هل الإلحاد بديلٌ ناجح عن الإسلام؟

هل الإلحاد بديلٌ ناجح عن الإسلام؟

المقدّمة

يشهد واقعنا المعاصر اليوم أيادٍ خفيّة وجليّة تسعى لمحاربة الدِّين والإسلام بشكله العامّ والخاصّ، ولكنّ الملفِت هو أنّ هذه الأيادي لم تكتفِ بمجرّد الردّ والاعتراض على الدِّين والإسلام فحسب، بل تجاوزت إلى مرحلة (طرح البديل)، وذلك بشكلِ منظومة فكريّة ورؤية علميّة، لتحتلّ مكان الدِّين وتغزو مكانة الإسلام.

وأستطيع حصر هذه البدائل الخطيرة والمطروحة اليوم من قِبَل هؤلاء في ثلاثة: الإلحاد، والمسيحيّة، والإسلام المحرَّف. 

وبما أنّ المقام مقامُ المقالة، فكنت أمام خيارين فقط، إمّا أن أتطرّق للبدائل الثّلاثة بشكلٍ إجمالي، وإمّا أن أفصّل في واحدة منها، فرّجحتُ التّفصيل على الإجمال؛ لأنّ الغرض من هذه البحوث لا يتحقّق بالإجمال والعموميّات، على أمل التطرّق للمسيحيّة والإسلام المحرَّف في مواطن أخرى إن شاء الله تعالى.

لماذا يسعون لنشر الإلحاد؟ 

والسّؤال الأوّل بعد هذه المقدّمة هو: لماذا يسعى هؤلاء لنشر الإلحاد بصورةٍ منظوميّة فكريّة؟ 

طبعاً، الإجابة على هذا السّؤال تختلف باختلاف الأفراد والجهات التي تقف وراء الإلحاد ونشره وطرحه كبديل عن الدِّين والإسلام.

نجاة البشريّة: إذ هناك أفراد وجهات ملحدة تعتقد أنّها المخلِّصة لآلام البشريّة وظلمها وجهلها وغفلتها وتناقضها، وذلك بسبب التّعاليم الدِّينية. فهم يطرحون رؤية الإلحاد الفكريّة كوسيلة نجاةٍ للبشريّة. وهؤلاء لم يكتفوا بردّ الدِّين والإسلام والاعتراض عليهما فحسب؛ لأنّهم يتبنَّون الإلحاد كرؤيّة فكريّة صائبة. 

وسيلة لأهداف المستكبرين: هناك أفراد وجهات -قد تكون ملحدة وقد لا تكون- تقوم بطرح الإلحاد ونشره كوسيلة وغطاء لتحقيق أهدافهم الشّيطانية المشؤومة وأغراضهم الخبيثة. وهؤلاء لا يكتفون بردّ الدِّين والإسلام فقط؛ لأنّ أهدافهم الاستكبارية لا تتحقّق في ظلّ الرّد والاعتراض هذا، بل لا بدّ لهم من طرح منظومة إلحاديّة فكريّة، تضمن لهم تحقيق أهدافهم.

بالإضافة إلى أنّ طبيعة المنظومة الفكرية تلقِّن أفرادها أنّ بإمكانها تلبية احتياجاتهم المعرفيّة والسّلوكية جميعها، بحيث يشعرون إزاء هذه المنظومة برهبة خاصّة وشعور بالخواء فيما لو تخلَّوا عنها[1]. وكما لا يخفى، فإنّه لا يمكن مقايسة هؤلاء بأولئك، وإن كان فعلهما القبيح واحداً؛ لأنّ الدّوافع متغايرة فيما بينهما، فالصّنف الأوّل لديه حُسن فاعليّ، بخلاف الصّنف الثّاني، فبالإضافة لقبح الفعل -بنشر الإلحاد- يحظى على قبح فاعليٍّ أيضاً. ولا يهمّنا الآن التّفريق بينهما من هذه الزّاوية في هذا المقال؛ لأنّ المقال ناظر إلى مقام الفعل فقط، أي: للإلحاد المطروح كبديل للإسلام. 

المساعي الاستكباريّة الحثيثة لنشر الإلحاد

رغم صعوبة تحديد نسبة الإلحاد في العالم بشكلٍ دقيق، إلّا أنّ هناك إحصاءات قد تكشف نسبة تصاعديّة معيّنة عن الإلحاد في المشهد العالميّ، ففي عام ٢٠٠٤م وفقاً لإحصاء (نوريس وانغلبهارت) فإنّ ٢٥% من الأستراليّين ملاحدة، و٢٢% من الكنديّين، و٤٤ بالمئة من الفرنسيّين، و٧٤ بالمئة من السّويديّين، و٤٩ بالمئة من الدّنماركيّين، و٤٨ من البريطانيّين، و٦٥% من اليابانيّين[2]. وفي عام ٢٠١١ صرّحت مؤسّسة (ابسوس ريد) أنّ ٤٣% من الكنديّين صاروا ملاحدة، وذكرت إحصائية (إينجو) أنّ الملاحدة يزدادون في المكسيك بنسبة ٥,٢%، وفي الصّين ما بين ٨-١٤%، وأنّ الإلحاد في الولايات المتّحدة ينمو بوتيرة سريعة، وأنّ ٥٥% من الملاحدة واللّاأدريّين تقلّ أعمارهم عن ٣٥ سنة، وأنّ الجامعات الأمريكيّة مرتع خصب لهذه التّيّارات[3].

بالإضافة إلى أنّ الأحاديث تصرّح بأنّ حال الدّنيا تسير بشكلٍ يصعب معها تحمّل الدِّين كلّما اقترب النّاس من آخر الزمان؛ قال رسول اللهِe ذات يومٍ وعنده جماعة من أصحابه: «اللهُمَّ لَقِّنِي إِخْوَانِي» مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ مَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَمَا نَحْنُ إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «لَا، إِنَّكُمْ أَصْحَابِي، وإِخْوَانِي قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ آمَنُوا ولَمْ يَرَوْنِي، لَقَدْ عَرَّفَنِيهِمُ اللهُ بِأَسْمَائِهِمْ وأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وأَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ، لَأَحَدُهُمْ أَشَدُّ بَقِيَّةً عَلَى دِينِهِ مِنْ خَرْطِ الْقَتَادِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، أَوْ كَالْقَابِضِ عَلَى جَمْرِ الْغَضَا، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الدُّجَى يُنْجِيهِمُ اللهُ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ..»[4].

والسّؤال الذي يخالجني هو: كيف من الممكن أن ينتشر الإلحاد هكذا؟ هل من المعقول أنّه نتيجة حملة فكريّة معيّنة نتيجةً للعصور الوسطى وأفعال الكنيسة آنذاك فحسب؟ في الحقيقة، لا أعتقد ذلك. وبرأيي: لم يكن الإلحاد ليستطيع أن يطرح نفسه بديلاً للدِّين والإسلام في المشهد العالميّ بهذا الشّكل الواسع لولا أيادي الاستكبار الخبيثة خلفه. 

ولهذا، أرى نفسي مضطرةً لذكر مساعيهم الحثيثة في نشر رؤية الإلحاد الفكريّة، حتى نؤمن إيماناً تاماً بخطّتهم الماكرة في طرح البديل الإلحاديّ هذا، ولا نعتبره مجرّد وهمٍ توهّمناه وبنينا عليه. ولهذا دور مهم في الشّعور بالمسؤوليّة الدِّينية في مواجهة هذا المدّ الإلحاديّ. 

كانت الثّورة الفرنسيّة من صنع أيدي اليهود، كما صرّحوا هم بذلك: "تذكروا الثّورة الفرنسيّة التي نسمّيها (الكبرى)، إنّ أسرار تنظيمها التّمهيديّ معروفة لنا جيداً؛ لأنّها من صنع أيدينا، ممّا تغلغل المال اليهوديّ في تقويّة هذه الثّورات، ويظهر ذلك في منظّمات الثّورة الفرنسيّة المختلفة كالجمعيّة التّأسيسيّة، ونادي اليعاقبة، وبلديّة باريس، حتى تبنّت الجماهير شعار الماسونيّة: الحرّيّة، والإخاء، والمساواة". وقد صرّح هؤلاء اليهود في بروتوكولاتهم أيضاً: "كذلك كنّا قديماً أوّل من صاح في النّاس: الحرّيّة، والمساواة، والإخاء، كلمات ما انفكّت تردّدها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة متجمهرة من كلّ مكان حول هذه الشّعائر".

وقد أعلن مجلس النّوّاب الفرنسيّ هذه الحقيقة على الملأ العامّ عام ١٩٠٤م حينما طرح الدَّور الماسونيّ في صناعة الثَّورة الفرنسيّة، فقابل النّوّاب الحاضرون هذا الإعلان بالقبول.

وأيضاً قاموا بنشر الرّؤية الإلحاديّة وتوظيفها اللّاأخلاقيّ في العالَم، كما قالوا في البروتوكول الثّاني: "لا تتصوروا أنّ تصريحاتنا كلمات جوفاء، ولاحظوا هنا أنّ نجاح داروين وماركس ونيتشه قد رتّبناه من قبل، والأثر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأمميّ سيكون واضحاً لنا على التأكيد"[5][6].

يقول الدّكتور المسيريّ: "من المعروف أنَّ مؤسِّسي الحركة الصَّهيونية كانوا ملاحدة، وهرتزل على سبيل المثال، كان لا يعرف الشَّعائر اليهوديّة، والحاخام الذي جاء لعقد زواجه غادر دون أن يكمل مهمَّته؛ لأنَّه وجد أنَّه لا يمكن عدُّ هرتزل يهودياً، وأمَّا صديقه ماكس نورداو فكان يؤمن بأنَّه سيأتي يوم يحلُّ فيه كتاب هرتزل (الدَّولة اليهوديّة) مكان التَّوراة. وأنَّ عقلية الرَّيادة تسيطر على كلَّ من الأمريكيّين والصَّهاينة"[7]

ولتحقيقهم مثل هذا الهدف بشكل أكبر، كان لا بدّ لهم من التّفكير في الاستيلاء على الإعلام كأداة يستعينون بها أيضاً، ولهذا صرّحوا في البروتوكول الثّاني من بروتوكولات حكماء صهيون بلزوم السّيطرة على الصّحافة من التلفزيون والراديو والجريدة[8] .

وها نحن اليوم نجد هؤلاء اليهود مسيطرين سيطرة تامّة على شركات الإنتاج السّينمائيّ، من قبيل: شركة (فوكس)، و(غولدين)، و(مترو)، و(لويس ماير)، و(الإخوان وارنر)، و(برامونت)، كما تشير بعض الإحصائيّات إلى أنّ أكثر من ٩٠ بالمئة من مجموع العاملين في الحقل السّينمائيّ الأمريكيّ -إنتاجاً وإخراجاً وتمثيلاً- هم من اليهود، بالإضافة إلى ما نراه من دعم لليهود وتحسين صورتهم لدى شركة (نتفلكس). 

ومن جهة أخرى: تعمل الغالبية العظمى من الأعمال الدراميّة الرائجة على تعزيز الاختراق الثّقافيّ الغربيّ للمجتمعات العربيّة، إذ تستهدف تمييع الالتزام العقائديّ والأخلاقيّ وتحطيم الأعراف الخاصّة بهذه المجتمعات، لتعيد صياغتها بما يلائم البيئة الغربيّة وأخلاقها وأعرافها[9].

ولم ينجُ الأطفال من استهدافهم الشّيطانيّ هذا، فقد قدّموا ولا زالوا يقدّمون برامج كرتونيّة تمهّد للإلحاد أرضيّته بشكل وآخر، كإله اليهود الشّابّ والوسيم والجميل بعنوان: (سوبرمان٩، أو فكرة تعدّد الآلهة، أو زرع الاعتراض في أطفالنا على القضاء والقدر الإلهيّ، وهكذا. 

فيما تتعمّد بعض الشّركات المنتجة للألعاب الالكترونية تضمين مشاهد ورموز تمسّ بشكلٍ أو بآخر قضايا الأديان السّماويّة، بحيث يجسّدون المسلمين متوحّشين ومتخلّفين، يحملون الأسلحة وينفذون عمليّات انتحاريّة[10].

كما وتلعب وسائل التّواصل الاجتماعيّ دوراً أساسياً في نشر النّظريات التي تشجّع على الإلحاد بين الشّباب، فهذه المواقع تهيّء لمستخدميها مساحة كبيرة من الحرّيّة في النّشر، وتوفّر لهم حماية كافية من التعرّف على هويّاتهم الحقيقيّة، وبهذا يتحوّلون من مجرّد ملحدين إلى دعاة للإلحاد[11].

ومن يطّلع على صفحات الإلحاد في (فيسبوك) وكيف تسعى لجذب الشّباب إلى صفحاتها يرى العجب من حيث أعداد الصّفحات والمتابعين وما يُنشر فيها. وأكثر ما يُنشر على هذه الصّفحات أفكار مسمومة وملوّثة عن الدِّين الإسلاميّ، تتعرّض فيها للمتديّنين بالسّباب والشّتائم وتحتقر الطّقوس والشّعائر التي يؤديها المسلمون[12].

بالإضافة لآلاف المواقع الالكترونيّة المُعدّة لتشويه صورة الإسلام، والدّعوة المباشرة وغير المباشرة للإلحاد واللّادينيّة. 

وكذلك المناهج الأكاديميّة في المدارس والجامعات ومؤلّفات العلوم الطّبيعيّة، فهي تعجّ بالنّظريّات الغربيّة الإلحاديّة، وتوظيفها في ذلك، من قبيل: نظرية (داروين)، و(ستيفن هوكينغ)، و(سام هاريس)، و(تشارلز دوكينز)، و(لورانس كراوس)[13].

وبكلمة واضحة، فقد بيّن (ويرليمان) كيف يتحالف الملحدون الجدد مع اليمين المسيحيّ والرّأسماليّين، وكيف يخدمون مشاريع الإمبراليّين الأمريكيّين والصّهاينة والغربيّين عموماً، إذ يقول: "لقد كسب الملحدون الجدد الدّعاية والاهتمام الخاصّ والزّخم في وسائل الإعلام الأمريكيّة الرّئيسيّة، يقدّمون غطاءً فكريّاً للإمبراليّة الغربيّة. وهم مَن يبيعون إيمانهم لمصالح أمريكا"[14]

وبهذا، آمل أنّه اتّضح أنّ للإلحاد يداً سياسيّة استعماريّة، تروم وراء أهدافها بغطاء الإلحاد، حتى وإن كانت شعوبها مؤمنة بالله تعالى، وعلى سبيل المثال: فإنّ أكثر الشّعب الأمريكيّ يعدّ مؤمناً بوجود الله تعالى، ولكن النّظام الأمريكيّ يسير على وفق علمانيّته الخاصّة[15].

ومن هذا المنطلق، أدعو الملحدين البعيدين عن السّاحة الاستعماريّة وأياديها أن يسألوا أنفسهم سؤالين مهمّين ويقوموا بالتّأمّل والبحث فيهما: 

أوّلاً: لماذا بات الاستعمار والاستكبار يستغلّ إلحادكم؟ 

وثانياً: كيف نستطيع حفظ إلحادكم من هذا الاستغلال؟! وبالنّسبة للسّؤال الأوّل فسيأتي الكلام بما يتّضح به جوابه. 

على كلّ حال، بهذا، نستطيع أن ندرك ضرورة الأمر، وأنّ علينا جميعاً مواجهة المدّ الإلحاديّ هذا. 

وطبعاً لمواجهة الإلحاد وإثبات فشله طرق شتّى، بالإمكان خلاصتها في طريقين: المواجهة الفكرية، والمواجهة التّطبيقيّة. لندرك بعدئذٍ: هل كان الإلحاد بديلاً ناجحاً عن الإسلام في المجتمعات الإلحاديّة أم ماذا؟

فشل الإلحاد فكراً وتطبيقاً

هناك منهجان لإثبات فشل الإلحاد، الأوّل: المنهج النّظريّ، والذي بدوره يناقش المدارس الإلحاديّة وأفكارها المغلوطة والخاطئة ولوازمها. والثّاني: المنهج التّطبيقيّ، وهو المنهج الذي يحكم على الإلحاد من زاوية الآثار العملية له، والجانب التّطبيقيّ لرؤية الإلحاد الفكريّة، وهو بدوره يجعل الملحدين أو الذين يريدون استيراد الإلحاد في توقّفٍ من أمرهم، يعيدون نظرهم في البنية الفكريّة لكلّ هذه الآثار الهدّامة، ويتراجعون عمّا هم عليه إذا أنصفوا ضمائرهم. 

والمنهج النّظريّ وإن كان ضروريّاً في هذا الشّأن، إلّا أنّنا في هذا المقال سنتناول المنهج الثّاني التّطبيقيّ، على غرار ما قاله (جون لوك) بأنّه مع الإلحاد لا يبقى للعهد والقسم قيمة أبداً، أو كما قاله (فولتير) بأنّه من الأفضل الإيمان بالله من الجانب الأخلاقيّ؛ لأنّ مصلحة البشر تقتضي وجود إله يعاقب ما تعجز العدالة الإنسانيّة عن عقابه، فضلاً عن أنّه في مصلحة أيّ حكومة أن يؤمن شعبها بوجود إله يعاقب على الشّر ويثيب على الخير[16].

ورجّحنا هذا المنهج التّطبيقيّ لأسباب متعدّدة، منها: 

أوّلاً: قلّة الاهتمام بهذا المنهج: إذ أكثر الجهود المبذولة في هذا الشّأن إنّما هي ناظرة للمفاهيم النّظريّة والبرهنة والاستدلالات، ولم نعطِ المنهج التّطبيقيّ حقّه من البيان بعد. فلماذا نخسر جانباً تطبيقياً بارزاً بإمكانه هدم بناء الإلحاد بجانب الرّد الفكريّ والنّظريّ! 

ثانياً: كونه مورّثاً للتّصديق بشكلٍ أكبر: فإذا كانت المناقشات العلميّة كافية في التّصديق بخطأ الإلحاد مرّة واحدة، فإنّ ملاحظة الآثار التّطبيقيّة الفاشلة للإلحاد داعية للتّصديق بخطئه ألف مرّة. لا سيّما وإنّ هذا المنهج أسهل تفهيماً وأكثر جاذبية لسائر النّاس وعمومهم، وهذا ما نحتاج إليه في تبليغنا لهم. والجدير بالذّكر هو أنّ الإسلام إنّما اكتسب مصداقيّته لدى النّاس-بدايات الدّعوة خصوصاً- بملاحظتهم للآثار العمليّة والتّطبيقيّة له -من نفي العرقيّة والاستعباد والتعصّب والتنكيل وغير ذلك- بشكل أكبر من مجرّد ملاحظتهم للمنظومة الفكريّة له. وبالعكس كذلك، فلو أنّ مجتمعاً مسلماً كان سيء الأخلاق، قبيح الفعال، فإنّه وإن كان لا يرتبط هذا السّلوك السّيء بالنّظام الفكريّ له، تفريقاً له بين الدِّين والمتديّن، ولكن بلا شكٍّ سيحاكِم عامّة النّاسُ الإسلامَ بملاحظة هذه الآثار السّيّئة. وكما يقول لنا المفكّر المسلم (جيفري لانج) عن صديق له قد اعتنق الإسلام، ولكن لمّا صُدم بسوء أخلاق بعض المسلمين، ارتدّ عن الإسلام وأصبح بوذيّاً، لما لمسه من حسن أخلاقهم[17].

وأعتقد أنّ من جملة الأسباب الأساسية للإعراض عن الدِّين الكنَسيّ -والدِّين بشكله العامّ- آنذاك هو ما عاينه الجمهور من ظلم الكنيسة وتنكيلها وسوء أخلاقها. 

ثالثاً: محاكمةٌ كمحاكمتهم للدِّين والإسلام: فإنّ الملاحدة كثيراً ما أنكروا على الإسلام من زواية الجانب التّطبيقيّ له، فكان من الجدير محاكمتهم من زاوية الآثار التّطبيقيّة لرؤيتهم الإلحاديّة أيضاً. وعلى سبيل المثال، انظر ما قاله (دوكينز): "بعض الملحدين يفعلون الشُّرور، ولكنَّهم لا يفعلونها باسم الإلحاد، ولكن الحروب الدِّينية حصلت بسبب الدَّين، وتكرَّرت كثيراً عبر التَّاريخ، ولا أدري أيُّ حرب حصلت تحت اسم الإلحاد، ولماذا تحصل؟!"[18].

وقال جون آدامز وهو أوّل من تقلّد منصب نائب رئيس أمريكا: "لو لم يوجد الدَّين، لكان هذا العالم أفضل ما يمكن أن يكون"[19]

كما قال سام هاريس: "الحضارات لا تزال مهدَّدة بجيوش اللّاعقلانيّة"[20]

وقالوا أيضاً إنّ من الآثار السّيئة للدِّين: التّمييز المذهبيّ والطّائفيّ، والتّمييز الجنسيّ، وقيامه على أساس اللّامبالاة بالحياة الدّنيا، وقيامه على أساس التّقليد والاتّباع، ولم يُتعب الملحدون أنفسهم في التّحقيق في النّصوص الدِّينية، إذ إنّ أكثر النّصوص التي يستند إليها (دوكينز) مدسوسة من قِبل المجرمين والانتهازيّين[21]، بالإضافة إلى أنّهم لم يفرّقوا بين الدِّين والمتديّن، ولا بين دين ودين، فحكموا على الدِّين بشكله العامّ، بسبب ما فعله دين الكنيسة من ظلم وإجرام[22].

رابعاً: كشف أكذوبتهم: إذ قد صوّروا لنا أنّ الإلحاد هو عين العقلانيّة والتحضّر والتحرّر والإنسانيّة، وأنّ الإلحاد لا يؤثّر في القيام بأعمال شريرة كما يصوّره (دوكينز) بقوله: "ما يهمُّ هنا ليس موضوع كون (هتلر) و(ستالين) ملحدَين، ولكنّ الموضوع إذا ما كان الإلحاد يؤثِّر على النَّاس بشكلٍ منتظم لعمل الأشياء الشِّريرة، وليس هناك أي دليل ولو صغيراً يدلُّ على ذلك"[23]

والعجيب هو أنّهم نسبوا الإيجابيات الموجودة في الغرب من التكنلوجيا والتّطوّر والتقدّم إلى الإلحاد بالذّات، داعين المجتمعات الأخرى لهذه اللّوازم عبر علّتها الإلحاديّة. وهكذا اختار الملحدون أن يخاطبوا المتديّنين ويدعوهم إلى الإلحاد، بأن يظهروا أنّ شقاءهم مسبّب عن تديّنهم، وأنّ سعادتهم مرهونة بالتحوّل إلى النّظرة المادّيّة للعالم، ونسيان العالَم الآخر، وتكريس الهمّ والجهد للسّعادة في هذه الحياة. بامتلاك كلّ وسائل الرّاحة وتحقيق الطّموحات والآمال، واكتساب الشّرف والمجد، والارتقاء العلميّ والتّقنيّ، والتمتّع بلذة التنافس لإحراز النّجاح[24].

شرطان لصحّة المنهج التَّطبيقيّ

وفي هذا الجانب التّطبيقي للردّ على الإلحاد نحتاج إلى شرطين:

الأوّل: إثبات تحقّق هذه النّتائج على أرض الواقع. الثّاني: إثبات أنّ هذه النّتائج هي من لوازم النّظرة الإلحادية لا غير. 

أما الشّرط الأوّل: فستأتي النّماذج والوقائع بما لا سبيل لإنكارها، وأنّ مسألة الآثار التّطبيقية ليست فرضية لعالَم ملحد لا دين فيه، فهذا العالَم الملحِد موجود على أرض الواقع اليوم. 

وأمّا الشَّرط الثَّاني فلا بدَّ من التَّطرُّق له بعض الشَّيء. 

فماذا نقصد من لوازم منظومة الإلحاد الفكريّة؟

صحيح أنّ الملحد بإمكانه أن يكون متخلّقاً بدرجة معيّنة، وذلك بالتزامه بتلك القيم الفطريّة أو العرفيّة أو العرقيّة أو غيرها، وصحيح أنّ المؤمن المعترِف بوجود الله تعالى قد يكون سيء الأخلاق، متجاوزاً للحدود الإنسانيّة، ولكنّ هذا الأمر لا يصنع من الإلحاد منظومة فكريّة لها آثارها الأخلاقيّة القيَميّة، وكذلك لا يسلب من الإيمان جانبه القيَميّ بتاتاً. 

فالمسألة لا تدور حول الملحد والمتديّن أبداً، إنّما هي تنظّر إلى ذات المنظومة الفكريّة الإلحاديّة دون أيّ عنصر آخر قد يكون دخيلاً.

فهل المنظومة الفكريّة الإلحاديّة تستطيع أن تضمن لنا سلوكيّات حسنة، أو تقدّم لنا نظاماً أخلاقياً قِيَميّاً؟ هذا ما يجب أن نبحث عنه في الحقيقة. 

في السّنوات الأخيرة بدأ الملحدون يؤكّدون على أنّ الإلحاد ليس أقلّ من الأديان السّماوية في دعوته للأخلاق والفضائل، وأصبح عامّة الملاحدة يرفعون شعاراً أخلاقياً وهو شعار الإنسانيّة[25].

ولكن إذا دقّقنا في منظومة الإلحاد الفكريّة بإنصاف نجد أنّها لا تستطيع أن تضمن لنا أيّ سلوك حسن، ولا تستطيع أن تقدّم معياراً واضحاً صارماً للقِيَم بتاتاً، بل نستطيع أن نقول بأنّ هذه المنظومة لا تقف موقف (اللّاتأثير) فحسب، بل هي مؤثّرة ومسبّبة -بشكل وآخر- على تحقّق سلوكيات سيّئة وآثار قبيحة أيضاً. وسيأتي بيان ذلك مفصّلاً.

ولكنّ المهمّ في هذه النّقطة أن أشير إلى أنّ اللّوازم التّطبيقيّة للإلحاد -والتي سنذكرها فيما بعد- على نوعين: 

الأوّل: أن تكون على نحو اللوازم المسبّبة بعلّة الإلحاد، فمثلاً: نظرية (داروين) -بتقريرها الإلحاديّ- بشأن الانتخاب الطبيعيّ والبقاء للأقوى لا يمكنها أن تجتمع مع منظومة الفضائل الأخلاقيّة كالإيثار والفداء مثلاً، كما أنّها تعدّ عاملاً واضحاً في السّير نحو الصّراع مع الآخرين، واستعمار الشّعوب، ومحاربة النّوع الإنسانيّ الضّعيف وما إلى ذلك. وفيما لو أراد الملحد أن يعيش قِيَمه الفطرية من جهة، والعمل وفق النظريّة الداروينيّة من جهة أخرى، فلا محالة سيقع في ازدواجيّة ظلماء لا يستطيع الخلاص منها بسهولة، ولا ينتهي به المطاف إلّا بترجيح أحدهما على الآخر. 

الثّاني: أن تكون على نحو اللوازم المُعدّة والمهيّئة من قِبَل الإلحاد، بحيث تعدّ له أرضيّة مناسبة للإجرام والفساد بشكل أكبر وأسرع، وذلك مثل: عنصر انعدام (الرقيب) -الله- والنتائج المترتبة على ذلك، نعم، من الممكن أن يرجع أحدهم لقِيَمه الفطريّة، ولكن لا يكفي هذا الضّمير الإنسانيّ لردع الأغلبيّة عن القبائح والجرائم، ولهذا تمّ تشريع القوانين الوضعيّة الرّادعة، وكما يقول الفيلسوف الأمريكي (دافيد برلينسكي): إنّ الذين اقترفوا جرائم ضدّ البشرية، مثل: (هتلر) و(ستالين)، و(ماو تسي تونغ)، ورجال (الجستابو)والمخابرات الرّوسيّة، لم يكونوا يعتقدون أنّ الإله يراقبهم[26]. على غرار ما يقال: لا تقلق! الله غير موجود، فاستمتع بحياتك. وأمّا بخصوص أولئك القلائل الذين سيتمسّكون بضمائرهم اليقظة مثلاً، فإلى أيّ مدى يستطيعون ذلك في كلّ هذه المنعطفات الصعبة، واللّاهدفية الموجودة؟! 

وبدلاً من أن يقدّم البابا (فرانسيس) الإلحاد بكونه سبباً ومؤثّراً للقبائح والجرائم -كما أسلفنا- وينظر إليه نظرة واقعيّة، يقوم ليشجّع -للأسف- على الإلحاد بشكل وآخر، قائلاً: "لا يجب عليكم أن تؤمنوا بالله كي تدخلوا الجنَّة، وأنَّ غير المؤمنين سيغفر الله لهم إن اتَّبعوا ضمائرهم، والأفضل للمرء أن يكون ملحداً من أن يكون كاثولوكيّاً منافقاً"[27]

وبكلمة أخيرة: لا يوجد لدينا إلحاد أخلاقيّ، وإن كان هناك ملحد متخلّق. 

اللوازم العمليّة لرؤية الإلحاد

أوّلاً: اللّاهويّة والضّياع

إنّ الرؤية الإلحاديّة المادّيّة تسلب الحياة معناها، وتُغرق أتباعها في اللّاهويّة والعدميّة والظّلام، فمن نحن؟ وماذا يُراد بنا هنا؟ وإلى أين نحن سائرون؟ أسئلة محيّرة جداً. 

يقول الفيلسوف الملحد الوجودي (ألبير كامو): "إنَّ سؤال (من نحن) يعدُّ أكثر الأسئلة العاجلة التي تطلب جواباً"[28].

"لا أعلم هويَّتي، الحيرة تمزِّقني، القلق يحطِّمني" هي كلمات يردّدها الملاحدة على إثر تبنّيهم للرّؤية الإلحادية[29].

وللأسف، نجد بعض الأفلام السّينمائيّة قديماً وحديثاً تسعى لإقناعنا بهذه العبثيّة والعدميّة[30].

يقول الملحد الفيزيائيّ الشّهير (شون كارول): "نحن لطخ من الطِّين المنظَّم، الذي طوَّره القدرة على التَّفكير، من خلال الأعمال غير الإراديّة لأنماط الطَّبيعة، والاعتزاز بالنَّفس، والتَّعامل مع التَّعقيد المخيف للعالم من حولنا"[31]

أو كما نقل دوكينز عبارةً لصديقه الكيميائيّ الملحد ب(يتر أتكنز): "نحن أبناء الفوضى في أساس الوجود، لا وجود لغير الفساد، وموج الفوضى الذي لا مثيل له. لقد اندثرت الغاية من الوجود، هذه هي الكآبة التي يجب علينا قبولها"[32]

ويقول (فيكتور فرانكل): "الحياة ليست في الأساس بحثاً عن المتعة كما يعتقد(فرويد)، أو بحثاً عن السُّلطة كما دعا إلى ذلك (ألفريد أدلر)، وإنما هي بحث عن معنىً، أكبر مهمِّة لأيِّ شخص هي إيجاد معنىً في حياته"[33]

هذه اللّاهوية التي سلبت النّوم من ناشر كتاب (دوكينز) حين وصلته نسخة منه وقرأها، فإنّه لم ينم ثلاث ليالٍ متواصلة[34].

وأورثت لكثير من الغربيّين أمراضاً نفسيّة حادّة، تمنعهم الاستمتاع بالحياة، حتى قيل: إنّ عُصاب العصر هو فقدان معنى الحياة[35].

وسلبتهم معنى السّعادة الحقيقيّة؛ لأنّ السّعادة لا معنى لها في ظلّ اللّاهوية، فالتجأوا للغناء والرّقص والخمر والفواحش على أمل استشعار السّعادة، ولكن لم يجدوها. وكما يقول (روجيه غارودي): "الخطيئة الكبرى في الحضارة الغربيّة أنّها اعتمدت صيغة النّموّ المادّيّ التّراكميّ، نموّ الإنتاج ونمو الاستهلاك كمعيار أوحد للتقدّم وللسّعادة وللعمل الإنساني، ولكن، ماذا بعد؟ ماذا بعد المزيد والمزيد من إنتاج السّيّارات والماكينات وأجهزة الكومبيوتر؟ ماذا بعد المزيد والمزيد من البنوك والأرباح الماليّة؟ ماذا بعد المزيد والمزيد من المدن والطّرق والمصانع؟ إلى أين سنصل بعد ذلك، وأين النّموّ في القيم والأخلاق والمعاملات والسّعادة الحقيقية؟"[36] .

فأيّ رؤيةٍ هذه التي تُغرق النّاس في التّشاؤم والشّقاء والمرض والقلق حتى ينجرّ أمرهم في الأخير نحو الانتحار. 

وقد عبّر عن ذلك (شوبنهاور) فيلسوف التّشاؤم المعروف، فقد قال: "حياة الإنسان كلُّها ليست إلّا نضالاً مستميتاً من أجل البقاء على قيد الحياة مع يقينه الكامل بأنَّه سيُهزم في النِّهاية"، وقال: "ينبغي أن ندمِّر في داخلنا، وبكلِّ الأشكال الممكنة، إرادة الحياة، أو الرَّغبة في الحياة، أو حبَّ الحياة"، وقال: "يُقال إنَّ السَّماء تحاسبنا بعد الموت على ما فعلنا في الحياة الدُّنيا، وأنا أظنُّ أنَّه بإمكاننا أن نحاسبها أولاً عن المزحة الثَّقيلة للوجود الذي فُرض علينا من دون أن نعلم لماذا؟ وإلى أي هدف؟!".

ومثله قال عالم الأعصاب، والمحلّل النّفسيّ النّمساويّ (فكتور فرنكل): "للكثير من النّاس اليوم وسائل للحياة، غير أنّهم يفتقدون معنى يعيشون لأجله"[37]

وقد دعت اللّاهوية والضّياع الكاتب اللّاأدريّ (بارت إيرمان) ليقول: "لقد كان الخوف من الموت يطاردني لسنوات، ولا تزال تنتابني لحظات الخوف إلى اليوم عندما أستيقظ في الليل وقد تبلَّلت بعرقي البارد"[38]

فيما تقول الملحدة (سيمون دو بفوار): "إنّني اليوم أشدُّ كرهاً لفكرة إبادة نفسي. إنِّي أفكِّر بحزن في كلّ الكتب التي قرأتها، وجميع الأماكن التي رأيتها، وكلّ المعلومات التي جمعتها، ولن تكون موجودة بعد الآن. كلّ الموسيقى، كلّ اللوحات، كلّ الثقافة، أماكن كثيرة .. وفجأةً لا شيء"[39]

ودعت اللّاهوية لأن يعترف سارتر بأنّ البؤس قدر الإنسان ولا يمكن تجاوزه[40].

وتشهد الإحصائيّات اليوم أنّه بالإضافة إلى أنّ الاكتئاب سبب رئيسيّ لعدم الإنتاجيّة فهو سبب رئيسيّ للانتحار أيضاً[41].

ولحلّ هذه المعضلة التّطبيقيّة، دعا الملاحدة إلى إيجاد معنىً في الحياة، رغم عدم وجود معنىً للحياة، إذ يقول الفيلسوف الملحد (كاي نيلسون): "إنَّ عدم وجود غَرض للحياة لا يعني أنَّه لا يوجد غرض في الحياة، فيكون للإنسان أهداف وغايات جديرة بالاهتمام والإعجاب"[42]. وهذا الحل أشبه بالتّخدير النفسيّ لاستمرار الحياة، فأيّ معنىً سيكون لغرضك وهدفك الذي اخترته لنفسك فيما لو كانت الحياة بأكملها تسير نحو اللّاهدفيّة والظلام والعدميّة والموت؟! 

ومن جانب آخر، دعا الفيلسوف الملحد (توماس ناجل) ألّا يفكّر الملحد في الحياة بكلّيتها، وأن يتعامل معها بصورة ضيّقة يقتصر على مطالبه الحياتيّة العاجلة فقط[43].

فيما قدّم المخرج والممثّل الأمريكيّ الشّهير (وودي آلن) حلّاً آخر لهذا الصّراع مع نفسه قائلاً: "إنَّ الطَّريقة الوحيدة التي تجعلك سعيداً هي أن تخبر نفسك ببعض الأكاذيب وتخدع نفسك. ولستُ أوَّل شخص يقوم بهذا، فقد قيل من قِبَل نيتشه، وقيل من قِبَل فرويد، وقيل من قِبَل يوجين أونيل: يجب على المرء أن تكون له أوهام حتى يعيش. وإذا نظرت إلى الحياة بأمانة ووضوح شديد تصبح الحياة لا تُطاق لأنَّها قاتمة للغاية"[44]

وهل بالإمكان أن يُسكّن آلامه بهذه الطّريقة، وماذا عن الشّعور الغريب الذي نلمسه في بواطننا، وكما يقول الفيلسوف الوجودي الملحد (سارتر): "أشعر أنِّي لست مثل هباءة ظهرت في العالم، وإنَّما أشعر أنِّي كائن منتظر، مستفَزّ، مجهَّز مسبقاً، ككائن يبدو أنَّه لا يمكن أن يصدر إلّا من خالق"[45]

وفي الحقيقة. هذه هي حال الملحد، فهو بين نور الفطرة ونار الإلحاد، وبين خطأ التّفكير ونداء القلب، وكم هذا الأمر مقلق وداعٍ للاضطراب، وكم يتمنّى هؤلاء أن لو كان بإمكانهم ترجيح أحد الأمرين على الآخر. 

ثانياً: اللاأمل والشّعور بالوحدة

يقول الفيلسوف البراغماتيّ (وليم جيمس): "إنّ الإنسان لا بدّ أن تكون له تجربة دينيّة، فهو بحاجة للسّند الذي يقف لجواره ويشيع الرّاحة والسّلام الدّاخليّ في نفسه، وهو يحتاج لإله يدعم الخير ويحارب الشّرّ"[46].

إنّ طبيعة الدّنيا- سواء بالنّظرة الدِّينيّة أو التّاريخية أو التّجريبيّة- محفوفة بالمصائب والبلايا والأمراض والشّرور والحروب وما إلى ذلك. 

والأمر المهمّ في هذه المنعطفات الصّعبة هو: وجود السّند القوي والمخلّص ليتّكئ عليه الإنسان ويستعين به على تجاوز هذه الصّعوبات، وإلّا فإنّ هذه البلايا قد لا تهلك الإنسان بقدر ما يهلكه فقدان السّند والأمل والشّعور بالوحدة. وقد يُسرع بنفسه إلى الموت والانتحار، أو العلاج النفسيّ والتّخدير، ليتخلّص من اليأس الحاكم عليه؛ لأنّ فقدان الأمل واليأس ليس سوى موت بطيء وهلاك تدريجيّ. 

وإذا لاحظنا الواقع اليوم، فنجد أكثر من ٧٠٠ ألف حالة انتحار سنوياً، ويُعدّ رابع سبب وفاة بين الفئة السنية ١٥-١٩‌[47]

وأنّ هناك ١٠,٧% من سكان الأرض ممّن يعانون من أمراض نفسيّة، أي ما يقارب ٧٩٢ مليوناً، ٩,٣% منهم رجال و١١,٩% نساء[48].

وأنّ المرض النّفسيّ الأكثر انتشاراً في أمريكا هو الاضطرابات النّفسيّة بنسبة ١٩%، ثمّ الاكتئاب بنسبة ٨%، ثمّ القلق بعد الحوادث المؤلمة بنسبة ٤%[49].

وفي الحقيقة، نحن لا نستطيع أن نعيش هذه الحياة إلّا بالأمل والاتكاء على القوّة اللّامتناهيّة، والسّرّ في صمود المتديّن واستقامته -رغم كلّ هذه المحن- يرجع إلى اعتقاده بوجود السّند الإلهيّ والأمل بقدرة الله اللّامتناهيّة. وكان لعنصر الاعتقاد بالمهدويّة لدى الشّيعة الإمامية أثر مضاعف في تحمّل المحن والفتن الاجتماعيّة. 

فالبلاء على المؤمن في نظرته الدِّينية لا يخرج من أمرين، إمّا لتطهيره من الذّنوب، أو لرفع درجته، امتحاناً إلهيّاً لا بدّ منه في الترقّي نحو كماله، ولهذا، تجد المؤمن صابراً متفهّماً مطمئناً بما يجري عليه، بل يصل الأمر ببعض الخُلّص إلى الشّكر على البلاء أيضاً، وليس مجرّد الصّبر. هذا في النّظرة الدِّينيّة، ولكن ماذا سيكون معنى البلاء في النّظرة الإلحاديّة؟ كيف سيتعامل الملحد فيما لو مرض بسرطان أو فقد عزيز أو نقص ماله وما إلى ذلك؟! وأعتقدُ أنّ (فايروس كورونا) بإمكانه وبشكل كافٍ أن يشرح حال المتديّن المتوكّل من الملحد المضطرب. والحقيقة: إنّ هذا الاضطراب أشدّ فتكاً وهلاكاً من أيّ شيء آخر. 

وإنّ اتّكاء الملاحدة على العلم التّجريبيّ والتكنلوجيا، أو القوى البشريّة الأخرى، أو التمسّك بالطّاقات الإيجابيّة، أو المغالاة في الخيال العلميّ في الأفلام السّينمائيّة[50]، لن يكفي في زرع روحيّة الصّمود والتّعايش مع البلايا والمصائب الدّنيويّة. 

ثالثاً: انعدام الكرامة الإنسانيّة

هناك نظريّتان إلحاديّتان كان لهما الدّور الأبرز في سلب المجتمعات الغربيّة كرامتها، وعدم الاستشعار بها بتاتاً، وهما: نظرية (داروين)، ونظرية (فرويد).

أوّلاً: نظريّة (داروين)

إذا لاحظنا نظرية داروين الإلحاديّة، يظهر لنا أنّ الإنسان والحيوان سواء، غاية الأمر أنّ الإنسان يتميّز عن الحيوان جينياً. وإنّ مجرّد تطوّر الإنسان لا يعطي للإنسان أيّ قيمة، إذ الفرق بين ما كان وما يكون ليس إلا في سعة حوضهم الجيني، وهو فارق كمّي لا كيفيّ. فهل إذا كان لحيوان ما جينوم ضعف أو أضعاف جينوم البشر كنوع من الفأر والسّمك أن يكون الفأر أو السّمك أفضل من الإنسان؟! كلا، بتاتاً.

يقول داروين نفسه: "لا يوجد فرق جوهريّ بين الإنسان والثّدييات العليا في ملكاتهم العقلية"[51]

حتى صار الملحد الزّهاويّ ينشد قائلاً: 

ما نحنُ إلّا أقرُدٌ من نسل قردٍ هالكِ

 

فخرٌ لنا ارتقاؤنا في سُلّمِ المداركِ[52]

 

ويقول (أرنست هِيگل): "لا توجد بين الرُّوح الحيوانية الأكثر تطوراً وروح الإنسان الأقل تطوراً سوى اختلافات كمية صغيرة، ولكن لا يوجد أيّ اختلاف نوعيّ"[53]

وقد صرّح البيولوجيّ الدّاروينيّ (جوليان هكسلي) فيما تحقّق من مفهوم الإنسان بعد نظرية (داروين): "لقد تقلّصت الفجوة بين الإنسان والحيوان، لا من خلال المبالغة في إصباغ الصّفات الإنسانية على الحيوانات، وإنّما عن طريق تقليص الصفات الإنسانية للبشر"[54]

وعلى حدّ توصيف اللّاأدري الشّهير (كارل ساغان): "الإنسان مجرّد نفاية نجميّة"[55]

ومن جانب آخر، يتساءل ويليامز قائلاً: "إنَّنا ندين أولئك الذين يرتكبون المجازر في تاريخ البشر أنَّهم من الأشرار المجرمين، فلم لا يُخضِع الملحدُ الإنسانَ إلى المعيار نفسه عندما يقتل الإنسان إخوته الحيوانات من خرفان وبقر ودجاج؟!"[56].

ولقد حاول بعض الملاحدة أن يحلّوا هذه المشكلة العويصة، ولكن باتت محاولاتهم فاشلة وواهمة، وعلى سبيل المثال، انظروا لمحاولة (دوكينز)، فهو يقول: "إنَّ الإنسان يتألَّم أكثر من سائر الحيوانات، وهذا ما تعطيه حرمة ليست لبقيّة الأحياء"[57]. وما معنى الألم في المنظومة الإلحاديّة الدّاروينيّة سوى رسالة مادّيّة ترسلها الأعصاب إلى الدّماغ لتتحوّل إلى إحساس مزعج، فهل هذا يعدّ معياراً للتفاضل؟ وماذا لو اكتشفنا مستقبلاً أنّ هناك من الكائنات من يتألّم أكثر، فهل سيحتلّ الصّدارة على الإنسان؟![58].

ثانياً: نظريّة (فرويد) 

ذهب (فرويد) في تحليله النّفسيّ إلى أنّ الدّافع الوحيد للإنسان -من ولادته وحتى وفاته- هو الدّافع الجنسيّ. فالرضيع يرتضع من ثدي أمّه بدافع الجنس، ويتبرّز بدافع الجنس أيضاً، وتبقى جميع تصرّفاته الأخرى تحت ظلّ دافع الجنس هذا. 

وكان فرويد يصيح بملء فيه: "إنَّ كبح الدَّافع الغريزيّ مضرٌّ بالشَّخصيّة، ويورث الاضطرابات العصبيّة، والسَّخط من الحياة"[59]

وهذا أحد الأسباب المهمّة للجرائم الجنسيّة في الغرب، ففي كلّ دقيقة إلى دقيقتين حالة اغتصاب، والفئة العمريّة ١٦-١٩ معرّضة للاغتصاب بأربعة أضعاف[60].

وإنّ كلّ واحدة من كلّ خمس نساء خضن تجربة اغتصاب أو قريبة إلى الاغتصاب في أمريكا، وواحدة من كلّ ثلاث نساء مغتَصبات كنّ في الفئة العمريّة ١١-١٧‌[61]

وللأسف، فإنّ الكرامة الإنسانيّة لا معنى لها في ظلّ هذه الرؤية الحيوانيّة الشّهويّة المحضة، فبأيً شيء حينها يتفاضل الإنسان عن غيره؟!

ومن الملفت والجدير بالتّوقّف والتأمّل هو أنّ هناك دراسات تثبت العلاقة العميقة والجذريّة بين نصوص تلمود ونظريّة (فرويد)، حيث يقول الدّكتور صبري جرجس في كتابه (التّراث اليهوديّ الصّهيونيّ في علم النّفس ونظرية فرويد): "لفت انتباهي حقيقة كبرى، تلك العلاقة الوثيقة بين فرويد رجل العلم والتَّحليل النَّفسيّ والفكر العالميّ من ناحية، وبين التُّراث اليهودي الصُّهيونيّ والصُّهيونيّة، والعمل السِّياسيّ الدِّينيّ العنصريّ من ناحية أخرى، وكما تبدو لي ليست علاقة مصادفة، ولكنها علاقة أصل ومسار وهدف"، وأشار إلى أنّ فرويد وأصحابه الذين حملوا لواء فكرته من بعده كانوا جميعًا من الصّهيونيّة (ساخس، رايك، سالزمان، زيلبورج، شويزي، تيلز، فرانكل، كاتز، فينكل)[62].

وبهذا، أيّ كرامةٍ إنسانيّة يستطيع أن يشعرها الإنسان بإنسانيّته بعد؟ ثمّ ماذا سيجري على الإنسان الذي لا يرى كرامةً لنفسه؟ الجواب وببساطة: سيُقحم نفسه في الدّنيا والهوان والذلّ، ويهينها بالقبائح والذّنوب والشّهوات والجرائم؛ لأنّ النّفس الكريمة والمكرّمة لا تركع ولا تذلّ نفسها للقبائح والرذيلة، وفي الحديث: «مَن كرُمت عليه نفسُه لم يُهنهَا بالمعصية»[63].

ومن هنا، ندرك أنّ أيّ استعمار واستكبار إذا كان يروم سلب الآخرين تقواهم ودينهم وقِيَمهم الثّابتة فبإمكانه أن يبدأ بسلبهم الشعور بكرامتهم الإنسانيّة أولاً.

ولعلّ هذا ما فعله فرعون أوّلاً وقبل أيّ شيء آخر، حتى أطاعه قومه نتيجةً لانعدام كرامتهم، في قوله: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ﴾(الزخرف:٥٤).

ويجب ألّا نقرأ الواقع الغربيّ المنحطّ سلوكيّاً اليوم بعيداً عن هذا السّبب، فسلب الكرامة لا يعني سوى الحيوانيّة وسلوكها، ولا شكّ في أنّ لنظرية (داروين) و(فرويد) الأثر الأكبر في ذلك. 

وفي الحقيقة، إنّ النّظرة الدِّينيّة هي التي تستطيع أن تحلّ هذه المشكلة فحسب، والتي تطرح الإنسان بعنوان خليفة الله تعالى في قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾‌(البقرة: ٣٠)، والذي نفخ الله تعالى فيه من روحه، في قوله: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾(الحجر: ٢٩)، فتميّز الإنسان عن غيره، وكان كلّ شيء مسخّراً له، كما قال اللهa: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾(الجاثية: ١٣).

ثالثاً: اللّاأخلاقيّة

ذكرنا سابقاً أنّ الملحد بإمكانه أن يميّز بين الحسن والقبيح والخير والشّرّ، وذلك بالرجّوع إلى عقله الفطريّ، وإن كانت المنظومة التّفصيليّة للأخلاق لا تُكتَشف إلّا في ظلّ تعاليم الوحيّ، ولكن مع ذلك، فإنّ منظومة الإلحاد الفكريّة -وبغضّ النّظر عن الملحد- لم تستطع أن تقدّم معياراً ثابتاً وواضحاً للأخلاق، خيرها وشرّها، حسنها وقبيحها، فليس في الإلحاد قيمة مطلقة ثابتة، وهذا ما يعترف به (دوكينز) قائلاً: "الكون في حقيقته بلا تصميم، بلا غاية، بلا شرّ ولا خير، سوى قسوة عمياء لا مبالية. ومن الصَّعب جداً الدَّفاع عن القيمة الأخلاقيّة المطلقة على أرضيّة أخرى غير الدَّين"[64]

ولمّا واجه أحد أصحاب (دوكينز) من التّطوريّين، قائلاً: "هناك مجموعة كبيرة من النّاس غير مرتاحة لقبول التَّطور؛ لأنَّه يؤدي إلى ما يعتبرونه فراغاً أخلاقيّاً، حيث تفقد أفضلُ رؤاهم كلَّ أساس في عالم الطبيعة". فأجابه (دوكينز):" كلُّ ما أستطيع أن أقوله هو: إنَّ الأمر شديد، وعلينا مواجهة ذلك"[65]

وعلى حدّ تعبير الباحث اللّاأدري (ديفيد برلنسكي): "إذا كان الإله غير موجود فكلُّ شيء مباح"[66]

وكيف يمكن أن يكون للرّؤية الإلحاديّة مفهوما الخير والشرّ بشكل صادق؟! لأنّ الخير والشّر ليسا سوى العمل الذي له دور إيجابيّ أو سلبيّ في تحقيق كمال الإنسان ومقصوده وغايته النّهائيّة، فأيّ كمالٍ نهائيّ حقيقيّ يفرضه الإلحاد للإنسان؟ وما هو الخير والشّرّ الذي يدركه حيال ذلك، ويقدّمه بين أيدينا، على حدّ تعبير العلّامة المصباح اليزديّ[67].

وإذا دقّقنا في جانب الطّبيعة، نجدها ترفض منطق الأخلاق في المساواة بين الكائنات، في أيّ صورة من صور المساواة؛ لأنّ الطّبيعة قائمة على التّمييز والتّفرقة، وترتيب الأحياء رأسيّاً لا أفقيّاً، من باب منطق القوّة في البقاء للأقوى. 

وبهذا، فلا يبقى معنى للرّحمة، ولا للعفو، ولا للتّكافل، وبكلّ وقاحة، فقد صرّح به نيتشه قائلاً: "إنَّ الشَّفقة فضيلة المومس"[68]

ولكن رغم ذلك، فقد سعى هؤلاء الملاحدة كثيراً بتقديم معايير للأخلاق -من قبيل: المنفعة والضّرر، اللّذة والألم، ومحاكمة العرف، وغير ذلك[69]- لعلّها تساهم في صنع منظومة أخلاقيّة وسلوكيّة للإلحاد، ولكن باتت مساعيهم كلّها فاشلة، فلم تزد الطّين إلّا بلّة.

وعلى سبيل المثال، ماذا سيحدث لو جعلت المنفعة والضّرر معياراً للأخلاق؟ أصلاً لا داعي للفرض، فإنّ المجتمعات الغربيّة يحكمها هذا المعيار وللأسف، المعيار الذي لا يمكنك به تخطئة (هتلر) ولا تبرئة المصلحين، كما يقول (دوكينز)[70]. والمعيار الذي يقول لك: إنّ اعتقادك بأنّ الاغتصاب خطأ لهو أمر اعتباطيّ تماماً، كما يقول (دوكينز) أيضاً[71].

ويتعجّب دوكينز من المواقف السلبيّة للمسلمين تجاه المثليّة والشّذوذ الجنسيّان، قائلاً: "في أفغانستان، وتحت حكم طالبان، كانت العقوبة الرَّسمية للمثليّة الجنسيّة هي الإعدام، وبطريقة تبدو شهية للبعض، وذلك بدفن الشَّخص حيّاً تحت جدار يدفع فوق الضَّحية، والجريمة هنا تمَّت بشكلٍ شخصيّ، ومورست بين شخصين بالغين، لم يتسببوا بالأذى لأيٍّ كان".

ثم قال: "المواقف تجاه المثليّين تفضح الكثير عن شكل الأخلاقيّات المستوحاة من الدِّين"[72]. وها نحن اليوم نرى حوالي ١٠% من سكان العالم هم من الشّواذ[73].

ومن جانب آخر، يقوم (دوكينز) ليدافع عن الإجهاض، ويسخر من كلّ من ندّد واستنكر وخالف ذلك[74].

وبهذا الشّأن قد غرّد دوكينز على تويتر بأنّ الإجهاض عمل أخلاقيّ طالما ليس هناك ألم؛ لأنّ الجنين في بطن أمّه أقلّ إنسانيّة من أيّ خنزير بالغ[75].

ولهذا، فلا غرابة أن يكون ٧٣ مليون إجهاض سنويّاً، ممّا يعادل ٢٠٠ ألف إجهاض يوميّاً، و٣ من كلّ ١٠ حالات حمل، أي: ٢٩%[76].

بل الأقسى من مجرّد إجهاض الجنين هو ما قاله أستاذ القانون بجامعة (يال) بالولايات المتّحدة الأمريكيّة آرثر (ألين ليف): "لا توجد طريقة لإثبات أنَّ حرق الأطفال بقنابل النابالم هو شيء سيء"[77]

وكما عبّر عن ذلك الدّكتور (جون لينكس) بقوله: "كيف تستطيع في عالم مادّيّ أن تفسِّر لي عدم السّرقة والقتل إن كان فيهما مصلحة، وإذا أمنت العقاب، أو أن يكشف أمرك أحد؟.. كيف تفسر عدم غواية زوجة جارك أو أخيك أو صديقك واستغلال غيابه عنها إذا تأكّدت من عدم الفضيحة؟.. كيف تفسَّر عدم خيانتك لزوجتك؟.. كيف تفسَّر أمانتك في العمل؟.. بل ما هو الدافع المادّيّ لديك مثلاً للمخاطرة بنفسك لإنقاذ طفل يغرق؟.. هل يمكن اختراع أيّ فكرة مقنعة ساعتها للإجابة عن مثل هذه الأسئلة بالغاً ما بلغت من الخيال؟"[78].

بالإضافة إلى أنّ هذا المعيار لا يستطيع أن يدرك حُسن بعض المفاهيم مثل: التّضحية والشّهادة والإيثار بتاتاً؛ لأنّ المضحّي والمُؤثِر والشّهيد يقوم بما يتضرّر به، وذلك بالرّغم من مساعي (دوكينز) في التّوفيق بين الإيثار ونظريّة (داروين)[79]، مع أنّهم لا يبيّنون إن كان مرادهم من كون الضرر أو تحقيق المنفعة مرهوناً بالأمور الفرديّة أو الجماعيّة أو إن كانت القيمة لهذه المنفعة مادّيّة أو معنويّة[80].

يقول الدّكتور عمرو شريف: "إذا كان الدّراونة قد عجزوا عن تفسير نشأة التّعاطف بين البشر، فلا شّكّ أنَّ تفسير نشأة خلق الإيثار سيكون أصعب، فهو يعمل ضدَّ هدف التَّطور الرَّئيسيّ، وهو المحافظة على النَّوع، فعلى المستوى الفرديّ، ما الذي يدفعني للتَّضحية بذاتي من أجل المجتمع والجنس البشريّ؟.. ما الذي يدفع جيناتي الأنانيّة للتَّضحية بذاتها؟.. وما الذي يدفع جينات كرات الدّم البيضاء للتَّضحية بذاتها في صراعها ضدَّ الميكروبات لدفع المرض عن الجسد؟! وعلى المستوى الأكبر، ما الذي يدفع المجتمع للتّضحية بموارده وجهد أفراده من أجل العناية بالضعفاء والمرضى والمعوّقين والمسنين؟.. أليس ذلك ضدّ البقاء للأصلح؟ ألّا يزيد ذلك من فرص بقاء الأقلّ صلاحيّة؟"[81].

وتبعاً لذلك، قام الاستكبار العالميّ بتشريع قوانين دوليّة وأمميّة وحقوقيّة وأسريّة وغيرها تصبّ بأجمعها في منفعته ومصلحته المادّيّة، والتي تبقيه الأقوى والأقدر والأصلح والأجدر في عالَم يحكمه منطق الغابة الإلحاديّ. إذ إنّ شعار (تعزيز السّلام وحقوق الإنسان) الذي رفعته الأمم المتّحدة ما هو إلّا غطاء خادع للمضمون الفعليّ الذي لم يتم الإعلان عنه، وإنّما يتمّ تطبيقه على أرض الواقع، وهو القضاء على مقاومة الشّعوب للاحتلال، من خلال ابتداع منظومة أمميّة لحقوق الإنسان تتجلّى من خلال عدد من المعاهدات والمواثيق الدّوليّة تحمل شعار (حماية حقوق الإنسان) في حين يستهدف مضمونها القضاء تماماً على الأخلاق والقِيَم بشكل عامّ، والقِيَم الأسريّة بشكلٍ خاص، وذلك بعد أن توصّلت الدّول الغربيّة إلى أنّ ذلك هو السّبيل الوحيد الذي تضمن به اقتلاع المقاومة من جذورها، فإذا ما دُمّرت الأخلاق والقِيَم بشكل عام، وقِيَم الأسرة بشكل خاصّ، دُمّرت أمم وشعوب عن بكرة أبيها[82].

وبكلمةٍ أخيرة: مع معياريّة النّفع والضّرر لا بدّ من أن تحكمنا النّسبيّة والبراغماتيّة في الأخلاق والقانون والمجتمع والاقتصاد والتربيّة والأسرة وما إلى ذلك، وهو ما نعاينه اليوم في العالَم وللأسف، بالإضافة إلى مقولة أخرى تتماشى مع البراغماتيّة أينما مشت، ألا وهي: الغاية تبرر الوسيلة. 

رابعاً: الجرائم والمجازر 

لقد حاول(دوكينز) في كتابه أن ينسب الإجرام والعنف للمتدينّين وحدهم دون غيرهم، كما ويذكر الملاحدة الجدد منهم خصوصاً أنّه لولا الدِّين لما شهدنا هجمات 11 سبتمبر أو النّزاع الفلسطينيّ الإسرائيليّ أو مشاكل ايرلندا الشّمالية أو أية نزاعات عنيفة بسبب كلمات في كتب مقدّسة.. بل ولا حتّى الدّولة الإسلاميّة، لكنّ الدّراسات الأكاديميّة تدحض تلك النظريّة التي تربط ما بين الحروب والدِّين؛ ففي بحث نشره معهد نيويورك وسيدني للاقتصاد والسّلام تبيّن أنّه عموماً لا توجد علاقة بين الدِّين والنزاعات في أيٍّ من الحروب التي اندلعت في عام ٢٠١٣م ومن بين خمسة وثلاثين نزاعاً مسلحاً خمسة فقط، أي:14% كانت أسبابها المباشرة مرتبطة بالدِّين، ونجد في موسوعة الحروب ـ وهي دراسة شاملة لكافّة الحروب الألف وسبعمِائة وست وثلاثين عبر تاريخ الإنسانيّة ـ أنّ الحروب الدِّينية في طبيعتها لم تتجاوز المئة وثلاثة وعشرين حرباً.. أي أقل من 7%[83].

ومن جانب آخر، فقد سعى (دوكينز) لتبرئة الملحدين من جرائم الحرب، فقال: لا أعتقد أنّ ملحداً مستعدٌّ لأن يجرف مكّة أو الكاتدرائيّات المقدّسة. ولكن أجابه (ريتشارد شرويدر) ساخراً: "إنَّ الكاتدرائيّات المقدّسة أعلى من أن تجرفها الجرّافات، ولذلك فضَّل ستالين في الاتحاد السوفيتيّ، وماو تسي تونغ في الصين تفجيرها بالديناميت"[84]

وقد قتل (هتلر) اكثر من ٥٤ مليون في الحرب العالميّة الثّانية[85].

وأما (ستالين) و(ماو تسي تونغ) فقد قتلا أكثر من ٩٤ مليوناً من المسلمين والمسيحيّين[86].

وقد يُقال: إنّ الملحدين المجرمين وإن كانوا قد أجرموا إلّا أنّ ذلك لم يمكن بدافع الإلحاد ورؤيته الفكريّة، كما ادّعاه (دوكينز)[87].

أقول: بملاحظة نظريّة (داروين)، يظهر أنّ صراع القّوّة هو الطّريق الأوحد للتقدّم، فالإنسان جزء من الطّبيعة، والانتخاب الطّبيعيّ ضامن ألّا يبقى غير من يصلح للحياة، ويملك القدرة على التّطور، ولذا، فإنّ إقصاء الضّعيف من الوجود يخدم الطّبيعة، وقد تلقّف النّازيّون فلسفة (داروين) الاجتماعيّة هذه، رغم أنّهم لم يرفعوا شعار الإلحاد، إذ يقول المؤرِّخ (هيكمان) عن (هتلر): كان شديد الإيمان بالتّطور، وداعياً إليه، وقد أشار في كتابه (كفاحي) إلى جملة من الأفكار التّطوريّة، التي تؤكّد على الصّراع، وبقاء الأصلح، وإبادة الضّعاف لصناعة مجتمع أفضل. 

وفي ٢٠ أبريل ١٩٩٩م لمّا أقدم شابان في أمريكا على قتل ١٢ طالباً ومدرّساً واحداً في المدرسة، وجرح ٢٣ آخرين، ثمّ انتحرا بعد المجزرة، تمّت هناك تحريّات دقيقة، تبيّن أنّهما أرادا التخلص من طائفة من النّاس تحقيقاً لمبدأ الانتخاب الطّبيعيّ، وكان قد لبس أحد المجرمين يوم المجزرة قميصاً كتب عليه: (الانتخاب الطّبيعيّ)، كما عُثر في أوراقه أنّه كتب: في يوم ما في أبريل، سأقوم أنا وفلان بالانتقام، وسوف ندفع الانتخاب الطّبيعيّ بضع درجات إلى الأمام، وقد كان أحدهما معجباً بـ(هتلر) والنّازيّة والحلّ النّهائيّ. 

ومن جانب آخر، يقوم شابّ من فنلندا بقتل سبعة طلبة ومدرّسة واحدة، ثم ينتحر بعد ذلك، وكان تاركاً رسالته على شبكة الانترنت قبل المجزرة، يقول فيها: أنا بصفتي ممارساً للانتخاب الطّبيعيّ، سأقضي على كلّ من أراه غير لائقٍ ومخزياً للجنس البشريّ، ومُخفِقاً في امتحان الانتخاب الطّبيعيّ. 

وكيف لا يكون ذلك، وقد قال الفيلسوف الدّاروينيّ الشّهير (هربرت سبنسر): "مساعدة السّيّئين في أن يتكاثروا، هي عمليّاً أمر يضمن وجود أعداء كثر لحفدتنا"[88]

وإنّ ما حدث في الحرب العالميّة الثّانية يرجع إلى منطق (الانتخاب الطّبيعيّ)، فإنّ التّمايز العرقيّ بدوره قد منح المتحضّر حقاً في القضاء على العرق الهمجيّ، كما يقول (داروين) نفسه: "في مرحلة مستقبلة معيّنة ليست ببعيدة، سوف تقوم الأعراق البشرية المتحضّرة على الأغلب بالقضاء على الأعراق الهمجيّة، واستبدالها في شتى العالَم". 

وقد وجّه طبيب يُدعَى الدّكتور (بورتشي) مذكّرة إلى (هتلر) يقترح فيها فرض الأشغال الشّاقّة على الغجر وتعقيمهم بالجملة نظراً لأنّهم يُشكّلون خطراً على نقاء دم الفلّاحين الألمان. وقد أمر (هتلر) بتصنيف الغجر في الفئات التّالية: غجري صرف (Z)، وخلاسيّ يغلب عليه العرْق الغجريّ (+ZM)، وخلاسيّ يغلب عليه العرْق الآريّ (-ZM)، وخلاسيّ يتساوى فيه العرْقان الغجري والآريّ(ZM)[89]

ويقول عالم التّاريخ الأمريكيّ (توماس ناب): "كان النَّاس ينتظرون الحرب قبل عام ١٩١٤م بمنتهى الشَّغف، وكانوا يتمنون قيام الحرب، وكان الدَّافع لسيطرة هذا الفرح عليهم هو: سيطرة الدّاروينيّة الاجتماعيّة على النَّاس في تلك الفترة، حيث طُبِّقت في مدارس أوروبا"[90]

وقد نبّه إلى ذلك عالم النّفس (فكتور فرانكل) -وهو أحد الذين سجنهم (هتلر): "كانت غرف الغاز في أوشفيتز النتيجة النّهائيّة أنَّ الإنسان ليس سوى نتاج الوراثة والبيئة، أو كما كان النَّازيون يحبون أن يقولوا: نتاج الدَّم والتربة. أنا مقتنع تماماً بأنَّ غرف غاز أوشفيتز تمَّ إعدادها في نهاية المطاف في قاعات محاضرات العلماء والفلاسفة العدميّين"[91]

وبخصوص المرضى والمعاقين من البشر، فقد قال الملحد (بيتر سنجر): "إنّه لا يوجد حرج أخلاقي في التخلّص من الأطفال الرّضّع المتخلّفين عقليّاً. وإنّ حياة بعض الحيوانات أكثر قيمة من حياة الأطفال المتخلّفين عقليّاً". كما يدعو الآباء لقتل أولادهم المرضى في الأسابيع الأولى من ولادتهم. 

ويقول (ستيف ويليامزك): "إنّه من الأفضل أن يكون الطفل المريض- الذي لا يوجد لديه جزء كبير من الدماغ- محلّاً للتجارب العلميّة من أن يكون قرداً ذكيّاً أو فأراً سليماً؛ لأنّ هذا الطّفل لا يشعر بالألم".

وهكذا، وبناءً على الدّاروينيّة تمّ الحديث بينهم في شأن القتل الرحيم. 

ويميّز المؤرِّخ (ح. بلّنج) في كتابه (ألمانيا وإبادة الجنس) بين أساليب مختلفة لإبادة الجنس تتمثّل في الإبادة عن طريق إزالة القدرة على الإنجاب واختطاف الأطفال، والإبادة عن طريق الزّج في المعتقلات، والإبادة عن طريق الإفناء.

كما أنّ الدّكتور التّطوريّ (بيانكا) قد صرّح قائلاً: "من الناحية البيئيّة، نحتاج لإبادة ٩٠% من البشر؛ لأنَّ موارد الأرض لا تكفي إلّا ١٠% منهم، واقترح نشر فايروس إيبولا في الجو"[92]

وفي هذا الصّدد، لا يخفى ما تمّ نشره من خطّة (كسينجر) لتقليل عدد سكان العالم الثّالث، وأنّه يجب أن يكون تخفيض عدد السكان الأولويّة القصوى للسّياسة الخارجيّة الأمريكيّة تجاه العالم الثّالث عامّة، كما ودعا إلى جعل عمليّات التّعقيم الجماعيّ اللّاإراديّ وتحديد النّسل شرطاً أساسياً لمساعدة الولايات المتحدة لهذه البلدان[93].

ولعلّ فيروس (كورونا) -مؤخراً- كان نتيجة لهذه الرؤية الإلحاديّة الإباديّة الاستعماريّة، والله العالم. 

والملفت أنّ من هؤلاء الضّعاف المرأة؛ لأنّ المرأة في النّظرة الدّاروينيّة (كائن يُحَبّ ويُلعَب معه، وهذا الكائن أفضل من الكلب على كلّ حال). فالمرأة عند هؤلاء أقل بكثير من الرّجل، ووضعها (داروين) برتبة الأطفال المتخلّفين. وفي غربال الانتخاب الطّبيعيّ لا بقاء للمريض ولا للفقير ولا الطفل ولا المرأة[94]. وما نشاهده اليوم في الغرب بشأن المرأة، أنّها اُضطهدت بشكل في عصور الكنيسة واُضطهدت اليوم بشكل آخر أشدّ وأقسى ممّا سلف. ليست المرأة في ظلّ الرّؤية المادّيّة الغربيّة سوى سلعة رخيصة لمآرب سياسات المستكبرين وأهدافهم. وهذا بحدّ ذاتِه إجرام-غير ملموس- بحقّ المرأة. 

نعم، بالإمكان أن يكون هناك ملحد غير مجرم، بحيث يتّكئ على ضميره وعقله، ولكن ثق حينئذٍ أنّه قد رفع اليد عن نظريّة (داروين) الاجتماعية ولوازمها، وإلّا فهذا النّوع من فهم الملحِد للانتخاب الطّبيعيّ وتطبيقه لن يؤدي إلّا إلى الدمار، ولا محالة يعيش الملحِد صراعاً حاداً بين ضميره وبين هذه النظريّة، حتى يفدي ضميره في سبيل الإجرام، أو يتخلّى عن قسم من إلحاده إنقاذاً لضميره. 

ومن جانب آخر، وبملاحظة فقدان الرقيب في المنظومة الفكريّة الإلحاديّة، فإنّ له أثراً كبيراً في تسهيل عمليات الإجرام والتّنكيل، وكما يقول الفيلسوف الأمريكيّ (دافيد برلينسكي): "إنّ الذين اقترفوا جرائم ضدّ البشريّة، مثل: هتلر وستالين، وماو تسي تونغ، ورجال الجستابو والمخابرات الروسيّة، لم يكونوا يعتقدون أنّ الإله يراقبهم"[95].

وكان العام ٢٠١٩م قد شهد ١٠ ملايين جريمة في أمريكا، ممّا يجب النّظر فيها بهذه العدسة أيضاً[96].

خامساً: التّفكك الاجتماعيّ 

إنّ طبيعة نظرية (داروين) في الانتخاب الطّبيعيّ والبقاء للأقوى والأصلح تجعل كلّ واحد من البشر يقتصر على ذاته وفردانيّته، فتتولّد الأنانيّة وحبّ النّفس والغرور نتيجة ذلك، فيعتقد أنّه كان السّبب الأصيل والوحيد وراء ممتلكاته وتفوقاته وإنجازاته، من قبيل ما نسبه قارون إلى نفسه من المال والكنوز، قال تعالى على لسان قارون: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ علَى عِلْمٍ عِندِي﴾(القصص: ٧٨)، فالإلحاد يهب أتباعه تفكيراً قارونياً للأسف.

بالإضافة إلى أنّ الحرية التي طُرحت في الغرب كانت حرّيّة فرديّة، من باب: افعل ما يحلو لك، وإن قُيّدَت بعدم إيذاء الآخرين، ولكن مع ذلك، فهي فرديّة تدور مدار المصالح المادّيّة للفرد، بعيدةً كلّ البعد عن المصالح الاجتماعيّة والمعنويّة، وتوطيد العلاقات، والإيثار، والتّضحية، وما إلى ذلك. 

وهذا، كما دعا إليه (سارتر) أيضاً من الوجوديّة التي أكّدت على الحرّيّة الفرديّة. 

ويقول المؤرِّخ المستشرق الأمريكيّ (برنار لويس): "بينما ينظر الناقدون المسلمون إلى الغرب ويرون فيه انحلالاً أخلاقيّاً في القيم الأسريّة، يسلّط المحلّلون الغربيون الضّوء على قيمة الحريّة الفرديّة في انتقاداتهم للإسلام المعاصر".

وعلى حدّ تعبير (نيتشه): "إنّ الفردانيّة هذه هي نتيجة إنكار الله. ولمّا كان المجتمع الكنسيّ آنذاك اجتماعيّاً، فكانت ردّة الفعل الحاصلة وقتئذٍ قد أوقعتهم في شباك الفردانيّة الوخيمة. إذ كان أوّل ما فعلته الثّورة الفرنسيّة التي أعلنت الحرّيّة هي أن بترت الإنسان عن الله، لأنّها تصوّرته قيداً يكبت حرّيّة الإنسان، وقد بدأت ذلك بتحريره من الله، أو بعزل الله عن حياته"[97]

وبهذا، فإنّ النّظرة المادّيّة هذه-مع ملاحظة عنصر الفردانيّة فيها- لن تؤسّس لحياة اجتماعيّة، ولن ترقى حتى لحياة النمل والنحل مثلاً، وإذا كان ثمة علاقة وارتباط بين ضحايا هذه النّظرة الفردانيّة فهو ارتباط يحكمه القانون، كما يحكم عمّالَ الشّركة قانون العمل فقط. 

ويشهد الواقع الغربيّ اليوم مدى تفكّك المجتمعات والأسر فيه، ومدى توغّل كلّ فرد في شؤون نفسه فحسب، حتّى وصل بهم الأمر للتّعايش والارتباط مع الكلاب بدلاً عن أبناء نوعهم الإنسانيّ، معتقدين أنّ الكلاب أكثر وفاءً وأفضل صحبةً من سائر البشر. 

ختاماً

وفي الختام لا بدّ من التّنبيه على أمرين: 

أوّلاً: بملاحظة هذه اللّوازم العمليّة المخزية للإلحاد في المجتمعات الغربيّة والأمريكيّة، يظهر أنّ مسار هذه المجتمعات ليس على أفق التّكامل والرقيّ بتاتاً، بل تسير نحو الانحطاط والدّركات. 

وأعتقد أنّ المنصفين من هذه الشّعوب قد أدركوا جيداً مدى تعاسة هذه الأنظمة المروِّجة للإلحاد بشكله العمليّ، وكلّما تقدّم بهم الزّمان استيقنوا أكثر وأكثر كيف أنّ هذه الأنظمة قد سلبتهم السّعادة والأمان والرّاحة والكرامة والأخلاق والحياة الاجتماعيّة وغير ذلك، حتى صاروا اليوم -وستشهد عليه السّنين الآتية أكثر- ينتظرون حلّاً لهذه الآفات، ويلتمسون مخلّصاً ينجّيهم ممّا هم فيه. 

وهذا معنى أفول الأنظمة الغربية والأمريكية تماماً، وكما قال الإمام الخامنئيّ (دام عزّه): "ليست أمريكا فقط من تسير قدرتها المعنويّة وقوتها الناعمة نحو الأفول، بل حتى اللّيبراليّة الدّيمقراطيّة التي تُعدُّ الرُّكن الأساسيّ للحضارة الغربيّة هي الأخرى تسير نحو الأفول. هؤلاء أسقطوا سمعة اللّيبراليّة الدّيمقراطيّة ولا زالوا يسقطونها. قبل سنين من الآن قال أحد علماء الاجتماع المهمِّين في العالم: إنَّ وضع أمريكا الحالي هو نهاية تكامل التَّاريخ الإنسانيّ، ولا يمكن الصُّعود والارتقاء إلى أكثر من هذا. هذا الشَّخص نفسه سحب كلامه الآن وراح يقول: لا، ويتمَّنى شيئاً آخر، يقول لا. وقد لا يقول بصراحة إنَّني أخطأت لكنَّه يطرح الآن كلاماً آخر، على الضدَّ تماماً من الكلام الذي كان كان يقوله يومذاك. حسنٌ، هذا هو وضع أمريكا اليوم. طبعاً بالنسبة لليبراليّة الدّيمقراطيّة سبق أن أشرتُ مراراً لهذا المعنى، وهو أنَّ اللّيبراليّة الدّيمقراطيّة جلبت التَّعاسة للشُّعوب الغربية التي تقوم أركان وأسس حكوماتها وأنظمتها الاجتماعيّة على اللّيبراليّة الدّيمقراطيّة. اللّيبراليّة الدّيمقراطيّة السَّائدة في الغرب اليوم جعلتهم هم أنفسهم تعساء بائسين، فالفوارق الاجتماعيّة، وانعدام العدالة الاجتماعيّة، وانهيار العائلة، والفساد الأخلاقيّ الشامل المتفشي، والحالات الفرديّة المتطرَّفة الشَّديدة، جلبت الشَّقاء لهم هم أنفسهم، وقد جاء هذا السّيّد الآن، الرئيس الأمريكيّ الحالي العجيب الغريب الذي راح يبيع كلَّ شيء ويُسقط ما تبقى من سمعة أمريكا واللّيبرالية الدّيمقراطيّة"[98].

وكما صرّح سماحته أيضاً: "إنَّها بداية عصر ما بعد أمريكا"[99].

وكم هذا التّصريح شبيه بتصريح الإمام الخمينيّS في شأن الاتحاد السّوفيتيّ حين قال: "إنَّني أسمع صوت تحطُّم عظام الماركسيّة"، وقد صدقS. 

ثانياً: لا شكّ في أنّ الإلحاد له هذه اللّوازم الفاسدة وأكثر، وأنّ الإيمان له آثاره الإيجابيّة الرّائعة، ولكن مع ذلك، ينبغي أن نرفض مقولة (الإيمان لأجل الإيمان). وهذا ما نجده في بعض كلام الغربيّين الذين يطرحون الإيمان علاجاً للوحدة، ومسكّناً للاكتئاب، ورقيباً للسّلوك، بغضّ النّظر عمّا إذا كانت هناك حقائق واقعيّة خارجيّة يحملها الإيمان أم لا، وذلك لأنّ النزاعات المادّيّة والبرغماتيّة في القرن العشرين عادت لتنظر إلى الدِّين بوصفه واحداً من علاجات الأمراض النفسيّة التي تجتاح العصر الحديث[100].

وذلك من قبيل ما قاله الفيلسوف الألمانيّ (مارتن هايدغر) الذي كان يرى أنّه لا يمكن البتّ في وجود الله أو عدم وجوده، لكنّه أنهى مساره الفلسفيّ بمقولته الشهيرة: "إنَّه لا يُخلّصنا إلّا إله". 

أو ما قاله (وليم جيمس) في كتابه (إرادة الاعتقاد) إنّ إرادة التّسليم بمعتقداتٍ قد لا يكون ممّا لا يبرّرها العقل، ولكن تبرّرها المنافع العمليّة التي تنتج عنها[101].

وما قلناه سابقاً من أنّ اللّوازم والآثار التّطبيقيّة لأي رؤية فكريّة بدورها تكشف عن صحّة المباني النظريّة وراءها أو عدمها بشكل وآخر، لا يتنافى الآن مع رفضنا لمعادلة (الإيمان لأجل الإيمان)؛ لأنّ اللّوازم العمليّة تكشف عن واقعيّة معيّنة، لا أنّها كافية في الاعتقاد بها لمجرّد الانتفاع منها حتى مع القطع أو الشّكّ بوجود الحقائق الغيبيّة.


 


[1] الإلحاد الوهم المستحيل، نور الدِّين قوطيط، ص٤٣٧.

 

[2] الإلحاد الحديث، د.عبدالرّحمن عواجيّ، ص٢٠.

 

[3] الإلحاد وسائله وخطره وسبل مواجهته، د. صالح سندي، ص١٧ ص١٨.

 

[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج‏52، ص: 124.

 

[5] الإلحاد الحديث، د. عبدالرحمن عواجيّ، ص١١٨-١١٩. 

 

[6] بروتوكولات حكماء صهيون:123.

 

[7] رحلتي الفكريّة، عبدالوهّاب المسيريّ. نقلاً عن موسوعة الرّد على الملحدين العرب، د. ميثم طلعت سرور.

 

[8] بروتوكولات حكماء صهيون، ص124.

 

[9] الدّراما التّلفزيونيّة وأثرها في المجتمع، حيدر محمّد الكعبيّ، ص٨٩. 

 

[10] الألعاب الإلكترونيّة وأثرها الفكريّ والثقافيّ، إعداد: حيدر محمّد الكعبيّ، ص٥٤. 

 

[11] أزمة الشّباب المسلم في عصر العولمة، إعداد: حيدر محمّد الكعبيّ، ص٢٠٢.

 

[12] الفيسبوك الوطن البديل للشّباب وأثره السلبيّ على الشّباب العراقيّ، إعداد: عليّ لفتة العيساويّ، ص٦٧. 

 

[13] أزمة الشّباب المسلم في عصر العولمة، إعداد: حيدر محمّد الكعبيّ، ص٢٠٢. 

 

[14] الإلحاد الوهم المستحيل، نور الدِّين قوطيط، ص١٠٦.

 

[15] حوار ساخن عن الإلحاد، السّيّد هادي المدرّسيّ، ص١٧٢. 

 

[16] مجلّة الاستغراب، المركز الإسلاميّ للدّراسات الاستراتيجيّة، العدد السّابع، ص٢٠٨-٢٠٩.

 

[17] أكذوبة الملحد الطّيب، د. محمّد سعيد المكّاويّ، ص٢٦. 

 

[18] نهاية حلم وهم الإله، د. أيمن المصريّ، ص٢١٨. 

 

[19] حوار ساخن عن الإلحاد، السّيّد هادي المدرّسيّ، ص١٧٤.

 

[20] نهاية حلم وهم الإله، د. أيمن المصريّ، ص٢١٨.

 

[21] المصدرنفسه، ص٢١٥.

 

[22] الأقنعة الزائفة، العتبة الحسينية المقدسة، ص٤٣، ص٤٥. 

 

[23] نهاية حلم وهم الإله، د. أيمن المصريّ، ص٢١٨.

 

[24] الأقنعة الزائفة، العتبة الحسينيّة المقدّسة، ص٤٤.

 

[25] أكذوبة الملحد الطيّب، د محمّد سعيد المكّاويّ، ص٢٧.

 

[26] نهاية حلم وهم الإله د. أيمن المصريّ، ص٢٢١.

 

[27] أكذوبة الملحد الطيّب، د محمّد سعيد المكّاويّ، ص٢٤، ص٢٥. 

 

[28] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص٩٣.

 

[29] الإلحاد والوهم المستحيل، نور الدِّين قوطيط، ص٤١٨. 

 

[30] الميديا والإلحاد، م. أحمد حسن، ص٦٧.

 

[31] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص٩٥.

 

[32] المصدر نفسه، ص٩٧. 

 

[33] المصدر نفسه، ص٩٦.

 

[34] المصدر نفسه، ص٩٧. 

 

[35] المصدر نفسه، ص٩٢.

 

[36] كيف تناظر ملحداً، نور الدِّين أبولحية، ص٢٨٩. 

 

[37] المصدر نفسه، ص٢٤١. 

 

[38] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص١٠٠. 

 

[39] المصدر نفسه، ص١١١.

 

[40] المصدر السّابق، ص١٠٨.

 

[41] https://www.nami.org/NAMI/media/NAMIMedia/Infographics/NAMI_Impact_RippleEffect_2020_FINAL.pdf https://www.who.int/newsroom/factsheets/detail/depression.

 

[42] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص٩٨.

 

[43]المصدر نفسه، ص١٠٤.

 

[44] المصدر نفسه،ص١٠٥. 

 

[45] المصدر السّابق، ص١٠٩. 

 

[46] كيف تناظر ملحداً،  نور الدِّين أبولحية، ٢٣٦

 

[47] https://www.who.int/newsroom/factsheets/detail/suicide.

 

[48] https://ourworldindata.org/mentalhealth

 

[49] https://www.nami.org/NAMI/media/NAMIMedia/Infographics/NAMI_YouAreNotAlone_2020_FINAL.pdf

 

[50] الميديا والإلحاد، م أحمد حسن، ص٧٧.

 

[51] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص٤٠. 

 

[52] الإلحاد وسائله وخطره وسبل مواجهته، د صالح عبدالعزيز سنديّ، ص٣١.

 

[53] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص٤٠. 

 

[54] المصدر نفسه، ص٣٩.

 

[55] الإلحاد يسمِّم كلّ شيء، د. هيثم طلعت، ص١٧. 

 

[56] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص٣٨.

 

[57] المصدر نفسه،، ص٣٧.

 

[58] المصدر نفسه، ص37-38.

 

[59] سلام للعالمين، نور الدِّين أبولحية، ص٥٢.

 

[60] https://worldpopulationreview.com/countryrankings/rapestatisticsbycountry. 

 

[61] https://www.nsvrc.org/statistics.

 

[62] سلام للعالمين، نور الدِّين أبو لحية، هامش ص٥٥. 

 

[63] موسوعة الإمام عليّ، الشّيخ محمّد الرّيشهريّ، ج٦: ص١٩٢.

 

[64] الإلحاد يسمّم كلّ شي، د.هيثم طلعت، ص١٧-١٨. 

 

[65] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص١٢٨.

 

[66] الإلحاد إشكالية الدِّين والتّديّن، الشّيخ معتصم سيّد أحمد، ص٢٤٤.

 

[67] كيف تناظر ملحداً، نور الدِّين أبو لحية، ص٣٥٨. 

 

[68] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص١٣٠.

 

[69] نهاية حلم وهم الإله، د أيمن المصريّ، ص١٥.

 

[70] الإلحاد يسمّم كلّ شيء، د.هيثم طلعت، ص١٩.

 

[71] المصدر نفسه، ص١٩. 

 

[72] نهاية حلم وهم الإله، د أيمن المصريّ، ص٢٣٢.

 

[73] الجنس بالأرقام

https://www.theguardian.com/society/2015/apr/05/10percentpopulationgayalfredkinseystatistics. 

 

[74] نهاية حلم وهم الإله، د. أيمن المصريّ، ص٢٣٥. 

 

[75] الإلحاد إشكالية الدِّين والتديّن، الشيخ معتصم سيّد أحمد، ص٢٥٢.

 

[76] موقع الصّحة العالميّة 

https://www.who.int/newsroom/factsheets/detail/abortion.

 

[77] الإلحاد يسمّم كلّ شيء ، د. هيثم طلعت، ص٢٠. 

 

[78] كيف تناظر ملحداً، نور الديِّن أبو لحية، ص٣٦١. 

 

[79] الإلحاد إشكاليّة الدِّين والتديّن، الشيخ معتصم سيّد أحمد، ص٢٥٥ فما بعد.

 

[80]  كيف تناظر ملحداً، نور الدين أبو لحية، هامش ص٣٥٧. 

 

[81]  كيف تناظر ملحداً، نور الدين أبو لحية، ص٣٦٢.

 

[82] المواثيق الدّوليّة وأثرها في هدم الأسرة، د. كاميليا حلميّ محمّد، ص١٤.

 

[83] كيف تناظر ملحداً، نور الدِّين أبو لحية، ص٣٤٢-٣٤٣. 

 

[84] نهاية حلم وهم الإله، د. أيمن المصريّ، ص٢١٩. 

 

[85] المصدر نفسه. 

 

[86] المصدر نفسه.

 

[87] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص٥١. 

 

[88] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص٤٩ فما بعد. 

 

[89] كيف تناظر ملحداً، نور الدِّين أبو لحية، ص٣٤٢. 

 

[90] الإلحاد إشكاليّة الدِّين والتديّن، الشيخ معتصم سيّد أحمد، ص٢٤٧.

 

[91] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص٩٢. 

 

[92] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص٤١.

 

[93] https://rawabetcenter.com/archives/107655.

 

[94] الإلحاد في مواجهة نفسه، د. سامي عامريّ، ص٤٧.

 

[95] نهاية حلم وهم الإله، د. أيمن المصريّ، ص٢٢١.

 

[96]  https://www.ojjdp.gov/ojstatbb/crime/ucr.asp?table_in=2.

 

[97] كيف تناظر ملحداً، نور الدِّين أبو لحية، ص٣٣٨. 

 

[98] https://arabic.khamenei.ir/news/5369. 

 

[99] https://arabic.khamenei.ir/news/5524. 

 

[100] مقال: محاولتان لخلق إنسانين مختلفين،الشيخ حيدر حبّ الله. على موقعه.

 

[101] كيف تناظر ملحداً، نور الدِّين أبو لحية ص٢٣٤. 

 


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا