نهج البلاغة في ظلّ قواعد التحقيق، وتساؤلات حول حديث الغدير

نهج البلاغة في ظلّ قواعد التحقيق، وتساؤلات حول حديث الغدير

في حوار مع سماحة الشيخ قيس بن بهجت العطار حفظه الله([1])

القسم الأوّل: نهج البلاغة في ظلّ قواعد التحقيق

* لماذا هذا الاهتمام بنهج البلاغة من قبل الشُّراح والمحققين، فإنّ الشروح قد فاقت 120 شرحاً كما قيل، فيما هو هذا السر الكامن وراء ذلك؟

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وأهل بيته آل الله، واللعنة الدائمة على أعدائهم أعداء الله.

إنّ كُلّ كتاب يكتسب أهمّيته ويتبوَّأ مقامه من خلال ركيزتين أساسيتين، أُولاهما: المؤلَّف، والثانية: المؤلِّف.

فأمّا المؤلَّف: فكتابُ نهج البلاغة إذا لاحظناه كمُؤَلَّفٍ وجدنا فيه الكثير ممّا يميّزه عن غيره من الكتب، ولذلك احتلَّ الصدارة في قائمة المؤلَّفات، ومن الميزات التي امتاز بها:

أ – احتواؤُهُ على كلام سيّد البُلغاء بعد رسول اللهe، فإنّ أمير المؤمنينg هو القرآن الناطق، وقد وصف عبد الله بن العبّاس بلاغة أمير المؤمنينg بقوله: كلامُ عليٍّ دون كلام الخالق وفوق كلام الخَلْق ما عدا رسول اللهe[2].

وقالت عائشة بنت أبي بكر: إنّي أعلمُ أنِّي لا طاقة لي بحجج علي بن أبي طالب[3].

وقال معاوية بن أبي سفيان: والله ما رأيت أحداً يخطب الناس – ليس محمّداً- أَحسن من عليٍّ إذا خطب، فو الله ما سنَّ الفصاحة لقريشٍ غيرُهُ[4].

وقال الشريف الرضي: كان أمير المؤمنينg مَشْرَعَ الفصاحَةِ ومَوْرِدَها، ومنشَأَ البلاغَةِ ومَوْلِدَها، ومنه ظهر مكنونُها، وعنه أُخِذَتْ قوانينُها، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب، وبكلامه استعان كُلُّ واعظ بليغ[5].

ب- احتواؤُهُ على أنواع العلوم ومختلف الفنون، فما من متخصِّص إلّا ويجد فيه بغيته؛ الفيلسوف والمتكلِّم، والمؤرِّخ وصاحب السِّيَر، واللغوي والنحوي، وعالم الاجتماع، وعالم الاقتصاد، وعالم السياسة، وطالبُ فنّ الحُكْم والحِكَم، والزاهد والمحارب، كلّهم في ذلك شَرَعٌ سواء، فهو أصدق صورة لشخصيّة أمير المؤمنينg.

ج- حُسْنُ الترتيب والتنظيم، حيث يبتدئ بعد مقدّمة الكتاب بباب الخطب وما يجري مجراها، ثمّ الكتب والرسائل وعهوده ووصاياه، ثمّ المختار من حِكَمِهَg ومواعظه وأجوبته وكلماته القصار، وهذا ما لا يُوجد في كتاب آخر من الكتب التي عُنِيَتْ بكلام أمير المؤمنينg.

د- ملاحظة العلماء والأُدباء لمصداقيّة ما في كتاب نهج البلاغة ومقارنتها بما ورد منها في سائر الكتب والمصادر، حيث جُمعت في هذا الكتاب العُيُون منها، ونافَ على غيره بالسَّعَة والاختصاص بما هو في قِمة البلاغة منها بنظر الشريف الرضي.

وأمَّا المؤلِّف، وهو هنا جامِعُ الكلمات ومختار الأبلغ منها بنظره، فهو أشعر الطالبيين العالم الأديب المـُفْلِق، محمّد بن الحسين بن موسى الموسوي، المعروف بالشريف الرضي، المتوفّى سنة 406 هـ.

فهو موصوف بالعلم والورع معاً، قال ابن عِنَبَة: وهو ذو الفضائل الشائعة، والمكارم الذائعة، كانت له هيبة وجلالة، وفيه وَرَعٌ وعِفَّةٌ وتَقَشُّفٌ .. وكان أحد علماء عصره، قرأ على أجلّاء الأفاضل[6].

وقال ابن الجوزي: كان عالماً فاضلاً، وشاعراً مترسّلاً، عفيفاً، عالي الهمّة، متديِّناً[7].

وعِلْمُ الرّضيّ وعفّته وتديّنه مما لا يمتري فيه اثنان، أَضف إلى ذلك حُسْن الانتخاب، حيث إنّ الرضيّ انتخب واختار من كلام أمير المؤمنينg ما هو في قمّة البلاغة من وجهة نظره، وكان اختياره بعناية فائقة، حيث تجدُ النصّ -في الأعمّ الأغلب- أبلغ وأوفى وأدقّ مما في عامّة المصادر النّاقلة له.

بعد كُلّ هذه الامتيازات للمؤلَّف والمؤلِّف لا عَجَب أن يَتوافر عليه العلماء والأدباء بالشرح والتحشية والتعليق، ناهيك عن القراءة والإقراء.

*  هل من الممكن إعطاؤنا إطلالة على أهمية نُسخ نهج البلاغة المـُحقّقة التي اعتنت بضبط النّسخ ومراعاة أدوات التحقيق بشكل جيّد؟

إنّ كتاب نهج البلاغة حظي منذ زمان جمعه إلى اليوم بغاية الاهتمام روايةً وقراءةً وإقراءً ونَسْخاً وتعليقاً وشرحاً، مما جعل نُسَخَهُ بمكانٍ مكينٍ من الكثرة، فنُسَخُهُ اليوم تتجاوز الثلاثمائة نسخة.

وهذه النّسخ -كغالب نسخ سائر الكتب- منها ما هو في غاية الدقّة وعليه مقابلات العلماء والأدباء وخطوطهم وإقراءاتهم([8]) وحواشيهم وتملّكاتهم وإجازاتهم، ومنها ما هو دون ذلك، لكنّه في غاية الضبط، ومنها ما ليس كذلك، كالنّسخ التي يكتبها بعض الورّاقين الذين كانت حرفتهم النساخة، فربّما كانوا فضلاء وربّما لم يكونوا كذلك.

ومن الأمور التي تُلمح في كثير من نسخ النّهج أنّ في أوائلها توجد في هوامشها شروح وتعليقات سرعان ما تنقطع، وذلك ما يُستَشَفُّ منه أنّ النّسخة كانت تُدَرَّس لمجموعة من الطلاب، ثمّ تنقطع الشروح والتعليقات المختصرة بانقطاع الدرس.

ومن النّكات البديعة التي رأيتها في بعض نسخ النّهج الشريف أنّها كتبت في السّجن، الأمر الذي قد يستفاد منه أنّ السجين كان يكتب كلام أمير المؤمنينg تبرُّكاً للخلاص من السجن، وربّما كان سبب سجنه هو تشيّعه، مما يجعله يتوسّل بأمير المؤمنينg ويتقرّب إليه بكتابة كلامه الشريف.

وهناك بعض النّسخ التي كتبها بعض الخطّاطين المشهورين، فاعتنوا بالخطّ وجماليته بالدرجة الأُولى، لا بالضبط العلمي، وذلك كالنّسخة المنسوبة لياقوت المستعصمي[9].

ومن الجهود الرائعة لقدماء علمائنا وأُدبائنا جهد محمّد بن محمّد بن حسن بن الطويل الصفار الحلّي، الذي كان عالماً أديباً ضابطاً، متخصّصاً باستنساخ النّهج بدقّة عالية وخطّ جميل مقروء مضبوط، وقد وقفت على النّسخة الثالث عشرة من منسوخاته، حيث كتب فيها آخرها: وهذه النسخة المباركة ثالث عشرة نسخة لهذا الكتاب، واللهa الملهم للرشد والموفق للصواب[10].

ومن بين هذا الكمّ الكثير لنسخ نهج البلاغة[11] يمكن استخلاص ما بين عشرين إلى أربعين نسخة تجمع صفات الكمال ويكون عليها مدار التحقيق والتدقيق.

*  هل نلتم شرف التحقيق في نهج البلاغة، وما هي الدواعي التي جعلتكم تحققونه مع وجود هذه الكثرة من التحقيقات؟

بعد أن رأيت أنّ الساحة العلمية تخلو أو تكاد عن تحقيقٍ لنهج البلاغة معتمد على النّسخ المعتبرة، وانتشار طبعتي محمّد عبده وصبحي الصالح رغم ما فيهما من عدم الدقّة وربّما التغيير المتعمّد في بعض الموارد، شمَّرتُ عن ساعد الجدّ ورسمت منهجيّة لتحقيق نهج البلاغة، تقوم هذه المنهجيّة على المراحل التالية:

أ- تحقيق النّسخ التي يُعتمد على ضبطها والتي تحمل مواصفات النّفاسة من حيث القِدَم والناسخ والمقرئ والمجيز والمجاز وغير ذلك، وهي تنحصر ما بين عشرين إلى أربعين نسخة.

ب- تحقيق شروح نهج البلاغة التي تحتاج إلى تحقيق أو إعادة تحقيق، ومقابلة رواياتها مع روايات النّسخ المتقدّمة في الفرع «أ» بعد تحقيقها.

ج- مقابلة العملين «أ» «ب» مع ما ورد من نصوص كلام أمير المؤمنينg -الوارد في النهج- وضبوطه في المعجمات اللغوية، لتجتمع بعد ذلك عندنا في صعيدٍ واحدٍ كُلُّ ضبوط نهج البلاغة في أمّهات النّسخ الخطيّة للنّهج، وفي شروحه، وفي معجمات اللغة.

وبما أنّ هذا العمل الجبار خارجٌ عن طَوْقِ شخصٍ واحد، ويحتاج إلى عملٍ مؤسسي، وعلى عدّة مراحل، لذلك ابتدأت بما أستطيعه وأطيقه من المرحلة الأولى، فحقّقت أربع نسخ من نهج البلاغة، هي:

1. نسخة مكتبة آية الله العظمى السيّد الگلبايگانيّ المحفوظة برقم 52065، وهي مقروءة على السيّد كمال الدين الحسينيّ سنة 624 هـ، وقراءة ثانية سنة 625 هـ.

2. نسخة مكتبة آية الله العظمى السيّد المرعشيّ النّجفيّ، المحفوظة برقم 3827، كتبها الحسين بن الحسن بن الحسين المؤدِّب، وهي أقدم نسخة عُثر عليها إلى اليوم، وتاريخ كتابتها 469 هـ أو 499 هـ.

3. نسخة فخر الدين نصيريّ التي طبع مصورتها الشيخ حسن سعيد؛ مدير ومتولّي مكتبة «چهل ستون»، والتي فرغ من كتابتها فضل الله بن طاهر بن مطهّر الحسينيّ في 4 رجب سنة 494 هـ.

4. نسخة مكتبة مدرسة نوّاب في مشهد المقدّسة، المحفوظة في المكتبة الرضويّة على مشرّفها السلام برقم 13847، كتبها محمّد بن محمّد بن أحمد النّقيب في صفر سنة 544 هـ.

وبعد أن طُبع هذا التحقيق، حققتُ نسختين أُخريين فيهما ضبط الأديب الشيعيّ عليّ بن محمّد بن السكون المتوفّى حدود سنة 600 هـ، والنّسختان هما:

1. نسخة مكتبة آية الله البروجرديّ في قم، المحفوظة برقم 157، وهي نسخة منقولة من خطّ الشيخ الحسن بن يحيى بن كرم، وتمّ استنساخها في شهر رمضان من سنة 647 هـ، وكانت صورة الأصل قد كتبت في المحرّم سنة 587 هـ، وقد نَسَخَ عليّ بن أحمد السديديّ سنة 684 هـ هذه النّسخة وصحّحها من نسخة نقلها من خطّ ابن السكون.

وقابَلَ إبراهيم بن أحمد القطّان هذه النّسخة على نسخة صحيحة موثوق بها في سلخ شهر صفر ([12]) سنة 792 هـ.

2. النّسخة الموجودة في المكتبة السليمانيّة في اسطنبول من مخطوطات رئيس الكتاب، المحفوظة برقم 943، وقد فُرغ منها في شوال سنة 684 هـ.

فهذان العملان هما ممّا مَنَّ الله تعالى به عَلَيَّ ببركة أمير المؤمنينg.

وبعد أن خرج هذان العملان إلى عالم النّور، وطرحتُ المشروعَ الكاملَ في المحافل العلميّة، قامت مؤسّسة دار الحديث بتبنّي هذا المشروع وبدأت به على بركة الله، فأخذوا بتحقيق النّهج على ما يقارب أربعين نسخة منه، نسأل الله لهم التوفيق والتسديد والنّجاح في إنجاز هذا العمل.

*  ما هو الدور المهم الذي يمارسه المحقّق عند عملية التحقيق، وحبّذا لو تذكرون لنا أمثلة تطبيقيّة مرّت عليكم عند التحقيق في النّهج الشريف؟

أمّا دور المحقِّق في عملية التحقيق، فهو دور صعبٌ شاقٌّ، بحيث يحتاج المحقّق إلى أن يتحلّى بعدّة مؤهّلات تجعله قادراً على خوض غمار التحقيق عموماً وتحقيق النّهج على وجه الخصوص.

ومؤهِّلات المحقّق العامّة كثيرة جدّاً، أهمّها تحلّيه بالعلم والفضيلة، وحبّه للعمل، وطول الصبر والأناة، وموسوعيّة معارفه، ودقّة الضبط، وألّا يدع شاردة ولا واردة إلّا ويقف عندها ويحلّ الأماكن العويصة، كلّ هذا بعد امتلاكه قواعد علم التحقيق والذوق السليم.

وفي خصوص تحقيق النّهج يحتاج إلى:

1-   أن يكون ضليعاً في الأدب لغةّ ونحواً وصرفاً ومعاني وبديعاً وبياناً، وتمكّناً من أساليب العرب في النثر.

2-   ومعرفة بكيفيّة تأثّر الكلام بالقرآن المجيد.

3-  وتمرّساً بأسلوب كلام أمير المؤمنينg.

4-   وبعد ذلك كلّه يحتاج إلى منتهى الدقّة في الضبط وعدم إغفال أيّ حركة من الحركات أو رمز من رموز التحقيق المستخدمة في النّسخ الخطيّة.

وأمّا الأمثلة التطبيقية فكثيرة جدّاً تستطيع تلمّسها من مقدّمتَيَّ على تحقيق النّهج على أربع نسخ، وتحقيقه مع ضبط ابن السكون، ولكيلا يخلو المقام من مثال، فإنّ من جميل الأمثلة هو قول أمير المؤمنينg: «أَغْضِ على القَذَى وإِلَّا لَمْ تَرْضَ أبداً». فقد ورد في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ومحمّد عبده وصبحي الصالح: «أَغْضِ على القَذَى والأَلَمِ تَرْضَ أبداً»، وهذا عدم دقّة منهم، على أنّي أظنّ أنّ رواية ابن أبي الحديد كرواية النّسخ الأصيلة، غير أنّ محقّقه - محمّد أبو الفضل إبراهيم - أخطأ في الضبط.

*  هناك شبهة طالما طرحت حول سنديّة نهج البلاغة، وأنّه مرسل حيث لم يذكر الشريف الرضيّ أسانيده إلى الإمام، بل ترقّى البعض بأن يقول: بأنّ نهج البلاغة ليس من عليٍّ وإنّما هو كلام الشريف الرضيّ نفسه، فما هو تعليقكم على ذلك؟

الكلام هنا يقع في مقامين:

المقام الأوّل: اتصال الأسانيد إلى جامع النّهج وهو الشريف الرضيّ، وهذا ما لا غبار عليه، فإنّ هناك أسانيد متعدّدة موصولة للشريف الرضيّ، ومنها أسانيد أبي الرضا فضل الله الراونديّ المتّصلة إلى جعفر بن محمّد الدوريستيّ، وعبد الكريم سبط بشر الحافي، والشيخ الطوسيّ، عن الشريف الرضيّ. هذا إلى أسانيد أُخر متصلة للشريف الرضيّ.

المقام الثاني: هو الاتّصال من الشريف الرضيّ إلى أمير المؤمنينg، وهذا ما لم يذكره الشريف الرضيّ في نهج البلاغة، لكنّ هناك أدلّة وقرائن تدلّ على صدور ما في النّهج في الجملة لا بالجملة عن أمير المؤمنينg، وهي:

أ- وجود الكثير من خطبهg وكتبه وكلماته مسندةً في كتب الأصحاب، كالكلينيّ والصدوق والمفيد والطوسيّ وغيرهم من أعلام الطائفة.

ب- وجود بعض ما في نهج البلاغة في مصادر أُلِّفت قبل أن يولد الشريف الرضي.

ج- ذِكْرُ الشريف الرضيّ لمصادر بعض الخطب والكتب، فخرج بذلك عن العُهدة، منها تاريخ الطبريّ، والجمل للواقديّ، والمغازي لسعيد بن يحيى الأمويّ، والمقامات لأبي جعفر الإسكافيّ، والمقتضب للمبرّد، والبيان والتبيّن للجاحظ([13])، وغيرها.

د- عناية الأصحاب بجمع كلام أمير المؤمنينg قبل الشريف الرضيّ، مثل خطب أمير المؤمنين على المنابر في الجُمَع والأعياد وغيرهما، لزيد بن وهب الجهنيّ، المتوفّى سنة 96 هـ، وخطب أمير المؤمنينg المرويّة عن الإمام الصادقg، وقد رواه أبو روح فرج بن فروة [أو قرّة] عن مسعدة بن صدقة، ولمسعدة هذا كتاب خطب أمير المؤمنينg، إلى غيرها من عشرات كتب الأصحاب.

هـ- وجود كثير من مطالب نهج البلاغة مسندةً في كتاب نزهة الأبصار ومحاسن الآثار لأبي الحسن عليّ بن محمّد بن مهديّ المامطيريّ الطبريّ، الشافعي المذهب، المولود سنة 280 هـ، والمتوفّى سنة 360 هـ تقريباً، لذلك عبَّر بعض المحقّقين عن كتاب المامطيريّ هذا بقوله: «نهج البلاغة قبل نهج البلاغة»([14]).

وهذا الكتاب كما ترى عاش صاحبه قبل أن يولد الشريف الرضيّ، ومات وعمر الشريف الرضيّ سنة واحدة حيث إنّ الرضيّ ولد سنة 359هـ.

هذا ناهيك عن المصادر المعاصرة للشريف الرضيّ والمتأخِّرة عنه التي عُنِيَت بجمع كلام أمير المؤمنينg وكتبه ورسائله وحِكمه وقصار كلماته.

و- مقابلة العلماء لمتن النّهج مع متن باقي المصادر التي كانت آنذاك، وذلك مثل قولهg في الخطبة القاصعة: «ورماكم من مكان قريب»، حيث كتب في حاشية نسخة فخر الدين نصيري: "في غير هذا الكتاب: ورماكم بالتهدّد من مكان بعيد"([15]). وهكذا في عدّة أماكن، وهذا يدلّ بما لا يقبل الشكّ على وجود ما في النّهج في مصادر أُخر.

ز- إنّ شأن نهج البلاغة شأن عشرات كتب الأدب والتاريخ والسِّيَر التي نقلت تراجم الصحابة وأقوالهم وكتبهم وخطبهم وسائر حالاتهم، مثل كتب الجاحظ وابن المقفّع والمبرّد وابن عبد ربّه والثعالبيّ والراغب الأصفهاني وأبي الفرج الأصفهانيّ وابن حمدون وعشرات بل مئات أمثالهم، دون أن يغمزهم أحدٌ بعدم الإسناد أو يتّهمهم بالوضع، فما هذه البهيتة إلّا "شنشنة نعرفها من أخزم"، فقد نقل ابن أبي الحديد عند شرح الخطبة الشقشقية قولَ مصدّق بن شبيب الواسطي لأبي محمّد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشّاب على وجه الدعابة والاستفزاز: "إنّ كثيراً من الناس يقولون: إنّها من كلام الرضيّ، فقال: أنّى للرضيّ ولغير الرضيّ هذا النَّفَس وهذا الأسلوب؟! قد وقفنا على رسائل الرضيّ، وعرفنا طريقته وفنَّه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خَلٍّ ولا خَمْر، ثمّ قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كُتُب صُنِّفَتْ قبل أن يخلق الرضيّ بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يُخلق النّقيب أبو أحمد والد الرضيّ"([16]).

نعم، إنّها الخطبة الشقشقية وأخواتها هي التي أقامت قيامة أعداء أمير المؤمنينg، فلمّا لم يجدوا مَخْلَصاً ولا مَناصاً ذهبوا إلى إنكار النّهج برُمَّته ونسبته للشريف الرضي!!

*  لكم من الخبرة والممارسة في التحقيق ما يفوق 30 عاماً، فهلاَّ تفضلتم لنا بأهمّ خصائص المحقِّق، وما هو المحتوى الذي يحتاج إلى تحقيق بنظركم؟

لقد مَنَّ الله تبارك وتعالى عَلَيَّ بأن وفّقني لخدمة تراث أهل البيتi منذ عام 1984م وإلى اليوم، وقد علّمني أصول التحقيق أكبر إخوتي الأستاذ الشاعر الأديب المرحوم فاروق بهجت العطّار، فله أكبر الفضل والمنّ عَلَيَّ في هذا المجال.

ومن خلال ما درسته وطالعته وخَبَرْتُهُ في هذه المدّة أعتقد أنّ المحقّق يحتاج إلى ثلاث ركائز أساسية، هي:

الأولى: العلم والفضيلة، فلا ينبغي لمن لم يدرس الدراسة الحوزويّة أو الأكاديمية بشكل سُلَّمِيٍّ صحيح أن يخوض ميدان التحقيق، أو أن يخوض ما يستطيع تحت إشراف الأساتذة ورعايتهم. ويكون تحقيق كلّ شخص في مجال تخصّصه بعد أن يصل إلى حدّ النّضوج.

الثانية: تعلّم قواعد علم التحقيق ومراعاتها بمنتهى الدقّة والحذر، فإنّ قواعد التحقيق بنسبتها الأكبر متفق عليها، والمتبقّي منها يكون المجال فيها منوطاً بأسلوب المحقّق الخاص وطريقته التي ينطبع بطابعها.

الثالثة: الخبرة المكتسبة من طول ممارسة التحقيق، لأنّ للتجربة نصيباً في الوقوف على ظرائف التحقيق ونكاته التي لا يمكن أن تؤخذ جاهزةً من خلال كتابٍ أو درسٍ أو حضور دورة تعليمية أو أكثر.

وفي خِضمّ هذه الركائز الثلاث لا بدّ من أن يتحلّى المحقّق بخصال أساسية، هي:

·       الرغبة في العمل التحقيقي.

·       الصبر وطول الأناة.

·       التتبُّع والاطّلاع على المطبوعات وعلى المحقّقين والتواصل معهم.

·       قوّة الحافظة والاستذكار.

·       الأمانة العلميّة.

·       الموسوعيّة في الثقافة.

·       الاختصاص في الكتاب الذي يراد تحقيقه.

ومن خلال هذه المقدِّمات يُعلم ما ينبغي تحقيقه من التراث، كما تُعلم الأولويّات في ذلك، فأبكار النّسخ التي لم تحقق ولم تطبع من قبل هي الأَوْلى، ثمّ الحجريّات التي لم تُحقّق إلى اليوم خصوصاً إذا عَزَّت النّسخ المطبوعة عنها، ثمّ الكتب المحقّقة تحقيقاً سقيماً أو المحقّقة على نُسَخٍ وُجِدَت من بعد نُسخٌ أنفس منها. وفي كُلِّ ذلك يجب أن ترشدَ المحقّقَ خبرتُهُ لِـمَلْءِ الفراغ الذي يحسّه في المجال المتخصص فيه.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمّد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.

 

القسم الثاني: تساؤلات حول حديث الغدير

*  يدّعي بعض المخالفين بأنّ حديث الغدير وإن تمّ إسناده بل حتّى ولو كان متواتراً إلّا أنّ دلالته لا تفيد كون عليّgخليفة مباشراً بعد النبيe، فضلاً عن كونه إماماً نائباً عن النبيe، فأقصى ما تفيده هذه الحادثة هو دفع شكاية بعض الصحابة الذين أبغضوا عليّاً حينما بعثه النبيّe إلى اليمن ولم يعجبهم هذا الأمر، فقام النبيe بينهم لينهاهم عن ذلك وأمرهم بحبّه، فهي تثبت فضيلة ومنقبة لعليg لا أكثر، فما هو دفعكم لهذه الشبهة؟

إنّ حديث الغدير متواتر، ولا يشكّ في تواتره إلّا من لا حظّ له من العلم، أو ران على قلبه الهوى، وقد اعترف بذلك الألبانيّ رغم نصبه وتعصّبه، وردَّ على ابن تيميّة مزعمته، فقال:

وجملة القول: أنّ حديث الترجمة [أي حديث الغدير] حديث صحيح بشطريه([17])، بل الأوّل منهما متواتر عنه، كما يظهر لمن تتبّع أسانيده وطرقه.

ثمّ قال: إذا عرفت هذا فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحّته أنّني رأيت شيخ الإسلام ابن تيميّة قد ضَعَّف الشطر الأوّل من الحديث، وأمّا الشطر الآخر فزعم أنّه كذب، وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرّعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ويدقّق النّظر فيها([18]).

وأمّا السؤال المطروح فتفنّده عدّة أمور:

أوَّلها: أنّ حادثة اليمن وواقعة الغدير قضيّتان منفصلتان لا قضيّة واحدة، إذ إنّ بعض الجيش الذين كانوا مع أمير المؤمنينg في سفر اليمن شَكَوا أمير المؤمنينg، وكانت شكايتهم منه بمكّة في أيّام الحج، وهناك غضب النبيe عليهم وقام خطيباً وقال: «لا تَشْكُوا عليّاً، فوالله إنّه لأَخْشَنُ في ذات الله من أن يُشتكى» ([19])، وأمّا واقعة الغدير فكانت في 18 ذي الحجّة بعد انقضاء الحجّ وأثناء الرجوع إلى المدينة.

ثانيها: لو كان ما قاله في الغدير لردعهم وبيان خطئهم في شكايتهم لاكتفىe بما قاله من الردع في مكّة المكرّمة، ولا مبرّر لتأخيره إلى 18 ذي الحجّة.

ثالثها: أنّ واقعة الغدير كانت بعد نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}([20])، وهي تدلّ على أمر خطير من الإمامة والولاية، يضاف إلى ذلك نزول آية إكمال الدين بعد الغدير، وهذا لا يكون إلّا لأمر عقائديّ دينيّ بالغ الأهميّة.

رابعها: لو كانت القضيّة مرتبطة بواقعة اليمن والشكوى، لكان كافياً أن يردع رسول اللهe ذلك الجيش أو المشتكين منه، مع أنّه في الغدير بلَّغ تبليغاً عامّاً شاملاً بعد نزول الآية، ووقفe حتّى لحقه من بَعْدَهُ وأَمَرَ بردّ من كان تقدّم، وهذا يدلّ على أمرٍ حدَث في أثناء المسير -وهو نزول الوحي- لا أمر سالف.

خامسها: أنّ قولهe: (من كنت مولاه فعليّ مولاه) جاء عقيب قولهe: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!) وهذا فيه أوضح الدلالة على الولاية الإلهيّة النبويّة سواء كان القول في مكّة أو في الغدير، وسواء كان لشكاية بعضٍ من عليٍّg أو دون شكاية.

سادسها: استشهاد أمير المؤمنينg جماعةً من الصحابة بحديث الغدير، وذلك في الرَّحَبة وغيرها، وهذا يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الحديث دالّ على الإمامة والخلافة، وإلّا لما استشهد أمير المؤمنينg وجماعة من الصحابة عليه.

*  على مستوى دلالة حديث الغدير فإنّه يستدلّ به أنّ النبي لم يُشر إلى أمور ومواضع متعدّدة، وإنّما أشار فقط إلى موضوع الولاية لعليّ، فهذا التحديد يعني أنّه يريد أن يشير إلى حدثٍ خاص ونوعيّ وهو تنصيب عليg إماماً للأمّة من بعده، إلّا أنّنا نجد الحرّاني -مثلاً- في تحف العقول يذكر حديثاً مطوّلاً فيه أمور كثيرة غير تنصيب الأمير من قبيل قولهe: (أيّها الناس إنّما المؤمنون إخوة، ولا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه، ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد)، فما هو توجيهكم وتعليقكم على ذلك؟

إنّ حديث الغدير حديث طويل فيه التوحيد وحمد الله وذكر عظمته وآياته، ثمّ ذكر الجنّة والنار وصفة الحوض، ثمّ ذكر الثقلين، وركَّز على تبليغ الولاية والإمامة لأمير المؤمنينg وولده المعصومين، لأنّ ثمرة كلّ العبادات والوصايا النبويّة تنحصر بولاية أمير المؤمنين وولده المعصومين، فمرجع خطبة الغدير كلّها للولاية وإن كانت فيها مطالب أخرى، وقد رويت الخطبة في مطوّلة الاحتجاج ونهج الإيمان والعدد القوية والتحصين لابن طاووس والصراط المستقيم للنباطيّ وغيرها، وأمّا رواية تحف العقول فهي في حجّة الوداع لا في غدير خم.

على أنّ النبي في آخر عمره الشريف كان يؤكّد ويكرّر الوصيّة لعليّ وولده المعصومين، لذلك قال ابن حجر الهيتميّ حول حديث التمسّك بالثقلين: "وفي بعض الطرق أنّه قال ذلك بحجّة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنّه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنّه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنّه قاله لـمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف، ولا تنافي إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة"([21]).

لذلك نصب النبيe لعليg بعد خطبة الغدير خيمة جلس تحتها وأقبل القوم عليه يهنّئونه بالولاية، ومنهم عمر بن الخطّاب إذ دخل عليه فقال: بخ بخ لك، ثمّ أمر رسول اللهe أمّهات المؤمنين أن يذهبن إلى أمير المؤمنين ويهنّئنه([22]).

*  ما هي دلالات الأحداث المصاحبة لواقعة الغدير، والقرائن الضمنيّة غير اللفظيّة، كإيقاف القافلة على مفترق طرق، ووضع أحداج الإبل ليصنع منها منبراً، ثمّ يصعد فوقه النبيe .. وغيرها. ماذا تفهمون سماحة الشيخ من هذه العلائم -إن صحّ التعبير- والدلالات غير اللفظيّة التي اكتنفت حادثة الغدير لتفسير مراد النبي الخاتمe؟

الدلالات والقرائن الحاليّة كثيرة جدّاً، منها:

أ. إيقاف النبيe قافلة المسير في حرّ الهجير وإرجاع من تقدّم في المسير، ووقوفه وانتظاره ليلحق به من تأخّر بعده، وإيقافه المسلمين في ذلك القيظ، وكلّ ذلك لا يكون من أيّ حكيم -فضلاً عن نبي- إلّا لأمر خطير، لا لأمرٍ معلوم، إذ من غير المعقول أن يكون هذا الوقوف والإيقاف من أجل أن يبلّغ أمراً معروفاً بضرورة العقل والعرف كأن يقول: من كنت حبيبه فعليّ حبيبه، أو إنّ هذا ابن عمّي فأحبّوه، وما شابه ذلك من المدّعيات التي لا تصمد أمام الحقيقة.

ب. أَمْرُهُ بجمع أحداج الإبل وصناعة منبر فصعد عليه وأصعد عليّاً لكي يراه ويسمعه الجميع؛ القريب منهم والبعيد.

ج. وتوّج عليّاً بعمامته السحاب لكيلا يدّعي أحدٌ أنّه لم يعرفه أو اشتبه عليه الأمر بشخص آخر، مع ما في إلباسه عمامته من دلالة على كونه خليفته ونفسه.

د. ورفع يديه حتّى بان بياض إبطَيْهما ولم يُرَ قبل ذلك، ليؤكّد أنّ يديهما هي العليا.

هـ. رفع صوته الكريم في خطبته، لكي يسمعه القاصي والداني.

وأمره المسلمين بالبيعة لأمير المؤمنين، حتّى امتدَّت طبق بعض الروايات ثلاثة أيّام([23]).

إذاً جميع الدلالات والقرائن المقاليّة والمقاميّة تدلّ ما لا يقبل الشكّ على أنّ بيعة الغدير كانت لتعيين الإمام بعد النبيّe لكيلا يظلّ أمر الأمّة سُدى.

*  نظراً لإجادتكم كتابة الشعر والتحقيق في بعض المخطوطات الشعريّة، فهلّا ذكرتم لنا بعضاً منها، مع ذكر الأبيات المرتبطة بغدير خم ممّا جادت به قريحكتم.

نعم مولانا، أنا شاعر منذ نعومة أظفاري، وقد كان النّصيب الأكبر منه لمحمّد وآل محمّد عليه وعليهم السلام، وببالي أنّ أوّل قصيدة نظمتها وعمري يقارب سبع عشرة سنة، مطلعها:

[من الكامل]

هم خير خلق الله فاز محبّهم          ولمبغض الأحباب درب التيه

 وقد حقّقت الشعر إلى جانب ما حقّقته من كتب فقهيّة وأصوليّة وعقائديّة وتاريخيّة، ومن بديع ما اعتزّ به في هذا المضمار هو تحقيقي لسلسلة دواوين الشعراء من أصحاب علي أمير المؤمنينg، وتحقيق ديوان الإمام السجّادg، وتحقيق ديوان الإمام الحسنg بصنعة المدائنيّ وهو من عيون التراث المفقود الذي عثرت على نسخة منه، وحقّقته والحمد لله، هذا إلى غير ذلك من أعمالي الأدبيّة.

وممّا قلته بمناسبة مرور أربعة عشر قرناً على ذكرى حادثة الغدير:

[من الخفيف]

هَلَّ فينا من الولاية عيدُ             وعلينا أَطلَّ فجرٌ جديدُ

 

مِن عليٍّ يفوح عطراً زكيّاً          ووروداً يهزّها التغريدُ

 

ويضوي للسائرين مناراً            وطريقاً هو الطريقُ السديدُ

 

واعتذاراً إذا عذرت المـُغالي       حينما ظنّ أنّك المعبودُ

 

فلقد كنت حاوياً لصفاتٍ            كان منها ما كان منه الوجودُ

 

سرمديٌّ لا تنتهي أزليٌّ             تتلاشى بجانبيك الحدودُ

 

وإذا شئت أن أعدّ المزايا           خان شعري وفكري التعديدُ

 

فلأنتَ الخِضَمُّ تزهو عطاءً         وبثغر الخلود أنت النشيدُ

 

وبحسبي غدير خمٍّ شهيدا           لادّعائي ونِعْمَ نِعْمَ الشهيدُ

 

سبعة ثمّ سبعة قد توالت            من قرون وهو الطريّ الجديدُ

 

وبرغم الحقود يمتد زهواً          وانتصاراً ترفّ منه البُنُودُ

 

حين راح النبيّ يرفع كفّاً          بانَ منها بياضُها المشهودُ

 

إنّ هذا خليفتي ووصيّي           وهو بعدي للمؤمنين يقودُ

 

غير أنّ اللئام قد صيّروها         فلتاتٍ تروح ثمّ تعودُ

 

جاهليُّونَ نابَذوا الحقّ جهراً       وحداهم شيطان حقدٍ مريدُ

 

علموا أنّك الأحقُّ ولكنْ           غصبوها فبئس تلك الجدودُ

 

ثمّ ماذا أأنت تحتاج ملكا          عرضيّاً عمّا قليلٍ يبيدُ؟!

 

لا وربّي فأنت أكبر قدراً          وبكلّ الآفاق منك سعودُ

 

فقديماً لآدم كنتَ نوراً              وشفيعاً إذ آدمٌ مطرودُ

 

وبك اليمّ صار درباً لموسى       فتداعى فرعون ثمّ الجُنُودُ

 

وبك الله قد هدى فلك نُوحٍ        فاستقرّت بحيث كنت  تريدُ

 

وبك الله راح يرفع عيسى        حين هاجت على المسيح اليهودُ

 

وبك الله صيّر النار برداً          وسلاماً لـمّا طغى نمرودُ

 

وسليمان قد حوى بك ملكاً        ذلّ فيه عَتِيُّهُمْ والعنيدُ

 

وبيمناك قد شَأ داودُ               حينما لانَ في يديه الحديدُ

 

وبك الله قد بنى البيت للنّا         س عتيقاً تأتي إليه الوفودُ

 

وبك الله قد أعزّ نبيّاً               عربيّاً بكفّه أُمْلُودُ

 

وبك الله سوف يظهر مهديـ       ـياً فيأتي ويومُهُ موعودُ

 

ومن الطرائف المحزنة في الأدب قصيدة أبي تمّام الرائية التي مطلعها:

 [من الطويل]

أظيبة حيث استنت الكُثُبُ العُفْرُ       رويدكِ لا يذهبْ بكَ اللَّوْمُ والزَّجْرُ

يقول فيها:

ويوم الغدير استوضح الحقُّ أهلَهُ      بفيحاءَ ما فيها حجابٌ ولا سترُ

أقامَ رسول الله يدعوهُمُ بها            ليقربَهُمْ عرفٌ ويَنْآهم نُكْرُ

يمدّ بضبعيه ويُعْلِمُ أنّه                 وليّ ومولاكم فهل لكُمُ خبرُ؟

يروح ويغدو بالبيان لمعشـر          يروح بهم بكر ويغدو بهم عَمْرُو

فكان له جهرٌ بإثبات حقّه             وكان لهم في بَزِّهم حقَّهُ جهرُ

وهذه القصيدة موجودة في الطبعات القديمة والنسخ القديمة جدّاً لديوان أبي تمّام، وقد حُذفت من الطبعات الجديدة، وما عشت أراك الدهر عجباً!!

وهناك قصيدتان أخراوان لأبي تمّام فيهما التولّي والتبرّي، وهما مثبتان في نسخ ديوانه القديمة، لكنّهما غير موجودتين في طبعات ديوان أبي تمّام!!

*  هناك تباعد وهجران لنهج البلاغة في الأوساط الإسلاميّة بشكل ملحوظ -كما تعلمون-، إلى ماذا ترجؤون هذه الحالة، وما هي أسبابها؟ وما هو الحلّ لإعادة المسلمين للارتباط بالنّهج الشريف في نظركم؟

في الواقع إنّ هذا الأمر يتطلّب دقّة وتريّثاً، وأن يُلحظ من عدّة زوايا، إذ إنّ أحد أسباب الابتعاد عن النّهج الشريف هو كونه كتاباً يحوي خطباً ورسائل وكلمات هي في قمّة البلاغة، إذ انتخب الشريف الرضيّ ما هو أبلغ من كلام إمام البلاغة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبg، وهذا ما يجعل إدراك مطالبه ومغازيه صعب المنال على كثير من الناس، ولذلك احتاج النّهج الشريف إلى الشرح والتعليق والتحشية، فيكون الابتعاد عنه لهذا السبب أمراً طبيعياً بالنسبة لكثير من الناس.

والملاحظة الأُخرى هي عدم الاهتمام بحفظه وتدريسه، مع أنّه بتعبيري (هويّة الشيعيّ)، فهنا من اللازم أن يُبرمَج برنامج لهذا الكتاب بتحفيظه وتدريسه في الحوزات والجامعات والمحافل العلمية، وقد كان هذا الكتاب من الكتب الدرسية في الحوزات العلمية قبل قرابة قرن من الزمان، وقد رأيت شهادة تصديق كون آية الله السيّد علي البهشتي فاضلاً عالماً في بدايات عمره الشريف، وكان من جملة الكتب التي وضعت له درجة امتحانية فيها هو كتاب نهج البلاغة، فيا حبّذا لو يعاد هذا المنهج لإيصال مفاهيم النّهج إلى جميع طلّاب العلوم الدينية.

والملاحظة الثالثة هي ضرورة تحقيق هذا الكتاب وشروحه وحواشيه تحقيقاً علمياً طبق موازين التحقيق، اعتماداً على أهمّ نسخه، وهي متوفّرة بحمد الله، ثمّ طباعتها بطباعة تليق بشأن هذا الكتاب.

وقد وفّقت حتّى اليوم لتحقيق أربع نسخ قديمة منه، ثمّ تحقيق نسختين مع ضبط الأديب الأريب علي بن السكون الحلّيّ، واليوم تقوم دار الحديث بتحقيق متن النّهج على أكثر من عشرين نسخة، أخذ الله بيدهم لإتمام هذا المشروع العظيم الذي كنت أدعو له منذ أكثر من عقد من الزمن.

*  بعد الجهد الكبير الذي بذله العلّامة الأمينيّ في كتابه «موسوعة الغدير» الضخمة، ما هو التصوّر المرجوّ لكي نسهم في إبلاغ الولاية لعموم الناس في العالم حتّى يرتبطوا بالدين الإسلامي المحمّدي الأصيل؟

الحمد لله، هناك كتبٌ كثيرة ألفت وكتبت وما زالت تؤلّف وتكتب حول واقعة الغدير الأغر، ومنها الموسوعات الضخمة مثل كتاب عبقات الأنوار للسيّد المير حامد حسين، وإحقاق الحق للقاضي نور الله التستريّ، وشرحه والتعليق عليه للسيّد شهاب الدين المرعشيّ النجفيّ، ونفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار للسيّد عليّ الميلانيّ، وموسوعة الإمامة في نصوص أهل السنّة وهو كتاب غنيّ حافل بالمطالب والاستدلال والطرق، وكتاب قادتنا كيف نعرفهم للسيّد محمّد هادي الميلانيّ، ومنذ سنين عدّة يقوم صديقنا الفاضل سماحة حجّة الإسلام الشيخ أمير التقدّمي بكتابة موسوعة حافلة حول الغدير باسم «طرق حديث الغدير» يقع في حوالي عشرين مجلّداً، وهو في مراحله الأخيرة، وسيرى النور قريباً إن شاء الله.

والأمر الجدير بالاهتمام في هذا المضمار هو أنّه يجب طبع الدراسات والمقالات واستلال المطالب بشكل مختصر وواضح ودقيق لتكون هذه المطالب في متناول عامّة الناس ليقفوا على الحقّ الصراح، فإنّ ما امتاز به كتاب الغدير هو كونه مشحوناً بالمطالب العلمية العالية مع أسلوب أدبي رصين بديع، بحيث يستفيد منه العالم والفاضل وطالب العلم إلى جانب والخطيب والأديب ومن له أدنى إلمام بالعلوم، ثمّ عامّة الناس المتعطّشين لمعرفة علوم أهل البيتi.

*  شيخنا الفاضل، هل لديكم كلمة أخيرة تودّون توجيهها إلى المجلّة وقرّائها؟ فتفضّلوا مشكورين.

إنّ مجلّة رسالة القلم من المجلّات الرائعة في بابها، وهي تضمّ مجموعة ثرية من المقالات والأبحاث، لكنّي أرجو لها أن تكون أكثر انتشاراً، لأنّها جديرة بذلك، وأنا أترقّب أن تكون في مصاف المجلّات الأرقى، إذ هي تضمّ كوكبة من الكتاب الأفاضل، وتتناول المواضيع العلمية والتي ترتبط بواقع الفكر الإسلامي الشيعي الأصيل.

وفي الختام: أدعو بالتوفيق لكلّ العاملين فيها وكلّ من ساهم بمقالة أو كلمة أو حرف من حروف النّور في هذه المجلّة الغرّاء، وإلى المزيد إن شاء الله.

([1]) سماحة الشيخ قيس بن بهجت العطّار، ولد في العراق (بغداد) بقرية (الكاظمية)، والتحق بحوزة (طهران) في سنة (1980م) ثم (قم) ثم (مشهد)، وواصل دراسته بجدّ حتى وصل إلى البحث الخارج وحضر عند كلّ من:

1- آية الله الشيخ علي فلسفي.

2- آية الله الشيخ عبد الحميد شربياني.

3- آية الله الشيخ مصطفى أشرفي شاهرودي.

وهو مستمر حالياً في التدريس (بالجامعة الرضوية) وهو الآن مسؤول مركز الإمام الحسن المجتبى× للدراسات التخصصية التابع للعتبة الحسينية المقدسة، وهو لا يزال مستمراً بالتحقيق، وقد صدر له عدّة مؤلّفات وتحقيقات، منها:

1- التأويل الموضوعي للقرآن. (رسالة ماجستير)

2- مقتل الإمام الحسين× على لسان جده رسول الله e من كتب العامة. (رسالة دكتوراه).

3- تحقيق نهج البلاغة على أربع نسخ قديمة ثم تحقيقه مع ضبط ابن السكون.

وغيرها من المؤلّفات، بالإضافة إلى مشاركاته التبليغية في المنبر الحسيني حيث ارتبط به منذ عام (1984م) حتى يومنا هذا.

[2] جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب، محمد بن أحمد الدمشقي الشافعي، ج1، ص298.

[3] الفتوح، ابن أعثم الكوفي، ج2، ص467.

[4] شرح نّهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج1، ص25.

[5] مقدمة نهج البلاغة، تحقيق الشيخ قيس العطّار، ص  38- 39.

[6] عمدة الطالب في أنساب أبي طالب، أحمد بن علي الحسيني (ابن عنبة)، 207.

[7] المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، ابن الجوزي، ج15، ص115.

([8]) أي قراءتهم على مشايخهم.

[9] وقد طبعت أخيراً بالفاكسميلة.

[10] وهي النّسخة المحفوظة في مكتبة العتبة الرضوية، برقم: 1860.

[11] لا يفوتنا هنا ذكر الجهود العظيمة التي بذلها العلامة المحقّق المرحوم السيّد عبد العزيز الطباطبائي في تتبع نسخ نهج البلاغة، والتي نشرها تباعاً في مجلّة تراثنا تحت عنوان «المتبقي من مخطوطات نهج البلاغة حتّى نهاية القرن الثامن».

([12]) آخر شهر صفر.

([13]) الصحيح المثبت في أقدم نسخة منه، وفي جميع نسخ النّهج: «البيان والتبيُّن»، وما شاع في اسمه «البيان والتبيين» وهمٌ.

([14]( انظر مجلة «نشر دانش» العدد الأول لسنة 1381 هـ. ش.

([15]( انظر: مقدمة الشيخ قيس العطار على تحقيق أربع نسخ، ص12.

([16]( انظر: شرح نّهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج1، ص205.

([17]) الشطر الأوّل: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه»، والشطر الثاني: «اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه».

([18]) سلسلة الأحاديث الصحيحة، الألباني، ج4، ص 343- 344.

([19]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر، ج4، ص1857. الترجمة 3364.

([20]) سورة المائدة: 67.

([21]) الصواعق المحرقة، ابن حجر، ص150.

([22]) خلاصة عبقات الأنوار، ج9، ص153.

([23]) الاحتجاج، الطبرسي، ج1، ص83.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا