علامات تشخيص ومعرفة السّياق القرآنيّ

علامات تشخيص ومعرفة السّياق القرآنيّ

المقدِّمة

بسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيم، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق والمرسلين محمّد وآله الطَّيِّبين الطّاهرين المعصومين.

نتناول في هذه العجالة اليسيرة بعض المسائل المتعلِّقة بمبحث السِّياق في القرآن، وبالتَّحديد في شروط وموانع تشخيصه وطرق الاهتداء إليه وقرائن اتّصاله وانقطاعه وابتدائه وانتهائه، والهدف من عرضها هو التَّعرُّف على جملة من الضَّوابط المُعيْنة في تشخيص أصل وجود السِّياق وتحقّق قيوده وتمييز حدوده، لما في ذلك من أهمِّيَّة بالغة في عمليَّة تفسير الكتاب العزيز وفهم مراميه ومطالبه العالية، بل وتأثير ذلك على مجمل العلوم القرآنيَّة وما يحيط بها، وسنعرضها ضمن ثلاثة مباحث: 

المبحث الأوَّل: شروط تشخيص السِّياق في القرآن

قبل القيام بأيِّ نشاط وتطبيق سياقيّ في موضع من القرآن الكريم -حتّى لو كان صغيراً- لا بدَّ من الفراغ أوّلاً من اشتراك أجزائه في سياق واحد، وأنَّ ارتباطها ببعضها قد صدر بداعي التَّعاضد لإيصال الكلام إلى غاية مقصودة، وإلَّا فمحض مجاورة مثل الآية مع سابقتها ولاحقتها لا يدلّ بالضّرورة على وحدة السِّياق بينها، إذ قد يتّفق استقلال كلّ آية بغرضها الخاصّ الّذي يميّز سياقها عن عداه، بل ربّما يحصل هذا حتّى في الآية الواحدة، فيكون صدرها في اتّجاه وذيلها في آخر، وقد تتخلَّلها بعض الجُمل المعترِضة الَّتي لها هدفها وسياقها المختلف، ومجرّد إمكان تصوّر نحو من التَّرابط ونوع من العلاقة بين بعض المقاطع أو الآيات فهو لوحده لا يستلزم الاتّحاد تحت سياق واحد، يقول السيِّد العلَّامة الطَّباطبائيّ: "فليس مجرّد وقوع الآية بعد الآية أو قبل الآية يدلّ على وحدة السِّياق، ولا أنّ بعض المناسبة بين آية وآية يدلّ على نزولهما معاً دفعة واحدة أو اتّحادهما في السِّياق‏"(1)

وهذا يعني أنَّ وجود السِّياق بين وحدات ومقاطع القرآن يحتاج إلى تشخيص، وأنَّ الأخذ به يتوقّف على حصول بعض الشّروط المعيّنة والظّرف الخاص، ولا يعوّل فيه على ذوق القارئ ونسجه للرّوابط من عند نفسه، وقد تطرّق فريق من أعلام هذا الفنّ إلى عمدة هذه الشّروط، فنوردها عنهم مع شيء من التّعليق:

أوَّلاً: الارتباط في الصُّدور

أي أنَّ فقرات النَّصّ القرآنيّ لكي تشترك في سياق واحد يلزم أن يكون بينها علاقة وارتباط من حين صدورها من قبل الله تعالى، ونعني بالارتباط أنَّ بينها تعاون في إيصال مجموع الكلام إلى مضمون مقصود، فالفقرة الَّتي لها صلة مع الباقي في تحقيق المطلوب تعتبر مرتبطة معها في السِّياق، والَّتي تفقد الصِّلة والارتباط تُعدّ أجنبيّة عنها.

والسِّرّ في هذا الشَّرط يُستوحى من نفس تعريف السِّياق، وتوضيح ذلك: أنَّه لو طرقت أسماعنا عدَّة كلمات متقاطعة ومستقلّة من مجموعة من الأفراد وبأوقات متفرِّقة فإنَّنا وبالبداهة سنتعاطى مع كلِّ واحدة بشكل منفصل عن الأخرى ولن نعتبرها كحلقة نصِّيَّة متماسكة تؤثِّر أطرافها مع بعضها في أداء المعنى، لأنَّها حين صدرت لم تكن بينها أيَّة علاقة توحي للسَّامع بوجود وحدة ارتباط وتعاضد، فلا تنشأ فيها قرينة سياقيَّة، إذ إنَّ السِّياق من القرائن المتّصلة بالكلام، أي أنَّ دلالته على التّماسك والتّآزر بين أفراده تكون موجودة من حين صدوره، وهذا لا يحصل من دون قصد من أوّل الأمر، بل حتّى لو افترضنا أنَّ الكلمات المتناثرة قد صدرت من شخص واحد فلا يتسنّى لنا الجمع بينها بوحدة سياق؛ لأنَّ صاحبها لم يرد ذلك حين تفوّه بها، ولو افترضنا أنَّ كلماته المتفرِّقة ينشأ منها نحو من التأّثير في الظّهور عندما تُلحظ مجتمعةً فإنّ هذا من قبيل تأثير القرينة المنفصلة الَّتي هي ليست سياقاً(2)، فالسِّياق من القرائن المتّصلة.

والحال أنَّ هناك جملة من الأمور لا تقبل الانفكاك، فحتّى تنشأ القرينة السِّياقيِّة لا بدَّ من أن يكون كلُّ الكلام الصِّادر بقوّة الكلمة الواحدة المتعاضدة، ولا يكون كذلك من دون أن يرافقها قصد الارتباط من حين الصُّدور ومن نفس شخص المتكلّم باعتباره هو السَّائق، وهو يعني عدم تقطّع فقراته واستقلال غرضها عن بعضها، فاشتراط الارتباط في الصُّدور يكتنز كلّ هذه الأمور.

ولا يُعترض بالقول إنَّ القرآن طالما أنَّه نازل من الله الواحد فلا نحتاج إلى هذا الشرط، فإنَّ وحدة المصدر لا تعني -بالملازمة- وحدة الارتباط والصُّدور، فإنَّ للمتكلّم أن ينتقل بكلامه من سياق إلى آخر، وله أن يربط بين كلماته في الأغراض والمقاصد متى شاء وله أن يفصل، حتّى في الجمل والفقرات المتجاورة في الموضع.

ثانياً: النزول المتتابع المنتظم

من خلال الرجوع إلى مفهوم السِّياق -الَّذي هو قرينة لفظيَّة متَّصِلة بالكلام تنشأ من تتابع وترتيب أجزائه وانتظامها وارتباطها مع بعضها لإيصاله نحو مراد خاصٍّ- سيتّضح أنَّه يستبطن التتابع والانتظام، أي: صدور الفقرات والآيات بنحو التَّعاقب والتَّتالي، أو قل: نزولها المرتَّب الَّذي لم يغيَّر موضعه، وبيان ذلك: أنَّ المقاطع القرآنيَّة المتعدِّدة لا تصبح كالكلمة الواحدة في التّأثير والسِّياق إلَّا إذا كانت حال صدورها كالكتلة المتماسكة وكالدّفعة، فلو تراخت في النُّزول بنحو يُثلم الاتّصال أو تخلّلتها الفواصل ذات الدّلالات البعيدة الصّارفة عن الانسجام أو ثبت تبديل ترتيبها ومحلّها الّذي نزلت فيه فإنّ هذا يكشف عن عدم اتّفاقها في السِّياق.

نعم، في الدَّائرة الواسعة والشَّاملة للأغراض القرآنيَّة كما في السِّياق العامِّ أو السِّياق الموضوعيّ للسّورة يمكن الاستغناء عن اشتراط النُّزول المتتابِع؛ وذلك لتحقِّق أثره وهو الارتباط ووحدة الاتّجاه بين الكلمات والعبارات القرآنيَّة من دون توقُّف عليه، إذ إنَّ الغاية من اشتراط التَّعاقب هي للإشارة إلى التَّماسك والارتباط بين الأجزاء، وحيث إنَّ ذلك على مستوى النِّطاق العامِّ والأهداف العليا للقرآن مكفول فلا داعي لهذا الاشتراط.

يقول العلَّامة الشَّيخ معرفة: "إن كان الأخذ بالسِّياق ممّا يعود إلى السِّياق العامّ في جملة آيات القرآن، فهذا ممّا لا شرط له سوى إحراز وحدة الاتّجاه بين الآيتَين: المجمَلة والمبيَّنة. لتصلح إحداهما بياناً للأخرى، نظراً لوحدة الاتّجاه، وهكذا في الأخذ بسياق السُّورة، نظراً للوحدة الموضوعيَّة، السَّائدة على مجموعة آيات كلّ سورة.. إنَّما الكلام في الأخذ بسياق آية أو مجموعة آيات نزلن معاً وفي مقطع واحد، فهذا يشترط فيه أوَّلاً: تعاقب نزول جملاتها -في آية واحدة- وتتابع نزول آيات هي متراصَّة في تلك المجموعة فلا بدَّ من إحراز ذاك التَّعاقب وهذا التَّتابع في النُّزول"(3).

وهناك من الأعلام(4) من لم يفرِّق بين هذا الشَّرط -النُّزول المتتابِع- وبين سابقه -الارتباط في الصّدور- من حيث المؤدّى والمضمون، ويتعاطى معهما كشيء واحد يحكى بتعبيرَين، فالصُّدور هو عينه النُّزول، وحصول الاتّحاد والارتباط بين الآيات يحصل عبر تتابعها.

ولكن ربما التّفريق بينهما أسدى وأرجح؛ وذلك لأنَّ الارتباط بين الآيات والمقاطع القرآنيَّة قد يحصل أحياناً -في بعض أنواع السِّياق- من دون حاجة إلى تتابع بينها كما سلف، وقد تصدر مجموعة من الآيات أو سورة كاملة بشكل متعاقب ولكن لها أكثر من سياق خاصّ، نعم، الحصَّة الأكبر بين الشّرطَين هي التّطابق، كما أنَّ القاسم المشترك بينهما هو ضمان العلقة والارتباط والاشتراك في الغرض.

ثالثاً: وحدة الغرض والاتّجاه أو الموضوع أو المضمون

وهو شرط مقوِّم وأساس للأخذ بالسِّياق بين الجمل والآيات ونظائرها من العبارات القرآنيَّة، فما لم تُحرز وحدة المقصد والغرض بينها لا يقال لها إنَّها متَّحدة في السِّياق، لأنَّ السِّياق تنظيم للكلام من قبل المتكلّم الحكيم لإيصال غرضه، ممّا يعني دخالة كلّ فقرة وجزء منه في بلوغ المقصود، حيث تتشارك بحسب موقعيّتها وترتيبها في تفهيم المراد، وهو تعبيرٌ آخر عن اتّحادها في الغاية والمهمَّة، ولو اتَّفق بينها ما يقود إلى هدف ثانٍ مغاير لعُدّ أمارة على الانتقال إلى سياق جديد أو على وجود جملة معترِضة، وهذا نوع من التّباني العرفيّ بين المتحاورين يفطنه الملقيّ والمتلقّي، وبه تُستوعب المعاني وتتبادل.

وأحياناً يُعبّر عن هذا الشرط بالتَّرابط الموضوعيّ والمضمونيّ(5) أو الوحدة الموضوعيَّة(6)، بتقريب أنَّ المقاطع والآيات القرآنيَّة لا ينشأ بينها ارتباط سياقيّ من دون انضوائها تحت موضوع جامع يسودها وتتمحور حوله، إذ كيف تتَّصل ببعضها وتتواثق وتنسجم من غير أن تلتقي في مضمون وتجري في مصبٍّ معنويٍّ واحد؟! فلا بدَّ من فرض محور وموضوع يكون بمثابة الخيط الَّذي يحكم قِطع الكلام ويشدّها ببعضها لتلتصق وتلتمّ كانتظام حبّات الخرز في السُّبحة.

وتوجد هنا ملاحظة مهمّة، وهي أنَّ الوحدة الموضوعيَّة لا تعني اشتراك كلِّ الفقرات والجُمل في موضوع واحد بالمعنى المنطقيّ، بل المراد منها هو وجود جامع حاكم وقاسم مشترك، تتشابه فيه هذه المقاطع وتتّحد، ويصحُّ معه أن تُوسَم بالقول المرتبط المتماسك ذي الاتّجاه والمضمون المنسجم، سواء كانت موضوعاتها الخاصّة واحدة أم لا، اتّحدت في المحمول أو الحكم أم لا، كما لو كان الجامع هو وقوعها ضمن غرض واحد وحسب، بغضّ النَّظر عن اتّفاقها أو اختلافها في الموضوع والحكم.

يقول العلَّامة السَّيِّد منير الخبَّاز: "السِّياق، وهو عبارة عن وجود جامع بين عدّة مداليل، سواءٌ أكان ذلك الجامع هو الورود في خطاب واحد ذي غرض معيّن، أم كان الجامع هو الورود في كلام ذي محتوى واحد، أم كان ذلك الجامع عبارة عن اشتراك محمولات في موضوع واحد، أو موضوعات في محمول واحد، أم كان ذلك الجامع هو الإسناد في جملة واحدة"(7).

ويقول مؤلّف كتاب قواعد التّفسير: "تعدُّد الأحكام والمعارف لا ينافي السِّياق أو المناسبة؛ إذ المهمّ في المسألة هو الرّبط السِّياقي بين المعارف، لا وحدة الحكم ووحدة الموضوع، ويمثّل لذلك بسورة الكوثر؛ فإنّ لها ثلاث آيات، في أربعة مواضيع، أعني: إعطاء الكوثر، ووجوب الصّلاة، ووجوب النَّحر، وأبتريّة شانئ رسول الله، وهي مواضيع مترابطة كمال التَّرابط"(8).

وكنموذج تطبيقيّ على ذلك -مع تحقق هذا الشّرط وعدمه- يمكننا النّظر إلى المقطعين التاليين من سورة الأحزاب:

النّموذج الأوَّل: قول الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً * وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ومَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}(سورة الأحزاب: ٤١- ٤٣)، فظاهر الآيات الثَّلاث يوحي بنزولها معاً فيحرز التِّتابع الصُّدوري، ومن حيث الاتّجاه والغرض والمضمون فبينها انسجام فيتحقّق الشّرط المطلوب؛ إذ إنَّ الآية الثَّالثة وقعت تعليلاً للأمر في الآيتَين الأولتَين، وتوحي أنَّ صلاة الله تعالى وملائكته على المؤمنين مرهونة بالذِّكر الكثير والتَّسبيح المستمِرّ وتزيد بزيادتهما وذلك لغاية إخراجهم من ظلمات الغفلة والنِّسيان إلى نور الذِّكر والانتباه، وأنَّ هذه الصّلاة الَّتي هي رحمة تختصّ بالمؤمنين فقط(9).

النّموذج الثَّاني: قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(سورة الأحزاب: ٣٣)، وهذه الآية تتكوّن من جزأَين مستقلَّين صدوراً ومضموناً، فصدرها يتحدّث عن نساء النَّبيّe، وهو منسجمٌ مع الآيات الَّتي تسبقه وتلحقه، وكأنَّها -لو استثنينا الذّيل- مقطع واحد متّصل، بينما ذيل الآية والمعروف بـ (آية التّطهير) له مناسبة مغايرة ونزول منفصل ويفيد غرضاً أجنبيّاً عمّا قبله وبعده؛ فالضَّمير اختلف من نون النُّسوة العائد إلى نساء النَّبيّ خاصَّة وصار بما يخاطب به غيرهنّ أو بالأعمّ منهنّ وغيرهنّ: {عَنْكُمُ، َيُطَهِّرَكُمْ}، والإرادة فيه تكوينيَّة؛ فهي الأوفق للحصر المذكور وإذهاب الرِّجس والتَّطهير الكامل المُساوق للعصمة، بينما الإرادة في التَّكاليف والأوامر المذكورة لنساء النَّبيّ تشريعيَّة وعامَّة لا حصر فيها لهنّ، وأسلوب العتاب والتَّغليظ الموجّه إليهنّ وتوقيف الجزاء على التّقوى والطّاعة -{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا... يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}(سورة الأحزاب: ٢٩- ٣٢)- لا يتناسب مع العصمة والتَّطهير المؤكَّد في آية التَّطهير البتَّة، هذا غير القرائن الخارجيَّة المنفصِلة كأسباب النُّزول والرِّوايات المتواتِرة المفسِّرة لأهل البيت بأصحاب الكساء الخمسة، والنَّتيجة أنَّ شرط استعمال السِّياق بين الذّيل والصَّدر منتفٍ في المقام ولا يسوغ لنا التَّذرّع بدلالته.

المبحث الثَّاني: الموانِع المتصوّرة لتشخيص السِّياق القرآنيّ

هناك جملة من الأمور قد يقال إنَّها تمنع من إمكان التَّعرّف على السِّياق القرآنيّ وتحول دون تماميّة تحقُّق شروط تشخيصه وتطبيقه، يبرز من بينها:

۱. نزول القرآن مفرَّقاً على هيئة النُّجوم وبحسب المناسبات:

بتقريب: إنَّ نزول القرآن بنحو التدرُّج طوال فترة الرِّسالة ممَّا لا ينكر، وهو ثابت ومتّفق عليه بين الأعلام، وقد أكّدت عليه النّصوص الدِّينيَّة والمصادر التَّاريخيَّة بمنتهى الجلاء، يقول تعالى شأنه: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}(سورة الإسراء: ١٠٦)، ومن الطّبيعي أنَّ أجواء النُّزول وأسبابها المتفاوِتة والمتغيِّرة بحسب الظّروف والأحداث والوقائع الزَّمانيَّة والمكانيَّة تفقد الآيات خاصِّيَّة التَّتابع ووحدة الارتباط الصُّدوريّ، فيختلّ جزء من شروط تشخيص السِّياق.

ويلاحظ عليه: إنَّ هذا لا يعدُّ مانعاً إطلاقاً ولا يؤثّر على تشخيص السِّياق؛ لأنَّ السِّياق أنواع ومدارات، فالسِّياق الواسع النِّطاق -كالسِّياق العامِّ والسِّياق الموضوعيّ للسُّورة وسياق السُّوَر- لا يتوقّف تشخيصه على الصُّدور المتتابع، وذلك لوجود بديله الَّذي يكفل حصول التَّرابط بين أجزائه؛ إذ إنَّ السِّياق العامّ القرآنيّ يعتمد على السِّمة المعجِزة الفريدة الَّتي تمتاز بها الآيات وغررها ونسقها وأسلوبها المتماثل الَّذي لا يتضارب ولا يتناقض، فترتبط كلّ مفاصلها ببعضها بمنتهى التَّلاحم والانسجام، وتتَّصل بالأهداف الإلهيَّة العليا مهما كان موقعها وسبب نزولها وإن لم يكن بينها تتابع في الصّدور، والسِّياق الموضوعيّ للسّورة الواحدة تتآلف فيه آياتها تبعاً لغرضها ونظامها التّأليفيّ الخاصّ حتّى لو لم تنزل كلّها كدفعة، وسياق السُّوَر ترتبط فيه السُّوَر بشبيهاتها لمكان المناسبة بينها ولا تتّكئ على التَّتالي ووحدة الصّدور.

وأمَّا السِّياق غير الواسع كسياق الكلمات والجُمل فهو وإن كان تشخيصه يحتاج إلى شرط التَّتابع الصُّدوري إلَّا أنَّ نطاقه محدود ويسير جدّاً ولا يتجاوز المقاطع المشترِكة في السّبب والهدف والَّتي نزلت معاً، فيكون شرط الاتِّصال والتَّتابع بين أجزائه وآياته محفوظاً دائماً، وبعبارة ثانية: إنَّ صياغة المانع المذكور مبنيَّة على تصوُّر وجود سياق واحد لكلِّ القرآن الكريم وأنَّ تشخيصه يفتقر إلى التَّتابع الصُّدوريّ وهو مفقود والدِّليل هو نزول الآيات على هيئة النُّجوم، والجواب أنَّ السِّياق الشَّامل العريض لكلِّ القرآن لا نحتاج في تشخيصه إلى تحقُّق شرط التَّتابع حتَّى يصبح النُّزول المتفرِّق مانعاً، والسِّياق في النِّطاق المحدود يكون شرط التَّتابع فيه متحقِّقاً دائماً، والنَّتيجة: إنَّ نزول القرآن على هيئة النُّجوم لا يمنع من تحقُّق شيء من شروط تشخيص السِّياق.

۲. انتظام الآيات في السُّوَر على خلاف ترتيب النُّزول:

من المعروف أنَّ تسلسل الآيات داخل السُّوَر في المصحف المتداول ليس مرتَّباً بالضَّرورة بحسب النُّزول وطبق التَّتابع الزِّمنيّ، وإنِّما يتَّفق فيه التَّقديم والتَّأخير في موارد عديدة، فمثلاً نجد في سورة المُمتحنة أنَّ الآيات التِّسع الأُوَل ترتبط بحادثة حاطب بن أبي بلتعة الَّتي وقعت في العام الثَّامن من الهجرة، ثمّ تلتها آيتان ترتبطان بحادثة سبيعة الأسلميّة وبنود صلح الحديبيّة في العام السَّادس من الهجرة، وبعدها وردت آيات ترتبط بمبايعة النِّساء للنَّبيّ بعد عام الفتح في السِّنة التَّاسعة من الهجرة، والآية الأخيرة تتناسب مع الآية الأولى حول حادثة حاطب(10)، واختلال نَظم الفقرات وترتيب الجمل في الكلام يؤدّي إلى انخرام سياقها، ويكون مانعاً لنا من إمكان التّعويل عليه.

وفي مقام النِّقاش: ذكر بعض أقطاب هذا الفنّ أنَّ هذا لا يضرّ، لأنَّ موارده قليلة ومحدودة، وكان بأمرٍ مباشرٍ من الرَّسول فهو توقيفيّ محض، أي أنَّ جمعه سماويّ لنفس جهة صدوره فلا يختلف حكمه عن حكم السِّياق(11)، في حين رفض ذلك فريق آخر واعتبر ترتيب النُّزول هو المعيار لا التَّرتيب الفعليّ، إلِّا إذا ثبت بالدِّليل اتِّحادهما، وهو مفقود(12).

وتنظيم الكلام فيه يقتضي النَّظر في مسألتين:

المسألة الأولى: في تأليف الآيات داخل السُّوَر بالمصحف الفعليّ هل هو توقيفيّ محض من قبل النَّبيّ أم هو راجع إلى عمل واجتهاد الصَّحابة؟

المسألة الثَّانية: هل القول بتوقيفيَّة تأليف الآيات كافٍ للأخذ بالسِّياق؟

أمّا ما يتعلّق بالمسألة الأولى فالمشهور لدى الأعلام هو القول بالتوقيفيَّة، وذكروا من جملة أدلَّته ما سيق من إثباتاتٍ عقليَّةٍ ونقليَّةٍ على جمع القرآن في عهد النَّبيّ، إذ إنَّ القدَر المتيقّن منه هو ترتيب الآيات وتشكيل السُّوَر، ويؤيّده التَّعبير بالسُّورة في القرآن والرِّوايات الشَّريفة الَّذي يلزم منه الفراغ من كونها معيَّنة ومعهودة، ويترتَّب عليها بعض الأحكام الشَّرعيَّة وحصول الثَّواب، ويقع بها التَّحدّي والإعجاز: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}(سورة البقرة: ٢٣)(13)

وفي مقابل ذلك قول بتدخُّل يد الصِّحابة في التَّأليف، بتقريب: أنَّ الصَّحابة لم يكونوا على علم واطّلاع كامل بترتيب النُّزول، ولذا عمدوا إلى الاجتهاد والظُّنون في الموارد الَّتي جهلوها من هذا التّرتيب، إذ ذكرت روايات مستفيضة من الخاصَّة والعامَّة تفيد أنَّ المسلمين ما كانوا يعلمون تمام السُّورة إلَّا بنزول البسملة مع أنَّ الآيات بحسب النُّزول هي مرتَّبة ومضبوطة عند النَّبيّe، ممّا يكشف عن جهلهم بالنُّزول وترتيبه، ومن ثمّ حصل التَّغيير والاختلاف بتدخُّلهم فيه بالاجتهاد(14)، ولا يقال إنَّ هذا كان بمنظر من الأئمَّة المعصومينi ولم يعترضوا؛ لأنَّ صون وحدة المسلمين أهمّ بنظرهم، يقول العلَّامة الطَّباطبائيّ: "ترتيب النُّزول لم يكن ذا أهمّيّةٍ في تفسير القرآن بالقرآن الَّذي يهتمّ به أهل البيت... لأنَّ القرآن الَّذي هو الكتاب الدِّائم لكلّ الأزمان والعصور والأقوام والشُّعوب لا يمكن حصر مقاصده في خصوصيَّة زمنيَّة أو مكانيَّة أو حوادث النُّزول وأشباهها. نعم بمعرفة هذه الخصوصيَّات يمكن استفادة بعض الفوائد... ولكنَّ المحافظة على الوحدة الإسلاميَّة الَّتي كانت الهدف الدِّائم لأهل البيت هي أهمّ من هذه الفوائد الجزئيَّة"(15)

ولعلِّ رأي المشهور بالتَّوقيفيّة هو أقرب بما يخصُّ ترتيب الآيات ونظم السُّوَر، فغير المعصومg مهما جهد فلن يبلغ مستوى التَّأليف بين الآيات الَّتي يحفظ معها الإعجاز والتَّحدّي والأغراض السَّماويّة العليا، ومجرّد أنَّ ترتيب النُّزول ليست له الأهمّيّة القصوى في التَّفسير لا يلغي وجود آثاره ودواعيه الأخرى، وقد كان المؤمنون والحفّاظ يتلون القرآن سورة سورة، ولم يثبت لنا التِّاريخ بدليل معتبر أنَّ السُّورة الَّتي كانت تُقرأ بعد رحيل النَّبيّe هي غير ما كانت تُقرأ قبله، والأوفق أنَّ قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(سورة الحجر: ٩) لا يقتصر على حفظ أصل مادّة القرآن وحسب، بل يشمل مثل تشكيل السُّوَر وإدراج الآيات في أماكنها المناسبة، كما أنَّ الرِّوايات المشيرة إلى أنَّ المسلمين لا يعرفون انقضاء سورة وابتداء أخرى إلّا بنزول البسملة وإن دلّت على عدم علمهم الغيبيّ بحدود السُّوَر ولكن هي بذاتها تُعدّ قرينة على انتظام الآيات في سورها بشكل مسترسل وطبيعيّ، وهو تعبيرٌ آخر عن كونه من الوحي، كما يمكن أن يكون مغزاها هو أنَّهم لا يعرفون متى تُختم السُّورة؛ إذ يتوقّعون أن تنزل فيها بعض الزِّيادات والإضافات، وإنْ كان هذا إذا صحَّ فهو لبعض السُّوَر، باعتبار أنَّ أسماء السُّوَر واستحباب قراءتها وأحكامها في الصِّلاة قد أخذت مأخذها واشتهرت على أيّام الرَّسول، وإن أبينا فهي لا تعارض فكرة التَّوقيفيّة في التِّرتيب.

والمطلب لا يخلو من بعض الخفايا والأسرار، وبالذَّات مع وجود بعض الأمثلة الحسِّاسة كآيات الإمامة، ومع ثبوت مصحف الإمام عليّ الّذي هو مرتّب على طبق ترتيب النُّزول تماماً وقد رفضه القوم ولم يقبلوا به، فلا نعجب حينئذٍ من قيام نفَس السَّيِّد العلَّامة الَّذي يميل إلى الرَّأي الثَّاني بترديد المسألة بين القولَين في بعض مواطن تفسيره بقوله: "إمّا بأمر من النّبيّ أو عند التَّأليف بعد الرّحلة"(16)

وأمَّا بشأن المسألة الثَّانية فقد يقال إنَّ التَّأليف طالما أنَّه صادرٌ من قبل الشِّارع نفسه -إذ إنَّ الرسولّ المعصوم والأمين لا يتصرّف بمعزلٍ عن الوحي- فهو سوقٌ للكلام على طبق الأغراض الإلهيَّة ولن يبارحها، يقول الشِّيخ معرفة: "وهناك عامل آخر عمل في نظم قسم من الآيات على خلاف نزولها، وذلك بنصّ من رسول الله وتعيينه الخاصّ... ولا شكّ أنَّه صلى الله عليه وآله كان يرى المناسبة القريبة بين هذه الآية النَّازلة والآيات الَّتي سبق نزولها، فيأمر بثبتها معها بإذن الله تعالى"(17)، وعليه فضابطة السِّياق تامِّة وشرطها مُحرَز لنيابة التَّرتيب التَّوقيفيّ عن اتِّصال النُّزول ووحدة الاتّجاه.

إلَّا أنَّ هذا مناقش لنكتة أساسيّة؛ وهي أنَّ تأليف الآيات على غير نظمها الطَّبيعيّ في النُّزول ليس بالضَّرورة أن يكون لمناسبة قريبة بينها -كما ذكر العلِّامة معرفة- حتّى ينشأ منها سياق جديد، فلعلَّ تنظيمها لا يلتقي مع السِّياق أصلاً ولا يكون مسبَّباً عنه، بل هو ناتج عن دواعٍ وأغراض أخرى غير سياقيَّة، وربَّما نفس تغيير نظم النُّزول من الشّارع هو قرينة منه إلى المتلقِّي بأنَّ هذا الجزء من القرآن لا يُفهم ويُلحظ ضمن سياق ما حوله كما في آية التَّطهير، وهذا لا يُعدُّ مخالفة لسِيَر العقلاء وأسلوب محاورتهم. يقول الشَّيخ الرجبيّ: "وعلى افتراض صحّة هذا الرّأي جدلاً [توقيفيَّة ترتيب الآيات]، فلا يمكنه أن ينتج سياقاً معتبراً؛ وذلك لأن التَّرتيب التَّوقيفيّ، يكون سبباً في خلق السِّياق، حينما تكون العلاقة السِّياقيّة سبب (أو أحد أسباب) الحكم بالتَّرتيب التَّوقيفيّ. علماً بأنَّه لا يمكن القطع بذلك، لعدم وجود دليل معتبر عليه"(18).

والنِّتيجة: إنَّ القول بتوقيفيّة تأليف الآيات لوحده لا يكفي بالأخذ بالسِّياق في المواطن الَّتي ثبت تغايرها مع ترتيب النُّزول، وهي قليلة ومحدودة، ويبقى الباقي طبق ترتيب النُّزول الطَّبيعيّ.

طبعاً هذا الأمر لا ينسحب على بعض أنماط السِّياق -مثل السِّياق العامّ للقرآن وسياق الموضوع لكلِّ سورة- الَّتي لا تتأثّر بتغاير تموضع الآيات، كما أنَّ كلّ الكلام مبنيّ على ثبوت الاختلاف بين ترتيب النُّزول مع التَّرتيب الفعليّ وهو المعروف، أمّا إذا قلنا بالاتّحاد بينهما لعدم نهوض دليل معتبر على وجود التَّغاير -كما قد يلوح من كلمات شيخ الطَّائفة (19)- فمسألة المانعيَّة المذكورة تُلغى من الأساس.

۳. تبعيض الآيات بوقوع قسم منها في سورة والباقي في أخرى:

جاء في تفسير القمِّيّ: "وأمّا الآيات الَّتي هي في سورة وتمامها في سورة أخرى... وقوله {اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وأَصِيلًا}(سورة الفرقان: ٥) فردّ الله عليهم {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ المُبْطِلُونَ}(سورة العنكبوت: ٤٨) فنصف الآية في سورة الفرقان ونصفها في سورة القصص والعنكبوت ومثله كثير نذكره في مواضعه‏"(20).

ويُفهم منه تنقُّل بعض الآيات أو أجزائها عن مواضعها الأصليَّة وتفرُّقها في السُّوَر المختلِفة، فتأتي معه قضيَّة اختلال شرط السِّياق على غرار ما تقدَّم، وحينئذ ينطبق عليه الكلام نفسه في النُّقطة السِّابقة وتجري فيه النَّتيجة ذاتها وهي عدم المانعيَّة، وكلُّ هذا بناءً على ثبوت هكذا نوع من التَّنقُّلات بدليل معتبَر، وإلِّا فالأصل هو انتظامها ضمن موضعها الَّذي نزلت فيه، وتبقى كثرة وقوعه -بناء على ثبوته- محلَّ أخذ وردٍّ. 

٤. إعادة ترتيب السُّوَر في المصحف الفعليّ عند الجمع:

من المعروف أنَّ ترتيب سوَر المصحف الحاليّ لا يتطابق مع ترتيب النُّزول زمناً، فهل يعارض ذلك تشخيص وتطبيق قاعدة السِّياق؟

ابتداءً يمكن القول إنَّ اختلاف ترتيب السُّوَر لا يؤثّر على شيء من أنواع السِّياق المتقدّمة سوى ما قيل من وجود ارتباط بين السُّوَر اللَّاحقة والَّتي تسبقها بالتِّرتيب الفعليّ، أو وجود المناسبة بين أواخر السَّابقة ومطلع اللَّاحقة من كلِّ سورة، إلَّا أنَّ وجود هذه الرِّوابط والمناسبات بين جميع السُّوَر محلُّ توقُّف وتأمُّل، ويفتقر إلى القول بالتَّوقيفيَّة في ترتيب السُّوَر، وهو غير ثابت، ورأي الأغلبيَّة على خلافه(21)، فعدُّها من أنماط السِّياق أصلاً غير واضح وتامّ، وعليه لا تسبّب إعادة ترتيب السُّوَر أيّ إعاقة للقاعدة. بل الأمر كذلك أيضاً لو بنينا على وجود المناسبة والسِّياق بين السُّوَر بالتَّرتيب الفعليّ وقلنا بفكرة التَّوقيفيّة تنزُّلاً. 

المبحث الثَّالث: أمارات التَّعرُّف على السِّياق القرآنيّ

يتمّ التّعرّف على السِّياق في أيّ جزء ومقطع من القرآن الكريم بشكل عامّ عبر ملاحظة اتّجاه المعنى والبيان الّذي ينتجه نظم الكلمات والجُمل المترتّبة فيه، فهي ما تعاقبت بنحو مخصوص من المتكلّم إلَّا لأجل إيصال ذهن السَّامع إلى غاية ووجهة خاصَّة، وبالتَّالي فكلُّ التَّركيز والجهد ينصبّ على فهم هذه الوجهة ومراقبة نوع الارتباط والنِّسبة بين عناصر الآية أو الفقرة، وبعد ذلك ينتقل إلى الَّتي تقع بعدها وتجاورها ويعمل معها الشّيء نفسه، ثمّ يأتي دور دراسة علاقة الثَّانية مع الأولى، فإذا كانت القرائن تدلّ على وجود اتِّصال واتِّحاد بينهما في الصُّدور والغرض أو الاتّجاه فهذا يعني قيام سياقٍ مشتركٍ يجمع الاثنتين معاً، ولا يصحُّ أن تُفسَّر إحداهما بمعزل عن تأثير الأخرى، وإذا كانت المؤشِّرات تكشف عن تغاير بينهما في الغاية، وكلُّ منهما له مطلبه الخاصّ وموضوعه المستقلّ، فهذا يعني انعدام الدّلالة السِّياقيّة بين المقطعَين، ولا يحمل مضمون أحدهما على الثَّاني، ويتكرِّر الحال بالتحوَّل إلى المقطع الَّذي يليهما وهكذا.

طبعاً هذا في السِّياقات ذات النِّطاقات الخاصَّة كسياق الآية والفقرة، أمَّا في السِّياقات الواسعة -كسياق السُّورة والسِّياق الكامل للقرآن- فيُنظر إلى الآيات أنَّها تشترك جميعها في سياقٍ واحدٍ عريض ٍيتَّجه نحو الغرض العامّ للسُّورة أو القرآن وإن كانت بحسب موردها الخاصّ لها سياقها المستقلّ، وهذا منبِّه على أنَّ عمليَّة البحث عن السِّياق لا تقتصر على مستوىً واحد من الأغراض والمستويات، بل تحتاج إلى ملاحظة سائر النِّطاقات والمدارات السِّياقيّة، ويُستفاد أيضاً أنَّ المقطع القرآنيّ الواحد قد يكون له أكثر من دائرة سياق في ذات الوقت.

ثمّ إنّ في أساليب الكلام والمحاورات العديد من القرائن المفيدة في بيان اتّصال السِّياق أو انقطاعه، وتُعدّ من القنوات المهمَّة في فهم علاقة الجُمل والفقرات ببعضها، ومن الجدير الوقوف على نبذة منها:

قرائن اتّصال السِّياق: 

وهي الَّتي ترشد إلى وجود اتّصال سياقيّ بين مقطعَين قرآنيَّين أو أكثر، وهي على نحوَين؛ قرائن من داخل النَّصّ، وأخرى من خارجه.

فأمَّا القرائن الدَّاخلية فهي الَّتي تُعرف من سبك الكلام ولحنه وإيقاعه وضمائره وإعرابه ومضمون مطالبه ونحو ذلك، فمثلاً في سورة الفاتحة الَّتي غرضها الحمد لله تعالى عبر إظهار العبوديّة الخالصة له، وحصر الاستعانة به، وطلب الهداية الخاصّة منه سبحانه(22)، نجد تلاحم كلّ آياتها بنحو مرتَّب من أجل بلوغ هذا المقصد، وكأنَّ الجزء التَّالي منها قطعة ملتصِقة بما يسبقه، فبعد ابتدائها بالبسملة وذكر الحمد لله الموجِد المدبِّر: {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ} جاءت الفقرات التَّالية لترشد إلى صفات وكمالات من يستحقّ هذا الحمد، وتلقي نظرة على معاني التَّوحيد وأصول المبدأ والرِّسالة والمعاد: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وعطف هذه الصِّفات على بعضها إعراباً وسبكاً ومعنىً يُعطي مؤشِّراً قويّاً على ارتباطها واتِّصالها ببعضها، ثمّ يتلو ذلك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فنفس اللِّسان الحامد من العبد النِّاقص في بدايات السُّورة يبرز عبوديّته الحقَّة لمن يستحقّ الحمد والَّذي لا تصلح الاستعانة بغيره، فتكتمل صوَر وأقسام التَّوحيد، وهذه قرينة على المتابعة والتعلُّق بالمتقدِّم، ونفس هذا الحامد كذلك يطلب الهداية الخاصَّة الَّتي تؤهِّله لبلوغ العبوديَّة المنشودة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ}، والَّتي تفصِّلها وتشرحها الآية الأخيرة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}(23)، فنستنتج أنَّ مجموع آيات هذه السُّورة بينها تمام الالتئام والاتّساق والاتّصال السِّياقيّ، وقد دلَّنا على ذلك مجموع قرائنها النَّصيّة.

ونموذج آخر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ}(سورة البقرة: ١٥٣- ١٥٧) نجد أنَّ عطف {وَلَا تَقُولُوا} على {اسْتَعِينُوا} قرينة على الاتِّصال بين الآيتَين، كما أنَّ مضمونهما يساعد على ذلك، حيث إنَّ كلاهما تمهيد إلى التَّكليف الكبير الَّذي ينتظر المؤمنين -والَّذي يتطلَّب الاستعانة بمثل الصَّبر والصَّلاة والاعتقاد بأنَّ المجاهدين أحياء- وهو: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ...} والَّذي فيه بشرى للصَّابرين، فجاءت الآية التَّالية: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ...} لتوضِّح من هم بمزيد من البيان، والآية الأخيرة تُكمل الفكرة بتعداد ما يستحقِّون وفيها إشارة توحي بالعلاقة: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ...}، فتتجلّى لنا وحدة الغاية والارتباط الوثيق بين الآيات، ولذا يعلّق السِّيِّد العلَّامة الطَّباطبائيّ على ذلك: "خمس آيات متَّحدة السِّياق، متَّسقة الجُمل، ملتئمة المعاني، يسوق أوَّلها إلى آخرها ويرجع آخرها إلى أوَّلها، وهذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير مفرّقة"(24).

ومن القرائن الدِّاخلية المفيدة في استكشاف نكتة الاتِّصال السِّياقي أيضاً ما تُستوحى من مراقبة علَّة تعاقب الآيات وتتالي المقاطع، فإن كانت بصورة يفهم منها العرفُ وجود العلاقة بين اللَّاحق والسَّابق عُدِّت واحدةً من علامات الاتِّصال، كما لو كانت للتَّوضيح وزيادة البيان، أو التَّكميل، أو التَّأكيد، أو التَّعليل، أو التَّوبيخ والتِّرهيب، أو التَّشويق والتَّرغيب، أو التَّحضيض، أو التَّهويل، أو الإعراض وذكر المقابل -كذكر أحوال الجنَّة وصفات الفائزين فيها بعد تناول أوصاف النَّار ومصير أهلها من أجل التَّدبُّر والاعتبار مثلاً- ونحو ذلك، فهذه العلل تدلُّ على وجود نوع من الصِّلة والارتباط بين الآيات(25).

وأمَّا القرائن الخارجيَّة فهي من قبيل النُّصوص الرِّوائيّة أو التَّاريخيّة ونحوها ممَّا هو خارج عن المتن القرآنيّ، ومن أمثلتها التَّطبيقيَّة ما ورد حول علاقة الآيتين (١٠٣- ١٠٤) من سورة الأنعام: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ * قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}(سورة الأنعام: ١٠٣- ١٠٤)، حيث جاء في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله في قوله:‏ {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ}، قال: >إِحَاطَةُ الوَهْمِ، أَ لَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ‏} لَيْسَ يَعْنِي بَصَرَ العُيُونِ، {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ}‏ لَيْسَ يَعْنِي مِنَ البَصَرِ بِعَيْنِهِ، {وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهالَيْسَ يَعْنِي عَمَى العُيُونِ، إِنَّمَا عَنَى إِحَاطَةَ الوَهْمِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ بَصِيرٌ بِالشِّعْرِ وفُلَانٌ بَصِيرٌ بِالْفِقْهِ وفُلَانٌ بَصِيرٌ بِالدَّرَاهِمِ وفُلَانٌ بَصِيرٌ بِالثِّيَابِ، اللهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُرَى بِالْعَيْنِ<(26)، فنستنتج وجود التَّرابط والاتِّصال بين الآيتين.

قرائن انقطاع السِّياق:

وهي الَّتي تُرشد إلى انقطاع الصِّلة السِّياقية بين المقطع القرآنيّ اللَّاحق والَّذي يسبقه، وهي الأخرى على نحوَين؛ قرائن من داخل النَّصّ، وأخرى من خارجه، فتشبه ما تقدّم من قرائن اتِّصال السِّياق بشقِّيها، غاية الأمر أنَّها هنا تشعر بانفصال سياق الفقرة التَّالية عن سياق ما قبلها.

فالفراغ من كلّ سورة مثلاً يوحي بانقضاء سياق كلماتها وجملها الخاصَّة، وتغاير الضِّمائر والوجهة من عبارة إلى أخرى يُنبئ عن انقطاع التَّرابط السِّياقيّ بينهما، تماماً كما سبق عرضه عند التَّمثيل بآية التَّطهير، وتبدِّل المضمون والغرض وجوّ الكلام كذلك يدلّ ُعلى الانقطاع؛ كما في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ * إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}(سورة البقرة: ١٥٥- ١٥٨)، حيث إنَّ الآيات الثَّلاث الأُُوَل تتحدّث عن موضوع الصَّبر وموقعيَّته في حياة المؤمنين الصَّابرين وما أعدّه الله تعالى لهم من خير ومنزلة، فغرضها واحد وبينها سياق متّصل -خاصّة أنَّ الآية الثّانية والثّالثة بها تتمّة وشرح وبيان وإشارة إلى ما بالآية الأولى-، بينما الآية الرّابعة فهي في موضوع ثانٍ مستقلّ يتحدَّث عن تشريع الصِّفا والمروة وذِكر حكمها، فلا تتوافق مع ما قبلها، وبالتَّالي يظهر لنا انقضاء الصِّلة السِّياقية بينها وبين الآيات الثِّلاث الَّتي تسبقها، ويعزِّز ذلك ملاحظة الرِّوايات الواردة حول هذه الآية(27) والَّتي تعدُّ من القرائن الخارجيَّة؛ حيث لا يظهر منها أي إشارة وربط بموضوع الصَّبر والآيات الثَّلاث، وهكذا تدلُّنا القرائن المحيطة بالآيات على الاتِّصال أو الانقطاع، سواء كانت داخليَّةً أو خارجيَّةً.

والقول بانقطاع السِّياق لا يُفهم منه انقضاء كلُّ أنواعه، وإنَّما المراد به انتهاءه ضمن دائرة معيّنة، ولا يضرُّ بقاءه ضمن نطاق أوسع، فلو انقطع سياق الآية والجملة في فقرة مثلاً فلا يعني انقطاع سياق السُّورة فيها، ولو كان المنقطع هو سياق السُّورة -كما لو انتهت آياتها- فيبقى سياق القرآن العامِّ فيها قائماً، وهكذا، ولذا هناك من توصَّل إلى أنَّ القول بانقطاع السِّياق مُطلَقاً غير مطابق للواقع، وإنَّما يحكم بذلك في جزء من نطاقاته المختلِفة(28).

وأحياناً لا ينقطع انقطاعاً نهائيّاً حتّى في النّطاق الواحد؛ بل يكون بصورة مؤقّتة -إن صحّ التّعبير- لورود جملة معترضة في البَين تغايره في الهدف، ويعود بعدها إلى مجراه الطَّبيعيّ، فيحسب ما قبل وما بعد هذه الجملة بمثابة الكلام الواحد المترابط بينما يتعاطى معها بحساب مستقلّ.

فمثلاً في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(سورة المائدة: ٣) نجد أنَّ مطلع الآية إلى قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ}، وذيلها: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يتحدّثان عن موضوع واحد يتعلّق بمحرّمات الأطعمة وما يُستثنى منها، وبينهما تمام الاتِّساق والانسجام، ولا غرو من كونهما سياق واحدٍ متَّصل، بينما الوسط وهو قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} إلى قوله تعالى {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} يتناول موضوعاً مغايراً تماماً وليس له مناسبة مع المطلَع والذَّيل؛ حيث يتحدَّث عن إكمال الدِّين وتمام النِّعمة ويأس الكفَّار من القضاء على الدِّين -إشارة إلى حادثة الغدير وموضوع الولاية-، وحينئذٍ نتعاطى مع الفقرة المتوسِّطة بسياق منفصل عن سياق ما قبلها وبعدها وكأنَّها أشبه بالجملة المعترِضة أو الَّتي غُيِّر موضعها -لمصلحةٍ ما أقرّتها الحكمة الإلهيَّة- ففقدت شرط الاتِّصال السِّياقي بما يحيط بها في المكان الجديد، ويكون هذا التغيير في الغرض والموضوع تنبيهاً لنا وقرينة منصوبة من قبل الله تعالى كي نتعاطى مع الآية بأكثر من سياق، والنِّتيجة: إنَّ انقطاع السِّياق في هذه الأمثلة مؤقَّتٌ وآنيٌّ، ومن ثمِّ يعاود الاتِّصال.

قرائن ابتداء السِّياق وانتهائه:

ومن قرائن الاتِّصال أو الانقطاع أيضاً ما تكشف عن ابتداء السِّياق أو انتهائه، وهي نافعة في سرعة التَّعرُّف على السِّياق وعلى مقدار ما يحوي من فقرات مشتركة وحدود، ومن جملة ما تدلّ منها على الابتداء:

أ. ابتداء السُّورة، أي مطلعها وأوَّلها، فهو مؤشِّر جيِّد على افتتاح السِّياق؛ إذ لا يسبقه شيء حتَّى نتأمّل في علاقته به أو تابعيّته له، مثل قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}(سورة الأنبياء: ١- ٢)، فأوّل مضمون في هذه السُّورة -وهو اقتراب الحساب من النَّاس وهم في ذهول عنه وعن الآخرة، وفي حالة صدٍّ وإعراضٍ عن دعوات الأنبياء- يُعدُّ أوَّل السِّياق ونقطة انطلاقه.

ب. طرح موضوع جديد في المقطع أو التّأسيس لفكرة لم تطرق وما شابه، فإنّ ذلك بمثابة الاستهلال لغرضٍ غير مسبوق، فيصبح علامةً على ابتداء السِّياق، من قبيل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}(سورة البقرة: ٢٠٨)، والَّذي هو ابتداء لعِدَّة آيات متتالية تدعو إلى ضرورة الدِّخول في السِّلْم واتِّباع الأوامر الإلهيَّة من أجل التَّحفُّظ على الوحدة الدِّينيَّة في المجتمعات(29).

ج. عرض قصص التَّاريخ كمقدِّمة لإنشاء العِبرة وبيان السُّنن، فيكون أوَّل هذا العرض هو بداية السِّياق، نحو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ}(سورة الأنعام: ٧٤- ٦٧)، حيث سردت الآيات موقفاً للنَّبيّ إبراهيم مع عبدة الأصنام لتقدِّم لنا درساً بليغاً في فطريّة الدِّين والتَّوحيد وأسلوب الدَّعوة الحكيم.

د. تغيُّر السِّياق أو الخطاب من حال إلى حال، ويكون أوَّل هذا التَّغيير هو بداية السِّياق الجديد، كما في قوله عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(سورة الحديد: ١٦)، حيث كان الخطاب في الآيات الَّتي تسبقه خاصّاً بالمؤمنين -لحثّهم على الإيمان والإنفاق- ثمّ تغيّر إلى ما يعمّ غيرهم؛ يقول العلِّامة الطَّباطبائيّ: "وقد تغيّر السِّياق خلال الآيات إلى سياق عامّ يشمل المسلمين وأهل الكتاب بعد اختصاص السِّياق السَّابق بالمسلمين"(30).

هـ. صدور الآيات تعقيباً على وقائع وأسباب تستدعي النُّزول، فيُعدُّ مطلعها أمارةً على بداية نشوء سياقٍ جديد، نحو قوله تعالى: {يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}(سورة التوبة: ٦٤- ٦٥)، حيث رُوي له سبب للنّزول، وهو ائتمار مجموعة من المنافقين فيما بينهم لقتل الرَّسول (31)، ونزلت الآيات على إثره.

هذا بنحو عامٍّ ومجمل، وإلَّا فهناك قرائن خاصِّة ببعض المواضع القرآنيَّة وتفيد الابتداء أيضاً غير ما ذكر، كما يمكن الاستعانة في ذلك بالقرائن الخارجيَّة كالرِّوايات.

وأمَّا القرائن على انتهاء السِّياق فتُعرف إمِّا من خلال إتمام الكلام وانقطاع استرساله كبلوغ آخر السُّورة مثلاً، وإمَّا من خلال قيام الدَّليل الدَّاخليّ أو الخارجيّ على اكتمال مقدار الآيات الواردة معاً في تنزيلٍ واحدٍ، نحو ما يُنقَل عن أكثر المفسِّرين -بل قيل أنَّه إجماع منهم- من أنَّ أوَّل ما نزل من القرآن على قلب النَّبيّ هو الآيات الخمس الأُوَل من سورة العلق(32).

وإمّا عبر النّظر إلى ما يسبق موضع السِّياق الجديد؛ لأنَّه في الغالب لا يبدأ سياق في درج الكلام والآيات إلَّا ويكون ما قبله هو خاتمة السِّياق المنصرم، وبالتَّالي يمكننا اعتبار القرائن الدِّالّة على ابتداء السِّياق أنَّها مشيرة أيضاً إلى انتهاء السِّياق الَّذي يتقدَّمه، فتُكسبنا فائدة مزدوجة.

هذا ما لزم بيانه وعرضه ممّا يرتبط بتشخيص السِّياق القرآنيّ، من شروطٍ وموانعَ وعلاماتٍ وحدودٍ، والحمد لله أوَّلاً وآخراً وصلاته وسلامه على عبده المصطفى وآله الشُّرفاء الطَّاهرين.


(1) السَّيِّد محمَّد حسين الطَّباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج٦، ص٦.

(2) راجع: محمود رجبيّ، بحوث في منهج تفسير القرآن الكريم، ص١١٦- ١١٧؛ عليّ أكبر بابائيّ وغلام عليّ عزيزيّ كيا ومجتبى روحانيّ راد، روش شناسى تفسير قرآن، ص١٢٨- ١٢٩.

(3) راجع: الشَّيخ محمَّد هادي معرفة، التَّفسير الأثريّ الجامع، ج١، ص٨١.

(4) راجع مثلاً: محمود رجبيّ، بحوث في منهج تفسير القرآن الكريم، ص١١٦؛ محمَّد عليّ الرِّضائيّ الأصفهانيّ، منطق تفسير القرآن(١)= أصول وقواعد التَّفسير، ص٣٥٥؛ محمَّد فاكر الميبديّ، قواعد التَّفسير لدى الشِّيعة والسُّنّة، ص٣٢٠.

(5) انظر: محمود رجبيّ، بحوث في منهج تفسير القرآن الكريم، ص١٢١؛ محمِّد عليّ الرضائيّ الأصفهانيّ، منطق تفسير القرآن(١)= أصول وقواعد التَّفسير، ص٣٦٣.

(6) انظر: الشَّيخ محمَّد هادي معرفة، التَّفسير الأثريّ الجامع، ج١، ص٨١؛ محمَّد فاكر الميبديّ، قواعد التَّفسير لدى الشِّيعة والسُّنّة، ص٣٢٠.

(7) السَّيِّد منير الخباز، الدّلالة السِّياقية، مجلّة منار الهدى، العدد الأوَّل، السَّنة الأولى، رجب ١٤٤٢هـ- فبراير ٢٠٢١م، ص٣٤.

(8) محمَّد فاكر الميبديّ، قواعد التَّفسير لدى الشِّيعة والسُّنّة، ص٢٩٩.

(9) راجع: السَّيِّد محمَّد حسين الطَّباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج١٦، ص٣٢٩.

(10) راجع: الشَّيخ محمَّد هادي معرفة، التَّمهيد في علوم القرآن، ج١، ص٢٨٢.

(11) الشَّيخ محمَّد هادي معرفة، التَّمهيد في علوم القرآن، ج١، ص٢٨٤وج١، ص٨٤.

(12) الشَّيخ علي أكبر السَّيفيّ المازندرانيّ، دروس تمهيدية في القواعد التَّفسيريَّة، ج١، ص١٩١.

(13) لاحظ: الشَّيخ محمَّد فاضل اللَّنكرانيّ، مدخل التَّفسير، ص٣٠٥- ٣٠٨.

(14) لاحظ: السَّيِّد محمَّد حسين الطَّباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج١٢، ص١٢٧.

(15) السَّيِّد محمَّد حسين الطَّباطبائيّ، القرآن في الإسلام، ص١٣٨.

(16) السَّيِّد محمَّد حسين الطَّباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج١٦، ص٣١٢. ويقرب منه أيضاً: ج٥، ص١٦٧.

(17) الشَّيخ محمَّد هادي معرفة، التَّمهيد في علوم القرآن، ج١، ص٢٨١.

(18) محمود رجبيّ، بحوث في منهج تفسير القرآن الكريم، ص١٢١.

(19) الشَّيخ محمَّد بن الحسن الطُّوسيّ، التِّبيان في تفسير القرآن، ج١، ص٣.

(20) عليّ بن إبراهيم القمِّيّ، تفسير القمِّيّ، ج١، ص١٢.

(21) راجع: الشَّيخ محمَّد هادي معرفة، التَّمهيد في علوم القرآن، ج١، ص٢٨٥.

(22) راجع مثلاً: السَّيِّد أبو القاسم الخوئيّ، البيان في تفسير القرآن، ص٤٢٢.

(23) هذه الآية وما تقدَّمها: سورة الفاتحة: ١- ٧.

(24) السَّيِّد محمَّد حسين الطَّباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج١، ص٣٤٣.

(25) لمزيد من الاطلاع راجع: محمَّد فاكر الميبديّ، قواعد التَّفسير لدى الشِّيعة والسنّة، ص٣٢٦.

(26) الشَّيخ محمَّد بن يعقوب الكلينيّ، الكافي، الكلينيّ، ج١، ص٩٨.

(27) راجع: السَّيِّد هاشم التُّوبلانيّ البحرانيّ، البرهان في تفسير القرآن، ج١، ص٣٦٢؛ الشَّيخ عبد عليّ بن جمعة الحويزيّ، تفسير نور الثقلَين، ج١، ص١٤٦.

(28) د. آمال السَّيِّد محمَّد الأمين، أنواع السِّياق في القرآن الكريم.. دراسة تفسيريَّة موضوعيَّة، مقال بمجلّة جامعة النَّاصر، العدد ٧، يناير- يونيو ٢٠١٦م، ص١٢٠.

(29) السَّيِّد محمَّد حسين الطَّباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج٢، ص١٠١.

(30) السَّيِّد محمَّد حسين الطَّباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج١٩، ص١٦١.

(31) راجع: الشَّيخ الفضل بن الحسن الطَّبرسيّ، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج٥، ص٨١.

(32)

 راجع: الشَّيخ الفضل بن الحسن الطَّبرسيّ، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج١٠، ص٣٩٨؛ الشَّيخ ناصر مكارم الشِّيرازيّ، الأمثل في تفسير القرآن المُنزَل، ج٢٠، 

 


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا