ورد عن أمير المؤمنينg أنَّه قال: >إنَّ الجهاد بابٌ فتحَه اللهُ لخاصَّة أوليائِه وسوَّغهم كرامة منه لهم ونعمة ذخرها، والجِهاد لباسُ التَّقوى ودرعُ اللهِ الحصينة وحصنه الوَثيقة، فمن تركَه رغبةً عنه ألبسه اللهُ ثوبَ المذلَّةِ وشملةَ البلاء، وفارق الرَّخاء وضرب عليه قلبه بالأشباه، وديث بالصغار والقماء، وسيم الخسف، ومنع النصف، وأديل الحق منه بتضييعه الجهاد، وغضبَ اللهُ عليه بتركه نصرته، وقد قال الله! في محكم كتابه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(سورة محمدe:7)<([2]).
لتأصيل هذه الفريضة العظيمة المحورية في الشِّريعة، بل عند كلِّ المجتمعات العقلائية؛ حيث لا قرار لمجتمع ولا أمان له إلا إذا كان قد أعدَّ العدَّة، واستعدَّ لحماية نفسِه من مختلف الأخطار والأعداء، وكان مستعدا للتَّضحية والفداء لأجل عقيدته ومبادئه نجري هذا الحوار مع سماحة الشَّيخ جاسم الخَّياط، لنستوضح منه عن بعض ما يتعلَّق بهذه الفريضة وما يلازمها من وسام الشَّهادة، فإليكم نصَّ الحوار:
* سماحة الشِّيخ العزيز.. نبدأ معكم بهذا السُّؤال حول الجِهاد: ما هي مكانة الجهاد في الإسلام وفي الشَّرائع السَّماوية السَّابقة؟
** منزلة الجهاد في الإسلام عظيمةٌ فقد أولى الإسلام الجِهاد عنايةً خاصَّة، وأشارت الكثيرُ من النُّصوص الشَّرعية إلى فضلِه وأهميتِه، وخلاصةُ ما يمكن أن يستفاد منها أنَّ الجِهاد هو:
عماد الدِّين:
عن أمير المؤمنينg: >الجهاد عماد الدِّين، ومنهاج السُّعداء<([3]).
وقمَّة الإسلام:
عن الصادقg: "أصلُ الإسلام الصَّلاة، وفرعُه الزَّكاة، وذروة سنامِه الجهاد في سبيل اللّه<([4]).
وركن الإيمان:
عن أمير المؤمنينg: >للإيمان أربعة أركان: الصَّبر، واليقين، والعدل، والجهاد<([5]).
وأشرف الأعمال وقوام الدِّين:
عن أمير المؤمنينg: >إنَّ الجهاد أشرفُ الأعمال بعد الإسلام، وهو قوام الدِّين"([6]).
وقد جمع أميرُ المؤمنين كلَّ ذلك فقالg في مستهل خطبته عن الجهاد:
>... فإِنَّ الجِهاد بابٌ من أبواب الجنَّة، فتحَه اللهُ لخاصَّة أوليائِه، وهو لباسُ التَّقوى، ودرع الله الحصينة، وجنَّته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللهُ ثوبَ الذِّل وشملة البلاء، وديث بالصغار والقماء<([7]).
ويستفاد من هذه النُّصوص أنَّ أفضلية الجهاد ناشئة من كونِه:
1- به يدافع عن الدِّين.
2- به ينتصرُ الدِّينُ.
3- به عزَّة الدِّين ومنعتُه.
4- به يفوز المؤمنون بالثَّواب العظيم.
* ما هو دور الجهاد في تربية الإِنسان؟ وما هي العلاقة بين الجهادين الأكبر والأصغر؟
** الجهاد له دور مهمٌ جداً في تربية الإِنسان التَّربية الصَّالحة، وجعله يحرص على التحلِّي بمكارم الأخلاق، وذلك لأنَّ الجهاد يعني أنَّ الإِنسان معرَّض للموت في أيِّ لحظةٍ -وهذا أمرٌ لا بدَّ أنْ يتيقَّن به الإِنسان حتى لو لم يكن في ميدان القِتال؛ لأنَّ الأعمار بيد الله تعالى- لكنَّ الإِنسان بطبيعته يؤمن بهذه الحقيقة أكثر عندما يواجه خطرَ القَتل، وهو متحقِّق في ميادين الجهاد، وفي هذه الظُّروف يصير قلبَ الإِنسان متعلِّق بالله سبحانه أكثر ويكون إليه أقرب.
فيصير الجهادُ دافعاً للالتزام بالأحكام الشَّرعية، والقيم الأخلاقية بشكلٍ أشدّ، ويقبِلُ على الله بالعبادة والمناجاة بقلبٍ أصفى؛ لأنَّ المجاهدَ يعيشُ حالةَ ترقُّب الرَّحيل واللِّقاء بالمعشوق بدرجةٍ أقوى فيتعلَّق قلبُه بالله تعالى.
وقد نقل عن الإمام الخميني(رضوان الله عليه) كلمةٌ في وصف الشَّباب المجاهدين وحالتهم الروحية وفي وقت قصير وصلوا إلى مراتب من القرب الإلهي والتي لعلَّهم تفوَّقوا فيها على من أمضى حياةً طويلةً في السَّير إلى اللهِ تعالى.
ومن جهة أخرى فإنَّ الإِنسان الذي لا يملك جهاد النَّفس ولم يهذِّب نفسَه على وفق مقتضيات الشَّرع وأحكامه، يصعب عليه جداً أنْ يثبت في ميادين الجهاد الصَّعبة، فسرعان ما تزلُّ قدمُه ويخذل الحقَّ، وإنْ تظاهر بالتديُّن، وقد روي عن الإمام الحسينg: >النَّاس عبيد الدُّنيا والدِّين لعقٌ على ألسنتهم يحيطونه ما درَّت معايشهم، فإذا محصِّوا بالبلاء قلَّ الدَّيانون"([8]).
أمَّا من ربَّى نفسَه على الالتزام بأحكام الله تعالى وقيم الدِّين، فإنَّه يكونُ راسخَ القدم في الدِّفاع عن الحقِّ وأهله، وأذكر كلمة لسماحة آية الله الشَّيخ عيسى أحمد قاسم في هذا الشَّأن يقول فيها: إنَّ الحرَّ لم يكن صفراً -أي من حيث الملكات النَّفسية- ولو كان صفراً لما تحوَّل إلى معسكر الإمام الحسينg.
فالعلاقة بين الجهادين أنَّ أحدهما يدعم الآخر، وإنَّ مقتضى الحديث المنقول عن النَّبيe أنَّ جهاد النَّفس أعظم وأكبر لأنَّه مستمرٌ ما بقي الإِنسان حيَّاً، فإنَّه عليه أن يجاهد أهواءه ورغباته، وأن يراقب نفسَه على الدَّوام لكي لا يقع في مخالفة أمر الله ونهيه.
عن النَّبي الأكرمe: أنَّ النَّبيe بعث سرية فلمَّا رجعوا قال: >مرحبا بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر<، فقيل: يا رسول الله، ما الجهاد الأكبر؟ قال: >جهاد النَّفس<([9]).
* قد يقال بأنَّ مفهوم الجهاد يتنافى مع سماحة ومسالمة ورحمة الإسلام، ما تعقيبكم على ذلك سماحة الشَّيخ؟
** الجهاد وإن كان يلزم منه الدَّفع بالقوَّة الرَّادعة، وقد لا يتحقَّق ردع العدو إلا بالقَّتل، ولكن هذا القَّتل هو لازمٌ لتحقيق السَّلام، وليس منافياً للسَّلام.
وهذا تماماً كالعقوبات اللازمة لحفظ المجتمع من الجرائم، مع ما في العقوبة من ألمٍ للمعتدي، وهو أمرٌ لازمٌ يقصدُه المشرِّع ويقرُّه العقلاء لحفظ أمن واستقرار أيِّ مجتمع.
قال تعالى { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}(البقرة:179).
وقالت العرب قديماً: "القتل أنفى للقتل".
إذاً الرَّدع بالقوَّة أمرٌ لازمٌ لسلامة أي مجتمعٍ وأمنِه.
لذا نجد كلَّ الدُّول تنفقُ جزاءً كبيرا من ميزانيتها على بناء جيشٍ قويٍ من حيثُ العدَّة والعدد، قادرٌ على الدِّفاع عند تعرُّض بلدِه للخطر الخارجي، ولو لم تفعل أيُّ دولةٍ ذلك مع قدرتها عليه لوصمَ العقلاءُ قادةَ ذلك البلد بقلةِ الحكمة والعقل.
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}(الأنفال:60).
ظاهرُ الآية الاستعداد لحفظ النَّفس بالدِّفاع الرَّادع للعدو، فالعدوُّ الذي لا يخافك ولا يرهبك لا يرتدع عنك فلا تكون في مأمنٍ من غدرِه.
* ما هي أهمُّ الرَّكائز لأيِّ حركة جهادية؟ خصوصاً أنَّه تمَّ تشويه مفهوم الجهاد والشَّهادة، فحينما تسمع كلمة "جهادي" فإنَّه يساوي معنى الإرهابي والمتخلِّف!!
** أهمُّ ركيزةٍ لأيِّ حركةٍ جهاديةٍ أنْ يكونَ دافعها الدِّفاع عن الدِّين وأحكامه، وإِعلاء كلمةِ اللهِ، ومن أحكام الدِّين إقامة العدل والحفاظ عليه:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (النحل: 90-91).
لذا نجد فقهاءنا ذكروا جملةً من أحكام الجهاد التي أكَّد عليها الإسلام، والتي منطلقها العدل والإحسان حتى مع العدو.
ومن تلك الأحكام:
1- لا يجوز قتل الشَّيخ الفاني، ولا المرأة، ولا الصَّبي، ولا الأعمى.
2- لا يجوز حرق الزَّرع، ولا قطع شجرة الثَّمر، ولا قتل البهائم.
3- لا يجوز خراب المنازل، والتهتُّك بالقتلى.
4- لا يجوز لمسلمٍ أن ينهزم من محاربين إلا متحرِّفا لقتالٍ أو متحيِّزا إلى فئة.
5- إذا أسر المسلمون كافراً عُرِضَ عليه الإسلام ورُغِّب فيه، فإن أسلم أطلق([10]).
* في زماننا الحاضر، هل انتهى زمنُ الجهاد ومفهوم الشَّهادة والتَّضحية من ناحية عملية أم لا بدَّ من تفعيل هذه المفاهيم وبيانها للنَّاس، وإبقاء جذوتها حيَّة في النُّفوس؟
** في كلِّ زمانٍ ومكانٍ يوجدُ فيه المنكر والظُّلم، وتسلُّط أهل الباطل وانتهاك الدِّين وحدوده، وغياب العدل، واستضعاف أهل الحقِّ، وانتهاك حقوقهم، فالجهاد واجبٌ إنْ شخَّص الفقيهُ الجامع للشَّرائط ذلك.
وخيرُ شاهدٍ على ذلك فتوى سماحة آية الله العظمى السِّيد علي السِّيستاني بالجهاد الكفائي ضدَّ التَّكفيرين القتلة، الذين احتلُّوا جزءًا من العراق، وعاثوا في الأرضِ فساداً.
فلولا وجود مفهوم الجهاد حيَّا حاضراً في نفوس النَّاس لما تحرَّكت حشود الجماهير الهائلة لتدفع العدو الشَّرس وتحبط مخطط الاستكبار العالمي في العراق.
* كيف نخلق الرًّوح الجهادية الفدائية التَّضحوية عند النَّاشئة؟
نخلق الرُّوح الجهادية عند الشَّاب المؤمن، ببيان أحكام الجهاد في الشَّريعة، ومكانته عند الله تعالى، وأهمِّيته لحفظ الدِّين وأهله، وبيان مقدار ثواب المجاهدين وفضلهم على القاعدين عند الله. قال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}(النِّساء: 95ـ96).
وأنَّه لولا الجهاد لما عاش المجتمع حالة الأمن والاستقرار، وساد الهرجُ والمرج ولضاع الدِّين والقيم.
* ورد في الحديث الشريف عن إمامنا الصادقg: >ليعدَّنَّ أحدُكم لخروج القائم ولو سهماً؛ فإنَّ اللهَ تعالى إذا علم ذلك من نيَّتِه رجوتُ لأنْ ينسئ في عمره حتى يدركه فيكون من أعوانه وأنصاره<([11])، كيف نفعِّل مثل هذا الحديث في زماننا المعاصر؟
يتحدَّد تكليفُ الإِنسان ودوره في الحياة بحسب مقتضيات الظَّرف الذي تعيشه الأمَّة، وفي كلِّ أيام زمن الغيبة نحن مكلَّفون بالتَّمهيد للظُّهور المبارك للإمام الحًّجة(عجَّل اللهُ فرجَه).
فتارةً يكون ظرفُ مكلفٍ بالإعداد العسكري المسلَّح، ويقد يكون ظرفٌ آخر بالحرص على الوصول إلى المراتب العالية من المعرفة بالإسلام ليكون حصناً منيعاً يدفع الشُّبهات عن الدِّين الحقّ، فيحفظ شباب الأمَّة من التَّأثر بتلك الشُّبهات والاغترار بأباطيل أعداء الدِّين، وآخر بالكلمة الحرَّة الصَّادقة، التي تربط النَّاس بدينهم، وتبثُّ فيهم روح الحماسة لتحمل مسؤولية التَّكليف الشَّرعي، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وتربطهم بإمام الزَّمان(عجَّلَ اللهُ فرجَه)، فالتَّمهيد لخروج صاحب العصر والزَّمان يحتاج إلى الاستعداد النَّفسي والرُّوحي لتقبُّل الحقّ والعدل، وإلى استعدادٍ علميٍ وثقافيٍ وعسكري يؤهِّل المنتظرين لمساندة الإمام ومناصرتِه في إقامة دولة الحقَّ، حيثُ إنَّ ذلك لا يكون إلا بعد قتل وقتال شديدين.
عن المفضل بن عمر، قال: "سمعت أبا عبد اللهg وقد ذكر القائمl فقلتُ: إنِّي لأرجو أن يكون أمرُه في سهولة، فقال: >لا يكون ذلك حتى تمسحوا العلق والعرق"([12]).
* لماذا أعطى المولى الجهاد كل هذه الأهمية، التي ذكرناها في أول الحديث؟
** ذلك بسبب ما يتوفر عليه الجهاد من دعامة قوية وركيزة هامَّة للدِّفاع عن الدِّين وحفظه من الضَّياع، وقد أشارت بعض الروايات إلى هذه الحقيقة، وأنَّه لولا فريضة الجهاد لما بقي للإسلام أثر ولا ذكر ؛ ويشهد لذلك قول النَّبيe يوم الخندق: >برز الإيمان كلُّه إلى الشِّرك كلِّه<([13])، و>ضربة عليٍ لعمرو يوم الخندق تفضل عمل الثَّقلين إلى يوم القيامة<([14]).
وعن الإمام الباقرg: >الجهاد الذي فضَّله الله على الأعمال... لأنَّه ظهر به الدِّين، وبه يدفع عن الدِّين"([15]).
وفي الحديث: >إنَّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام، وهو قوام الدِّين، والأجر فيه عظيم مع العزة والمنعة...<([16]).
* فيما يتعلق بالشهادة وهي نوع من أنواع الموت، ما هي النظرة الإسلامية بشكل عام إلى الموت؟
** الإسلام ينظر إلى الموت أنَّه انتقالٌ من نشأة إلى نشأة، وأنَّ سعادةَ الإِنسان الحقيقية أو شقاءه الحقيقي إنَّما يكون بعد الموت؛ لأنَّ الآخرة هي الحياة الحقيقية، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:64).
وأنَّ الموت أمرٌ حتميٌ على كلِّ إنسان، قال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران ١٨٥).
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}(الرحمن:26-28).
من لم يمت بالسِّيف مات بغيره | تعدَّدت الأسبابُ والموتُ واحدُ |
كما أنَّ نظرةَ الإسلام إلى أنَّ الجهاد لا يقرِّب الأجل:
قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(آل عمران: 168).
* للشَّهيد مكانةً عظيمةً جداً حسب الرِّوايات، لِمَ نالَ الشَّهيد هذه المرتبة العظيمة؟ وما هو منشأ قدسية الشَّهادة؟
قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(التوبة:111).
يظهر من الآية المباركة، لماذا جعل الله سبحانه للشُّهداء مقاماً خاصاً، وضمن لهم الجنَّة، وذلك لأنَّهم باعوا أنفسهم لله تعالى، ووضعوا أنفسهم حيثُ يأمرهم ربُّهم، حتَى لو كلَّفهم ذلك سفكَ دمائِهم وزهق أرواحهم، وما بعد هذا البذلِ بذلٌ أبداً.
" الجودُ بالنَّفس أسمى غاية الجود"
فقد روي عن رسول اللهe: >فوقَ كلِّ ذي برٍ برٌ حتى يقتل المرءُ في سبيل الله فليس فوقه بر"([17]).
وروي عنهe: >أشرفُ الموت قتل الشَّهادة"([18]).
وروي عن إمامنا السَّجادg: >ما من قطرةٍ أحبُّ إلى اللهِ من قطرتين؛ قطرةُ دمٍ في سبيل الله، وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها العبدُ إلا اللهَ!<([19]).
ولعظم مقام الشَّهادة كان يطلبها أهل البيتi في أدعيتهم:
فعن أمير المؤمنينg في كتابه لمالك الأشتر: >وأنا أسألُ اللهَ بسعةِ رحمتِه، وعظيم قدرته على إعطاء كلِّ رغبة، أن يوفِّقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثَّناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النِّعمة، وتضعيف الكَّرامة، وأنْ يختمَ لي ولك بالسَّعادة والشَّهادة<([20]).
ومن دعاء إمامنا السَّجادg: >حمداً نسعد به في السُّعداء من أوليائه، ونصير في نظم الشُّهداء بسيوف أعدائه<([21]).
وكثرة طلب الشَّهادة في الأدعية المنسوبة لصاحب الزَّمان، الواردة في شهر رمضان ممَّا يدلُّ على عظمة مقام الشَّهيد والشَّهادة عند الله تعالى.
فمنشأُ قدسية الشَّهادة أنَّها تضحية بالنَّفس، وهي أغلى ما يملكه الإِنسان، لإسعاد الأمَّة بنعمة الإسلام والإيمان في أمن وأمان، وعزٍّ وكرامةٍ، كما أراد لها ربُّ العزَّة والجلال.
* من الملاحظ أنَّ للشُّهداء مكانةً خاصّةً حتى في قلوب النَّاس، ما هو السِّر في خلود دمِ الشَّهيد؟
** قال): ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾(البقرة:154).
إنَّ اللهَ تعالى جعل في الشَّهادة حياةً لدينِه، وإنَّ الأمَّة التي تقدِّم الشُّهداء، وتعتزُّ بالشُّهداء، وتفخر بالشُّهداء أمَّة عزيزة، لأنَّها أمَّة ولَّادة للشُّهداء، فالجيل الذي يتربَّى على حبِّ الشَّهيد، يعشقُ الشَّهادة، والأمَّة التَّي فيها من يعشقون الشَّهادة لا تقهر؛ لأنَّها أمَّة تملك من يضحِّي بالنَّفس لأجلها فضلاً عن النَّفيس.
لذا جعل اللهُ في قلبِ الأمَّة حبًّا للشًّهداء وحرارةً لدمائهم، فكلُّ من يدرك أنَّ الشَّهيد ضحَّى بدمِه لتحيى الأمَّة عزيزةً يشعرُ بأنَّه مسؤولٌ عن دمِ الشَّهيد، وأنَّ من واجبِه حفظَ تلك الدِّماء من الضَّياع، ودلَّت الآيةُ على أنَّ الشُّهداء لهم حياتُهم بعدَ الشَّهادة، ومن حياتهم حياتهم في ضمائر الأحرار، تحرُّكهم نحوَ أهدافِهم التي استشهدوا من أجلِها بدافعيةٍ عجيبة.
فالأحرارُ يعشقونَ الشُّهداء لمَّا وجدوا فيهم من روح التَّضحية والفداء، وعشقوا الشَّهادة لمَّا وجدوا فيها من المقام الرَّفيع لهم عند الله تعالى، والعزَّة والكرامة لأمَّتهم.
روي عن رسول اللهe: >الشُّهداء عند الله على منابر من ياقوت في ظلِّ عرش الله يومَ لا ظلَّ إلا ظلُه وعلى كثيبٍ من مسك، فيقول لهم اللهُ: ألم أوفِ لكم وأصدقكم؟ فيقولون بلى وربِّنا"([22]).
روي عن أمير المؤمنينg: "فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين"([23]).
* للإمامِ الحُسينg -وهو سيِّد الشُّهداء- مكانة خاصَّة، وشهادتُه المباركة تتميَّز عن سائر المعصومينi بأنَّها كانت في ساحة المعركة، وهناك تركيز من الرِّوايات على قضية الحسين الشَّهيدg، فهل نفهم من ذلك أنَّ المنشأ هو عنصر الشَّهادة والجهاد أم هناك خصوصيَّات أخرى؟
روى أحمد ابن أعثم: "فلمَّا كانت الليلة الثَّانية خرج[الحسينg] إلى القبر أيضاً فصلَّى ركعتين، فلمَّا فرغ من صلاتِه جعل يقول: >اللهمَّ، إنَّ هذا قبر نبيِّك محمَّد، وأنا ابن بنت محمَّد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهمَّ، وإني أحبُّ المعروف وأكره المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقِّ هذا القبر ومن فيه، [إلا] ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضى<.
قال: ثمَّ جعل الحسينg يبكي، حتى إذا كان في بياض الصُّبح وضعَ رأسَه على القبر فأغفى ساعة، فرأى النَّبىe قد أقبلَ في كبكبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتى ضمَّ الحسينg إلى صدرِه، وقبَّل بين عينيه، وقالe: >يا بني، يا حسين! كأنَّك عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرضِ كربٍ وبلاءٍ من عصابة من أمتي، وأنت في ذلك عطشان لا تسقى وظمآن لا تروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة! فما لهم عند الله من خلاق؛ حبيبي يا حسين، إنَّ أباك وأمَّك وأخاك قد قدموا علي، وهم إليك مشتاقون، وإنَّ لك في الجنَّة درجاتٍ لن تنالها إلا بالشَّهادة<([24]).
إنَّ مقتضى اعتقادنا بعصمة الأئمةi أنَّ كلَّ واحدٍ منهمi قام بدوره المناسب لظرفِ زمانِه على أتمِّ وجهٍ ممكنٍ (بما لا مزيد عليه).
وكان ظرف الإمام الحسينg يقتضي التَّضحية بالنَّفس والأخوة والأبناء والأقارب والأصحاب، فقام بدوره على أفضل وجه، ليحفظ بدمه الإسلام إلى قيام السَّاعة، وبذلك صار له الذِّكر المميَّز عند أئمة أهل البيتi، وعند شيعتهم، بحيث كلَّما ذكروه ذكروا مصيبته وبكوه، وبذلك يعلوا ذكرُه وذكرُ ثورته وشهادته ومبادئه التي استشهد من أجلها.
عن رسول اللهe: >حسينٌ منِّي، وأنا من حسين<([25]).
13ـ ما هي مسؤولية الأمّة تجاه الشهداء وعوائلهم؟
مسؤولية الأمَّة اتجاه الشُّهداء السَّير على نهجهم في إحقاق الحقّ، والمطالبة به، وعدم التَّواني، والركون إلى الذِّلة، وإضاعة جهد وجهاد ودماء الشُّهداء بالتَّقاعس عن أداء الوظيفة التي تحتِّمها المسؤولية الشَّرعية اتجاه الدِّين والمجتمع، كما على الأمَّة أن تخلِّد ذكرَى شهدائِها لأنَّ ذكرَهم يبقى مشعلاً ينير الطَّريق للأحرار، ويبقي جدوة الجهاد مشتعلة في نفوس الأجيال، وقد نقل عن الإمام الخميني قوله: "أمَّةٌ لا تخلِّد شهداءها أمَّةٌ ميتةٌ".
أمَّا عوائل الشُّهداء فواجبُ الأمَّة رعايتَهم، واحتضانهم بجميع أنواع الرِّعاية؛ الماديَّة والتَّربوية والرُّوحية والاجتماعية لكي لا يشعروا باليتم، بل يعيشوا حالةَ الفخر أنَّهم من أبناءِ وعوائل الشُّهداء، وأنَّ هذا شرفٌ لهم، ومسؤوليتهم أن يحافظوا على الشَّرف بالاستقامة في طريق الحقّ.
من وسائل تخليد الشُّهداء في أذهان الأمَّة:
١- كتابة الجوانب المضيئة في حياتهم، وبيان طريقة استشهادهم، والهدف الذي جاهدوا له، ونشرها في وسائل المعرفة المختلفة.
٢- إقامة الفعاليات السَّنوية باسم الشُّهداء التي لا يغيب فيها ذكرُ فضلِ الشَّهيد والشَّهادة عند الله تعالى.
٣- زيارة عوائلهم، وتكفُّل حوائجهم ما أمكن، ومساندتهم ورفع معنوياتهم، بحيث يشعرون بالفخر لأنَّهم من عوائل الشُّهداء، ويعتبرون ذلك نعمةً منِ اللهِ منَّ بها عليهم.
٤- تخليد قبورهم وتعاهدها بالزِّيارة، لتبقى أهدافهم حيَّة باقية في وجدان الأمَّة جيلاً بعدَ جيل.
لذا نجد بالوجدان كيف ساهمت مزارات المعصومينi في تخليدِ نهجهم القويم ومبادئ الدِّين الأصيل، وإلى يومنا هذا اهتدى الكثير إلى مذهب أهل البيتi، بسبب وجود مزاراتهمi.
وقد تنبَّه أعداءُ أهلِ البَيت لذلك، فعمد بعضُهم كما يحدِّثنا التَّاريخ عن محاولة محو أثرِ القَبر الشَّريف للمولى أبي عبد الله الحسينg، لما له من أثرٍ بالغٍ في استنهاض النَّاس ضدَّ الباطل وأهله.
وما هدم قبور أئمة البقيعi إلا لصرف النَّاس عنهم وعن منهجهم القويم.
([1]) سماحة الشَّيخ جاسم الخيَّاط، من أهالي بلدة البحرين، وفضلائها العاملين، وله حضورٌ فعَّالٌ ومشهود في مختلف النشاطات الدِّينية والتبليغية والاجتماعية، كالإرشاد في الحج والعمرة، وإمامة الجماعة، وإلقاء المحاضرات، وهو عضو في المجلس الإسلامي العلمائي وكثير من المؤسسات الاجتماعية والدينية.
([2]) نهج البلاغة، ج1، ص67، وتهذيب الأحكام، الطُّوسي، ج6، ص123-124، وروضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص363.
([3]) ميزان الحكمة، ج1، ص444.
([4]) دعائم الإسلام، القاضي النعمان، ج1، ص342.
([5]) دعائم الإسلام، القاضي النعمان، ج1، ص343. وعنه في بحار الأنوار، ج97، ص49.
([6]) الكافي، الكليني، ج5، ص 73، وعنه في الوسائل، الحر العاملي، ج15، ص94.
([7]) نهج البلاغة(خطبة٢٧)، ج1، ص67.
([8]) تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص245، وبحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج44، ص383.
([9]) الكافي، ج5، ص12.
([10]) راجع الكافي، للحلبي، ص256ـ257.
([11]) الغيبة، النعماني، ص335.
([12]) الغيبة، النعماني، 295، وبحار الأنوار، ج52، ص358.
([13]) كنز الفوائد، أبو الفتح الكراكجي، ص137، وبحار الأنوار، ج52، ص358.
([14]) بحار الأنوار، ج29، ص1.
([15]) الكافي، الكليني، ج5، ص3.
([16]) الكافي، الكليني، ج5، ص37، والوسائل، الحر العاملي، ج15، ص94.
([17]) الكافي، ج5، ص53.
([18]) الدعوات، القطب الراوندي، ص242، وبحار الأنوار، ج97، ص8.
([19]) الخصال، الصدوق، ص50، وميزان الحكمة، ج1، ص184.
([20]) نهج البلاغة، ج3، ص110.
([21]) الصحيفة السَّجادية(الدعاء الأول).
([22]) كنز العمال، ج4، ص397.
([23]) نهج البلاغة، ج1، ص100.
([24]) الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ج5، ص18-19.
([25]) الإرشاد، المفيد، ج2، ص127.
0 التعليق
ارسال التعليق