علامات الظُّهور المهدوي المعنى، والمنهج، والآثار

علامات الظُّهور المهدوي  المعنى، والمنهج، والآثار

مقدِّمة

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم..

يختلف التَّعامل مع روايات علامات الظُّهور على أنماط: ففئة تستغرق فيها بما يوجد خللا في التَّطبيق والسُّلوك، وفئة لا تعير لهذه الرِّوايات وزنا -لعوامل متعدِّدة- وذلك رغم ثبوت هذه الرِّوايات في الجملة، وفئة بين هذا وذاك، وهذا ما يدعونا إلى البحث حول قيمة هذه الرِّوايات علماً وعملاً، وإلى التًّعرف على المنهج الصَّحيح للتَّعامل مع هذه الرِّوايات، بما يرتِّب الأثر المعرفي والسُّلوكي الصَّحيح، دون مزايدة، أو نقيصة، فهنا ثلاث نقاط أساسيَّة:

النُّقطة الأولى: أهم علامات الظُّهور ومدى اعتبار رواياتها:

تنقسم العلامات -بلحاظٍ- إلى علامات عامَّة، وعلامات خاصَّة، وتنقسم العلامات الخاصَّة إلى علامات حتميَّة، وغير حتميَّة (مشروطة)، بحيث يؤثِّر في وقوعها البداء، وسنذكر هنا جملةً من العلامات العامَّة، وجملة من العلامات الخاصَّة بقسميها:

1) بعض العلامات العامَّة:

وردت روايات كثيرة في هذا القسم، والتزم عدد من العلماء بأنَّ هذه العلامات لا شكَّ في تحقُّقها من حيث التَّطبيق، غاية ما في الأمر أنَّ أصل تحقُّقها مضمون، ولكنَّ مستوى وقوعها غير معلوم، فقد يكون ما يتِّصل بالظُّهور مستوى أشدّ ممَّا نشهده اليوم من هذه العلامات العامَّة المتحقِّقة، ومن تلك العلامات:

- امتلاء الأرض ظلماً وجوراً وفساداً.

- غربة الإسلام.

- إضاعة الصَّلوات.

- اتِّباع الشَّهوات.

- الميل مع الأهواء.

- تعظيم أصحاب المال.

- اكتفاء الرِّجال بالرِّجال، والنِّساء بالنِّساء.

- تشبُّه الرِّجال بالنِّساء والعكس.

- كثرة الطَّلاق.

وغير ذلك، وأغلبها ذات عناوين عامَّة، وسأكتفي بذكر روايتين من روايات هذه العلامات:

1- فعن محمَّد بن مسلم عن الصَّادقg: >إنَّ لقيام القائمg علامات تكون من الله a للمؤمنين<، قلت: وما هي جعلني الله فداك؟ قال: >ذلك قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ –يعني المؤمنين قبل خروج القائم- بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}([1]).

2- وعن الباقرg: قال الرَّاوي فقلت له: يا ابن رسول الله فمتى يخرج قائمكم؟ قال: >إذا تشبَّه الرِّجال بالنِّساء، والنِّساء بالرِّجال، وركبت ذوات الفروج السُّروج، وأمات النَّاسُ الصَّلاة، واتَّبعوا الشَّهوات، وأكلوا الرِّبا، واستخفُّوا بالدِّماء، وتعاملوا بالرِّياء، وتظاهروا بالزِّنا، وشُيِّد البناء، واستحلُّوا الكذب، وأخذوا الرُّشا، واتَّبعوا الهوى، وباعوا الدِّين بالدُّنيا، وقطعوا الأرحام، ومنُّوا بالطَّعام، وكان الحلم ضعفاً، والظُّلم فخرا..، وظهر الجورُ، وكثر الطَّلاق، وبدا الفجور، وقُبلت شهادة الزُّور، وشُربت الخمور، وركبت الذُّكور الذُّكور، واشتغلت النِّساء بالنِّساء<([2]). وغير ذلك الكثير من الرِّوايات.

2) بعض العلامات الخاصَّة:

وقد أجملها الشَّيخ المفيد في الإرشاد، حيث قال: "قد جاءت الأخبارُ بذكر علامات لزمان قيام القائم المهديg، وحوادث تكون أمام قيامه، وآيات ودلالات، فمنها: خروج السُّفياني، وقتل الحسني، واختلاف بني العباس في الملك الدّنياوي، وكسوف الشَّمس في النِّصف من شهر رمضان، وخسوف القمر في آخره على خلاف العادات، وخسف بالبيداء، وخسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وركود الشَّمس من عند الزَّوال إلى وسط أوقات العصر، وطلوعها من المغرب، وقتل نفس زكيَّة بظهر الكوفة في سبعين من الصَّالحين، وذبح رجل هاشمي بين الرُّكن والمقام، وهدم سور الكوفة، وإقبال رايات سود من قبل خراسان، وخروج اليمانيّ، وظهور المغربيِّ بمصر وتملُّكه للشَّامات، ونزول التُّرك الجزيرة، ونزول الرُّوم الرَّملة، وطلوع نجم بالمشرق يضيء كما يضيء القمر ثمَّ ينعطف حتى يكاد يلتقي طرفاه، وحمرة تظهر في السَّماء وتنتشر في آفاقها، ونار تظهر بالمشرق طولاً وتبقى في الجوِّ ثلاثة أيَّام أو سبعة أيَّام، وخلع العرب أعنَّتها وتملُّكها البلاد، وخروجها عن سلطان العجم، وقتل أهل مصر أميرهم، وخراب الشَّام، واختلاف ثلاثة رايات فيه، ودخول رايات قيس والعرب إلى مصر ورايات كندة إلى خراسان، وورود خيل من قبل المغرب حتى تربط بفناء الحيرة، وإقبال رايات سود من المشرق نحوها، وبثق في الفرات حتى يدخل الماء أزقَّة الكوفة، وخروج ستِّين كذَّابا كلُّهم يدَّعي النُّبوة، وخروج اثني عشر من آل أبي طالب كلُّهم يدَّعي الإمامة لنفسه، وإحراق رجل عظيم القدر من شيعة بني العباس بين جلولاء وخانقين، وعقد الجسر ممَّا يلي الكرخ بمدينة السَّلام، وارتفاع ريح سوداء بها في أول النَّهار، وزلزلة حتى ينخسف كثير منها، وخوف يشمل أهل العراق، وموت ذريع فيه، ونقص من الأنفس والأموال والثَّمرات، وجراد يظهر في أوانه وفي غير أوانه حتى يأتي على الزَّرع والغلَّات، وقلَّة ريع لما يزرعه النَّاس، واختلاف صنفين من العجم، وسفك دماء كثيرة فيما بينهم، وخروج العبيد عن طاعة ساداتهم وقتلهم مواليهم، (ومسخ لقوم) من أهل البدع حتى يصيروا قردة وخنازير، وغلبة العبيد على بلاد السَّادات، ونداء من السَّماء حتى يسمعه أهل الأرض كلُّ أهلِ لغة بلغتهم، ووجه وصدر يظهران من السَّماء للنَّاس في عين الشَّمس، وأموات ينشرون من القبور حتى يرجعوا إلى الدُّنيا فيتعارفون فيها ويتزاورون، ثمَّ يختم ذلك بأربع وعشرين مطرة تتَّصل فتحيى بها الأرض من بعد موتها وتعرف بركاتها، وتزول بعد ذلك كلُّ عاهة عن معتقدي الحقِّ من شيعة المهديg، فيعرفون عند ذلك ظهوره بمكة فيتوجَّهون نحوه لنصرته. كما جاءت بذلك الأخبار.

ومن جملة هذه الأحداث محتومة ومنها مشترطة، والله أعلم بما يكون، وإنَّما ذكرناها على حسب ما ثبت في الأصول وتضمَّنها الأثر المنقول"([3]).

وتقسَّم هذه العلامات الخاصَّة إلى حتميَّة وغير حتميَّة كالتَّالي:

1) العلامات غير الحتميَّة:

وهي أحداث معيَّنة وخاصَّة، لم تصفها الرِّوايات -مباشرة أو بنحو غير مباشر- بالحتميَّة، مثالها أكثر ما ذكره الشَّيخ المفيد غير خمس أو أربع، ومثالها ما عن أمير المؤمنينg: >بين يدي المهديّ موت أحمر، وموت أبيض، وجراد في حينه، وجراد في غير حينه، كألوان الدَّم، أمَّا الموت الأحمر فالسَّيف، وأمَّا الموت الأبيض فالطّاعون<([4]).

ومن ذلك ما رواه الشَّيخ الطّوسي في "الغيبة" عن أبي خديجة، عن الصَّادقg: >لا يخرج القائم حتَّى يخرج اثنا عشر من بني هاشم، كلّهم يدعو إلى نفسه<([5])، ورواه المفيد في "الإرشاد" أيضاً، وروى المفيد فيه أيضا: >وخروج ستِّين كذَّاباً، كلُّهم يدَّعي النبوَّة، وخروج اثنا عشر من آل أبي طالب، كلُّهم يدَّعي الإمامة لنفسه<([6]).

وروى النّعماني في الغيبة عن أبي عبد اللهg أنَّه قال: >لا يقوم القائمg حتَّى يقوم اثنا عشر رجلاً كلُّهم يجمع على قول إنَّهم قد رأوه فيكذَّبهم<([7]). وفي هذه الرِّوايات تعريف بأنَّ الزَّمن الذي يليه ظهوره الشَّريف، سوف يكون مليئا بادِّعاءات عظيمة، أقلها الرُّؤية، ومن أعظمها: ادِّعاء الإمامة، بل النُّبوَّة! فتنبَّه لذلك جيدا.

2) العلامات الحتميَّة:

وقد وصفتها الرِّوايات بذلك، وقد جاءت في الرِّوايات المعتبرة والمستفيضة، ويمكن عدَّها في خمسة أمور: الخراسانيّ، والسُّفيانيّ، واليمانيّ، وقتل النَّفس الزَّكيَّة بين الرُّكن والمقام، والصَّيحة، والرِّوايات فيها كثيرة، نكتفي بالتَّبرُّك بذكر عدد منها كالتَّالي:

1- روى النُّعمانيّ بسنده عن أبي جعفر محمّد بن عليّg أنَّه قال: >ينادي مناد من السَّماء باسم القائم فيسمع من بالمشرق ومن بالمغرب، لا يبقى راقد إلّا استيقظ، ولا قائم إلّا قعد، ولا قاعد إلّا قام على رجليه فزعاً من ذلك الصَّوت، فرحم الله من اعتبر بذلك الصَّوت فأجاب، فإنَّ الصَّوت الأوَّل هو صوت جبرئيل الرُّوح الأمين<([8])، ولعلَّ هناك أكثر من صيحة ونداء، حيث ورد أنَّها في رجب، وفي شهر رمضان ليلة23، والرِّوايات في الصَّيحة كثيرة، حتى في طرق العامَّة.

2- في كتاب "الغيبة" للنعمانيّ: عن الباقرg: >خروج السِّفيانيّ واليمانيّ والخراسانيّ في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً، فيكون البأس من كلِّ وجه<([9]).

3- وجاء في التَّوقيع من النِّاحية المقدَّسة للسِّفير الرَّابع: >ألا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السِّفياني، والصَّيحة فهو كذَّاب مفتر<([10]).

4- روى النِّعمانيّ بسنده عن أبي عبد اللهg أنَّه قال: >النِّداء من المحتوم، والسِّفيانيّ من المحتوم، واليمانيّ من المحتوم، وقتل النَّفس الزَّكيَّة من المحتوم<([11]).

5- وفي رواية عمر بن حنظلة قال: >سمعت أبا عبداللهg يقول: خمس علامات قبل قيام القائم: الصَّيحة، والسِّفيانيّ، والخسف، وقتل النّفس الزّكيّة، واليمانيّ)([12])، والمقصود من الخسف -كما يظهر من روايات أخرى- هو خسف جيش السِّفيانيّ في البيداء، فهو علامة متَّصلة بعلاميّة خروج السِّفيانيّ.

6- وروى الصّدوق في "كمال الدّين" بإسناده عن محمَّد بن مسلم، قال: (فقلت له: يا بن رسول الله، متى يخرج قائمكم؟ قال: >إذا.. وخرج السّفيانيّ من الشّام، واليمانيّ من اليمن، وخسف بالبيداء، وقتل غلام من آل محمّد(ص) بين الرُّكن والمقام، اسمه محمَّد بن الحسن النَّفس الزّكيّة، وجاءت الصَّيحة من السَّماء بأنَّ الحقَّ فيه وفي شيعته، فعند ذلك خروج قائمنا<([13]).

اعتبار روايات العلامات الحتميَّة:

مع مراجعة روايات العلامات الحتميَّة، وكثرتها، وأسنادها، وطرقها، يجزم الباحث باعتبارها في الجملة، بحيث يقطع بهذه العلامات الخمس جزماً، وقد جاء في ذلك من كلمات العلماء:

1- ما يتعلَّق بتوقيع النّاحية للسَّفير الرَّابع، والذي ذكر السّفيانيّ والصّيحة، فإنَّ هذا التّوقيع الشّريف تطابقت عليه الطّائفة جيلا بعد جيل، قال الشّيخ سند في "فقه علائم الظُّهور": "وقد روى التّوقيع كلّ من الصّدوق في كمال الدّين، والطوسيّ في الغيبة، والنعمانيّ في كتابه الغيبة، والطبرسيّ في الاحتجاج، والرّاونديّ في الخرائج والجرائح، رواه عن الصّدوق أيضاً".

2- قال المتّقي الهنديّ -من علماء العامَّة- في كتاب (البرهان في علامات مهديّ آخر الزّمان): "ومن الفتن المتَّصلة بخروج المهديّ: أمارة السّفيانيّ، وخسف جيشه بالبيداء، وذبح المهديّ السّفيانيَّ آخر الأمر، وهذه العلامة قريبة إلى حدِّ التّواتر"([14]).

3- وعقد النعمانيّ باباً في كتاب (الغيبة([15])) سمَّاه (باب ما جاء في ذكر السفيانيّ، وأنَّ أمره من المحتوم، وأنَّه قبل قيام القائمg، أورد فيه ثمانية عشر حديثاً مسنداً إلى الأئمَّة الأطهار من أهل البيتi حول السّفيانيّ.

ونكتفي بهذا القدر، ومن هنا أنتقل إلى النُّقطة الثَّانية.

النُّقطة الثَّانية: تفسير العلاميَّة والظُّهور:

والسًّؤال هنا: ما هو المقصود بعلامات الظُّهور؟ وتأتي أهميَّة هذا السُّؤال من أجل التَّعرف على طبيعة هذه العلامات بما يتناسب مع حجمها، وذلك بإخراجها عن الفهم السَّطحي المألوف لها، والذي لا يستوجب أثراً في العادة، وهو معنى أنَّ هناك عدداً من الأحداث المستقبليَّة التي سوف تكون متلازمة مع ظهور الإمامg، وهذا المعنى صحيح بلا إشكال، غير أنَّه يحتاج إلى شيء من التَّعميق يعطيه التَّأمل، وحاصل ما يمكن أن يُقال في بيان حقيقة هذه العلامات بنحو أعمق: فهمان، نذكرهما في التَّالي:

الفهم الأوَّل: العلاقة التكوينيّة

والمقصود من ذلك: أنَّ علاميَّة العلامة في هذه العلامات تكون من واقع رابط تكوينيّ يربط بينها وبين حدث الظُّهور حقيقةً؛ بحيث إنَّها تمهِّد إليه وجودا، لا أنَّها مجرَّد علامات يتَّفق وقوعها قبل ظهور الإمامg، فهي علامات ممهِّدة للظُّهور بما تعطيه في طبيعة نتاجاتها التّكوينيّة والاعتباريّة.

وممَّا يشير إلى هذا المعنى: تفسير حقيقة الظُّهور، وأنَّه انكشاف لتأثير وجود الإمام الفعليّ في هذا العالم كقطب تكوينيّ وتشريعيّ، فينبغي لهذه العلامات أن تهيِّئ العالم ككل للتَّمحور حول قطب العالم، والذي هو محور فعليّ كما ذكرنا، لا مستقبليّ، غاية ما في الأمر أنَّ الظُّهور فيه خاصيَّة الكشف لهذا الدّور، فإنَّ حقيقة غيبتهg غيبة هويّة، لا غيبة شخصانيّة، كما جاء في الرِّوايات التي فسّرتها أنَّه فيها كالشّمس إذا جلَّلها السّحاب، فالإمامg موجود في كبد الواقع، وليس خيالا، أو وجودا بلا أثر، فعلامات ظهوره ينبغي أن تكون من سنخ وجودهg، لا أنَّها اتِّفاقيّات ومصادفات.

قال الشّيخ السّند في (أسس النّظام السّياسيّ عند الإماميَّة): "فالظُّهور ليس إلّا انكشافا لحقيقة ما قد قام -ويقوم به القائم من آل محمّدg من مهامّ في تدبير النّظام البشريّ في مجالات شتّى".

وقد ورد في الرِّوايات ما يبيِّن هذا الرّابط التّكوينيّ بين العلامة وبين الظُّهور، وأنَّها مهيِّئ حقيقيّ وجوديّ، فمثلا: جاء في الخبر أنه بعد ما يقع من قضيَّة شعيب بن صالح قائد الخراسانيّ من معركة بينه وبين السّفيانيّ على أرض العراق، لا يتمنَّى النّاس شيئا مثل ما يتمنون المهديّ(ع)، عن الأميرg: >إذا نادى مناد من السّماء (إنَّ الحقَّ في آل محمَّد)، فعند ذلك يظهر المهديّ على أفواه النّاس، ويشربون حبَّه، فلا يكون لهم ذكر غيره<([16]).

وجاء في عدد من الرِّوايات أيضا أنَّ هذه العلامات تتّابع وراء بعضها كنظم الخرز، ونظم الخرز إنَّما يكون بخيط يربط حقيقةً بين الخرز، وهو ما يجعله متتابعا، فمن هذا التّشبيه يظهر أنَّ العلاقة التي تجمع بين العلامات من جهة، وبينها وبين الظُّهور من جهة، هي علاقة تكوينيّة حقيقيّة، جاء عن الصّادقg كما في غيبة النّعمانيّ: >نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضا<([17]).

وممَّا يشهد لذلك أيضا: أنَّ لهذه العلامات المترابطة انعكاساتها على مختلف المستويات الاعتباريَّة والإنسانيَّة، كالمجال الاجتماعيّ، والسّياسيّ، والمعرفيّ، والعلميّ، والصّناعيّ، وغير ذلك، جاء في الخبر عن الباقرg: >إذا قام قائمنا، وضع الله يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم، وكملت به أحلامهم<([18])، وعن الصّادقg: >إنَّ المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق، يرى أخاه الّذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي بالمشرق<([19])، فمثل هذه الأمور ينبغي أن تكون تحت وقع تأثير تلك العلامات كأمور تكوينيّة لها هذه السّمة التمهيديّة لحدث الظُّهور، وكلّ ما يتلوه، وبنحو استحقاقيّ مفسَّر ومبرَّر.

وممَّا يبيِّن -أيضا- وجه هذا الرّبط الوجوديّ للعلامات بيوم الظُّهور: ما يتحقَّق منها من فائدة التّمحيص الّذي ينفع في هذه التّهيئة، فقد روى النعمانيّ بسنده عن أبي بصير، قال: قال أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقرg: >إنّما مثل شيعتنا مثل أندر -يعني: بيدراً فيه طعام فأصابه آكل، أي السّوس- فَنُقّي، ثمَّ أصابه آكِل -أي السُّوس- فَنُقّي، حتّى بقي منه ما لا يضرّه الآكِل، وكذلك شيعتنا يميّزون ويمحّصون، حتّى تبقى منهم عصابة لا تضرّها الفتنة<([20])، وفي رواية أُخرى عن منصور الصَّيقل، قال: "دخلت على أبي جعفر الباقرg وعنده جماعة، فبينا نحن نتحدَّث وهو على بعض أصحابه مقبل، إذ التفت إلينا وقال: >في أيّ شيء أنتم؟! هيهات، هيهات، لا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتّى تمحّصوا، هيهات، ولا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتّى تميّزوا، ولا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتّى تغربلوا، ولا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم إلّا بعد إياس، ولا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتَّى يشقى من شقى، ويسعد من سعد<([21]).

الفهم الثَّاني: التَّقدم العوالميّ:

وهذا الفهم لا يتضارب مع الفهم السَّابق، إنَّما يعطيه نحوَ عمقٍ أكبر، وهو يعتمد على نوعيَّة تفسير يوم الظُّهور بأنَّه عالم من العوالم الممهِّدة للآخرة، لا أنَّه يوم عادي من أيام الدُّنيا ولا يميِّزه عن بقيَّة الأيّام إلا الظُّهور الشَّريف، وهو ما يمكن فهمه من كلام العلّامة الطّباطبائيّ(قد)، حيث قال في (الميزان): "اعلم أنَّه ورد عن أئمه أهل البيتi تفسير الآية بيوم القيامة كما في تفسير العيّاشيّ عن الباقرg وتفسيرها بالرّجعة كما رواه الصّدوق عن الصّادقg، تفسيرها بظهور المهديّg كما رواه العيّاشيّ في تفسيره عن الباقرgبطريقين. ونظائره كثيرة، فإذا تصفَّحت وجدت شيئا كثيرا من الآيات ورد تفسيرها عن أئمه أهل البيت تارة بالقيامة وأخرى بالرَّجعة وثالثة بالظُّهور، وليس ذلك إلا لوحدة وسنخيَّة بين هذه المعاني..، الذي يتحصَّل من كلامه تعالى فيما ذكره تعالى من أوصاف يوم القيامة ونعوته أنَّه يوم لا يحجب فيه سبب من الأسباب، ولا شاغل من الشَّواغل عنه سبحانه، فيفنى فيه جميع الأوهام، ويظهر فيه آياته كمال الظُّهور، وهذا يوم لا يبطل وجوده وتحقُّقه تحقّق هذه النَّشأة الجسمانيَّة ووجودها، فلا شيء يدلُّ على ذلك من كتاب وسنّة، بل الأمر على خلاف ذلك، غير أنَّ الظَّاهر من الكتاب والسُّنَّة أنَّ البشر -أعني هذا النَّسل الذي أنهاه الله سبحانه إلى آدم وزوجته- سينقرض عن الدُّنيا قبل طلوع هذا اليوم لهم، ولا مزاحمة بين النَّشأتين؛ أعني نشأة الدّنيا ونشأة البعث، حتى يدفع بعضها بعض، كما أنَّ النّشأة البرزخيَّة -وهي ثابتة الآن للأموات منَّا- لا تدفع الدّنيا، ولا الدّنيا تدفعها..، فهذه حقيقة يوم القيامة، يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، ولذلك ربَّما سُمِّي يوم الموت بالقيامة؛ لارتفاع حجب الأسباب عن توهّم الميّت، فعن عليّg >من مات فقد قامت قيامته<([22])..، والرِّوايات المثبتة للرَّجعة وإن كانت مختلفة الآحاد، إلا أنَّها على كثرتها متَّحدة في معنى واحد، وهو أنَّ سير النِّظام الدُّنيويّ متوجّه إلى يوم تظهر فيه آيات الله كل الظُّهور، فلا يعصى فيه سبحانه وتعالى، بل يعبد عبادة خالصة، لا يشوبها هوى نفس، ولا يعتريه إغواء الشّيطان، ويعود فيه بعض الأموات من أولياء الله تعالى وأعدائه إلى الدّنيا، ويفصل الحقّ من الباطل.

وهذا يفيد: أنَّ يوم الرّجعة من مراتب يوم القيامة، وإن كان دونه في الظُّهور؛ لإمكان الشَّرِّ والفساد فيه في الجملة دون يوم القيامة، ولذلك ربَّما ألحق به يوم ظهور المهديّg أيضا؛ لظهور الحقِّ فيه أيضا تمام الظُّهور، وإن كان هو أيضا دون الرَّجعة، وقد ورد عن أئمَّة أهل البيت: (أيام الله ثلاثة: يوم الظُّهور، ويوم الكرّة، ويوم القيامة)([23])، وفي بعضها: (أيام الله ثلاثة: يوم الموت، ويوم الكرّة، ويوم القيامة)([24])، وهذا المعنى -أعني الاتّحاد بحسب الحقيقة، والاختلاف بحسب المراتب- هو الموجب لما ورد من تفسيرهمi بعض الآيات بالقيامة تارة، وبالرَّجعة أخرى، وبالظُّهور ثالثة"([25]).

وحاصل ما يمكن أن يُستفاد من كلامه¤: أنَّ الظُّهور يعدُّ مرتبة من مراتب يوم القيامة، وهو يوم الآخرة، لكن لا بمعنى أنَّه يعدّ نشأة انتقاليَّة أخرى أجنبيَّة عن الدّنيا، ذلك أنَّ جميع هذه العوالم متَّحدة في الحقيقة، مختلفة في المراتب، منطوية في بعضها البعض، وخصوصيَّة يوم الظُّهور أنَّه ينبسط ليكون أكثر وضوحا في علاقته بعالم الآخرة، لا بمعنى أنَّه يلغي أو يدفع عالم الدُّنيا نهائيّا، بل عالم الدنيا متحقِّق، لا ينطوي أو ينتهي إلا بقيام القيامة، غاية ما في الأمر أنَّ يوم الظُّهور يكون جليّا فيه إذا قام القائمg، وذلك بانبساط بعض الخصائص المتعلّقة بهذا اليوم في عالم الدّنيا نفسه، ويُعرف ذلك من تمثيله(ره) بعالم البرزخ وعالم الدّنيا، أنَّ الأخير لا يدفع الأوّل، بل هو انتقال انطواء، كما أنَّ المعاد مختزل في هذه الدّنيا أيضا، منطو فيها، على ما حقّقه نفس العلّامة في بحث المعاد..

وإذا فهمنا يوم الظُّهور على أنَّه مرتبة من مراتب يوم القيامة، فلا شكَّ أنَّ ذلك يعني أنّه بحاجة إلى إيجاد تهيئة تكوينيّة لرفع هذا المقدار من الحجاب فيه، وليست سوى هذه العلامات مع التزامنا -كما اتّضح في الفهم الأوّل- بكونها ذات علاقة تكوينيّة بيوم الظُّهور، وإنَّ ما يعطيه التّأمل في نفس طبيعة العلامات هو هذا المعنى، وذلك كالكسوف والخسوف كآيتين لم تقعا منذ خلق آدمg –بحدِّ تعبير بعض الرِّوايات-، والنَّار التي تطلع في المشرق إلى ثلاثة أيَّام، أو سبعة، وخروج الشَّمس من المغرب، والمذنّب الذي يمرّ بالأرض، فهذه كلُّها تغيُّرات لا تنسجم -إذا ربطناها بعضها ببعض- مع وضع الدّنيا الحاليّ، والّذي يمشي وفقا لقانون معيَّن، فتغيّر القوانين يوحي بتغيّر العالم.

ومع تفسير يوم الظُّهور بأنَّه خطوة متقدّمة نحو عالم الآخرة، يتَّضح أنَّ هذه العلامات لها أيضا هذه الدَّلالة التكوينيّة الخطيرة.

ومن خلال الفهمين المتقدّمين، تتعمَّق الرّؤية حول ما جاء معتبرا من العلامات الحتميَّة، فتكون له قيمته البالغة، والتي ينبغي أن يترتّب عليها الأثر، بحيث يكون له حضور في وعي المؤمن، وفكره، وعقله، وقلبه، وعمله، وهذا ما أريد أن أقف عليه في النُّقطة الثّالثة سريعا.

النُّقطة الثَّالثة: روايات علامات الظُّهور: المنهج والآثار:

يمكن أن نذكر ثلاثة آثار هامَّة جدّاً لروايات علامات الظُّهور، ولكن بشرط الالتزام بالمنهج العلمي في التَّعاطي معها، ولا بأس بالتَّعرض باختصار شديد لمعالم هذا المنهج قبل الحديث حول الآثار الثّلاثة.

أولا: منهج التَّعامل مع روايات علامات الظُّهور

وحاصل هذا المنهج يمكن اختصاره في المعالم الأربعة التَّالية:

1) التَّمحيص العلميّ للرّوايات:

حيث لا بدَّ من تبيّن المعتبر من غير المعتبر منها، بحيث يمكن تبيّن مدى إمكانيَّة أن يُبنى عليه أو لا، فالمضامين التي جاءت عن أمر معيَّن في المراسيل، والضّعيف من الأسانيد، أو ما جاء منها بإخبار أمثال كعب الأحبار، أو ما يُعرف بالإسرائيليّات، أو ما جاء منها غريبا بلا شاهد، أو ما أعرض عنه الأعلام جيلا بعد جيل، أو ما جاء في كتب متساهلة غير معتبرة، هذا كلُّه -ما لم يقترن بقرينة جابرة، كالشّهرة، والاستفاضة، والتواتر بأحد أنحائه- لا يمكن أن يُبنى عليه شيء، فضلا عن اعتماده في جدولة الأحداث بنحو قاطع جازم قد يجعلنا نتمسَّك بسراب!

2) التّدقيق الدلاليّ التّخصصيّ لمضامين الرِّوايات:

فإنَّ التّعامل مع هذه الرِّوايات يحتاج إلى تخصص واسع التّشعبات، فهي مترابطة ببعضها البعض، وقد يكون فيها ترميز، ولبعضها تأويل، ولبعضها قرائن إذا أُغفلت أثّر ذلك في فهم المعنى المقصود من النصِّ، ولا بدَّ أيضا من حمل خلفيات علميّة رصينة فيما يتعلَّق بعلم الفلك، والتَّاريخ، والجغرافيا، والحضارات والأمم، فضلاً عن علوم القرآن والتَّفسير والدِّراية، والبلاغة والنّحو والصّرف، ونظريّات اللسانيّات، وغير ذلك ممَّا له دخالة كبيرة في فهم ما جاءت به هذه النُّصوص التي عدَّها بعضهم فيما يزيد على السَّتة آلاف رواية بين غثٍّ وسمين، ومألوف وغريب.

3) تحكيم بعض القواعد المعرفيّة والرِّوائيّة بعد الإحاطة بها:

ومن ذلك: التَّفريق بين المحتوم من العلامات، وغير المحتوم، والعامّ منها والخاصّ، والفرق بينهما لإعطاء كلٌّ منهما حكمه، وكذلك تحكيم قاعدة البداء بعد فهمها الدَّقيق، وتحقيق مسألة وقوعه حتّى في المحتوم -على رأي بعض العلماء؛ استناداً لبعض الرِّوايات، خلافاً للمفيد، والصَّدوق، والطّوسيّ، والنّائينيّ، والخوئيّ، وغيرهم-، وتحكيم قاعدة نفي التَّوقيت، وتحكيم قاعدة تكذيب المشاهدة والنِّيابة والبابيّة، وغير ذلك الكثير من الأبحاث المرتبطة بالقضيَّة المهدويَّة التي تحتاج إلى إحاطة تخصُّصيَّة تامَّة ومحكمة؛ لما لها من تأثير في التَّعامل مع مسألة علامات الظُّهور ورواياتها.

4) عدم التَّطبيق على الواقع الخارجيّ إلا بالبيِّن الواضح:

وذلك باتَّزان ناضج، لا يتسرَّع إلى النّفيّ والتَّكذيب والتَّشكيك، ولا يتسرَّع أيضا للإثبات بتكلُّف، أو مزايدة، أو هوَس، أو ليٍّ لعنق النَّصوص، فذلك هو مقتضى العلاميّة؛ لأنَّ العلامة دليل، وليس من شأن الدَّليل أن يشوِّش، بل هو يدلُّ ويوضِّح، ويهدي، قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}([26])، وإنَّ اعتماد منهجيّة التَّرميز المطلق -لإعطاء الظّواهر والأحداث المذكورة في هذه الرِّوايات سمة السِّعة الفضفاضة القابلة للتَّطبيق على أي حدث كبير- أمرٌ لا دليل عليه -إلا في بعض مواطن التَّرميز المعتمدة على القرائن-، وإنَّ محاولة تطبيق ما جاء في الرِّوايات -حتَّى الضَّعيفة منها، أو غير الحتميَّة- بلا دليل قاطع على كلِّ حدثٍ يقع، فيه ما فيه:

1- من الابتعاد عن العلميَّة المعتمدة على القطع لا الظنّ.

2- من جهة ثبوت التَّكاذب مع أحداث كثيرة مرَّت بها الأمَّة كانت قابلة للتَّطبيق بوجه، ولكنَّها لم يتعقُّبها الظُّهور المبارك.

3- من فقد الأمَّة الأمل في مضامين هذه الرِّوايات، ممَّا يفقدها قيمتها العلميَّة والعمليَّة الحقيقيَّة والكبيرة.

يقول العلَّامة السِّيد جعفر مرتضى العامليّ في "توضيح الواضحات": "والصَّحيح أنَّ وضع خارطة للأحداث المستقبليَّة في ضوء علامات الظُّهور، لا يكون عملاً دقيقاً ومجدياً، ولا يمكن أن يحقِّق أهداف الإسلام التربويّة من العلامات، إذا كان منطلقه الاعتماد على دراسة العلامات في غثِّها وسمينها وصحيحها وسقيمها، بل ستكون لهذا النَّوع من العمل الكثير من الآثار السلبيَّة، والأضرار الاجتماعيّة والتَّربويّة على حركة الانتظار الواعية في الأمَّة، ولا تقتصر أضرار مثل هذه التَّجارب الفكريّة العمياء على الأمَّة فحسب، وإنَّما تتعدَّاها فتؤثِّر على مكانة الدِّين القيِّم أيضاً، المعروف بدقَّته في تقديراته وتصوُّراته لأحداث المستقبل التي يستهدف من ورائها إلقاء الحجَّة الكاملة بأدلَّتها النَّيّرة السَّاطعة على أعدائه، فلا بدَّ من البحث عن منهج علمي متين، نستطيع من خلاله الوصول إلى الأخبار الصَّحيحة لمخطَّط الظُّهور، حينئذ يمكن أن نرسم معالمه للأمَّة لتهتدي في ضوئه إلى مستقبلها الموعود، متجنِّبة جميع الفتن والانحرافات المتوقَّعة في طريق الانتظار المثمر البنّاء"([27]).

وقال الشّيخ الصّنقور: (أمَّا العلامات التّفصيليّة فهي على نحوين: الأوّل: ما ثبت أنَّه من علامات الظُّهور، إمَّا بالتّواتر أو بالرِّوايات المعتبرة، وذلك مثل الصّيحة وظهور السّفيانيّ، فأكثرها –بحسب الظّاهر- أنّه لم يقع منها شيء، وما يُدّعى من إسقاط بعض العلامات المذكورة في الرِّوايات على بعض ما يقع خارجا من أحداث لا يخلو عن كونه تخرّصات وتخمينات، لا يصح التّعويل عليها؛ فإنَّ العلامة لا بد َّوأن تكون بيّنة، وإلا لم تكن صالحة لأن تكون علامة)([28]).

وقال الشّيخ عليّ الكورانيّ في (المعجم): "وينبغي التَّذكير بأنَّ بعضهم أفرط في تعداد العلامات وتطبيقاتها، وأفرط آخرون في ردِّ تطبيقاتها الواضحة. والمنهج الصَّحيح هو التَّثبّت من النَّص، والالتزام به عندما يثبت، وقبول تطبيقه عندما يكون جليّاً"([29]).

هذا ما يمكن إجماله من معالم المنهج العلميّ الصّحيح في التعاطي مع روايات علامة الظُّهور، وحاصله: الاتّزان، بالابتعاد عن الاستغراق في هذه العلامات إلى حدِّ الهوس المعتمد على الظنّ، والابتعاد عن نفي وقوع العلامات التي ثبت وقوعها بوضوح، وبدون تكلّف، خصوصا العلامات العامَّة.

وبعد ضبط هذا المنهج -الذي يحتاج إلى الرُّجوع إلى المتخصّص كما اتّضح-، وبعد تطبيقه بنحو دقيق في التَّعامل مع هذه الرِّوايات، نأتي للآثار.

ثانيا: الآثار

يقول الشَّيخ حسين الكورانيّO في (آداب عصر الغيبة): "من الواضح ما لمعرفة علامات الظُّهور من أثرٍ كبيرٍ في مجالين: 1- تحصين الأمَّة ممَّن يدَّعون المهدويَّة. 2- الانضمام إلى جنودهg لمن وُفَّق لإدراك عصر الظُّهور..، ويرى بعض العلماء وجوب معرفة علامات الظُّهور، قال في ذلك: والدَّليل في ذلك العقل والنَّقل. أمَّا الأوَّل فلأنَّك قد عرفت وجوب معرفته -سلام الله عليه- بشخصه، ومعرفة العلائم المحتومة -التي تقع مقارنة لظهوره وقريباً منه- مقدِّمة لمعرفته"([30]).

ونذكر ثلاثة آثار هامَّة للاطّلاع على روايات علامات الظُّهور بالمنهج المتقدّم:

الأثر الأوَّل: الجذوة العاطفيَّة المستمرة باتِّزان

إنَّ من أهمِّ ما يعطيه التَّأمل في روايات علامات الظُّهور هو: استمراريَّة وهج الجذوة العاطفيّة، وتعميق التّعلق بالقضيّة المهدويّة، وترطيبها في النَّفس بنحو يحافظ عليها من أي جفاف أو بلادة أو فتور، وهذه الحيويّة للقضيّة ستؤثّر على مدّ الأعين للمستقبل المشرق بنحو راسخ وثابت من الأمل، والحب لخطّ الإمامg، فروايات علامات الظُّهور تسهم في إيجاد التّرقّب الدَّائم، وملاحظة الوضع القائم، وتبيّن مدى انطباقه على ما ذُكر من حتميّ في علامات ظهورهg، بل حتى في غير الحتميّ مع الاتِّزان الحاصل من تطبيق المنهج المزبور.

جاء في الكافي بسنده عن الحسن بن عليّ بن يقطين، عن أخيه الحسين، عن أبيه عليّ بن يقطين قال: "قال لي أبو الحسنg: >الشِّيعة تُربّى بالأماني منذ مائتي سنة<، قال: وقال يقطين لابنه عليّ بن يقطين: ما بالنا قيل لنا فكان، وقيل لكم فلم يكن؟ قال: فقال له عليّ: إنّ الّذي قيل لنا ولكم كان من مخرج واحد، غير أنَّ أمركم حضر فأعطيتم محضة، فكان كما قيل لكم، وإنَّ أمرنا لم يحضر، فعُلّلنا بالأماني، فلو قيل لنا: إنَّ هذا الأمر لا يكون إلّا إلى مائتي سنة، أو ثلاثمائة سنة. لقست القلوب، ولرجع عامَّة النَّاس من الإسلام، ولكن قالوا: ما أسرعه وما أقربه؛ تألّفا لقلوب النَّاس؛ وتقريباً للفرج"([31])، فهذا فهم أحد أصحاب الإمام(ع) للقضيّة.

هكذا تُفهم روايات علامات الظُّهور ضمن هذا السّياق العاطفيّ المتّزن، إلّا أنّ هذه العاطفة سلاح ذو حدّين إذا ما تعامل الإنسان مع هذه الرِّوايات بالعاطفة السّاذجة البعيدة عن المنهج المتقدّم، فإيجابيّة هذا الأثر مشروطة بأن تكون هذه العاطفة متّزنة، واعية، بصيرة، وبالتَّحديد: أن تبتعد هذه العاطفة عن ثلاثة أمور -حسب ما حذّرت منه الرِّوايات-:

أوّلا: التَّوقيت

فلا ينبغي أن تكون علامات الظُّهور هذه مدعاة للتّوقيت، فقد وردت روايات كثيرة في التّحذير من التّوقيت، وفي نفي من يقول به من الانتساب الحقيقيّ لأهل البيتi، فقد جاء في الكافي الشّريف عن عبد الرّحمن بن كثير قال: "كنت عند أبي عبد اللهg، إذ دخل عليه مهزم، فقال له: جعلت فداك، أخبرني عن هذا الأمر الذي ننتظر متى هو؟ فقال: >يا مهزم، كذب الوقّاتون، وهلك المستعجلون، ونجا المسلّمون<"([32])، وفيه عن أبي بصير، عن أبي عبد اللهg قال: سألته عن القائمg، فقال: >كذب الوقَّاتون، إنا أهل بيت لا نوقِّت<([33])، وفي ما رواه النعمانيّ -بسند معتبر- عن محمَّد بن مسلم، قال: قال أبو عبد اللهg: >يا محمَّد، من أخبرك عنَّا توقيتا فلا تهابنّ أن تُكذِّبه، فإنِّا لا نوقِّت لأحدٍ وقتاً<([34]).

بل ورد أنَّ الله تعالى أبى إلا أن يكذِّب وقت الوقَّاتين، فعن عبد الله بن سنان، عن الصَّادقg: (أبى الله إلاّ أن يخالف وقت الموقّتين)([35])، بل يُفهم من بعض الرِّوايات أنَّ الإمام(ع) إنَّما يعطي العلامات الحتميَّة حتى يبتعد النَّاس عن التَّوقيت والانخداع بالمدَّعين، فعن أبي بصير، عن أبي عبد اللهg، قال: قلت له: جعلت فداك، متى خروج القائم(ع)؟ فقال: >يا أبا محمَّد، إنّا أهل بيت لا نوقّت، وقد قال محمّد(ص): كذب الوقّاتون، يا أبا محمَّد، إنَّ قدَّام هذا الأمر خمس علامات: أولاهنَّ النِّداء في شهر رمضان، وخروج السِّفيانيّ..<([36]).

قال الشّيخ السّند في (فقه علائم الظُّهور): "صريح الرِّوايات المستفيضة بأنَّ عدم التَّوقيت لظهور المهديّl من الأمور الثَّابتة في مذهب أهل البيتi، وأنَّ تحديد الظُّهور منحصر بالعلامات الحتميَّة للظُّهور فقط، وأبرزها الصَّيحة السَّماويّة، وخروج السفيانيّ في الشام"([37]).

ثانيا: الاستعجال

اتّضح من الرِّواية المتقدِّمة خطورة الاستعجال: >وهلك المستعجلون<، وأيضاً جاء في الكافي: عن إبراهيم بن مهزم، عن أبيه، عن أبي عبد اللهg قال: ذكرنا عنده ملوك آل فلان، فقال: >إنِّما هلك النَّاس من استعجالهم لهذا الأمر، إنَّ الله لا يعجل لعجلة العباد، إنَّ لهذا الأمر غاية ينتهي إليها، فلو قد بلغوها لم يستقدموا ساعة ولم يستأخروا<([38]).

ثالثا: تصديق المدّعين

قد تؤثِّر العاطفة على التَّفكير المتِّزن لدى الإنسان، فتدعوه للتمسُّك بأيِّ بصيص أمل زائف قد يكون بين ادّعائه نحو مشابهة من بعض الجهات مع ما ورد في بعض روايات علامات الظُّهور، خصوصاً تلك التي تكلَّمت عن بعض التَّفاصيل غير الحتميَّة، أو ما ورد في الضَّعيف من الأخبار، فتُستغلَّ من الكذَّابين المدَّعين للتَّدليس على البسطاء من المحبِّين للإمامg، وستأتي فائدة التَّعامل الصَّحيح مع روايات علامات الظُّهور من هذه الجهة.

وهذه الأمور الثَّلاثة مترابطة مع بعضها البعض، أصلها هو العاطفة السَّاذجة غير الواعية ولا المتَّزنة، فبها يستعجل المحبّ، فيضطَّر للتَّوقيت بعد ما ليس بعلامة علامة، ويلهث وراء المدَّعين بلا دليل رغبة في التَّصديق -واستعجالاً للأمر- بما لا يبتني على أسَّس صالحة للاعتماد.

قال الشَّيخ سند في "فقه علائم الظُّهور": "من الرِّوايات الأخرى أنَّ العلامات الحتميّة أيضاً ممّا قد يقع فيها البداء، أي: وإن وقعت فقد لا تكون علامة موقّتة لظهوره، بخلاف أصل ظهور المهديّl، فإنَّه لا بداء فيه؛ لأنَّه من الميعاد. وهذا ممَّا يبطل شعار أدعياء فرسان الظُّهور، ويحبط دجل المتقمِّصين لأسماء مسرح الظُّهور؛ إذ التَّوقيت -وضرب الموعد- من الأمور المحرجة لمن يدَّعي تلك الأسماء؛ إذ بتوسُّط فخّ التَّوقيت يُصطاد السُّذَّج، ويطلي الحيلة على المغفَّلين، وبذلك يوقع المدَّعي نفسه في الفخّ"([39]).

الأثر الثَّاني: القدرة على التَّمييز بين الحقِّ والباطل على أساس علميّ ومعرفيّ

إنّ التَّأمل في روايات علامات الظُّهور بالمنهج المتقدّم، يعين على فتح الأفق العلميّ المتعلّق بهذه القضيّة، وكشف الحقائق، والتَّمييز بينها وبين الزّيف والباطل والادّعاء، ممَّا يسهم في عدم الانخداع بالكذَّابين، فيكون المؤمن ثقيلا، صلبا، ناضجا، بتشكيل رؤية واضحة بمنهج صحيح متزّن، وبالتَّعرف على تفاصيل كثيرة تمكّنه من التمييز، تحفظه من استخفاف المدّعين له.

ويُفهم هذا الأثر الهامُّ من بعض الرِّوايات، ففي كتاب "الغيبة" للنعمانيّ عن الإمام الباقرg: >فما أشكل على النَّاس من ذلك -يا جابر- فلا يشكلنَّ عليهم ولادته من رسول اللهe، ووراثته العلماء عالماً بعد عالم، فإن أشكل هذا كلُّه عليهم فإنَّ الصَّوت من السَّماء لا يشكل عليهم، إذا نودي باسمه، واسم أبيه، وأمه<([40])، وفي رواية العيّاشي عن جابر، عن أبي جعفرg: >ما أشكل عليكم فلم يشكل عليكم عهد نبيّ اللهe، ورايته، وسلاحه، والنَّفس الزكيّة من ولد الحسين، فإن أشكل عليكم هذا فلا يشكل عليكم الصَّوت من السَّماء باسمه وأمره، وإيّاك وشذّاذٌ من آل محمّدg، فإنَّ لآل محمّد وعليّ راية، ولغيرهم رايات، فالزم الأرض، ولا تتِّبع منهم رجلاً أبداً، حتَّى ترى رجلاً من ولد الحسين معه عهد نبيّ الله ورايته وسلاحه..<([41]).

كما جاء في الكافي -في معرض الحديث عن نداءين قبل ظهورهg-: (فقال الرّجل: فما يدرينا أيَّما الصَّادق من الكاذب؟ فقال: >يصدِّقه عليها من كان يؤمن بها قبل أن ينادي، إنَّ الله a يقول: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى..}(يونس:35)<([42])، والرِّواية لم توضِّح من المجيب، هل أنَّه إمام –كما لا يبعد-، أو أنَّه غيره من بعض أصحابه.

التَّمييز من جهة مدَّعي المهدويّة:

ومن أمثلة هذا التَّمييز: ما ذكره السّند في "فقه علائم الظُّهور" من أنَّه لم تثبت نيابة خاصّة عن الإمامg ليس في زمن الغيبة فحسب، -حيث هذه ثبت بالدّليل كذب مدّعيها-، بل حتّى في زمن الظُّهور، حيث لا يعطي التَّمحيص في الرِّوايات -حسب تحقيقه- أنّ أحدا من الشّخصيّات العظيمة الأساسيّة التي تظهر كعلامات لظهور الإمامg له نيابة خاصّة عنهg، إلّا ما ثبت في النّفس الزكيّة، وهي ليست وكالة عامّة في كلّ شيء، بل في تبليغ رسالة لأهل مكّة، فإذا ثبت هذا التّحقيق، نستطيع أن نقول بأنه لا بابيّة مطلقا بعد سفراء الغيبة الصغرى حتّى في الزّمن المتّصل بالظُّهور من الشّخصيّات التي عُدّت علامات لظهوره المباركg، فضلا عن غيرها ممّن يدّعي أنّه ابنه، أو وكيله، أو حفيده، أو بابه، أو غير ذلك من الكذب، فلا يمانيّ وكيل، ولا حسنيّ وكيل، ولا خراسانيّ وكيل، ولا نفس زكيّة وكيل الآن، كلّ ذلك كذب ودجل وتدليس وخداع..

فانظر كيف أثَّر التَّحقيق في علامات الظُّهور في استنباط هذه القاعدة التي تجعل المؤمن في مأمن من الانخداع بأي ادِّعاء في هذا الجانب، خصوصاً مع ما ورد من تحذير من كثرة المدَّعين للإمامة، والنَّبوة في زمن غيبتهg.

قال الشّيخ السّند: (والحاصل: أنَّ أهمَّ ما ورد في اليمانيّ لا يرقى إلى إثبات نيابته الخاصّة عن الحجّة، وكونه سفيراً لناحيته المقدّسة، بل غاية الأمر كون دعوته هي إلى الحقّ، وهو منهاج أهل البيت(ع)، وولايتهم، وولاية المهديّl..، هذا مع كون علامات خروجه هو في سنة ظهور الحجّةg، أي مواكباً للصّيحة السماويّة، واستيلاء السّفيانيّ على الشام، والخسف لجيش السّفيانيّ بالبيداء حوالي المدينة المنوّرة في الطريق باتّجاه مكّة المكرّمة..، هذا كلّه في اليمانيّ، فضلاً عمّا ورد في الحسنيّ الخراسانيّ الذي يخرج من خراسان، فإنّه قد مرّ ورود التّعريض برايته من حيث شعارها وبرنامجها، ووسط القاعدة الشعبيّة الذي يتشكّل منه جيشه، وإن انضمّ ذلك إلى مديح لبعض الفئات المشاركة في نهضته ولشخصه عندما يسلّم الأمر إلى المهديّl، وباعتبار مقاومته للظّالمين، ولكن ليس فيها إعطاء أيّة صفة رسميّة للحسنيّ، لا كنائب خاصّ، ولا كسفير للنّاحية المقدّسة، هذا مع تحديد الرِّوايات لخروجه بنفس سنة الظُّهور وعلاماتها الحتميّة من الصّيحة السّماويّة، واستيلاء السّفيانيّ على بلاد الشّام، وخسف فرقة من جيشه ببيداء المدينة المنوّرة"([43]).

فيظهر من كلامه –حسب تحقيقه- أنَّ ما ورد في كلٍ من اليمانيّ والخراسانيّ لا يفيد نيابتهما وسفارتهما الخاصَّة، ممَّا يفيد الانسجام التّامّ مع مفاد التَّوقيع الشّريف السَّابق من أنَّه لا مشاهدة -بمعنى النِّيابة- حتّى وقوع الصّيحة والسّفيانيّ، وهذا يعني: أنَّ كلَّ من انتحل شخصيّة الخراسانيّ، أو اليمانيّ بحجّة النّيابة، أو السّفارة، أو البابيّة، أو غير ذلك ممَّا يشير إلى الاتّصال، كذَّاب مفتر ضالّ مضلّ، وهذا ما يعطيه التَّأمل في روايات علامات الظُّهور، فانظر إلى الفائدة الفعليّة التّحصينيّة المعرفيّة المتحصّلة من وراء الاطّلاع على تلك الرِّوايات بالنَّظرة التَّمحيصيّة التحقيقيّة.

ويزداد الأمر خطورة حين تكشف لنا روايات الظُّهور -أيضا- حقيقة كثرة الادِّعاء في الزَّمان الذي يسبق ظهورهg، بل في بعضها مدَّعون يتشبَّهون به، ويسبقون ظهوره بقليل، وينخدع بهم بعض الشّيعة، ومن ذلك ما رُوي عن الصّادق(ع) أنّه قال: >لتُرفعنّ اثنتا عشرة رايةً مشتبهةً، لا يُعرف أيٌّ من أيٍّ<([44])، وفي رواية عن الصادقg ما يوضح أنّ هؤلاء من الهاشميّين، قالg: >لا يخرج القائم حتى يخرج قبله اثنا عشر من بني هاشم، كلهم يدعو إلى نفسه<([45])، وفي حديث عنهg مع بريد عن علامات الظُّهور القريبة قال: >واتّق الشَّريدين من ولد فلان، يأتيان مكّة يقسّمان بها الأموال، يتشبّهان بالقائم، واتّق الشذّاذ من ولد آل محمد<([46]).

التَّمييز من جهة الوظيفة:

ثمَّ إنَّ في بعض الرِّوايات تمييز من جهة أخرى أيضا، وهي جهة تحديد وظيفة المكلف من حيث التّحرك المباشر في القضيّة المهدويّة، وأنَّ ذلك مؤقَّت بظهور علامة الصَّيحة، وأنَّه ليس مكلفاً بشيء -غير الانتظار، والدَّعاء بالفرج، والتَّهيئة العامَّة- إلى حين وقوع هذه العلامة الحتميَّة، وفي ذلك من التَّحصين والتَّمييز ما لا يخفى.

ومن ذلك ما رواه النعمانيّ -وغيره أيضاً بنفس المضمون- بسنده عن جابر، قال: قال أبو جعفرg: >يا جابر، الزم الأرض، ولا تحرَّك يداً، ولا رجلاً حتَّى ترى علامات أذكرها لك إن أدركتها<([47])، ويعدِّد عدداً منها، وفيها خروج السُّفيانيّ، والخراسانيّ، وخسف البيداء، وهي من المحتوم كما اتَّضح.

وفي رواية الشَّيخ الطُّوسيّ في "الغيبة" بإسناده عن عمَّار بن ياسر أنَّه قال: "إنَّ دولة أهل بيت نبيّكم في آخر الزّمان، ولها أمارات، فإذا رأيتم فالزموا الأرض، وكفّوا حتّى تجيئ أماراتها"([48])، ويذكر منها السّفيانيّ، والنّفس الزّكية، والخراسانيّ، والنّداء.

تنبيه:

وبالتّأكيد أنّه ليس المقصود من هذه الرِّوايات لزوم الأرض بما يعني تعطيل فريضة الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والجهاد، وغير ذلك، بل (الزم الأرض) عن اتّباع كلّ مدع، وعن النعق وراء كل ناعق يدّعي البابيّة، أو المهدويّة، الزم الأرض عن أيّ حركة تدّعي التّمهيد المباشر والمخطّط له لظهور الإمامg.

وفي نفس السِّياق يمكن أن نفهم ما ورد عن سدير، قال: قال لي أبو عبد اللهg: >يا سدير، الزم بيتك، وكن حِلْساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنَّهار، فإذا بلغ أنَّ السُّفيانيّ قد خرج، فارحل إلينا ولو على رجلك<([49])، وممَّا يؤكِّد ما ذكرناه من تنبيه في تفسير هذه الرِّوايات أنَّ نفس هذه المضامين الواردة فيها تستبطن ضرورة التَّهيئة والاستعداد؛ لأنَّ من انفصل عن هذه العلامات، وانشغل بالدُّنيا، فإنَّه سيثقل عن الرَّحيل إليهم بانشغالاته، وهذه هي الفائدة الثَّالثة لروايات علامات الظُّهور.

الأثر الثَّالث: محاكاة التَّهيؤ التّكوينيّ الحاصل في العلامات، بالبناء والسَّعي

والمقصود أنَّ العلامات كتغيّرات تكوينيّة مهيّئة -كما تقدّم- تحتاج إلى تماهٍ يجعل المؤمن يستعدّ للالتحاق بهذا التَّغيير الكبير، فهي تدعوه لهذا الاستعداد الجدّي على كافّة المستويات قبل وقوعها، خصوصا البناء المعرفيّ منها؛ لكونه أساسا، وإلّا تخلّف المؤمن معرفيّا، ثمَّ نفسيّا، واجتماعيّا، وعقائديّا، وأخلاقيّا، وبالتّالي: عمليّا وسلوكيّا.

وهذا ما يُفهم من عدد من النُّصوص مفادها أنَّ التَّعرف على الإمامg هو الأساس، وأنَّ التَّعرف على العلامة مقدِّمة للتَّعرف عليه، فهو مركز روايات علامات الظُّهور، ومع التّوفر على المعرفة الحقيقيّة، فإنَّ هذه المعرفة تدعو للعمل، والتَّهيئة العامّة، والذّوبان في خطهg، جاء في "الغيبة" للنعمانيّ عن الصّادقg: >اعرف إمامك، فإذا عرفته لم يضرّك تقدّم هذا الأمر أم تأخّر؛ فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}(الإسراء:71)، فمن عرف إمامه كان كمن هو في فسطاط القائم(ع)<([50])، وفيه عنه(ع): >اعرف العلامة؛ فإذا عرفته لم يضرّك تقدّم هذا الأمر أو تأخّر، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}<، فمن عرف إمامه كان كمن هو في فسطاط المنتظرg<([51]).

وقد حذَّرت روايات علامات الظُّهور من التَّقاعس عن هذه المعرفة التي تجرُّ إلى العمل في زمن الغيبة، وذكرت أنَّ أغلب من كان يؤمن بالحجة(g سوف لن يؤمن به، وقد بيَّنت هذه الرِّوايات أنَّهم على أقسام، فمنهم من سيقول هلك، ومنهم من سينكر أصل وجوده، ومنهم من سيترك الأحكام الدينيّة، ويتخلّى عن هذه العقيدة، ركضا وراء البرّاق من القول، والشّبهات، والزّيف من أهل الدُّنيا، فنحن لسنا بعيدين عن الانحراف، هذا من أهمّ ما تعطيه روايات علامات الظُّهور.

جاء عن الصّادقg: >مع القائمg من العرب شيء يسير<، فقيل له: إنَّ من يصف هذا الأمر منهم لكثير! قال: >لا بدَّ للنَّاس من أن يمحّصوا، ويميّزوا، ويغربلوا، وسيخرج من الغربال خلقٌ كثيرٌ<([52])، بل أكثر من ذلك، لاحظ مضمون هذا الخبر عن الصَّادقg: >إذا خرج القائمg خرج من هذا الأمر من كان يرى أنَّه من أهله، ودخل فيه شبه عبدة الشَّمس والقمر!<([53]).

يقول السَّند: "وإنَّ اللازم على الموالين المؤمنين في عصر الغيبة المتطاولة حتّى الظُّهور هو: الثّبات على الاعتقاد بإمامة الأئمّة الاثني عشر؛ أي إمامة المهديّ الحيّ الحاضر الشّاهد لأحداث البشريّة، والتديّن بولايته الفعليّة، وتولّي الموالين لأهل البيتi، والتبرّي القلبيّ، وفي النموذج السلوكيّ العمليّ من أعدائهم، والتمسّك بالثّوابت من أحكام أهل البيتi، وعدم الافتتان بالشّعارات البرّاقة الخدّاعة المؤدّية إلى التخلّي عن التولّي والتبرّي، وللمروق من معالم أحكام فقه أهل البيتi ومعارفهم"([54]).

وهذا أخطر ما يمكن أن نواجهه إلى حين ظهورهg، وهو ما سوف يقعدنا عن نصرته لو ظهر، حين نعيش عيشة بعيدةً فكراً وسلوكاً، عقلاً وقلباً عمَّا سوف يدعو إليه الإمامg وقت خروجه المبارك، ولنا في كربلاء خير دليل وعبرة على ذلك، حيث إنَّ من كان يحمل فكرا وسلوكا متماهيا مع فكر القرآن، وأهل البيتi، هو الذي خرج ندباً لسيِّد الشهداءg، وإن من كان يحمل فكرا وعملا كذلك، إلا أنَّه مشوّش، منقوص، فإنَّه قعد، وتفرَّج، وخذل، وتثاقل، هذا هو الخيط الذي ميَّز أصحاب الحسينg عن غيرهم، رغم محسوبيّة الكثيرين من غيرهم على التشيّع، بل على بيت النّبوّة!! المسألة تحتاج إلى تهيئة، إلى استعداد، إلى حرص، ومراقبة، ومتابعة، نسأل الله تعالى أن يرزقنا نصرته، ويشرَّفنا بالشَّهادة بين يديه، وأن يوفِّقنا لإرضائه، واجتناب عصيانه.

والحمد لله ربٍّ العالمين.

 


 


([1]) الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج1، ص185

([2]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج52، ص192

([3]) المفيد، محمد، الإرشاد، ج2، 368

([4]) المفيد، محمد، الإرشاد، ج2، 372

([5]) الطوسي، محمد، الغيبة1، ج، ص457

([6]) المفيد، محمد، الإرشاد، ج2، 369

([7]) النعماني، محمد، ج1، ص283

([8]) النعماني، محمد، الغيبة، ج1، ص254

([9]) النعماني، محمد، الغيبة، ج1، ص262

([10]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج52، ص151

([11]) النعماني، محمد، الغيبة، ج1، ص260

([12]) الكليني، محمد، الكافي، ج8، ص310

([13]) الصدوق، محمد، كمال الدين وتمام النعمة، ج1، ص330

([14]) البرهان في علامات مهديّ آخر الزّمان، ص112.

([15]) الغيبة، ص310 وما بعدها.

([16]) الهندي، علاء الدين، كنز العمال، ج7، ص249

([17]) النعماني، محمد، الغيبة، ج1، ص262

([18]) المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي، ج1، ص301

([19]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج52، ص391

([20]) النعماني، محمد، ج1، ص216

([21]) النعماني، محمد، ج1، ص215

([22]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج58، ص7

([23]) روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص392، وفيه بدل يوم الظهور (يوم يقوم القائم).

([24]) لم نجد حديثا بهذا اللفظ، والموجود في تفسير القمي(ج1، ص367): >أيام الله ثلاثة : يوم القائم، ويوم الموت، ويوم القيامة<.

([25]) تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج2، ص106-109.

([26]) النحل، 16

([27]) توضيح الواضحات من أشكل المشكلات، ص29.

([28]) الموقع الإلكتروني لحوزة الهدى للدراسات الإسلامية(1546/https://www.alhodacenter.com/article). 

([29]) المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهديl، ص891.

([30]) آداب عصر الغيبة، ص36.

([31]) الكليني، محمد، الكافي، ج1، ص369

([32]) الكليني، محمد، الكافي، ج1، ص368

([33]) الكليني، محمد، الكافي، ج1، ص368

([34]) النعماني، محمد، الغيبة، ج1، ص298

([35]) الكليني، محمد، الكافي، ج1، ص368

([36]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج52، ص119

([37]) فقه علائم الظُّهور، ص57.

([38]) الكليني، محمد، الكافي، ج1، ص369

([39]) فقه علائم الظُّهور، ص56.

([40]) النعماني، محمد، الغيبة، ج1، ص282

([41]) العياشي، محمد، تفسير العياشي، ج1، ص65

([42]) الكليني، محمد، الكافي، ج8، ص209

([43]) فقه علائم الظُّهور، ص34-35.

([44]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج52، ص281

([45]) الطوسي، محمد، الغيبة، ج1، ص457

([46]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج52، ص269

([47]) النعماني، محمد، الغيبة، ج1، ص287

([48]) الطوسي، محمد، الغيبة، ج1، ص483

([49]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار،ج52، ص303 

([50]) النعماني، محمد، الغيبة، ج1، ص348

([51]) النعماني، محمد، الغيبة، ج1، ص350

([52]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج52، ص348

([53]) النعماني، محمد، الغيبة، ج1، ص330

([54]) فقه علائم الظهور، ص68.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا