عطاءٌ.. ومسيرة جهاد (ترجمة مختصرة لسماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم حفظه الله)(1)

عطاءٌ.. ومسيرة جهاد (ترجمة مختصرة لسماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم حفظه الله)(1)

إعداد: دار الفقيه المقاوم (2)

 

مقدمة

لا يخفى ما لعلماء الدين من دورٍ رياديٍّ في حياة الأمم، فدورهم لا يقتصر على بعد من الأبعاد فحسب، بل يتعدّاها ليكوّن القيادة في جوانبها المختلفة، وهو مقام وراثة الأنبياء (عليهم السلام)، ونيابة الأئمّة (عليهم السلام)، فيضطلعون بمسؤولية الوعظ، والإرشاد، والقيادة؛ للذود عن حريم الدين، وحياض المؤمنين، وحفظ كيان الأمّة، وعزّتها، وكرامتها...

فالعلماء -ومراجع الدين- هم الحصون المنيعة للدين، والسياج الحامي لصفّ المؤمنين، وهم الملاذ الحاني للمستضعفين، والمحرومين، وحياتهم منهلٌ، يُستلهم منه، وعين صافيةٌ، يُستقى من معينها، هي حياة غنيّة بالدروس، ثريّة بالعِبر، كمًّا، وكيفًا، وحريّةٌ بالبحث، والتحليل.

إنّ تاريخ البلدان لا ينفصل عن تاريخ رجالاتها، وبناءً على هذا لا ينفكّ عن كتابة تاريخ البحرين -بأمانة، وصدق- كتابةُ المنعطفات التاريخية، وإبراز دور الشخصيّات صاحبة التأثير فيها.

وهذه سطور قليلةٌ، تحتوي على نبذةٍ مختصرةٍ، ونزرٍ يسيرٍ من سيرة عالمٍ ربّاني، لعب دوراً محوريّاً في حركة شعب البحرين فكريًّا، وسياسيًّا، واجتماعيًّا في نصف قرنٍ خلا، تركّز هذه السطور على بعضها وهي البعد السياسيّ، والاجتماعيّ في سيرة هذا العالم، ألا وهو سماحة آية الله المجاهد الشيخ عيسى أحمد قاسم الاثني عشريّ المصلّي البحرانيّ كبير علماء البحرين، وصاحب أكبر قاعدة شعبيّة، وجماهيريّة في الخليج...

وُلد سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله) في قرية الدُّراز؛ قريةٌ من قرى البحرين، وذلك في أربعينيّات القرن العشرين الميلاديّ على وجه التقريب.

اشتُهر سماحته بحدّة ذكائه، وتفوّق قدراته بين أقرانه منذ صباه، خصوصًا أثناء دراسته في المدارس الرسمية، مضافاً إلى حرصه الشديد على الالتزام بحكم الشرع في جميع تحرّكاته، واهتمامه ببثّ الوعي الدينيّ منذ ذلك الحين.

تُـوفي والده وهو صغير السنّ، فقد كان لا يتجاوز الرابعة من عمره، وقد رعاه إخوته، فعاش في كنفهم، وتربّى تربية إيمانيّةً، محاطاً بإخوته، وفي حضن أمّه المؤمنة الصبور.

تعلَّم القرآن الكريم في الكتاتيب منذ نعومة أظفاره.

- عام (1951م) دخل المدارس الرسمية، إذ تتلمذ بمدرسة البُدَيِّع الابتدائية للبنين، فأتمّ مراحلها، وتخرّج منها، ثمّ انتظم بثانويّة المنامة، وحصل على الشهادة الثانوية في عام 1958م، ويشهد له أقرانه بأنّه من أفاضل التلاميذ خُلُقاً، وديناً، وتحصيلاً، وسجلّه الأكاديميّ يشهد على ذلك أيضاً.

- عام (1959م) انخرط في سلك التدريس، فصار معلّماً لمادّتي اللغة العربية، والتربية الإسلاميّة، وكانت علاقته بالتلاميذ علاقة الأب بصغيرهم، والأخ بأخيه، فكان ناصحاً لهم، باذلاً وقته لتقويم دينهم، وأخلاقهم.

- عام (1962م) بدأ -إلى جانب عمله كمعلّم- خطواته الأولى في الدراسة الحوزوية على يد سماحة السيّد علويّ الغريفيّ (قدِّس سرُّه)، مصطحباً معه صديقه المرحوم؛ سماحة الشيخ عبّاس الريّس، وبعد أن أنهى المقدّمات الفقهيّة؛ مثل شرائع الاسلام، فكّر جدّيّاً في الهجرة للتحصيل الدينيّ، وما لبث أن اتّخذ قراره الحاسم في الاستقالة من مهنة التعليم والهجرة إلى خارج الوطن.

الهجرة الأولى

- عام (1964م) هاجر سماحة الشيخ إلى النجف الأشرف، حيث كانت آنذاك حاضرة العلوم الدينيّة، يقطنها أساطين العلماء، والفقهاء، فانتظم في كلّيّة الفقه، الّتي كانت آنذاك الكلّيّة الأكاديميّة الوحيدة في النجف الأشرف، وكان سماحة الشيخ فيها مثابرًا، باذلاً جلّ وقته في التحصيل العلميّ.

كان إلى جانب دراسته الحوزويّة الأكاديميّة يدرّس في الحوزات العلميّة، ويجالس الفقهاء، فينهل من معين علومهم، وأفكارهم.

- عام (1969م) عاد إلى وطنه، بعد أن نال درجة البكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الإسلاميّة من كلية الفقه. في نفس العام، عاد سماحته إلى ممارسة التدريس في المدراس الحكوميّة، وأخذ يدرّس اللغة العربيّة، والتربية الإسلامية في مدرسة الخميس الإعداديّة لمدّة عام واحد فقط.

الهجرة الثانية

- (1969م) وأثناء مزاولته التدريس عنّ له -من جديد- أن يواصل دراسته الحوزوية في النجف الأشرف، وأن ينتظم في درس البحث الخارج لآية الله العظمى الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدِّس سرُّه)، فهاجر بمعيّة سماحة العلاّمة الكبير السيد عبدالله الغريفيّ، وانتظم في الدرس، وقد كان فيه من المجدّين والمثابرين.

العودة الأولى إلى الوطن

- عام (1972م) بعد أن أُعلن استقلال البحرين في اغسطس 71م، بشرط أن يكون شكل الحكم دستوريّاً، وبعد التحضير لانتخابات المجلس التأسيسيّ لوضع دستور دولة البحرين، بعث له جمع من الشخصيات والوجهاء والمؤمنين في البحرين، من أجل القدوم، والترشّح لهذا المجلس...

وهكذا كان، فقد عزم على العودة إلى البحرين؛ تقديراً منه لضرورة خوض العمل السياسيّ، ثمّ قام باستشارة السيد الشهيد الصدر، والشيخ محمد أمين زين الدين، فوافقاه على ذلك، فقرّر خوض معركة الانتخابات، والدخول في المجلس التأسيسي؛ خدمةً للدين، والمجتمع...

وقد تحقّق ذلك فعلاً؛ حيث حصل على أعلى الأصوات من بين مرشحي دائرته، وكان دخوله المجلس إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في حياته الجهاديّة، وقد كان له -مع الكتلة الإسلاميّة في المجلس- التأثير البارز في إدخال كثير من الموادّ الإسلاميّة في الدستور.

- عام (1973م) انتُخب بأكثر الأصوات -على الإطلاق- لعضويّة المجلس الوطنيّ، وبرزت شخصيّته في جلسات المجلس كأبرز رمز من رموز الكتلة الدينيّة، الّتي ما برحت داعيةً لتطبيق أحكام الشرع المبين، وصائنةً للمجتمع من الأفكار الدخيلة على الدين، إلى حين حلّ المجلس الوطنيّ عام 1975م.

المرحلة السياسيّة

المجلس التأسيسيّ:

كان لانتخاب سماحة الشيخ دويٌّ كبيرٌ في الأوساط الاجتماعيّة، وعلى الخصوص في الوسط المنحرف؛ حيث كانوا يرون فيه سدّاً منيعاً عن تمرير ما كانوا يصبون إليه من خلال المجلس، كما كان له أثرٌ بالغٌ في أوساط المؤمنين؛ حيث شعروا بالعزّة، والمنعة.

أمّا سماحة الشيخ فقد تمكّن من تكوين كتلة مع بعض أعضاء المجلس، ممّن كان لهم توجّهٌ إسلاميٌّ؛ وذلك من أجل الوقوف في وجه من كانت تسوّل له نفسه تمرير نظام يخالف الشريعة الغرّاء، وضدّ من أراد شرعنة نظم تحارب الدين، أو تقدح فيه، أو تؤثر سلبًا على المسيرة الإسلاميّة في الواقع، سواء الواقع المنظور آنذاك، أم المستقبل، وقد تمكّن -بمساعدة إخوانه- من تثبيت بعض النظم الّتي عزّزت الهويّة الإسلاميّة في المجتمع البحرينيّ، ودفعت عنه شرور التغريب، والتنكّر للثوابت الإسلاميّة الأصيلة.

المجلس الوطنيّ:

بعد الانتهاء من صياغة الدستور، والتوقيع عليه، أصبحت البلاد تتمتّع بدستور، يحدّد العلاقة بين أطراف الحكم، والشعب، وكانت هذه بداية لتكوين مجلس وطنيّ، يسنّ القوانين فعليًّا في الواقع العمليّ، ويقترح أخرى، وكان تكوين المجلس الوطنيّ عن طريق الاقتراع السرّيّ، إلى جانب التشكيلة الوزاريّة.

وقد رشّح سماحة الشيخ نفسَه لعضويّة المجلس، ففاز على أقرانه بفارق كبير في الأصوات، ممّا يعطي مؤشّراً واضحاً على أصالة المجتمع البحرينيّ، وانتمائه العقائدي، وبدأ يؤدّي دوره السياسيّ -والاجتماعي- من خلال المجلس، مدافعاً عن الدين، والشعب، حتّى حُلَّ المجلس في عام 1975م؛ وذلك بسبب معارضة أعضاء المجلس لقانون أمن الدولة سيّئ الصيت.

- عام (1972م) أسّس سماحته أكبر -وأوّل- جمعيّة إسلاميّة في الخليج، وهي: (جمعيّة التوعية الإسلاميّة)، الّتي كان لها دور بارز -ومشهود- في مواجهة المدّ القوميّ، واليساريّ في تلك الحقبة الزمنيّة، وإرساء قواعد الالتزام، وبثّ الوعي الدينيّ، حتّى شكّلت مشاريع الجمعيّة بدايةَ الصحوة الإسلاميّة لدى شريحة كبيرة من أبناء المجتمع، وقد انتُخب لرئاستها في ثلاث دورات (1972-1983م)، وكان العلاّمة الجمري (قدِّس سرُّه) نائبه في إحداها.

- عام (1979م) بارك الثورة الإسلامية منذ بداية حركتها وزار -مع وفد علماء البحرين- الإمام الخميني (قدِّس سرُّه) في قم المقدسة مهنئين الإمام والشعب الإيراني بالنصر المؤزّر للثورة الاسلامية، ولازالت خطاباته مستمرة إلى الآن في ذكرى الانتصار وذكرى رحيل الإمام (قدِّس سرُّه) وكل حدث مهم يتعلق بالدولة الإسلامية وقائدها المعظم وانتصاراته.

- عام (1984م) أُغلقت جمعيّة التوعية الإسلاميّة، وتعرّض عددٌ من نشطاء الحراك السياسيّ -والفكريّ، والاجتماعيّ، والتبليغيّ- إلى الاعتقال، والتعذيب، والأحكام القاسية، أمّا سماحته، فقد فُرض عليه المنع من السفر والمزيد من التضييق، بعد جلسات من الاستجواب، والتحقيق، والملاحقة اليوميّة، وبقي على هذا الحال حتّى بداية تسعينيّات القرن المنصرم، ومع ذلك لم تُثنَ عزيمته عن تأدية واجبه الشرعيّ.

- عام (1984م) وبعد إغلاق جمعيّة التوعية من قِبَل السلطة، اشتغل سماحة الشيخ بتدريس مرحلة السطوح، والسطوح العليا، والتصدّي للتبليغ، من خلال إمامته للصلاة المركزيّة في أهمّ المساجد والجوامع في مختلف مناطق البحرين، كالمنامة، والدُّراز، ومدينة عيسى، إلى جانب مشاركاته المتواصلة في شتّى المناسبات الدينيّة، والسياسيّة.

الهجرة الثالثة

- عام (1992م) هاجر إلى مدينة قم المقدّسة؛ لتحصيل المزيد من المراتب العلميّة، وقد طلب منه رجالٌ كثرٌ -وعلماء دين- البقاء في البلد؛ للحاجة الماسّة إليه، إلاّ أنّه -بثاقب بصيرته- وجد أنّ الهجرة للاستزادة من علوم الدين، ومرافقة العلماء -والفقهاء- في مدينة قم المقدّسة، تجعله في موقع آخر، يتطلّبه الوطن في المرحلة القادمة...

فحضر أبحاث الآيات العظام فيها؛ كسماحة آية الله العظمى السيّد كاظم الحائريّ، وسماحة آية الله العظمى الشيخ محمد فاضل اللنكراني، وسماحة آية الله العظمى السيّد محمود الهاشميّ الشاهروديّ، حتّى نال مُناه، وحقّق مرادَه بشهادة -وتصريح- أهل الخبرة.

- عام (1994م) كان من قادة الانتفاضة المطالبة بإرجاع الحقوق الدستوريّة، وبتفعيل الحياة البرلمانيّة، وكان لبياناته -وخطاباته- الصدى المسموع.

- عام (1999م) وبعد طلب -وإلحاح- جمع من فضلاء الحوزة في مدينة قم المقدسة، بدأ رسميّاً بإلقاء دروس (البحث الخارج) في مسجد أمير المؤمنين (عليه السلام) في منطقة (دورشهر)، وفي الحسينيّة البحرانيّة، قرب حرم السيّدة المعصومة (عليها السلام).

العودة الثانية لأرض الوطن

- عام (2001م) عاد سماحته إلى أرض الوطن، بعد غياب استمرّ تسع سنوات تقريبًا، وكان ذلك في الثالث عشر من ذي الحجّة، 1421هـ، الموافق 8 مارس 2001م، وقد استقبلته الجموع المؤمنة استقبالاً يليق به، فقد اصطفّت له الجماهير سماطين، على طول الشارع الممتدّ من مطار البحرين الدوليّ بمدينة المحرّق، وحتّى قرية الدُّراز، في الركن الشماليّ الغربيّ من جزيرة المنامة، وذلك لمسافة تُقَدَّر بعشرين كيلو متر تقريباً، حيث سار موكبه في وسط الزحام، والناس تسير من خلفه، وعلى جنبيه، وهي تهلّل الله وتكبّره، فلم ترَ البحرين في تاريخها القديم -والحديث- استقبالاً لأحد، أكثر ممّا شهدته في استقبال سماحة الشيخ، وقد تزيّنت شوارع البحرين بكلّ أنواع الزينة، وأصبح ذلك اليوم يوم عيد للمؤمنين، فسادت التبريكات، ناهيك عن أنّ موكب سماحته قطع المسافة في خمس ساعات من النهار، وكان يُشبّه بموكب استقبال الإمام الخمينيّ يوم عودته من باريس.

شعيرة إمامة الجمعة ومرحلة القيادة السياسيّة

وبدء سماحته -منذ عودته الميمونة إلى أرض الوطن- بصلاة الجماعة والجمعة في أكبر جوامع البحرين وهو جامع الإمام الصادق (عليه السلام) بقرية الدُّراز، وافتتح مكتب: (البيان للمراجعات الدينيّة)، وبدأ بإلقاء المحاضرات الدينيّة والثقافيّة المختلفة في شتّى مناطق البلاد، وفي مختلف المناسبات، وقد شكّل سماحتُه المرجعيّة الدينيّة -والسياسيّة- للطائفة الشيعية ومؤسساتها السياسية والتبليغية والثقافية والعلمائية البارزة في البحرين.

عاد مبارَكاً، فمسك زمام قيادة الساحة المحلّيّة، وأثبت كفاءته في إدراة دفّة أخطر الأزمات السياسيّة، وهو -إلى اليوم- يؤمّ أكبر صلاة جمعة في الخليج، مضافاً لاهتمامه بهموم وأزمات العالم الإسلاميّ، كالعراق، ولبنان، وفلسطين، وغيرها، وبقضايا المجتمع الدوليّ، عبر مشاركته في المؤتمرات الخارجيّة، وغير ذلك.

- عام (2004م) أسّس الشيخ القائد أكبر مجلس للعلماء في البحرين، وهو: (المجلس الإسلاميّ العلمائيّ)، الّذي يهتمّ برعاية الواقع الدينيّ، وتواصل العلماء في جوانب متعدّدة، يحتاج إليها العمل الإسلاميّ، كالجانب التربويّ، والاجتماعيّ، والتبليغيّ، والتعليميّ، حتّى أصبح نوراً، يشعّ في أفق الوطن، ليبدِّد ظلمة الجهل أينما وُجدت، لذلك أرّق هذا المجلس النظامَ الطائفي في البحرين إلى أن حكمت محكمته الجائرة بحلِّه وتشميعه ومصادرة كل أمواله وممتلكاته في يوم الأربعاء 28 ربيع الأول 1435هـ الموافق 29 يناير 2014م، إلا أن إغلاق أو ضرب وجود العمل الديني -كما وصفه سماحة الشيخ في رده على صدور الحكم- تفكير المجانين!

وقد ترأّسه في الدورة الأولى بعد انتخابه، أمّا الآن، فرئاسة المجلس لا زالت تستظلّ بظلال مرجعيّته، وتسير بهداه، ورشده، في الدورتين الثانية، والثالثة، وهي الدورة الحاليّة.

- عام (2005م) دعا لأكبر مسيرة في تاريخ البحرين -في حينها-، فأسقط بها توجّه السلطة لتقنين قانون وضعيٍّ غير دينيٍّ للأحوال الشخصيّة.

كان للنظام -أكثر من مرّة- تعدٍّ سافر على سماحة الشيخ؛ عبر أبواقه، ومرتزقته، كوزير العدل، والكثير من النوّاب، والصحفيين، والمؤسسات الحكومية، إلاّ أنّ الردّ المدوّي من جماهير الشعب -في كلّ مرّة- كان بمثابة الصاعقة؛ حيث يخرج الناس بعشرات الألوف في مسيرات عفويّة في مختلف المناطق، يرفعون صور سماحته، ويهتفون بالولاء، والفداء له، يتقدّمهم في ذلك كبار العلماء، والشخصيّات، وما مسيرات: (لبّيك يا فقيه) في 19 يونيو 2008م، و(جمعة الفقيه) 26 اغسطس 2011م، ومسيرة: (لبّيك يا وطني) في 18 مايو 2012، وجمعة التلبية 9 نوفمبر 2012م إلاّ شواهد واضحة على ذلك.

ثورة الرابع عشر من فبراير

- عام (2011م) في الحادي عشر من فبراير، كان لخطابه -بعد تتالي دعوات الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ- دوراً بارزاً في تهيئة الأرضيّة لثورة الرابع عشر من فبراير 2011، وكان من أبرز كلمات خطابه آنذاك قوله: "الطوفان بدأ، لا ليهدأ، ولا ليقف عند حدود بلد...".

وفي ظلّ التحرّك الشعبيّ العارم، الّذي حصل في البحرين في سياق انبعاثة الكرامة، والصحوة الإسلاميّة المتفجّرة، والّتي عُرفت إعلاميًّا بـ(الربيع العربيّ)، رأى سماحته -بثاقب بصيرته- ألاّ مناص إلاّ للتصدّي المباشر للشأن السياسيّ في الثورة، وقد كان -ولا زال- المرشد، والمدافع -بكلّ ما أوتي من قوّة- عن مطالب الثورة، وهو الممسك بزمام أمورها في كلّ مفاصلها، محفوفًا بالسادة العلماء، وأهل الخبرة في السياسة، والاجتماع، وكثير من أبناء الشعب يستضيؤون برأيه، ويستنيرون بحكمته، وخبرته، فهو القائد الفعليّ للثورة، خصوصاً بعد قمع المعتصمين في دوار اللؤلؤة، الّذين حيّاهم أكثر من مرّة، بل ودعا لأكبر مظاهرة نحوه أثناء تواجدهم فيه.

وبذلك مثّل سماحته القيادة الحكيمة، والشجاعة، الّتي وقفت مع الشعب في ثورته ضدّ الاستبداد، والظلم، وكان سبباً في منعطفات كبيرة، غيّرت المعادلات، في نفس الوقت الّذي كان فيه بلسم جراح الثوّار، والمضمّد لها، وباعث الروح الثوريّة فيهم، وكان من أهمّ تلك المحطّات:

- حين زأر. بعد القمع، والقتل، وبعد دخول قوات الاحتلال السعوديّ بأيام قليلة، قائلاً: "لن نركع إلاّ لله، هذه دماؤنا، هذه رؤوسنا، هذه رقابنا، فداء لديننا، وعزّتنا"، وقد كانت هذه الصرخة بمثابة القنبلة الناسفة لمخطّطات الأعداء، وكانت كالماء الزلال على القلوب المجروحة لأبناء الشعب، فقد أعاد بها روح الثورة بعد مآسٍ دامية كثيرة.

- وهكذا ثبات خطاب العزّة طوال فترة أحكام الطوارئ (ما سُمّي بالسلامة الوطنيّة)، وما بعدها؛ حيث التجأ الشعب -كلّ الشعب- إلى حضنه الدافئ، وكنفه الحاني.

- الخطاب الشهير: (اسحقوه)، الّذي قلب فيه المعادلة حين قال: "من وجدتموه يعتدي على عرض فتاة مؤمنة، فاسحقوه، نعم، اسحقوه".

- مسيرة: (التاسع من مارس) 2012 الشهيرة، الّتي سُمّيت بمسيرة: (لبّيكِ يا بحرين)، والّتي دعا إليها عبر منبره الشريف، وتقدّمها مع كبار العلماء، ردّاً على تصريحٍ لحاكم البحرين، عندما وصف الشعب الثائر بـ(الشرذمة)، فخرجت فيها مئات الألوف، وفاقت كلّ التصوّرات، والخيالات، فكانت الوحيدة الفريدة، الّتي لم يحصل مثلها في تاريخ البحرين على الإطلاق، وشارك فيها كلّ أطياف المجتمع، وشرائحه.

وصفه الإمام القائد الخامنئي (دام ظله) خلال لقاء مع وفد من المعارضة البحرانية يوم الاثنين 11 فبراير 2014 العاشر من ربيع الآخر ١٤٣٥هـ قائلاً: "الشيخ عيسى قاسم (حفظه الله) حقاً قائد حقاً قائد وزعيم، وشباب البحرين شباب نشطين ونحن ندعو لهم".

عبّر كبار المراجع عن تأييدهم ودعمهم وحمايتهم لسماحة الشيخ كالآيات العظام: السيد السيستاني والشيخ الوحيد الخراساني والسيد الحائري (حفظهم الله)، وذلك عبر الاتصال المباشر المعلن في ظروف أمنية وسياسية مرت بها البلاد خلال الأعوام الثلاثة الماضية.

صرّح سَمَاحَة الأمين العام لحزب الله لبنان سيد المقاومة والانتصار حجة الإسلام والمسلمين السيد حسن نصر الله (حفظه الله) عدة مرات بقيادة سَمَاحَة الشيخ مشيدًا بها واصفًا لها بـ: حكيمة وواعية وشجاعة.

وفي وثيقة لموقع الويكيليكس -وكما يقال: الفضل ماشهدت به الأعداء- تقول: "إنّ قاسم عنيدٌ بنحو لا يُصدّق! فمنذ عودتهِ من إيران، أصبح يشكّل لغزاً لا يمكن حلّه لدى الأنظمة المحلّيّة، والإقليميّة، والدوليّة، لما يمتلكه من وعي، وحكمة، وتريّث في قيادة دفّة العمليّة السياسيّة، والدينيّة، والاجتماعيّة"، وهو -بحقٍّ- لغزٌ، ومستودع خفايا، وأسرار.

زهده وتقواه

- كلّ من عاشر سماحة الشيخ، يدرك بأنّه رجلٌ متمحّض في الزهد، وأنّ كلّ حياته عملٌ، وجهادٌ لنصرة الدين، وقد عُرضت عليه لذائذ -ومكاسب- في السابق، لكنّه أعرض عنها طلباً لمرضاة الله، وحتّى لا يكون أسير لذّة زائلة، فآثر الحياة البسيطة، وخشونة العيش، والتواضع، وقد كان يردّد دائماً: ماذا بعد الحياة إلاّ الموت؟! وماذا بعد الموت إلاّ الحساب؟!

وقد لاحظه مرافقوه -مراراً- إذا ذكر الدنيا، يتأفّف، ويحزن، وتبدو عليه كآبة واضحة، وعلى الخصوص عندما تُردّد على مسامعه بعض التجازوات الشرعيّة، وهكذا ديدنه كما عرفه من عاشره.

وأمّا علاقته بأصدقائه -وبمن حوله-، فهو يعيش معهم كأحدهم، فلا ترى في نفسه شعورًا بالعلوّ، والترفّع؛ فهو يتحدّث إلى الصغير، والكبير، ويكنّ لكلٍّ منهما الاحترام المناسب إليه.

 

* الهوامش:

(1) هذه السطور هي عبارة عن: مختصر وخلاصة كتاب (مخطوط) حول سيرة سماحة الشيخ (حفظه الله) يسرد أحداث سيرة سماحته منذ طفولته، ويُبرز وقائع حياته، ويقف مع الأبعاد المختلفة لحركته التعبوية، والتوعوية الإسلامية في البحرين، ويقرأ الجوانب المتعددة لفكره.

(2) دار الفقيه المقاوم لحفظ ونشر آثار آية الله قاسم، هي دار نشر بحرينية مستقلة، تهتم بحفظ وتوثيق وتنظيم ونشر آثار آية الله القائد الشيخ عيسى أحمد قاسم (دام ظله)، أسسها مجموعة من مريديه من طلبة العلوم الدينية في حوزة قم المقدسة تحت عناية وإشراف عدد من الفضلاء.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا