كيف نجح الإمام الحسينg في ثورته؟
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّد..
إنَّ الثَّورة الحسينية ما دامت ثورةً إلهيةً فهي ناجحة حتماً، فإنَّه لا فشل في المشاريع الإلهية، وهذا ينطلق من إيماننا بالإمام الحسينg كمعصومٍ يُمثِّل الدَّعوة النبوية المحمدية بشكلها الكامل والنَّاصع، ولذلك من لا يرى صحة أو نجاح النَّهضة الحسينية -من المسلمين فضلا عن غيرهم- فإنَّما هو ناتجٌ عن عدم الاعتقاد بإمامته وعصمته، ولكن مع ذلك يمكن لنا أن نبحث بشكلٍ موضوعيٍ -كما يعبِّرون- عن الثَّورة الحسينية وقياسها مع معايير النَّجاح والفشل حتى نرى هل أنَّها ناجحة أم فاشلة.
والمفكِّرون والمهتمون بالتَّاريخ وأصحاب السِّياسة كلُّهم معنيون بدراسة النَّهضة الحسينية من كلِّ جوانبها؛ لكونها حدثاً كبيراً غيَّر مجرى التَّاريخ، والمنصف لا يحكم على ثورةٍ بهذا الحجم ومن شخصية بمستوى الإمام الحسينg -حتى لو لم يكن معتقداً بإمامته- بتسرُّع ودون دراسة ومبرِّرات واضحة.
وهنا عدة أمور:
الأمر الأول: معنى النَّجاح والفشل
المعنى اللغوي الأَّول المتبادر من لفظة النَّجاح هو "الظفر بالحوائج"، كما ذكر الخليل والجوهري، أو "ورأي نجيح: صواب"، "ونجح أمره: سهل ويسر"[1]. فالنجاح هو:
1ـ الظَّفر بالحاجة المنظورة. 2ـ صوابية العمل أو الفكرة. 3ـ السُّهولة واليسر، وهو قد لا يراد منه سهولة نفس الوسيلة التي يحصل بها الظفر بالهدف، بل إمكان تحقُّق الهدف وتيسُّر ذلك.
والفشل: هو الضَّعف والجبن[2]، ويقول الزمخشري: "دعي إلى القتال ففشل؛ أي جبن وذهبت قوته، وما خلفه إلا الفشل والخور.. وعزم على كذا ثم فشل عنه؛ أي نكل عنه ولم يمضه"[3]. وإن كان في المعنى العرفي المستخدم لدينا أنه مقابل النجاح بمعنى عدم الظفر بالأمر، فلو أنشأ إنسان مشروعا تجارياً فإنَّ معنى نجاحِه هو تحقيق الرُّبح المنظور، وإذا تعثَّر ولم يحصل عليه يسمَّى فاشلاً، حتى لو كان جريئاً مقدماً على العمل والتَّجربة والتَّحدي. ومقصودنا من الفشل هو المعنى العرفي المقابل للنجاح مع تطعيمه بالمعنى اللغوي الذي يتضمن الضعف والجبن.
الأمر الثاني: معايير الحكم بالنجاح أو الفشل
هناك معايير يمكن من خلالها الحكم على الأشياء بأنَّها ناجحة أو فاشلة، فإننا نرى بعض الأحيان إطلاق هذا اللفظ دون ضوابط ومعايير وقد يأتي ضمن الحرب النفسية بين الأطراف المتنازعة، فمنها:
1. قياس النجاح أو الفشل بالهدف والغاية:
ومعنى ذلك أنَّه حينما تكونُ هناك معركة وحرب بين طرفين، فإنَّ الغَّايات والأهداف تختلف بينهما، فطرفٌ مثلاً يريد السَّيطرة والاحتلال، وطرف يريد الدِّفاع ومنع العدو من السَّيطرة.. فهنا.. لو كانت الخسائر المادية مثلاً عند الطَّرف الثَّاني أكثر فلا يعني أنه فشل في الحرب ما دام أنَّ هدفه وهو منعُ العدو من السَّيطرة قد تحقَّق، والطَّرف الغازي يعتبر فاشلاً.. وهناك أمثلة كثيرة مشابهة.
2. المقايسة بين صعوبة المشروع وسهولته:
فالإصلاح مثلاً أصعب من الإصلاح.. المفسد يمكنه استخدام كلَّ الأساليب والطُّرق الشَّيطانية.. والمصلح مقيَّد بالطُّرق السَّماوية الطَّاهرة، فلا يسمح لنفسه استخدام الدَّجل والكذب والخداع والظُّلم والجور..
3. إمكانيات الطرفين.. العدَّة والعدد:
فلو تواجه عشرة مع ألف نفر، وقتلت جبهة العشرة من جبهة الألف واحدا فهذا يعد نجاحاً حتى لو فنيت العشرة، وهذا من الجانب المادي.. الجرأة والشجاعة وما تحمله من درس يعد من مقومات النجاح أيضاً..
4. طبيعة الغاية والهدف
قد ينجح الإنسان في الوصول إلى غايته التي وضعها ولكن بما أنَّها غاية باطلة وتؤدي إلى الخسران، فيقال عنه أنَّه غير ناجح ولا فائز، بل هو فاشل وفي خسران.. وهذا ما ينطبق على كل المشاريع الدنيوية الهابطة..
* وليس من معايير النَّجاح التفوق المادي البحت الذي هو إلى زوال، فسحق الطرف الثاني بواسطة الأساليب الرخيصة ليس نجاحا..
الأمر الثَّالث: أهداف المشروع اليزيدي
من الممكن إجمال الأهداف الأموية في أمرين:
1ـ هناك محاولات عدَّة لتمهيد خلافة يزيد دون ضجيج بدأت بعد شهادة الإمام المجتبىg، وكان التحدِّي أن تنصيب يزيد يخالف بنود الصِّلح الذي يقضي بأن يؤول الأمر بعد معاوية إلى الإمام الحسينg إن لم يكن الإمام الحسنg موجوداً، وكذلك الأمَّة لن يكون من اليسير قبولها شخصاً متهتكاً كيزيد بن معاوية..
وقد حاول معاوية أنْ يخلق جواً من القبول العام لتسلم يزيد للسلطة دون ضجة أو اعتراض، وقد سافر بنفسه لهذه المهمة إلى المدن الإسلامية آنذاك لتحقيق هذه المهمة.
2ـ أراد يزيد من خلال تجاوزه العلني عن تعاليم الإسلام -مع كونه المتزعم للدولة الإسلامية- أن يفرضَ تدريجياً حالةً من قبول الفسق والفجور وتجاوز الأحكام الشرعية، ليتحوَّل بعدَ ذلك شيئاً فشيئاً إلى القضاء على الإسلام بشكلٍ كاملٍ، ليعود الشرك والكفر بصورته العلنية الواضحة.
الأمر الرابع: أهداف وغايات النَّهضة الحسينية
1ـ الهدف العام للإمامg هو الإصلاح في أمَّة النَّبيe، والقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعطلة، وهذا يعني أنَّ الأمة أصابها الفساد، فلا إصلاح إلا لأمر فاسد. «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي..».
2ـ إيقاف المشروع اليزيدي عن فرض الواقع، وعن التدرج في القضاء على الإسلام..
3ـ توعية الأمة بخطورة المشروع اليزيدي، ونزع الخوف من قلوب الناس.
4ـ ضمان استمرار الإسلام وفرضه كواقع نظري وعملي ولو على المستوى الأدنى له..
5ـ إبقاء عقيدة الإمامة الإلهية في الأمة، وعدم مسخها بالكامل..
الأمر الرابع: أي المشروعين نجح وأيهما فشل؟
وصلنا هنا إلى النتيجة في أصل الموضوع، وهي نجاح المشروعين أو فشلهما. ونذكر بأنَّ المشاريع الإلهية لا فشل فيها؛ لعصمتها من الخطأ ومن الاشتباه في الأهداف وفي الوسائل، ولهذا كان بإمكاننا أن نحكم منذ البداية بأنَّ مشروع الإمام الحسينg الذي هو مشروع الإسلام هو الناجح، وأنَّ المشروع اليزيدي الأموي هو الفاشل.. خصوصاً بلحاظ الأهداف..
ولو صحَّ أن يقال بأنَّ مشروع يزيد قد نجح فإنما هو بلحاظ تحقيقه بعض أهدافه، فهو نجاح نسبي وبالمعنى اللغوي للنجاح، وأما بلحاظ نفس الهدف والغاية فهو فاشل خاسر، فلا نجاح لمن يظفر بهدف دنيوي قصير مقابل خسارة الآخرة، كما لا خسارة لمن يفوته بعض ما في الدنيا مقابل الظفر بالآخرة وسيادته عليها غداً. ولكن، نرجع لنرى أي الأهداف التي تحققت من كلا الطرفين:
أما الأهداف اليزيدية الأموية:
من الأهداف المقدمية زرع الخوف والرعب في قلوب المسلمين للقبول بيزيد كخليفة، ولكنه لم يفلح فقد ثار عليه أهل المدينة وخلعوا بيعته فاضطر إلى محاربتهم وأظهر وجهه القبيح أكثر حينما استباح المدينة وأهلها، وقام عليه ابن الزبير في مكة فأرسل جيشه وضرب الكعبة بالمنجنيق.
وأما الهدف الأساس هو القضاء على الإسلام شكلاً ومضموناً فإنَّه لم يتحقَّق أيضاً، فإنَّ الانحراف كان موجوداً قبل يزيد وربما زاد بعده، ولكن الإسلام في حدودِه الدُّنيا بقي ببركة الثَّورة الحسينية. ثمَّ هلك يزيد قريباً، وبقي الخزي والعار يلاحقه هو وبني أمية، ونرى في زماننا حتى الذين ينتمون إلى يزيد لا يستطيعون الجهر بمدحه والانتساب إليه، بل عامة المسلمين يتبرأون منه إلا ما يحكم به أهل السياسة والمصالح الضيقة الذين لا زالوا يحاولون -دون جدوى- إخفاء جرائم يزيد وبني أمية.
وأمَّا الأهداف الحسينية المباركة فإنها بقيت إلى اليوم، وهي الحفاظ على الإسلام، وخلق جبهة مقاومة ومجابهة لأهل الباطل طول التاريخ تقف قبال أي يزيدي مفسد في الأرض، وبقاء نور الإمامة.. نعم، لم تتحقق تلك الأهداف العظيمة إلا على مآسٍ وآهات، وتضحيات الجسام، وكانت رخيصة عند الإمامg في مقابل الهدف العظيم الذي نهض من أجل تحقيقه، ولكنه ترك قلوباً حرى، وأفئدة مكلومة، وعيونا دامعة، وكما روي عن جده المصطفىe: «إنَّ لقتل الحسين في قلوب المؤمنين حرارة لا تبرد أبدا»[4].
يقول الشيخ الآصفيO: "لقد كان لخروج الإمام الحسينg ومحاربته ليزيد ورفضه البيعة، واستشهاده بتلك الصورة المفجعة، الدور الأساسي الفعال في إيقاظ مشاعر المسلمين إلى مساحة الجريمة التي حدثت على يد حكام بني أمية.
وهكذا انكشف للأمَّة الإسلامية أنَّ الخلافة موقعاً سلطوياً يمتلكه الأقوى من النَّاس والأعتى، وبذلك لم يكن للانحرافات التي يرتكبها جهاز السلطة تأثير تحريفي على الإسلام، وهذا من أهم إنجازات ثورة الحسينg. فقد بقيت مراكزهم عامرة إلا أنها مجردة عن الشرعية، وحفظ الإسلام بعد عاشوراء من التحريف ببركة نهضة الحسين بنسبة كبيرة، فصار المسلمون يرجعون في أمور دينهم إلى فئة أخرى غير الحكام، فلم يعد المسلمون يأخذون دينهم من طبقة الحكام.
الثورة إذن شطرت الأمة على شطرين، خط العلماء والفقهاء، وخط العلماء، والناس أصبحوا يضعون ثقتهم بالعلماء والفقهاء ويرجعون إليهم، وبقدر ما يدخل الفقهاء في قصور الحكام يصبحون بعيدين عن الأمَّة"[5].
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على خيره خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.
رئيس التَّحرير
[1] كتاب العين، الخليل الفراهيدي، ج3، ص82-83، الصحاح، الجوهري، ج1، ص409.
[2] انظر: مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص637.
[3] أساس البلاغة، الزمخشري، ص715.
[4] مستدرك الوسائل، ج10، ص318.
[5] في ظلال الطف، الشيخ محمد مهدي الآصفي، ص73.
0 التعليق
ارسال التعليق