كربلاء من خير بقاع الأرض

كربلاء من خير بقاع الأرض

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وآل محمد.

لا شك أنّ تفضيل أرض على أرض أو زمان على زمان آخر لا يمكن إلا من خلال إخبار المعصوم (عليه السلام) عن ذلك، وكذلك لا يمكن معرفة سبب التفضيل إلا من خلال ذلك الطريق.

والفـائـدة المرجـوة من معـرفة ذلك هي في شدة التعلق بتلك الأرض أو ذلك الزمان الذي بدوره يشد المؤمن نحو مسبب التفضيل وهو الله تعالى، ولو لم تكن معرفة أفضل الأراضين أو الأزمنة ذات فائدة لما تكلمت عنها الروايات، بل لم يكن موجب للتفضيل من الأساس.

ونريد هنا أن نبحث في الروايات التي تذكر أفضل الأراضين ومن بينها أرض كربلاء، وسبب تفضيلها إن أمكن، وبعض أحكام كربلاء، فهنا ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: أيُّ البقاع أفضل عند الله تعالى؟

من الأمور المشهورة في أذهان المسلمين هي أنَّ مكة المكرمة أو خصوص المسجد الحرام هما من أفضل بقاع الأرض، ولعلَّ الكثير أو الغالب يعتقد بأنَّ ذلك من المسلَّمات عند جميع المسلمين، ولكن عندما نبحث في الأقوال والروايات سنجد أنَّ الأمر ليس إجماعياً بل هناك أقوال متعددة، نعم ذلك هو المشهور. وإليك الأقوال في المسألة:

القول الأول:- مكة المكرمة:

وهو مشهور العلماء من العامة والخاصة، وفيه روايات.

روايات أهل البيت (عليهم السلام):

عن ميسر، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام)، وفي الفسطاط نحو من خمسين رجلا فجلس بعد سكوت منا طويل فقال: «ما لكم ترون أني نبي الله؟ لا والله ما أنا كذلك، ولكن لي قرابة من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وولادة، فمن وصلها وصله الله، ومن أحبها أحبه الله، ومن حرمها حرمه الله، أتدرون أيُّ البقاع أفضل عند الله منزلة، فلم يتكلم منا أحد وكان هو الراد على نفسه فقال: ذاك مكة الحرام التي رضيها الله لنفسه حرما وجعل بيته فيها، ثم قال: أتدرون أي بقعة في مكة أفضل عند الله حرمة؟ فلم يتكلم منا أحد، فكان هو الراد على نفسه فقال: ذاك المسجد الحرام، ثم قال: أتدرون أي البقعة في المسجد الحرام أعظم حرمة عند الله؟ فلم يتكلم منا أحد، فكان هو الراد على نفسه، فقال: ذاك بين الركن والحجر الأسود وذلك باب الكعبة، وذلك حطيم إسماعيل، الذي كان يزود فيه غنيماته ويصلي فيه، والله لو أن عبدا صف قدميه في ذلك المكان قائم الليل مصليا حتى يجيئه النهار، وصائم النهار حتى يجيئه الليل، ثم لم يعرف لنا حقنا وحرمتنا أهل البيت لم يقبل الله منه شيئا أبدا»(1). وظاهر الرواية أن مكة كلَّها هي الأفضل لا خصوص المسجد الحرام.

وكذلك ما ورد عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «أحبُّ الأرضِ إلى الله تعالى مكة، وما تربة أحبّ إلى الله  من تربتها، ولا حجر أحبُّ إلى الله  من حجرها، ولا شجر أحب إلى الله  من شجرها، ولا جبال أحب إلى الله  من جبالها، ولا ماء أحب إلى الله  من مائها».

وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام) أنَّه قال: «إن الله  اختار من كلِّ شيء شيئا [و] اختار من الأرض موضع الكعبة»(2). ولكن هذه الرواية الثانية تتحدث عن خصوص الكعبة، وكذلك ما ورد عن أبي حمزة الثمالي، قال: قال لنا علي بن الحسين (عليه السلام): أي البقاع أفضل؟ فقلت: الله ورسوله وابن رسوله أعلم، فقال: «أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أنَّ رجلا عُمِّر ما عمر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان، ثم لقي الله  بغير ولايتنا، لم ينفعه ذلك شيئا»(3).

تفضيل مكة المكرمة في أقوال علمائنا:

الشيخ الطوسي (رحمه الله): "مكة أفضل من المدينة. وبه قال الشافعي، وأهل مكة، وأهل العلم أجمع إلا مالكا فإنه قال: المدينة أفضل من مكة. وبه قال أهل المدينة"(4).

السيد علي خان المدني في شرح الصحيفة: "المستفاد من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام): أنَّ مكة أفضل من سائر الأرض وأنَّ الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله)"(5).

السيد السيستاني (حفظه الله): "1402. السؤال: توجد بعض الروايات مفادها أنَّ مكة أحبُّ البقاع إلى الله، ما هو تعليقكم؟ وهل أنَّ كربلاء أفضل؟ الجواب: لا شكَّ أنَّ مكة أفضل البقاع"(6).

أقوال العامة في تفضيل مكة المكرمة:

قال ابن حزم: "ومكة أفضل بلاد الله تعالى نعني الحرم وحده وما وقع عليه اسم عرفات فقط، وبعدها مدينة النبي (عليه السلام) نعني حرمها وحده، ثم بيت المقدس نعني المسجد وحده، هذا قول جمهور العلماء، وقال مالك: المدينة أفضل من مكة، واحتج مقلدوه بأخبار ثابتة"(7).

محيي الدين النووي: "مكة أفضل من المدينة، وهو مذهبنا، لا خلاف فيه عندنا، وبه قال جمهور العلماء، وقال مالك وطائفة المدينة أفضل"(8).

المقريزي: "وقال ابن عبد البر: وذكر أبو يحيى الساجي قال: اختلف العلماء في تفضيل مكة على المدينة فقال الشافعي: مكة خير البقاع كلها وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين. وقال مالك والمدنيون: المدينة أفضل من مكة، واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك فطائفة تقول مكة أفضل وطائفة تقول: المدينة أفضل، وقال عامة أهل الأثر: أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد رسول الله  -صلّى الله عيله وسلم- بمائة صلاة. وقال القاضي عياض: إن تفضيل المدينة على مكة هو قول عمر بن الخطاب ومالك وأكثر المدنيين وذهب أهل مكة والكوفة إلى تفضيل مكة"(9).

القول الثاني:- المدينة المنورة:

وهو المنقول عن عمر ومالك وأصحابه والمدنيين كما تقدم عن أكثر من واحد، قال المناوي -تعليقاً على الحديث المنقول عن النبي (صلَّى الله عليه وآله): «المدينة خير من مكة»-: "لأنها حرم الرسول -صلّى الله عيله وسلم- ومهبط الوحي ومنـزل البركات وبها عزت كلمة الإسلام وعلت وتقررت الشرائع وأحكمت وغالب الفرائض فيها نزلت وبه تمسك من فضلها على مكة وهو مذهب عمر ومالك وأكثر المدنيين"(10).

نعم قال ابن عبد البر: "وقد روى مالك ما يدلُّ على أنَّ مكة أفضل الأرض كلها ولكن المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة حدثنا عبد الرحمان بن يحيى حدثنا محمد حدثنا أحمد بن داود حدثنا سحنون حدثنا عبد الله بن وهب قال حدثني مالك بن أنس: أن آدم لما أهبط إلى الأرض بالهند أو السند قال: «يا رب هذه أحب الأرض إليك أن تعبد فيها؟» قال: «بل مكة». فسار آدم حتى أتى مكة، فوجد عندها ملائكة يطوفون بالبيت، ويعبدون الله، فقالوا: «مرحبا مرحبا بأبي البشر، إنا ننتظرك ها هنا منذ ألفي سنة»"(11).

والغريب ما قاله الحطّاب الرعيني في أن المشهور هو أن المدينة أفضل من مكة، قال: "وقيل: مكة أفضل من المدينة،..... وقال في المسائل الملقوطة: ولا خلاف أن مسجد المدينة ومكة أفضل من مسجد بيت المقدس، واختلفوا في مسجدي مكة والمدينة والمشهور من المذهب أن المدينة أفضل وهو قول أكثر أهل المدينة. وقال ابن وهب وابن حبيب: مكة أفضل"(12).

ولم أجد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أو أقوال علمائنا القول بتفضيل المدينة المنورة على مكة المكرمة.

ولا أعلم هل للسياسة دخل في هذه المسألة أم لا، فقد نقل ابن حزم أن أحد أدلة القائلين بتفضيل المدينة على مكة هو رأي عمر في ذلك، قال ابن حزم: "واحتجوا عمن دون رسول الله (عليه السلام) بالخبر الصحيح، أن عمر قال لعبد الله ابن عياش بن أبي ربيعة: أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ فقال له عبد الله: هي حرم الله وأمنه، وفيها بيته، فقال له عمر: لا أقول في حرم الله وأمنه شيئا، أنت القائل: لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه وفيها بيته، فقال له عمر: لا أقول في حرم الله وأمنه شيئا، ثم انصرف"(13).

ملاحظة:

ظاهر القول الأول هو أفضلية مكة بأكملها على المدينة بأكملها وعلى غيرها، ولكن يمكن أن نستفيد غير ذلك فالأفضلية للمسجد الحرام على كل الأراضي، وأما غير المسجد فهو من حيث كونه أرض مكة فهو أفضل من أرض المدينة، ولكن ليس كل جزء من مكة أفضل من كل جزء من المدينة، مثلا هل جبل أبي قبيس أو شعب أبي طالب أفضل من المسجد النبوي الشريف؟ هذا غير واضح من الروايات وأقوال العلماء، نعم قد يستفاد ذلك من قول الصادق (عليه السلام) المتقدم: «أحبُّ الأرضِ إلى الله تعالى مكة، وما تربة أحبّ إلى الله من تربتها، ولا حجر أحبُّ إلى الله من حجرها، ولا شجر أحب إلى الله من شجرها، ولا جبال أحب إلى الله من جبالها، ولا ماء أحب إلى الله من مائها».

ولكن حتى هذه الرواية يمكن أن يقال بأن المقصود منها أن الجبل في مكة أفضل من أي جبل في غير مكة، والشجر فيها أفضل من أي شجر في غير مكة، وهكذا في حجرها وترابها، ولكن المسجد النبوي الشريف فهو أفضل من جبل مكة وشجرها وترابها. والله العالم.

القول الثالث:- موضع قبر النبي (صلَّى الله عليه وآله):

قال الشهيد الأول (رحمه الله): "مكة أفضل بقاع الأرض ما عدا موضع قبر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وروي في كربلاء على ساكنها السلام مرجحات، والأقرب أن مواضع قبور الأئمة (عليهم السلام) كذلك، أما البلدان التي هم بها فمكة أفضل منها حتى من المدينة. وروى صامت عن الصادق (عليه السلام) أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة"(14).

وأما عند العامة فقد نقل أكثر من واحد عن القاضي عياض الإجماع على أفضلية موضع قبر النبي (صلَّى الله عليه وآله) على كلِّ البقاع، قال الشوكاني: "قال القاضي عياض: إن موضع قبره صلى الله عليه وآله وسلم أفضل بقاع الأرض، وإن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض، واختلفوا في أفضلها ما عدا موضع قبره صلى الله عليه وآله وسلم،.... وقد ادعى القاضي عياض الاتفاق على استثناء البقعة التي قبر فيها صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أنها أفضل البقاع"(15). ثم ناقش الشوكاني بعض الأدلة التي ذكرت لتفضيل موضع قبر النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وذلك لأنه لا يوجد دليل صريح من الروايات.

وقال الحصني الدمشقي: "ومحل الخلاف في غير الموضع الذي ضمَّ سيد الأولين والآخرين -صلّى الله عيله وسلم-، وأما هو فالإجماع منعقد على أنه أفضل من مكة وسائر البقاع. وممن حكى الإجماع القاضي عياض في (الشفاء)"(16).

وقال المناوي: "والخلاف فيما عدا الكعبة فهي أفضل من المدينة اتفاقا خلا البقعة التي ضمّت أعضاء الرسول -صلّى الله عيله وسلم- فهي أفضل حتى من الكعبة كما حكى عياض الإجماع عليه"(17).

وقال ابن كثير -تعليقا على الحديث المروي عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) أنه قال: «اللهم إنَّك أخرجتني من أحبِّ البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك»، فأسكنه الله المدينة-: "وهذا حديث غريب جدا والمشهور عن الجمهور أن مكة أفضل من المدينة إلا المكان الذي ضم جسد رسول الله -صلّى الله عيله وسلم-"(18).

بل نقل الحطاب الرعيني عن بعضهم ما هو أعظم: "قال الشيخ السمهودي في تاريخ المدينة: نقل عياض وقبله أبو الوليد والباجي وغيرهما الاجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة على الكعبة. بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أنها أفضل من العرش، وصرح التاج الفاكهي بتفضيلها على السماوات قال: بل الظاهر المتعين جميع الأرض على السماوات لحلوله(ص) بها. وحكاه بعضهم عن الأكثر بخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، لكن قال النووي: الجمهور على تفضيل السماء على الأرض أي ما عدا ما ضمَّ الأعضاء الشريفة"(19). وهذا يعني أن قبر الرسول (صلَّى الله عليه وآله) هو أعظم وأفضل من السماوات والأرضين.

القول الرابع:- أرض كربلاء:

وقد وردت عدة روايات صريحة في تفضيل أرض كربلاء على كلِّ البقاع رواها ابن قولويه في كامل الزيارات:

1- عن عمر بن يزيد بياع السابري، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بُني بيتُ الله على ظهري، ويأتيني النّاس من كلِّ فج عميق، وجعلت حرم الله وأمنه، فأوحى الله إليها أن كفي وقري فوعزتي وجلالي ما فضْلُ ما فُضّلْتِ به فيما أعطيتُ به أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غمست في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا ما تضمنته أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي افتخرت به، فقري واستقري وكوني ذنبا متواضعا ذليلا مهينا، غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم»(20).

2- عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «خلق الله تبارك وتعالى أرض كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدسة مباركة ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض في الجنة وأفضل منزل ومسكن يسكن الله فيه أوليائه في الجنة»(21).

3- عن أبي الجارود، قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): «اتخذ الله أرض كربلاء حرما آمنا مباركا قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرما بأربعة وعشرين ألف عام، وأنه إذا زلزل الله تبارك وتعالى الأرض وسيرها رفعت كما هي بتربتها نورانية صافية، فجعلت في أفضل روضة من رياض الجنة وأفضل مسكن في الجنة لا يسكنها الا النبيون والمرسلون - أو قال: أولو العزم من الرسل - وإنها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب الدري بين الكواكب لأهل الأرض، يغشي نورها أبصار أهل الجنة جميعا، وهي تنادي: أنا أرض الله المقدسة الطيبة المباركة التي تضمنت سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة»(22).

4- عن صفوان الجمال، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ الله تبارك وتعالى فضل الأرضين والمياه بعضها على بعض، فمنها ما تفاخرت ومنها ما بغت، فما من ماء ولا أرض الا عوقبت لتركها التواضع لله، حتى سلط الله المشركين على الكعبة وأرسل إلى زمزم ماء مالحا حتى أفسد طعمه، وإن أرض كربلا وماء الفرات أول أرض وأول ماء قدس الله تبارك وتعالى وبارك الله عليهما، فقال لها: تكلمي بما فضلك الله تعالى فقد تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض، قالت: أنا أرض الله المقدسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي، ولا فخر بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي ذلك، ولا فخر على من دوني بل شكرا لله، فأكرمها وزادها بتواضعها وشكرها لله بالحسين (عليه السلام) وأصحابه». ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): «من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله تعالى»(23).

5- عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «الغاضرية هي البقعة التي كلَّم الله فيها موسى بن عمران (عليه السلام)، وناجي نوحا فيها، وهي أكرم أرض الله عليه، ولولا ذلك ما استودع الله فيها أولياءه وأبناء نبيه، فزوروا قبورنا بالغاضرية»(24).

وظاهر هذه الرويات أن أرض كربلاء بأكملها هي خير بقاع الأرض، لا خصوص موضع القبر المقدس، ولكن تقدم عن الشهيد الأول قوله: "وروي في كربلاء على ساكنها السلام مرجحات، والأقرب أن مواضع قبور الأئمة (عليهم السلام) كذلك، أما البلدان التي هم بها فمكة أفضل منها حتى من المدينة".

ولسنا هنا في مقام الجمع بين هذه الروايات لأنها تحتاج لأدوات عدة نفتقدها، ولكننا أردنا بيان منزلة كربلاء من الروايات وكلمات العلماء، وسيأتي في المبحث الثالث مزيد بيان لفضل كربلاء.

المبحث الثاني: أسباب التفضيل

ذكرت عدة أمور في كلمات العلماء من الفريقين لتفضيل أرض على أخرى، خصوصا في الموارد التي اختلف فيها ولم يكن نص صريح من الروايات على ذلك، نذكر بعض تلك الأسباب، مع الاستفادة من الروايات المباركة:

1- أفضلية الصلاة فيه:

لاحظنا في كلمات كثير من العلماء الاستدلال على تفضيل مكة المكرمة على المدينة المنورة، بالأحاديث المروية عن أفضلية الصلاة في المسجد الحرام على المسجد النبوي الشريف، مثلا قال الشيخ الطوسي -في مقام الاستدلال على أفضلية مكة على المدينة-: "دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم رووا أنَّ صلاة في المسجد الحرام بعشرة آلاف صلاة، وصلاة في مسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله) بألف صلاة، فدل ذلك على أن مكة أفضل. وروي عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) من مكة التفت إليها فقال: «أنت أحب البلاد إلى الله تعالى، وأنت أحب البلاد إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك لما خرجت». وروى جبير بن مطعم أن النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال: «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام». وروى جابر أن النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال: «صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائتي صلاة في مسجدي»، وما يكون بهذا الوصف يكون أفضل"(25).

وذُكِر هذا الدليل أيضا في كتب العامة، والملاحظة المهمة على هذا الدليل، هي أنه إنما يصلح للاستدلال على أفضلية المسجد الحرام على المسجد النبوي ولا يشمل كل مكة كما هو واضح، إلا أن يقال بأن وجود أفضل مسجد في بقعة معينة يدل على أنها أفضل البقاع.

2- أول ما خلق:

يمكن أن يقال بأنَّ اختيار الكعبة أو المسجد الحرام كأول بيت لله على وجه الأرض دليل على أفضليته، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}(26). ولكن الأولوية ليست دائما تكون دليلا على الأفضلية، فأول من خلق في عالم الدنيا وبعث نبياً هو أبونا آدم (عليه السلام)، ولكنه ليس الأفضل، بل الأفضل هو آخر الأنبياء (صلَّى الله عليه وآله).

3- حرمة البقعة:

كون مكة المكرمة حرم الله تعالى وأنه يحرم فيها ما يحل في غيرها دليل على أفضليتها، وكون المدينة المنورة حرم النبي (صلَّى الله عليه وآله) دليل على أفضليتها بعد مكة، وهذا الدليل أشير إليه في بعض الروايات، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «ما خلق الله تبارك وتعالى بقعة في الأرض أحب إليه منها -وأومأ بيده إلى الكعبة- ولا أكرم على الله  منها، لها حرَّم اللهُ الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض»(27).

وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يوم فتح مكة: "إن الله تبارك وتعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد من بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار»(28).

ولكن ينقض على ذلك بما جاء من أن حرم الأئمة (عليهم السلام) هو مدينة قم المقدسة، حيث "روي عن عدة من أهل الري أنهم دخلوا على أبي عبد الله (عليه السلام) وقالوا: نحن من أهل الري. فقال: «مرحبا بإخواننا من أهل قم!» فقالوا: نحن من أهل الري فأعاد الكلام، قالوا ذلك مرارا وأجابهم بمثل ما أجاب به أولا، فقال: «إن لله حرما وهو مكة، وإن للرسول حرما وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرما وهو الكوفة، وإن لنا حرما وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة فمن زارها وجبت له الجنة». قال الراوي: وكان هذا الكلام منه قبل أن يولد الكاظم (عليه السلام)"(29).

فإنه لم أجد رواية تفضل قم المقدسة على كربلاء، ومقتضى هذه الرواية -بناء على أن الحرم دليل على الأفضلية- أفضليتها على كربلاء. نعم ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله اختار من جميع البلاد كوفة وقم وتفليس(30)»(31). ولكن كما نرى لا يمكن الأخذ بها لأنها خلاف الروايات الكثيرة في تفضيل مكة والمدينة.

نعم وردت بعض الروايات صريحها أو ظاهرها تفضيل أرض الكوفة على أرض كربلاء؛ عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: قلت له: أي البقاع أفضل بعد حرم الله وحرم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)؟ فقال: «الكوفة يا أبا بكر، هي الزكية الطاهرة، فيها قبور النبيين المرسلين وغير المرسلين، والأوصياء الصادقين، وفيها مسجد سهيل الذي لم يبعث الله نبيا إلا وقد صلى فيه، وفيها يظهر عدل الله، وفيها يكون قائمه والقوام من بعده، وهي منازل النبيين والأوصياء والصالحين»(32).

وعن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «إن الله اختار من البلدان أربعة، فقال: {والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين}، التين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكة»(33).

وعن أنس بن مالك قال: كنت ذات يوم جالسا عند النبي (صلَّى الله عليه وآله) إذ دخل علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: «يا أبا الحسن إلي» ثم اعتنقه وقبل ما بين عينيه، وقال: «يا علي إن الله عز اسمه عرض ولايتك على السماوات فسبقت إليها السماء الدنيا فزينها بالكواكب، ثمّ عرضها على الأرضين فسبقت إليها مكة فزينها بالكعبة، ثم سبقت إليها المدينة فزينها بي، ثمَّ سبقت إليها الكوفة فزينها بك»(34). وغيرها من الروايات وهي كثيرة في فضل الكوفة.

ويمكن أن يقال بأن التفضيل من جهة كون البقعة حرما لله أو لرسوله ليس تفضيلا مطلقاً بل هي أفضل من جهة دون جهة، والله العالم.

4- فرض الحج إلى مكة:

قد يقال: إن الله تعالى بإيجابه الحج إلى مكة المكرمة وما فيها من المشاعر دليل على أفضلية تلك البقعة على غيرها من البقاع.

ويمكن أن يرد ذلك صريحا بما رواه عبد الله ابن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لرجل من مواليه: يا فلان أتزور قبر أبي عبد الله الحسين بن علي (عليهما السلام)، قال: نعم إني أزوره بين ثلاث سنين مرة، فقال له -وهو مصفر الوجه-: أما والله الذي لا اله إلا هو لو زرته لكان أفضل لك مما أنت فيه، فقال له: جعلت فداك أكل هذا الفضل، فقال: نعم والله لو أني حدثتكم بفضل زيارته وبفضل قبره لتركتم الحج رأسا وما حج منكم أحد، ويحك أما تعلم أن الله اتخذ كربلاء حرما آمنا مباركا قبل أن يتخذ مكة حرما. قال ابن أبي يعفور: فقلت له: قد فرض الله على الناس حج البيت ولم يذكر زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، فقال: وإن كان كذلك فإن هذا شيء جعله الله هكذا، أما سمعت قول أبي أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: إن باطن القدم أحق بالمسح من ظاهر القدم، ولكن الله فرض هذا على العباد، أو ما علمت أن الموقف لو كان في الحرم كان أفضل لأجل الحرم، ولكن الله صنع ذلك في غير الحرم(35).

فهذه الرواية تبين أنه ليس بالضرورة أن يكون وجوب الحج لمكة دليلا على أفضليتها، فالعلة الحقيقية لذلك عند الله تعالى، وربما تكون حادثة متأخرة سببا في تفضيل أرض على أرض، ولكن إعلان فضل تلك البقعة إنما يكون بعد وقوع تلك الحادثة، ولهذا لم تكن أرض المدينة المنورة معروفة عند الأقوام السابقين بفضلها، وإنما كان المعروف أرض فلسطين ومكة المكرمة، ولما حلَّ فيها النبي (صلَّى الله عليه وآله) بانَ فضلُها، وقد يكون نزولُ النبي (صلَّى الله عليه وآله) فيها هو سبب فضلها، وهذا يعني أن الأراضي ليست لها قدسية ذاتية، وإنما فضلها بما يقدّر الله فيها من أحداث. ويشير إلى ذلك ما يأتي في السببين الخامس والسادس.

بالإضافة إلى أن هناك روايات كثيرة تحث على زيارة الحسين (عليه السلام) بكربلاء، وبعضها تفضل زيارته على الحج، وأيضاً قد ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب زيارة الحسين (عليه السلام) اعتمادا على بعض الروايات الآتية.

5- الوجود المبارك للنبي (صلَّى الله عليه وآله) في مكة والمدينة:

أشار البعض إلى أن ولادة النبي (صلَّى الله عليه وآله) وهجرته سببا في فضل تلك البقعة التي ولد فيها، ودعا فيها إلى الله، وكذلك الأرض التي هاجر إليها، وهو أفضل الأنبياء، فينبغي أن يكون مكان ولادته أفضل.

يقول السيد علي خان المدني، -في شرحه لدعاء الإمام السجاد (عليه السلام) واصفا الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله): «وهاجر إلى بلاد الغربة ومحل النأي عن موطن رحله وموضع رجله ومسقط رأسه ومأنس نفسه»-: "قيل: في هذه الفقرات إشارة إلى أن مكة -شرفها الله- أفضل من سائر البقاع؛ لأنَّه (صلَّى الله عليه وآله) أفضل الأنبياء، فينبغي أن يكون موطنه ومنشأه ومولده ومأنسه أفضل الأماكن"(36).

وذكر المناوي تعليلا للحديث المروي «المدينة خير من مكة» فقال: "لأنها حرم الرسول -صلّى الله عيله وسلم-، ومهبط الوحي، ومنـزل البركات، وبها عزت كلمة الإسلام وعلت، وتقررت الشرائع وأحكمت، وغالب الفرائض فيها نزلت"(37). ولكنه لم يقبل هذا التعليل. وكذلك المباركفوري فإنه قال: "وأما خبر الطبراني «المدينة خير من مكة» فضعيف، بل منكر واه كما قاله الذهبي وعلى تقدير صحته يكون محمولا على زمانه لكثرة الفوائد في حضرته وملازمة خدمته، لأن شرف المدينة ليس بذاته بل بوجوده عليه الصلاة والسلام فيه ونزوله مع بركاته"(38).

4- ضم الأجساد الطاهرة:

قد مرَّ القول بادعاء الإجماع عند العامة على كون البقعة التي تضمُّ الجسد المبارك للرسول (صلَّى الله عليه وآله) هي أفضل بقاع الأرض، بل فضَّلها بعضُهم على السماوات، والظاهر أنه لا يوجد دليل خاص على ذلك، وذكرت عدة وجوه لذلك منها أن الإنسان يخلق من نفس البقعة التي خلق منها، فيكون النبي (صلَّى الله عليه وآله) مخلوق من تلك البقعة فهي إذن الأفضل.

ومهما كان الوجه في تفضيل تلك البقعة إلا أنَّه اعتراف من العامة بأن أي جسد طاهر معصوم يدفن في مكان فإنه يكون سببا لشرف تلك البقعة، حتى لو لم يرد دليل خاص.

ومن هنا يمكن -بعد إثبات أفضلية الأئمة المعصومين (عليهم السلام)- أن ندّعي بأنَّ مكان دفنهم هو من البقاع الطاهرة والمقدسة، بل من أفضل البقاع.

ولعلَّ ما تقدم عن الشهيد الأول (رحمه الله) مبني على ذلك، فقد قال: "وروي في كربلاء على ساكنها السلام مرجحات، والأقرب أن مواضع قبور الأئمة (عليهم السلام) كذلك".

وهناك مجموعة من الروايات تشير إلى هذا المعنى وردت في أرض كربلاء، وزيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، لا لأنَّه أشرف جسدٍ إذ النبي (صلَّى الله عليه وآله) أشرف منه، وكذلك أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولكن لكون هذا الجسد المبارك يختلف عن بقية الأجساد لأنه من بين تلك الأجساد  قد صبغ بدمائه الزكية التي كانت سبباً لبقاء دين جده (صلَّى الله عليه وآله).

عن الفضل بن يحيى، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «زوروا كربلاء ولا تقطعوه، فإن خير أولاد الأنبياء ضمنته، ألا وإن الملائكة زارت كربلاء ألف عام من قبل أن يسكنه جدي الحسين (عليه السلام)، وما من ليلة تمضي الا وجبرائيل وميكائيل يزورانه، فاجتهد يا يحيى أن لا تفقد من ذلك الموطن»(39).

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «خرج أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يسير بالناس حتى إذا كان من كربلاء على مسيرة ميل أو ميلين تقدم بين أيديهم حتى صار بمصارع الشهداء، ثم قال: قبض فيها مائتا نبي ومائتا وصي ومائتا سبط كلهم شهداء باتباعهم، فطاف بها على بغلته خارجا رجله من الركاب، فأنشأ يقول: مناخ ركاب ومصارع شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من أتى بعدهم»(40).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مرَّ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) بكربلاء في أناس من أصحابه، فلمَّا مرَّ بها اغرورقت عيناه بالبكاء، ثم قال: هذا مناخ ركابهم وهذا ملقى رحالهم، وهنا تهرق دماؤهم، طوبى لك من تربة عليك تهرق دما الأحبة»(41).

وربما وردت روايات أخرى تتكلم عن غيره من الأئمة (عليهم السلام) كأمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي تقدست أرض النجف بدفنه في أرضها.

المبحث الثالث: أحكام كربلاء

لمزيد بيان في فضل كربلاء نذكر بعض الأحكام التي تتشارك فيها أرض كربلاء مع الأراضي المقدسة كمكة المكرة والمدينة المنورة،أو تتميز بها عن غيرها، مما يدل على كون كربلاء لها شأن عظيم عند الله تعالى.

1- أحكام التخيير:

من الأحكام المهمة المشتركة هي التخيير في الصلاة بين القصر والتمام في أربع أماكن مقدسة وهي: المسجد الحرام، ومسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله)، ومسجد الكوفة، والحائر الحسيني. وهناك من عمم في بعضها لكل المدينة لا خصوص المساجد. ونلاحظ هنا أن الحائر الحسيني من بين هذه الأماكن الأربعة ليس مسجدا، ومع ذلك أعطي هذا الحكم.

2- زيارة الحسين (عليه السلام):

لا شك في استحباب الحج اسحبابا مؤكداً، وأن للمداوم على الحج ثواب جزيل جداً، عن عيسى بن أبي منصور قال: قال لي جعفر بن محمد (عليهما السلام): «يا عيسى إن استطعت أن تأكل الخبز والملح وتحج في كلّ سنة فافعل». وورد أن الإمام الحجة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) يحضر في كل عام، عن محمد بن عثمان العمري قال: "والله إن صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كل سنة فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه"(42).

وما ورد في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) إن لم يكن أكثر مما ورد في الحج، فهو لا يقل عنه، بل ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد ذكر الشيخ المفيد (رحمه الله) في كتابه المزار بابا بعنوان (باب وجوب زيارة الحسين صلوات الله عليه)، وذكر روايتن؛ عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين بن علي (عليهما السلام)، فإنّ إتيانه مفترض على كل مؤمن يقر للحسين (عليه السلام) بالإمامة من الله »، وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «لو أنَّ أحدكم حج دهره ثم لم يزر الحسين بن علي (عليه السلام) لكان تاركا حقا من حقوق [الله وحقوق] رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وسلم؛ لأنّ حق الحسين (عليه السلام) فريضة من الله  واجبة على كل مسلم»(43).

وأما صاحب الوسائل فذهب إلى الوجوب كفاية؛ فإنه عنون الباب هكذا: (باب وجوب زيارة الحسين والأئمة (عليهم السلام) على شيعتهم كفاية)، وذكر أبوابا كثيرة يجدر بالمؤمن قرائتها، منها باب استحباب اختيار زيارة الحسين (عليه السلام) على الحج والعمرة المندوبين، وذكر فيه ثلاثا وعشرين رواية، نذكر واحدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في حديث) أنَّه قال لأعرابي قدم من اليمن لزيارة الحسين (عليه السلام): «ما ترون في زيارته؟» قال: إنَّا نرى في زيارته البركة في أنفسنا وأهالينا وأولادنا وأموالنا ومعايشنا وقضاء حوائجنا قال: فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): «أفلا أزيدك من فضله فضلا يا أخا اليمن»؟ قال: زدني يا ابن رسول الله، قال: «إن زيارة أبي عبد الله (عليه السلام) تعدل حجة مقبولة متقبلة زاكية مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وسلم »، فتعجب من ذلك! فقال له: «أي والله وحجتين مبرورتين متقبلتين زاكيتين مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)» فتعجب! فلم يزل أبو عبد الله (عليه السلام) يزيد حتى قال: «ثلاثين حجة مبرورة متقبلة زاكية مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)»(44). وهذه الرواية وغيرها تدل على أفضلية زيارة الإمام (عليه السلام) على الحج والعمرة.

وهناك كلام مهم للسيد المروج  (قدِّس سرُّه) صاحب منتهى الدراية يرد فيه على من ينفي استحباب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) عند الضرر متمسكا بقاعدة نفي الضرر، فيقول المروج  (قدِّس سرُّه) بأن هذا القول: "في غاية الضعف؛ وذلك لعدم جريان قاعدتي الضرر والحرج في المقام سواء كانت الزيارة واجبة أم مستحبة مع ورود النص على رجحانها والترغيب فيها حال الخوف كما سيأتي بعض النصوص الدالة على ذلك. ومع ورود الدليل على استحبابها، بل وجوبها مع الخوف لا بد من تخصيص عموم قاعدتي الضرر والحرج.......

بل يستفاد من بعض النصوص وجوب زيارة سائر الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين أيضا، كرواية الوشاء قال: سمعت الرضا عليه الصلاة والسلام يقول: «إن لكل إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته، وأن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا لما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة ». بل يفهم من هذه الرواية ونظائرها أن التمسك بحبل ولايتهم والايمان بإمامتهم لا يتم إلا بزيارتهم صلوات الله عليهم، فلا يكون أحد إماميا إلا بالاعتقاد الجناني بإمامتهم والاقرار اللساني بها والحضور بالبدن العنصري عند قبورهم، فالزيارة هي الجزء الأخير لسبب اتصاف المسلم بكونه إماميا، وتركها كفقدان سابقيها يوجب الرفض المبعد عن رحمته الواسعة أعاذنا الله تعالى منه، فالإمامة التي هي من أصول الدين يتوقف التدين بها على زيارتهم (عليهم السلام)، فلها دخل في تحقق هذا الأصل الأصيل الذي هو أساس الدين، فإذن يخرج وجوب الزيارة الذي قال به جماعة كالفقيه المقدم أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه والمحدث الكبير صاحب الوسائل والعلامة المجلسي وغيرهم قدس الله تعالى أسرارهم عن الأحكام الفرعية التي تكون قاعدتا الضرر والحرج حاكمتين عليها، ويندرج في الأصول الاعتقادية التي لا مسرح لقاعدتي الضرر والحرج فيها"(45).

3- أكل طين تربة الحسين (عليه السلام) والاستشفاء بها:

يذكر الفقهاء حرمة أكل الطين، واستثنوا من ذلك الأكل من طين تربة الحسين (عليه السلام)، يقول الشيخ زين الدين  (قدِّس سرُّه) في كلمة التقوى: "يستثنى من الحكم بحرمة أكل الطين أكل يسير من طين تربة الحسين (عليه السلام) للاستشفاء به من الأمراض مع مراعاة الشرطين الآتي ذكرهما: الشرط الأول أن يكون المأخوذ من طين التربة بمقدار الحمصة المتوسطة الحجم أو أقل من ذلك...، الشرط الثاني: أن يكون أكل ذلك بقصد الاستشفاء به....، ويقول أيضاً في المسألة98: "تكثر في الأدلة من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام): إن في تربة الحسين (عليه السلام) شفاء من كل داء وأمنا من كل خوف، وإنها من الأدوية المفردة، وإنها لا تمر بداء إلا هضمته، وأمثال ذلك من المضامين"(46).

نكتفي بهذا المقدار من بيان فضائل كربلاء، التي تدل على مكانة هذه الأرض الطاهرة، وعظيم منزلتها عند الله، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا في الدنيا زيارة الحسين (عليه السلام) وفي الآخرة شفاعته، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين.

 

* الهوامش:

(1) المحاسن، ج1، ص92.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج2، ص243.

(3) ثواب الأعمال، ص204، والفقيه، ج2، ص245.

(4) الخلاف للشيخ الطوسي، ج2، ص451.

(5) رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين (عليه السلام)، ص475-477.

(6) استفتاءات السيد السيستاني، مكتبة أهل البيت الالكترونية، ص360.

(7) المحلى لابن حزم، ج7، ص279.

(8) المجموع، ج8، ص476.

(9) إمتاع المقريزي، ج10، ص347.

(10) فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي، ج6، ص343.

(11) التمهيد، ج2، ص289.

(12) مواهب الجليل، ج4، ص533.

(13) المحلى لابن حزم، ج7، ص285.

(14) الدروس، ج1، ص471.

(15) نيل الأوطار للشوكاني، ج5، ص99.

(16) دفع الشبه عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، ص121-122.

(17) فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي، ج6، ص343.

(18) البداية والنهاية لابن كثير، ج3،ص250.

(19) مواهب الجليل، ج4، ص533.

(20) كامل الزيارات، ص450.

(21) نفس المصدر، ص450-451.

(22) نفس المصدر.

(23) نفس المصدر، ص456.

(24) نفس المصدر، ص 452.

(25) الخلاف للشيخ الطوسي، ج2، ص451.

(26) آل عمران، 96.

(27) الكافي، ج4، ص240، ومن  لا يحضره الفقيه، ج2، ص243.

(28) الفقيه، ج2، ص245-246.

(29) البحار، ج57، ص217.

(30) "تفليس: بفتح أوله ويكسر: بلد بأرمينية الأولى، وبعض يقول بأران، وهي قصبة ناحية جرزان قرب باب الأبواب، وهي مدينة قديمة أزلي.... وافتتحها المسلمون في أيام عثمان بن عفان" معجم البلدان، ج2، ص35.

(31) البحار، ج57، ص214.

(32) التهذيب، ج6، ص31.

(33) الوسائل، ج10، ص283.

(34) جامع أحاديث الشيعة، ج12، ص286.

(35) كامل الزيارات، ص449.

(36) رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين (عليه السلام)، ص475-477.

(37) فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي، ج6، ص343.

(38) تحفة الأحوذي، ج10، ص294.

(39) كامل الزيارات، ص453.

(40) نفس المصدر.

(41) نفس المصدر.

(42) الوسائل، ج11، ص135.

(43) المزار للشيخ المفيد (رحمه الله)، ص26-27.

(44) الوسائل، ج14، أبواب المزار، الباب 45، ح13، ص450.

(45) منتهى الدراية، السيد محمد جعفر المروج، ج7، ص623-625.

(46) كلمة التقوى، ج3، ص362.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا