقد اشتد عليه الأمر فادع له، فقال: اللهم سهل عليه سكرات الموت، ثم أمره وقال: حولوا فراشه إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه، فإنه يخفف عليه إن كان في أجله تأخير، وإن كانت منيته قد حضرت فإنه يسهل عليه»(33).

وهذا الأمر لعامة العابدين بشتى أصنافهم، فكيف إذا كان ذلك المحل هو مكان عبادة وتهجد سيدة نساء العالم وأفضل نسائها، أو كان لسيدةٍ ذات شأنٍ رفيعٍ وشرفٍ عالٍ تحمل العصمة الصغرى والسيادة -خاصة على النساء- وابنة معصوم وأخت معصوم وعمة معصوم وسيدة زمانها، فيكفي عندنا في الحكم بقداسة المكان أن تطأه مثل حاملة هذه الأوصاف حتى ولو لم يكن موضع عبادتها بل وعروجها لعالم الملكوت.

ومن اللطيف الذي أردنا إيراده هنا أنه شاءت الأقدار الإلهية أن تحفظ وتُبقي مكان عبادة سيدة نساء العالمين (عليها السلام) ومحلَّ شهادتها وصعود روحها القدسية لبارئها إلى هذا اليوم موضعاً مباركاً يستلهم منه المؤمنون القدسية والبركة والقدوة، وهو بيتها التي عاشت واستشهدت فيه وهو محل هبوط وصعود الملائكة والذي ازداد فضيلة وشرفاً حتى على موضع الروضة التي بين منبر رسول الله وقبره الشريف والتي هي من رياض الجنة ففي الحديث عن يونس بن يعقوب قال: قلت لأبي عبدالله -جعفر الصادق- (عليه السلام) الصلاة في بيت فاطمة (عليها السلام) أفضل أو في الروضة؟ فقال (عليه السلام): «في بيت فاطمة (عليها السلام)»(34).

وفي ذلك شابهتها ابنتها السيدة العابدة التقية فاطمة المعصومة (عليها السلام) فيه، فهي التي امتازت عن الكثيرين والكثيرات من ذراري المعصومين (عليهم السلام) في بقاء محل عبادتها ومصلاها ولعله موضع شهادتها أيضاً إلى هذا اليوم محلاً ونبراساً يقصده الزائرون ويتبركون من أنواره وهو ما يعرف اليوم ببيت النور، المحل الذي عاشت فيه شبيهة الزهراء سبعة عشر يوماً حتى عرجت روحها الطاهرة.

فإنها لما وصلت إلى قم وبلغ أهل قم نبأ قرب وصولها خرج الأشراف لاستقبالها، وكان في طليعة مستقبليها موسى بن خزرج بن سعد الأشعري، فلما وصل إليها أخذ بزمام ناقتها، وجرها إلى منزله وكانت في داره سبعة عشر يوماً(35).

وهذا الموضع أصبح ماثلاً لليوم، حيث أصبح مدرسة علمية ومسكناً لطلاب العلوم الدينية في قم، وقد اتخذت من بيته موضعاً جعلته محراباً لها تصلي فيه. يقول الشيخ المحدث القمي: والمحراب الذي كانت فاطمة (رضيَّ الله عنها) تصلي فيه موجود إلى الآن في دار موسى ويزوره الناس...ويقع في محلة (ميدان مير) ومعروف ب‍ـ (ستية) بمعنى السيدة(36).

الشباهة التاسعة عشر: الكرامات الباهرة

لما اختص الله بعض عباده بعنايات وألطاف خاصة بلغوا بها أعلى درجات الكمال البشري، وأدنى مراتب القرب المعنوي من الله تعالى، فجعلهم مظاهر لطفه ومجالي رحمته ومجاري فيضه، وذلك لطهارة ذواتهم، وصفاء نفوسهم، وخلوصهم التام لله تعالى، فكانوا مظاهر أسمائه وصفاته، حتى أنه تعالى مكنهم من التصرف في هذا الكون وسخر لهم الأشياء فاستجابت لهم طائعة، فصدر عنهم ما خرقوا به نواميس الطبيعة، وخالف السنن المألوفة، وهو ما يعرف بالمعجزة والكرامة، لأنهم يتمتعون بقوى خاصة هي فوق هذا العالم المادي مما لم تبلغ له قوى الناس وقدراتهم، فعجزوا عنه وعن مثله، ومن أجله سميت المعجزة بالمعجزة(37)، ومن أجله سميت الكرامة بالكرامة، والفرق بينهما أن الأولى تشمل روح التحدي وإفحام الطرف المقابل بغية هدايته والثانية لا تشمله، وإنما يَظهَر فيها المنزلة والمكانة.

ومن أسمى هؤلاء المصطفَين بعد الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) هي أمهم الصديقة الزهراء (عليها السلام)، فإنها سيدة النور الذي خلقهم الله منه وجعلهم بعرشه محدقين، حتى منّ الله بها وبأبيها وبهم علينا فجعلهم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وجعل صلواتنا عليهم وما خصنا به من ولايتهم طيباً لخلقنا، وطهارةً لأنفسنا وتزكيةً لنا وكفارةً لذنوبنا.

بل أختص الله بعض عباده الصالحين ممن هم بمرتبة دون العصمة أيضاً بمميزات وقدرات خاصة، ومعاجز وكرامات، هي مظاهر لقدرة الله تعالى، وعلائم على القرب منه، والمنزلة عنده، والوجاهة لديه، وكان منهم سيدتنا المعصومة (عليها السلام) وهي المعصومة الصغرى بنت ولي من أولياء الله، وأخت ولي من أوليائه، وعمة ولي من أوليائه، حظيت برعاية المعصوم واهتمامه، فكان لها من الكرامات نصيب وافر امتازت به عن الكثيرين، وهي أهل لذلك لما بلغت من المنزلة والشأن المقام الرفيع، بعدما خصتها أمها الزهراء (عليه السلام) بدرجة عالية ووهبتها وساماً زاد من مكانتها علواً ورفعة. ولا زال حرمها الشريف ملاذاً يقصده ذوو الحاجات والدعوات والكربات والآمال فتقضى حوائجهم، لا سيما عند انسداد أبواب الأسباب الطبيعية.

وقد تواتر نقل كراماتهم بين ثقات المؤمنين وشاع، حتى أصبح شيئاً من المألوف سماعه بين الناس، فهذا يطرق بابهم لعلاج من مرضه المستعصي فيشفى، وهذا ينجو من هلكةٍ نتيجة لالتجائه بهم، وهذا تُحل مسألته العلمية بعد الدعاء بهم، وهذا يرزق ولداً نتيجة للتبرك من طعامهم..الخ.

والمتناقل منها في الأسماع لا يمكن إحصاؤه، فهم بحر عطاء لا ينضب وسع جميع أهل الدنيا، وأما المكتوب فهو يفوق المائة كرامة -لكل من الجليلتين- قد تعرضت له العديد من المؤلفات، ولا بأس بعدما ذكرنا هذا الجانب أن نثبت هنا مثالاً لإحدى الكرامات لكل من الشخصيتين الأم وابنتها بنحو الاختصار، لنبين مدى عناياتهما بمحبيهما، وشيعتهما وقدرتهما العالية على إظهار الخوارق، ومقامهما السامي عند الله.

فمن ما ذكر في كرامات الزهراء (عليها السلام) ما نقله سماحة السيد حجة آل الموحد الأبطحي، وهو كرامة حصلت في منزله لزوجين مضى على زواجهما ستة وعشرون عاماً، ومهما عاودا مراجعة الأطباء وقاما بما أوصاهما به بعض الأصدقاء والأقرباء إلا أن الله لم يرزقهما بمولود، حتى إن الأطباء أعلنوا عن يأسهم من احتمال أن يكون لهم ولد.

يقول السيد: "وفي عام 1415هـ حضرت الزوجة في بيتنا (حيث كنا نقيم مراسم العزاء الفاطمي) في أواخر الأيام الفاطمية وأخذت تتوسل بأذيال الصديقة الزهراء (عليها السلام) وتقسم على الله بحقها لينعم عليها بنعمة الولد، ولغرض الشفاء من حالتها تناولت شيئاً يسيراً من طعام الإفطار الذي كنا قد أعددناه للمراسم، وبعد مدة شعرت الزوجة ببعض التغييرات وحينما عرضت نفسها لجملة من التحاليل الطبية تبين أن في رحمها جنيناً بعد ستة وعشرين عاماً من كونها عاقراً..."(38).

وأما بالنسبة إلى كرامات السيدة المعصومة فمنها ما نقل من كتاب قصص العلماء للميرزا الحاج آية الله الشيخ محمد التنكابني (قدِّس سرُّه) (المتوفى سنة 1302ه‍ـ)، قال: "في إحدى زياراتي لحرم السيدة المعصومة (عليها السلام) مرض ولدي وزوجتي مرضاً شديداً، وأشرفا على الموت، فجئت إلى حرم ابنة باب الحوائج، وقلت: نحن جئنا من مكان بعيد ولذنا بباب بيتكِ، ولا نتوقع أبداً أن نرجع من عندكِ بالحزن ورغم الأنف والخيبة، وفي نفس تلك اللحظة شفي كلا المريضين وأنقذا من حافة الموت"(39).

الشباهة العشرون: الشفاعة

من أهم الأمور الحساسة في حياة الفرد المؤمن التي يجب الالتفات إليها هي مسألة يوم القيامة والمعاد، فإن الكثير من الناس عندما يسمعون عن المعاد واليوم الآخر يئنّون من ذكره حيث هناك تلاقي البشر مع خالقهم والوقوف بين يديه للحساب. ولا شك ولا ريب في أن الكثير من الناس يخافون عدل الله تعالى ويطلبون منه أن يحاسبهم برحمته لا بعدله لأنه لو يحاسبهم بعدله لما ترك عليها من دابة، لذا نجد من خلال القرآن الكريم والروايات الشريفة أن من مظاهر رحمة الله تعالى يوم القيامة هو إعطاءه الشفاعة لبعض أوليائه لكي يبين قَدْرَ ومنزلة ومقام العبد المؤمن في ذلك اليوم، وبذلك تكون الشفاعة جزءاً مهماً بل هو الأمل الوحيد للخلائق التي ستجتمع يوم القيامة في عرصات المحشر.

ومن أهمّ من يوهبون مقام الشفاعة يوم القيامة هم الرسول وآله (صلَّى الله عليه وآله) وهذا ما أثبتته الكثير من الآيات والروايات ولسنا بصدد التعرض لها في هذا المقام.

وإحدى أهم دعائم الشفاعة يوم القيامة هي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، بضعة الرسول وريحانته وزوجة الوصي المرتضى وأم الحسنين، والتي يكون اسمها مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً باسم المعاد ويوم القيامة، لما أوضحت النصوص الشريفة العديدة من كتب الفريقين صور شفاعتها ومظاهر عطفها في ذلك اليوم العظيم المهول، ونكتفي هنا بذكر نماذج من دلائل شفاعتها من دون التطرق لكيفيته ومساحته:

روي عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله) أنه قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: يا معشر الخلائق غضوا أبصاركم حتى تمر بنت حبيب الله إلى قصرها ابنتي فاطمة وعليها ريطتان خضراوان حواليها سبعون ألف حوراء، فإذا بلغت على باب قصرها وجدت الحسن قائماً والحسين نائماً مقطوع الرأس، فتقول للحسن: من هذا؟ فيقول: هذا أخي إن أمة نبيك قتلوه وقطعوا رأسه. فيأتيها النداء من عند الله: يا بنت حبيب الله إني إنما أريتك ما فعلت به أمة أبيك لأني ادخرت لك عندي تعزية بمصيبتك فيه، إني جعلت تعزيتك اليوم أني لا أنظر في محاسبة العباد حتى تدخل الجنة أنت وذريتك وشيعتك قبل أن أنظر بمحاسبة العباد، فتدخل فاطمة ابنتي الجنة وذريتها وشيعتها ومن أولاها معروفاً ممن ليس من شيعتها، فهو قول الله (عزَّ وجلَّ): {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَر} قال: قول يوم القيامة {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} هي والله فاطمة وذريتها وشيعتها ومن أولاهم معروفاً ممن ليس هو من شيعتها»(40).

وروي عن سلمان أنه قال في ضمن حديث: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «...الويل لمن شك في فضل فاطمة لعن الله من يبغضها، ويبغض بعلها ولم يرضَ بإمامة ولدها، إن لفاطمة يوم القيامة موقفاً وإن فاطمة تدعى وتكسى وتشفع، فتشفع على رغم كل راغم»(41).

وجاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «دخلت يوماً منزلي فإذا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) جالس والحسن عن يمينه، والحسين عن يساره، وفاطمة بين يديه، وهو يقول: يا حسن ويا حسين، أنتما كفتا الميزان وفاطمة لسانه، ولا تعدل الكفتان إلا باللسان ولا يقوم اللسان إلا على الكفتين... أنتما الإمامان ولأمكما الشفاعة»(42).

وورد في الخبر أن الزهراء (عليها السلام) لما سمعت بأن أباها زوَّجها وجعل الدراهم مهراً لها، قالت «يا رسول الله، إن بنات الناس يتزوجن بالدراهم فما الفرق بيني وبينهن، أسألك أن تردها وتدعوا الله أن يجعل مهري الشفاعة في عصاة أمتك، فنزل جبريل (عليه السلام) ومعه بطاقة من حرير مكتوب فيها: جعل الله مهر فاطمة الزهراء (عليها السلام) شفاعة المذنبين من أمة أبيها، فلما احتضرت أوصت بأن توضع تلك البطاقة على صدرها تحت الكفن فوضعت، وقالت: إذا حشرت يوم القيامة رفعت تلك البطاقة بيدي، وشفعت في عصاة أمة أبي»(43).

وخصصت شبيه الزهراء السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) بشفاعة لم يحصل عليها الكثير من غير المعصومين (عليها السلام)، لكونها ذات شأنٍ خاصٍ من الشأن بحيث تكون شفاعتها شاملة لجميع شيعة أهل البيت (عليهم السلام) لا لخصوص زوارها أو بعض الأفراد، نعم ذُكرت الشفاعة في شأن العالم، والشهيد، والمؤمن الشيعي، ونحوهما، ولكن لم يرد شمول الشفاعة وسعتها بحيث تشمل الجميع إلا في حق السيدة المعصومة (عليها السلام) وحق آبائها المعصومين (عليهم السلام)، فهو أحد شؤونها التي حازت عليها -الواردة في كلام الرضا (عليه السلام) في الزيارة- ألا وهي شأنية الشفاعة لجميع الشيعة.

فقد قال جدُّها زعيم المذهب الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في شفاعة حفيدته: «...تدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم»(44).

 ويوضح أخيها ضامن الجنان الإمام الرضا (عليه السلام) للزائرين في كيفية زيارتها أن يطلبوا منها الشفاعة عند زيارتهم لها لكونها ذات شأن خاص يحمل رصيداً وافراً من الشفاعة فيقولون في زيارتهم: «...يا فاطمة اشفعي لي في الجنة فإن لك عند الله شأناً من الشأن...الزيارة»(45).

ومما يؤيد شمول شفاعتها وعظمها ما ينقل عن المحدث الشيخ عباس القمي (قدِّس سرُّه) من أنه حصل له أن رأى الفقيه الشيخ الميرزا القمي (قدِّس سرُّه) -صاحب كتاب قوانين الأصول المدفون بمقبرة شيخان- في عالم الرؤيا، فسأله: هل أن شفاعة أهل قم بيد السيدة فاطمة المعصومة؟

يقول الشيخ عباس القمي (قدِّس سرُّه): "فنظر إلي [الميرزا القمي] متعجباً وقال: شفاعة أهل قم بيدي، وأما فاطمة المعصومة (عليها السلام) فشفاعتها لأهل العالم"(46).

نعم، إن السيدة المعصومة من أصحاب الشفاعة ذات الشأن العالي يوم القيامة وإن الناس سيطلبون منها يوم القيامة بمقامها عند الله الإعانة في الأمور، ويجعلونها الواسطة لهم للسؤال من الله بأن يغفر ذنوبهم ويعفو عن جرائمهم، وستشفع هي للشيعة منهم وستدخلهم الجنة.

ويتبين من ذلك وجه شباهتها بجدتها الزهراء (عليها السلام) صاحبة الشفاعة الكبرى فالخصوصية شملت الاثنين، وإن وجد التفاوت، والحمد لله رب العالمين.

 

* الهوامش:

(1) هذا هو القسم الثاني لموضوع (فاطمة الزهراء -عليها السلام- موجودة في أرض قم) وقد تقدّم القسم الأول منه في العدد (37) من هذه المجلة.

(2) راجع تفسير العياشي ج 2 ص67، الاختصاص ص186، الكافي ج 8 ص237، المسترشد ص381، المناقب ج3 ص 339-340، الاحتجاج ص86 - 87، ونقلت ذلك من: الهجوم على بيت فاطمة (عليها السلام)- لعبدالزهراء مهدي - ص127- 131.

(3) الكافي ج8 ص237.

(4) الفاطمة المعصومة (عليها السلام) المعلم ص128.

(5) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص161.

(6) هناك روايات ونقولات عديدة مختلفة تصور ما جرى على ركب المعصومة (عليها السلام) وقد انتخبنا بعضاً منها مع عدم بيان مواقع الاختلاف ومصادرها اختصاراً لكون غايتنا في هذا الجانب بيان بعض ظلاماتها لا التحقيق فيها.

(7) منتهى الآمال ج 2 ص 378 - 379.

(8) تاريخ قم ص 213، وبحار الأنوار ج 48 ص 290.

(9) اللمعة البيضاء - التبريزي الأنصاري، ص 233 – 234.

(10) مستدرك سفينة البحار ج 8 ص 261 مادة (فطم).

(11) بحار الأنوار - ج 97 - ص 194.

(12) بحار الأنوار، ج 102 ص 265 - 267.

(13) أنوار المشعشعين ج1 ص211، نقلاً عن خصائص المعصومة (عليها السلام).

(14) زبدة التصانيف ج6 ص159، نقلاً عن الخصائص.

(15) وادي السلام ص423.

(16) وسائل الشيعة باب 18 من أبواب المزار حديث1.

(17) تاريخ قم ص 215 وبحار الأنوار ج 60 ص 216 - 217.

(18) تاريخ قم ص 215 وبحار الأنوار ج 102 ص267.

(19) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص267.

(20) بحار الأنوار ج 102 ص 266.

(21) رياحين الشريعة ج 5 ص 35.

(22) كامل الزيارات باب 106 فضل زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليهما السلام) ح 2 ص536.

(23) مذكّرات الشيخ الحائري ص118، مخطوط، نقلاً من خصائص المعصومة (عليها السلام).

(24) السيد محمود الحسيني المرعشي (1260-1338هـ): عالم فقيه أصولي محقق، مؤلف متتبع متخصص بعلم الأنساب والرجال، ومشجرات السادة العلويين، ومؤرخ ثقة ثبت وقور حسن السمت ذو أخلاق كريمة وصفات رفيعة مع علمه بالطب اليوناني، ولد بالنجف وأخذ المقدمات والسطوح ودخل شوط الخارج فتتلمذ على الميرزا حسين الخليلي والمولى فاضل الشيربياني والشيخ محمد كاظم الخراساني والشيخ محمد حسن المامقاني والشيخ عباس كاشف الغطاء والسيد محمد كاظم اليزدي...وغيرهم، وانصرف إلى التصنيف والتأليف والبحث والتتبع في الأنساب وسائر العلوم الإسلامية، وأقام في النجف مفيداً ومستفيداً حتى توفي عام1338هـ، له عدة حواشي على عدة كتب إسلامية وكتاب هادم اللذات، المصدر: معجم رجال الفكر في النجف للأميني ج2 ص1188.

(25) ككتاب كريمة أهل البيت (عليهم السلام) ص43 - 45 وكتاب سيدة عش آل محمد (عليهم السلام) ص 37 - 38.

(26) الفاطمة المعصومة (عليها السلام)، المعلم ص 176 - 177.

(27) بحار الأنوار ج 53 ص 325 - 326.

(28) فمن مؤيداته ما جاء فيما يذكر عن العالم الجليل والحبر النبيل آية الله الشيخ محمد العتيق، أنه قال: دخلت يوماً الروضة المباركة للسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وجئت إلى جانب الرأس المبارك، وإذا بي أرى مكاشفة [بوجود] السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ومعها ثلاث نسوة، فقالت لي السيدة المعصومةّ (عليها السلام): انشدنا يا شيخ في الإمام الحسين (عليه السلام) قال: فبدأت في أبيات من قصيدة دعبل، وإذا بي أرى نوراً يطلّ علينا، والنسوة يقمن من مقامهن إجلالاً للنور. فنظرت وإذا بالسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) جاءت تشاركهن في عزاء ولدها الإمام الحسين (عليها السلام).

ثم إنها (عليها السلام) جلست معهن وأشارت إليّ بالمواصلة، وأخذن بالبكاء، حتى زالت عني المكاشفة وعدت إلى حالتي الأولى. أقول: ولا أعتقد أحدا يستبعد ذلك مع معرفة خصائص ذلك العالم الأخروي، مصدر القصة عن كتاب السيدة المعصومة (عليها السلام) فرع الكوثر النابع ص78-79.

(29) تاريخ قم ص 94 وبحار الأنوار ج 60 ص 212.

(30) بحار الأنوار، ج57 ص228 الحديث 59.

(31) بحار الأنوار، ج 60 ص 228.

(32) أمالي الطوسي ج2 ص 147.

(33) الوسائل الباب 40 من أبواب الاحتضار ح6 نقلاً عن جواهر الكلام.

(34) تهذيب الأحكام - الطوسي ج 6 ص 8.

(35) تاريخ قم ص 213.

(36) منتهى الآمال ج 2 ص379.

(37) الفاطمة المعصومة (عليها السلام) للشيخ المعلم 180-181.

(38) كرامات الزهراء سلام الله عليها السيد حجة الموحد الأبطحي ص115.

(39) كريمة أهل البيت (عليهم السلام) ص250 نقلاً من مصدر آخر.

(40) مستدرك الحاكم ج3 ص161، الخصائص ج2 ص265، الفصول المهمة ص 127، فضائل الصحابة ج2 ص763 ح 1344، ميزان الاعتدال ج2 ص538، كفاية الطالب ص364، تفسير فرات الكوفي ص97.

(41) الثاقب في المناقب ص293ح 250.

(42) كشف الغمة ج1 ص506.

(43) أخبار الدول ص88، الإحقاق ج10 ص367، وسيلة النجاة ص217.

(44) بحار الأنوار ج57 ص228 ح59.

(45) بحار الأنوار ج 102 ص 265 - 267.

(46) كريمة أهل البيت (عليهم السلام) ص60.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا