وقفة على نظرية الفداء الحسيني

وقفة على نظرية الفداء الحسيني

مقدمة 

قال تعالى: <فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ>(الحديد:15).

اهتمَّ المؤرِّخون وكتَّاب السِير بأحداث الثَّورة الحسينية أيَّما اهتمام، وسجَّلوا كثيراً من الحوادث التي مرَّت على الإمام الحسينg، وحاولوا ذكر تفاصيلها الدقيقة.

والبحث في الثَّورة الحسينية تارة يكون بحثًا جزئيًا، وتارة يكون بحثًا كليًّا. 

أمَّا البحث الجزئي:

فقد تمَّ التطرُّق إلى كثير من المسائل المرتبطة بالمعركة، وموضع الخيام، والأسر، وعدد الجيوش، وكثيرٍ ممَّا يرتبط بالجزئيات. وهذا البحث قد أُشبع بشكل كبير، ونقل المؤرِّخون الكثير الكثير من التَّفاصيل. 

وأمَّا البحث الكلِّي:

فإنَّه يُبحث فيه حول تحليل حركة نهضة الإمام الحسينg  وبيان سرِّ نهضته وأهدافه. 

وقد أُغفل هذا الجانب في فترة زمنيَّة معيَّنة، وعاد الاهتمامُ فيه بشكلٍ كبيرٍ بين علمائنا. 

وقد كان لترك الخوض في بيان هدف حركة الإمام الحسينg  وسرِّ نهضته مجموعة من الأسباب..[1].

ومع ذلك، نجد الاهتمام لاحقًا بشكلٍ واسعٍ حول نهضة الإمام الحسينg وحركته، وقد تعدَّدت النَّظريات التي طُرحت في فلسفة الثَّورة الحسينيَّة وبيان أهداف حركة الإمام الحسينg، وأوصلها البعض إلى عشر نظريَّات، وكُتبت فيها كتب ومقالات، وذُكرت مجموعة من القرائن على كلِّ نظريَّة من النظريَّات. 

إحدى تلك النَّظريَّات، هي نظرية الفداء، وقد تبنَّاها بعضُ العلماء وذكروا عليها مجموعة من القرائن. 

والكلام في نقاط: 

النُّقطة الأولى: أهمية بيان أهداف ثورة الإمام الحسينg، ومن أين نستمدُّ سرَّ نهضته سلام الله عليه. 

وهنا ثلاثة أمور: 

أولًا: فلسفة كلِّ نهضة: 

إنَّ لكلِّ نهضة وحركة اجتماعية فلسفة تنطلق منها، وتعتبر هذه الفلسفة هي الوقود الذي تتحرَّك من خلاله هذه الحركة؛ لترسم معالم حركتها، وتبيِّن مداها، وتحدِّد الهدف الذي تصبوا إليه. 

ثانيًا: التَّركيز على أهداف الثَّورة من قبل الإمام الحسينg: 

إنَّ الإمام الحسينg ركَّز على فلسفة نهضته، وتطرَّق إليها في موارد متعدِّدة، من خروجه من المدينة وحتى استشهاده صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لعدة أمور: 

الأمر الأوَّل: أنَّه استهدف من خلال حركته المباركة، إحداث تغيير استراتيجي بعيد المدى، فلم يتحرَّك ضمن إطار مقطع زمني معين، وإنَّما أراد لهذه النهضة أن تستمر وتكون مشعلًا للهداية على طول الزَّمان، ونبراسا يضيء للبشرية جمعاء. 

الأمر الثَّاني: أنَّه علم صلوات الله وسلامه عليه أنَّ الأمويين سيقومون بشتَّى السُّبل بتشويه حركته ونهضته، ونعته بمختلف النُّعوت، وهذا ما حصل منذ اليوم الأوَّل لحركته، فإنَّ البعضَ نسب إليه أنَّه خارجيٌّ خرج على الخليفة المفترض الطَّاعة. 

من هنا كان بيان أهداف وفلسفة نهضة الحركة الحسينية من أهمِّ المفاصل التي عنى بها الإمام الحسينg، واهتمَّ بها وبيَّنها بشكل مفصَّل ودقيق، وفي مقاطع مفصليَّة أثناء حركته المباركة. 

ثالثًا: من أين نستمدُّ فلسفة نهضة الحسينg؟: 

لم يدع الإمام الحسينg موردًا لم يستثمره لبيان أهداف وسرِّ نهضته المباركة، وهذا ما نلاحظه بشكلٍ كبيرٍ في مواضع متعدِّدة: 

الموقف الأوَّل: مع والي المدينة حيث قال له: «مِثْلِي لَا يُبَايِعُ لِمِثْلِه»[2]، فحدَّد من البداية رفضه للبيعه. 

الموقف الثَّاني: موقفه في مكة، فقد بقي الحسينg ما يقارب الأربعة شهور، استثمرها في فضح الدَّولة الأمويَّة وبيان أهداف رفضه لبيعته ليزيد. 

الموقف الثَّالث: في طريقه إلى الكوفة والأحداث التي جرت هناك. 

الموقف الرَّابع: في يوم عاشوراء وخطاباته المتكرِّرة. 

إذن، فنحن أمام تراث تركه الإمام الحسينg للأمَّة لتستلهم منه وتقف معه مواقفه المباركة. 

 

النُّقطة الثَّانية: بيان نظرية الفِداء، والنَّقض الوارد عليها

توضيح النَّظرية: 

طرحت عدة نظريات بخصوص الهدف من حركة الإمام الحسينgونهضته، منها نظرية الدِّفاع عن النَّفس، ومنها نظرية إقامة الحكومة الإسلامية، ومنها نظرية التَّكليف. 

ومن النَّظريات التي طرحت حول فلسفة نهضة الإمام الحسينg هي مسألة الشَّهادة، وهي تعتبر من أكثر النَّظريات التي تداولها العلماء وذكروا عليها مجموعة من الشَّواهد، وقد ذكر العلامة شرف الدِّين مجموعةً من القرائن تدلُّ على قصد الإمام الحسينg للشَّهادة[3]؛ أي أنَّه كان قد خرج عالمًا وقاصدًا للشَّهادة، وهذا لا خلاف فيه، لكن الكلام في ما هو المقصود من الشَّهادة؟ 

لقد فسَّروا الشَّهادة هنا بعدَّة تفسيرات، ولكلِّ تفسير مجموعة من اللوازم، لن ندخل فيها؛ لأنَّ مرادنا الحديث عن أحد هذه التَّفاسير[4]:

التَّفسير الأوَّل: 

وهو أنَّ الشَّهادة كانت تكليفًا للإمام الحسينg، وقد أمره الله تعالى بهذا التَّكليف. 

التَّفسير الثَّاني: 

أنَّ الإمام الحسين عليه السلام كان قد قصد الشَّهادة لينال مقامًا رفيعًا عند الله تعالى. وقد ورد أنَّ النَّبي خاطب الإمام الحسينg في منامه: «إِنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَاتٍ لَا تَنَالُهَا إِلَّا بِالشَّهَادَة»[5].

التَّفسير الثَّالث: 

أنَّ الشَّهادة كانت سبيلًا وطريقًا لإصلاح الزَّيغ الذي حصل للأمَّة. وهذا له شاهد أيضًا فقد ورد في زيارة الإمام الحسينg في يوم الأربعين: «وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ»[6].

التَّفسير الرَّابع:

أنَّ الإمام الحسين عليه السلام صمَّم على الشَّهادة ليحصل على المقام الرَّفيع ويكون فداءً للعاصين والمذنبين. 

وهذه هي ما تُسمَّى بنظرية الفِداء، وتقوم هذه النَّظرية على أساس أنَّ التَّضحية التي قام بها الإمام الحسينg كانت من أجل أن ينال مقام الشَّفاعة، ليكون شفيعًا للمذنبين، أي أنَّ الإمام الحسينg كان يهدفُ من تحرِّكه أن يستشهد ليكون البكاء عليه وسيلةً للغفران للأمَّة، فهو يريد أن يطهِّر الأمَّة من المعاصي، وهذا يحصل بشهادته، والبكاء عليه، فإذا استشهد، بكوا عليه، واذا بكوا عليه، تطهَّروا من الذُّنوب والمعاصي. 

هل ذكر هذه النَّظرية أحد من العلماء؟ 

ذكر هذه النَّظرية مجموعة من العلماء، منهم: العلامة النراقي في محرق الفؤاد، الميرزا محمد باقر شريف الطباطبائي، آية الله حبيب الله الكاشاني والملا عبدالرحيم الأصفهاني[7].

وإذا ألقينا نظرة إلى أدب الرِّثاء، سنجد أنَّ أفكار هذه النَّظرية قد ذكرت في مجموعة من القطع الشِّعرية، والتي تشير إلى أنَّ الإمام الحسينg قد ثار من أجل أن يفدِّي الشيعة ويكون لهم شفيعًا يوم القيامة وينقذهم من ذنوبهم.

مثال لما ذكره العلماء حول هذه المسألة، وهو ما ذكره الملا مهدي النراقي في كتابه محرق الفؤاد حيث قال: 

"الحسينg من أجل أن يصل إلى الشَّفاعة الكبرى التي تقتضي أن يخلِّص الموالين والمحبين قد رضي بالشَّهادة ليصل لهذه المرتبة، وبدون هذه الشَّهادة لن يصل إلى هذه المرتبة؛ لأنَّ الوصول إلى مقام الشَّفاعة ورفع ذنوب العاصين متوقف على دمه وألمه"[8].

بل ذكر بعض أنَّ الإمام الحسينg مثل النَّبي عيسى على نبينا وآله وعليه السلام، فكما أنَّ عيسى صلب على الصَّليب ليكون شفيعًا للأمَّة وينقذهم من المعاصي، فالإمام الحسينgكذلك[9].

نقد النَّظرية: 

تواجه هذه النَّظرية مجموعة من النُّقوضات التي ترد عليها، ولا تصمد أمام هذا النَّقد: 

النَّقد الأوَّل: 

أنَّ هذه النَّظرية لا تتوفَّر على أيِّ شاهد، فلا قرينة مقالية ولا لفظية تدلُّ على أنَّ حركة الإمام الحسينg ونهضته وتضحيته كانت من أجل أن يكون مطهرّا للأمَّة، فلا يوجد أيُّ مصدر يقول إنَّ الإمام الحسينg قد قام من أجل أن يستشهد وبواسطة الشَّهادة يكون شفيعًا للأمَّة من الذُّنوب. 

إنَّ رسم أيِّ هدف من أهداف حركة الإمام الحسينg لا بدَّ أن يكون بدليلٍ ثابتٍ قطعي قد صدر منه صلوات الله وسلامه عليه، لا أن نخترع هدفًا من عندنا[10].

النَّقد الثَّاني: 

إنَّ هذه النَّظرية تخُرج هذه النَّهضة الحسينية من كونها نهضة تحثُّنا على السَّير بخطاها، فالإمام الحسينg ثار من أجل أن يعطينا منهجًا وطريقًا نتلمَّسه حينما يكون الدِّين في خطر، فإذا قلنا إنَّ الهدف من نهضته هو أن يقتل ويكون شفيعًا لنا، فلن تكون هذه الثَّورة منهاجًا لنا نتبعه ونسير على خطاه[11].

النقد الثَّالث: 

إنَّ هذه الفكرة تسرَّبت لنا من المسيحية، وهي ما يسمَّى عند المسيحين بعقيدة الفداء، وتفصيل الكلام في ذلك:

أولًا: توضيح عقيدة الفداء: 

تعتبر هذه المسألة من أصول المسيحية الرَّائجة، فالمسيحيون يعتقدون أنَّ المهمَّة الأساسيَّة لمجيء المسيح هي فداء البشرية وخلاصها، من خلال تقديم نفسه وروحه قُربانًا للبشرية[12].

وهذه العقيدة تقوم على مجموعة من القواعد: 

 أنَّها ترتبط بعقيدة أخرى: 

 وهي عقيدة توارث خطيئة آدم، فالمسيحيون يعتقدون أنَّ الإنسان -بسبب خطيئة آدم وحواء منذ الزَّمن الأوَّل- قد قطع علاقته مع ربِّه وخالقه، وتخلَّى عن الله سبحانه، وآدم بهذه الخطيئة قد جعل ذريَّته كلَّها في حال ابتعاد وانفصال عن الله تعالى، وكان نتيجة هذا الانفصال موت الإنسان، وهكذا دخل الموتُ إلى جميع النَّاس كعقاب للخطيئة. 

وهذا الموت هو روحي أبدي، وانتقلت هذه الخطيئة إلى ذريَّته جيلًا بعد جيل، فيولد الإنسان وهو حامل لها، ومتلوِّث بها، وبسبب هذه الخطيئة خسر الإنسان الطَّهارة وبانت عورته وشهواته وأهواؤه الآثمة. 

وآدم قد تاب من خطيئته، وقَبِل الله تعالى توبته بسبب صدقه، ووعده بالإخلاص وبانتصاره على الشَّيطان، ووعد بإرسال المخلِّص والمفدِّي الذي يفدِّي البشرية عن خطاياها، ويحمل هو تلك الخطايا عنهم.. وأرسل الله تعالى ابنه ليفدِّي البشرية كلَّها عن خطاياها ويفتح عهدًا جديدًا بين الله تعالى والإنسان، وبالآلام والصلب الذي كان يتحمَّله هذا الابن الوحيد، ترفع الخطيئة عن كاهل الإنسان ويتطهَّر منها، ليعيش حياة جديدة وسعيدة[13].

 أنَّها تقوم على فكرة الصَّلب:

فإنَّ هذه العقيدة -الفداء- تقوم على الإيمان بأنَّ المسيح قد صلب. 

ثانيا: مناقشة عقيدة الفِداء: 

والمناقشة تتمُّ في نقاط:

الأولى: أنَّ هذه العقيدة (الخطيئة الأصلية والفداء) لا توجد في الأناجيل الأربعة المهمَّة، فلم تتطرَّق هذه الأناجيل لا من قريب ولا من بعيد إلى موضوع آدم وخطيئته الأولى، وإنَّما ظهرت هذه العقيدة من رسائل بولس.. فواضع هذه العقيدة هو بولس وليس المسيح. وبولس من رجال المسيحية الذي قاتل المسيح بداية ثمَّ دخل في المسيحية[14]. إذن لا قيمة لهذه العقيدة.[15]

الثَّانية: أنَّ هذه العقيدة كما قلنا تقوم على أنَّ المسيح قد صلب[16]، والحال أنَّ المسيح لم يصلب من الأساس؛ لذلك يقول الله تعالى في كتابه الكريم: <وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا>(النِّساء: 157).

الثَّالثة: أنَّ آدمg كان نبيًا، والقرآن ينزِّه ساحة الأنبياءi ويبرِّئ نفوسهم الشريفة عن اقتراف المعاصي، والفسق عن أمر الله سبحانه، والبرهان العقلي أيضًا يؤيِّد ذلك[17]

الرَّابعة: لو سلَّمنا أنَّ آدم قد أخطأ، فما ذنب البشرية منذ زمن آدم حتى مجيء المسيح أن يرموا بالخطأ؟ أليس كلُّ إنسان محاسب بما فعله[18]، فإنَّ صدور فعل عن واحد، وتعميم عصيانه وتبعته لغير فاعله، تحمّلٌ للوزر من غير صدور الذنب، والقرآن يردُّ ذلك ويقول: <وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ>(سورة فاطر 18)، والعقل يساعده عليه لقبح مؤاخذة من لم يذنب بذنب لم يصدر عنه.[19]

الخامسة: أنَّ الفداء غير معقول في ما يتعلَّق بالله سبحانه؛ لأنَّ حقيقة الفداء أن يلزم الإنسان أو ما يتعلَّق به من نفس أو مال أثر سيئ من قتل أو فناء فيعوَّض بغيره أيُّ شي‏ء كان ليصان بذلك من لحوق ذلك الأثر به كما يفدِّي الإنسان الأسير بنفس أو مال وكما تفدَّى الجرائم والجنايات بالأموال ويسمَّى البدل فدية وفداء، فالتفدية نوع معاملة يُنتزَع بها حقُّ صاحب الحق وسلطنته عن المفدَّى عنه إلى الفداء فيُستنقذ به المفدَّى عنه من أن يلحق به الشَّر، والسلطنة الإلهيَّة -على خلاف السلطنة الوضعيَّة الاعتباريَّة الانسانيَّة- سلطنة حقيقية واقعيَّة غير جائزة التَّبديل مستحيلة الصَّرف، فالأشياء بأعيانها وآثارها موجودة قائمة بالله سبحانه، وكيف يتصور تغيير الواقع على ما هو عليه؟! [20]

وقد نفى الله الفدية بالخصوص فقال: <فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ> (سورة الحديد 15).

وهناك نقاشات أخرى ذكرها العلامة الطباطبائي، ، ج 3و4 ص 220. 

إذن: هذه العقيدة أُخذت من المسيحية لذلك لم يقبلها علماؤنا، وردُّوها، وقد وضعها الشَّهيد مطهري ضمن التحريفات المعنوية التي حرَّفت حركة الإمام الحسينg، يقول رضوان الله تعالى عليه: 

"من المعروف أنَّ أحد أركان الفكر المسيحي يستند إلى فكرة صلب المسيح المُخلّص. والفادي والمخلَّص هي ألقاب المسيح عندهم. فالمسيحية تعتبر جزءًا أساسيًا من عقيدتها إنما يقوم على أن عيسى ما صُلب إلا ليكفر عن ذنوب أمته، أي أنَّهم بهذا يرمون بذنوبهم على أكتاف عيسى، فهل فكرنا نحن المسلمين جيدًا بأنَّ كلام العالم المسيحي هذا لا ينسجم ولا يتناسب مع روح الإسلام الذي نؤمن به، ولا ينسجم مع أقوال الحسينg".

ثمَّ يعلِّق فيقول: "فالحسين إنما قام للمقارعة ضدَّ الذنوب وإذا بنا جئنا لنجعل منه متراسًا لارتكاب الذُّنوب وللمذنبين. وتمادينا كثيرًا في هذا الاتجاه عندما قلنا بأنَّ الحسين قد أسَّس شركة للضمان، وأي ضمان؟ ضمان ضد الذنوب.. تصوروا الحسين وهو يقول لأبناء أمته: اسكبوا الدمع في سبيلي وأنا أكفل لكم مقابل ذلك غفران الذنوب". [21]

ويقول في مورد آخر: 

"القول بأنَّ الإمام لحسين بعمله هذا، قد افتدى ذنوب الأمة جميعًا، وهذا الادعاء من دون شكٍّ نوع من التَّأثير المسيحي على أفكارنا، وهي نظرة تمسح فكر الحسينg، وتجعله متراسًا لذنوب الآخرين، ودرعًا لجرائم المجرمين، وكفارة أعمال السُّوء الصادرة من الآخرين، فالإمام الحسين بنظر هؤلاء المحرفيّن قد قُتل حتى يضمن خلاص العصاة والمذنبين من عذاب يوم القيامة، وحتى يكون شفيعًا لهم لغفران معاصيهم".

لذلك يقول بعد ذلك: 

"ألم أقل لكم: إنَّ الحسين قد استشهد ثلاث مرات جسيما، ومرة استشهد اسمه، ومرة استشهدت أهدافه."[22]

السَّادسة:

إنَّ هذه المسألة تروِّج للمعصية وارتكاب الذنوب، فما دام هناك من يفدِّينا، فقد ينفتح باب المعاصي على مصراعيه؛ لذلك حذَّر القرآن المسلمين أيضًا من هذا النَّمط من التَّفكير، فلا يتوهموا أنَّ التمسُّك باعتقاد ما بمجرده، ودون القيام بالعمل الصالح، سوف يؤدي إلى النَّجاة في الآخرة [23]، فقال تعالى: <لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا>(سورة النساء 123).

وقد ورد في الرِّوايات أنَّ سبب نزول هذه الآية أنَّ بعض المسلمين وأهل الكتاب جلسوا يتفاخرون بدينهم، فأراد القرآن أن ينبِّههم إلى أنَّ "الدين لا يقوم على الأماني، وأنها لا تؤثِّر شيئاً على الإطلاق، بل الدِّين عقيدة وعمل". [24]

فالآية بيَّنت واحدًا من أهمِّ أعمدة أو أركان الإسلام، وهو أنَّ القيمة الوجودية لأيِّ إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب لا تمتُّ بصلة إلى دعاوى وأمنيات هذا الإنسان مطلقًا، بل أنَّ تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمل الإنسان وإيمانه، وأنَّ هذا مبدأ ثابت. [25]

النُّقطة الثَّالثة: الخلط الذي قد يحصل بينها وبين الشَّفاعة وأحاديث الثَّواب على البكاء: 

قد يبرزُ إشكال نحتاج أن نجيب عليه وحاصله: 

ماذا نفعل بالرِّوايات التي تتكلَّم عن أنَّ الإمام الحسين عليه السلام شفيعٌ للمذنبين، وأنَّ من بكى على الإمام الحسينg غفر الله تعالى له ذنوبه؟ 

وفي مقام الإجابة نقول:

ممَّا ينبغي أن يُلتفت إليه أنَّ هناك خلطًا -وقد وقع فيه البعض- بين نظرية الفداء التي تفسِّر فلسفة وهدف حركة الإمام الحسين عليه السلام وبين مسألة الشَّفاعة والرِّوايات التي تدلُّ على غفران الذنوب، والحال أنَّ هناك فرقًا بين عقيدة الفداء وعقيدة الشَّفاعة. 

وبيان ذلك في نقاط ثلاث:

أولا: الفرق بين مسألة الفداء والشَّفاعة: 

"الفرق بينهما أن الشَّفاعة (كما تقدم البحث عنها في قوله تعالى: <وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي> (البقرة- 48)، نوع من ظهور قرب الشَّفيع ومكانته لدى المشفوع عنده من غير أن يملك الشَّفيع منه شيئاً أو يسلب عنه ملك أو سلطنة، أو يبطل حكمه الذي خالفه المجرم أو يبطل قانون المجازاة، بل إنمَّا هو نوع دعاء واستدعاء من الشَّفيع لتصرف المشفوع عنده وهو الربُّ ما يجوز له من التَّصرف في ملكه، وهذا التصرف الجائز مع وجود الحق هو العفو الجائز للمولى مع كونه ذا حق أن يعذبه لمكان المعصية وقانون العقوبة".

"فالشَّفيع يحضه ويستدعي منه أن يعمل بالعفو والمغفرة في مورد استحقاق العذاب للمعصية من غير أن يسلب من المولى ملك أو سلطان بخلاف الفداء فإنه كما مرَّ معاملة يتبدَّل به سلطنة من شي‏ء إلى شي‏ء آخر هو الفداء، ويخرج المفدي عنه عن سلطان القابل الآخذ للفداء.

ويدلُّ على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى: <وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعة إِلَّا مَنْ‏ شَهِدَ بِالْحَقِّ وهُمْ يَعْلَمُونَ>". [26]

ثانيًا: : أنَّنا لا بدَّ أن نفرِّق بين مسألتين مهمَّتين: 

وهي أن نفرِّق بين الهدف من الواقعة وبين الأثر المترتِّب على الواقعة؛ ففرق بين أن أقول إنَّ هدف الإمام الحسينg كان الشَّهادة لأجل أن يطهِّر الأمَّة ويكون وسيلة لغفرانها ، وبين أن أقول إنَّ الأثر الذي ترتَّب على حادثة عاشوراء هو أنَّ الإمام الحسينg شفيع للأمَّة لمقامه الكريم. 

الأوَّل يجعل الهدف هو أن يكون الإمامg وسيلة للغفران، والثَّاني يجعل شفاعة الإمامg لمن بكاه أثراً نتج ببركة ثورته، ففرق بين الهدف والأثر.[27]

ثالثًا: لا ينال الشَّفاعةَ كلُ من هبَّ ودبَّ: 

إنَّ الشَّفاعة لا ينالها إلا من آمن بالله سبحانه، ولا تشمل الكُّفار والذين انغمسوا في المعاصي، وذلك لأنَّ الآية تقول: <فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ>(سورة المدثر: 48)، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادقg: «إنَّ شفاعتنا لن تنال مستخفاً بالصَّلاة». [28]

نعم إن َّالأئمةi ذكروا روايات كثيرة في فضل البُكاء على الإمام الحسينg وأنَّ البكاء عليه يغفر الذنوب، ولكن ذكروا ذلك الفضل لمَّا في البكاء – على احد التفسيرات -  من بركات وآثار تقود الإنسان إلى الصَّلاح وتحفظه من الزَّيع – 

منها ما ورد عن الإمام الرضاg: «إِنَّ الْمُحَرَّمَ شَهْرٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ فِيهِ الْقِتَالَ فَاسْتُحِلَّتْ فِيهِ دِمَاؤُنَا وهُتِكَ فِيهِ حُرْمَتُنَا وسُبِيَ فِيهِ ذَرَارِيُّنَا ونِسَاؤُنَا وأُضْرِمَتِ النِّيرَانُ فِي مَضَارِبِنَا وانْتُهِبَ مَا فِيهَا مِنْ ثَقَلِنَا ولَمْ تُرْعَ لِرَسُولِ اللَّهِ حُرْمَةٌ فِي أَمْرِنَا إِنَّ يَوْمَ الْحُسَيْنِ أَقْرَحَ جُفُونَنَا وأَسْبَلَ دُمُوعَنَا وأَذَلَّ عَزِيزَنَا بِأَرْضِ كَرْبٍ وبَلَاءٍ وأَوْرَثَتْنَا [يَا أَرْضَ كَرْبٍ وبَلَاءٍ أَوْرَثْتِنَا] الْكَرْبَ [وَ] الْبَلَاءَ إِلَى يَوْمِ الِانْقِضَاءِ فَعَلَى مِثْلِ الْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ الْبَاكُونَ فَإِنَّ الْبُكَاءَ يَحُطُّ الذُّنُوبَ الْعِظَامَ ثُمَّ قَالَg كَانَ أَبِي ع إِذَا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُرَى ضَاحِكاً وكَانَتِ الْكِئَابَةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْعَاشِرِ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وحُزْنِهِ وبُكَائِهِ ويَقُولُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُg»[29].

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وآله الطَّيبين الطَّاهرين.


 


[1]  كتاب عاشوراء شناسي، محمد اسنفدياري، بيّن الفترة الزَّمنية التي اهتمَّ فيها بمسألة أهداف الحسين، ص52.

 

[2] مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص: 24.

 

[3] المجالس الفاخرة، السيد شرف الدين العاملي. 

 

[4] كتاب مجموعة مقالات كنكره حماسه حسيني، تحليلى درباره أهداف قيام إمام حسين، أستاد مهدي مهيرزي، ص39. 

 

[5]  الأمالي، الصدوق، ص152.

 

[6] تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي، ج‏6، ص113. 

 

[7] عاشوراء شناسي، محمد اسفندياري، ص77. 

 

[8] كتاب مجموعة مقالات كنكره حمااسه حسيني، تحليلى درباره أهداف قيام إمام حسين، أستاد مهدي مهيرزي، ص42. ترجمة بتصرف. 

 

[9] نفس المصدر.

 

[10] عاشوراء شناسي، محمد اسفندياري، ص 82. 

 

[11] عاشوراء شناسى، محمد اسفندياري، ص82. وعقلانيت در عاشوراء، محمد سروش محلاتي، فقيه، ص12.

 

[12]  محاضرات في الدين المسيحي، الشيخ مرتضى فرج، ص184. 

 

[13] هبة السَّماء، رحلتي من المسيحية إلى الإسلام، علي الشيخ، ص79. 

 

[14]  ويكيبيديا، بولس القديس. 

 

[15]  هبة السماء، رحلتي من المسيحية إلى الإسلام، علي الشيخ، ص81. 

 

[16] كتاب محاضرات في الدين المسيحي، الشيخ مرتضى فرج، ص185.

 

[17] الميزان، الطباطبائي، ج3، ص220. 

 

[18] هبة السماء، رحلتي من المسيحية إلى الإسلام، علي الشيخ، ص80. 

 

[19] الميزان، الطباطبائي، ج3، ص220. 

 

[20]  الميزان، الطباطبائي، ج3، ص227.

 

[21]  الملحمة الحسينية، الشهيد مطهري، ج1، ص60.

 

[22]  الملحمة الحسينية، الشهيد مطهري، ج3، ص240. 

 

[23] محاضرات في الدين المسيحي، الشيخ مرتضى فرج، ص185. 

 

[24]  مواهب الرحمن، السيد السبزواري، ذيل الآية الشريفة. 

 

[25] تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، تفسير الآية الكريمة. 

 

[26]  الميزان، الطباطبائي، ج3، ص228. 

 

[27] كتاب مجموعة مقالات كنكره حمااسه حسيني، تحليلى درباره أهداف قيام إمام حسين، أستاد مهدي مهيرزي، ص27. 

 

[28] ميزان الحكمة، مادة الشَّفاعة. 

 

[29] أمالي الشيخ الصدوق، ص128.

 


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا