ظهور حال المعصوم في التَّبليغ... (دائرته وحجّيَّته)

ظهور حال المعصوم في التَّبليغ...  (دائرته وحجّيَّته)

المقدِّمة

يطرق الأصوليُّون (باب ظهور حال المعصوم في التَّبليغ)، حينما يبحثون عن مدرك دلالة السُّكوت على الإمضاء، ولا يتعرَّضون إليه إلَّا بشكلٍ إجماليّ ومختصر، ممَّا دفعني إلى محاولة دراسته بنحوٍ أعمق والدُّخول في تفاصيله وما يرتبط به، ومن هنا تأتي أهمِّيَّة هذا البحث من جهة محاولته ربط المباحث الدَّخيلة بهذا الظُّهور الحاليّ، ووضعها في قالبٍ واحدٍ ضمن هيكليَّةٍ منطقيَّةٍ وموضوعيَّةٍ تساهم في عرضه بشكلٍ أفضل واستخلاص النَّتائج والمواقف منه بشكلٍ أوضح.

وقد انطلقتُ في البحث من تساؤلٍ أساسيّ، حاصله: ما هي الدَّائرة الَّتي يتشكَّل فيها ظهورُ حالٍ للمعصوم في التَّبليغ؟ وبعد حصوله، فعلى أيّ أساسٍ نستند إليه في استنباط الأحكام الشَّرعيَّة؟ وفي هذا السِّياق جاءت عددٌ من الأسئلة الفرعيَّة: ما هي أنواع الظُّهور الحاليّ؟ هل للمعصوم أحوالٌ وشؤونٌ أخرى غير شأن التَّبليغ؟ ما هي العوامل الدَّخيلة في تحديد حالٍ دون آخر؟

وللإجابة على ذلك نهجت المنهج الاستقرائيّ من خلال عرض الجزئيَّات ومن ثمَّ التَّوصل إلى نتائج عامَّة، وحتّى لا يكون البحثُ تفكيراً تجريديّاً وطرحاً لمحتملاتٍ ثبوتيَّةٍ فقط، فقد سعيت أن أطعِّمه ببعدٍ تطبيقيّ من خلال ذكر الشَّواهد من الرِّوايات على الأفكار الَّتي يحاول أن يثبتها البحث.

المبحث الأوَّل: تمهيد

النُّقطة الأولى: في اصطلاحات العنوان والمراد منه

۱. الظُّهور:

عرَّفت معاجم اللُّغة الظُّهور بـ"بُدُوّ الشيء الخفيِّ"(1) وقال الجوهريّ في الصّحاح: "ظَهَرَ الشيء بالفتح ظُهُوراً: تبيَّنَ"(2). ومن هنا نعرف أنَّ كلَّ أمرٍ ظاهر فهو أمر بيِّن ومشاهَد للعيان غير خافٍ عليهم ولا مستتر.

وأمَّا الظُّهور في الاصطلاح: فنجد أنَّ الأصوليِّين عرّفوه بما حاصله: انسباق أحد المعاني المحتملة من الدَّليل إلى ذهن الإنسان العرفيّ(3). فهو يفترض في مرتبة سابقة وجود أكثر من معنى محتمل للدَّليل ولكن يكون واحد من هذه المعاني هو الأسبق والأكثر احتمالاً عند الذِّهن العرفيّ، وكما نشاهد في التَّعريف فهم لم يخصّوه بالدَّليل اللَّفظيّ، بل الظُّهور يعمُّ الدَّليل اللَّفظيّ وغيره، كما إذا كان الدَّليل هو فعل المعصوم وكنَّا نحتمل إفادته لأكثر من مدلول، إلَّا أن أحدها هو الأسبق والأكثر احتمالاً عند العرف.

۲. الحال:

عرّفت معاجم اللُّغة الحال بـ"كِينَة الإِنْسانِ وما هو عليه من خَيْرٍ أَو شَرًّ"(4)، وقال الرَّاغب: "الحالُ ما يخْتصُّ به الإِنْسانُ وغَيْرُهُ من الأُمورِ المُتَغَيِّرةِ في نفْسِه وبَدَنِه وقنيته"(5). نلاحظ في التَّعريف الأوَّل تخصيص الحال بالإنسان بينما يذهب التَّعريف الثَّاني إلى عمومه لغير الإنسان، والمحصَّل من معناه –بعد كونه واضحاً- هو أنَّ الحال صفة للشَّيء يوصَف بها عندما تتغيَّر أحواله النَّفسيَّة أو الجسديَّة أو ما يرتبط به من أملاك وأموال. 

والحال في اصطلاح الأصوليِّين لم أجد له تعريفا لوحده، بل دائما ما يأتي هذا المصطلح في سياقات إضافيَّة لكلمة أخرى، كظاهر الحال، وشاهد الحال، ولم أجدهم يعطونه تفسيراً مختلِفاً عن المعنى اللُّغويّ. وعليه يكون معنى ظاهر الحال هو الوصف الَّذي يتَّصف به الإنسان أو الشَّيء بسبب الكيفيَّة الَّتي هو عليها وما يبدو منه، كما يتَّصف المتكلِم بأنَّه في مقام الهزل بسبب ما يبدو منه من خفَّة لسان وضحكات مثلاً.

۳. التَّبليغ:

عرَّفت معاجم اللُّغة التَّبليغ بمثل معنى الإبلاغ، حيث قالت: "الإِبلاغُ: الإِيصالُ، وَكَذَلِكَ التَّبليغ"(6)

وقد استُعمل هذا اللَّفظ في الاصطلاح بمثل معناه اللُّغويّ، فإذا قيل إنَّ المعصوم له وظيفة تبليغ الأحكام الشَّرعيَّة من عند اللهa إلى المكلَّفين كان معنى ذلك أنَّه موصِلٌ لهذه الأحكام. قال السَّيِّد الشَّهيد: "الإمامg بوصفه له مقام التَّبليغ والمسئوليَّة في أداء الأحكام يكون لسكوته.."(7)، نلاحظ في كلام السَّيِّد الشَّهيد أنَّه بيَّن مقام التَّبليغ للمعصوم بنفس معنى المسئوليَّة في أداء الأحكام وإيصالها.

وعلى هذا يكون المراد من عنوان البحث هو معرفة حجِّيَّة ودائرة تحقُّق اتِّصاف المعصوم -لا بنحو قطعيّ بل بنحو احتماليّ بحيث يكون هذا الاتِّصاف هو المنسبِق إلى الذِّهن العرفيّ- أنَّه موصِل إلى الأحكام الشَّرعيَّة عن اللهa بالاستفادة من القرائن المقاميَّة والشَّواهد الحاليَّة المحتفَّة بشخصيَّة المعصوم.

وبعبارة أخرى: البحث يسعى لتحديد الزَّمان الَّذي يتَّصف به المعصوم أنَّه مبلِّغٌ استناداً إلى حاله، والكيفيَّة الَّتي هو عليها وما يبدو منه. ولمَّا كانت هذه الكيفيَّة والقرائن الحاليَّة تارة تفيد القطع باتِّصاف المعصوم أنَّه مبلِّغ وتارة أخرى لا تفيد إلَّا الظَّنَّ بالوصف، وجب التَّنبيه على أنَّ المقصود بالبحث هو خصوص الثَّاني، أي أنَّ المبحوث عن حجِّيَّته ودائرة تحقُّقه هو اتِّصاف المعصوم أنَّه مبلِّغ على نحو ظنِّيّ ظهوريّ. 

النُّقطة الثَّانية: في حالات الظُّهور الحاليّ

عند البحث عن الظُّهور الحاليّ لمعرفة حيِّز الاستفادة منه ومحلِّ تطبيقه في استنباط الحكم الشَّرعيّ، نجد أنَّ الفقهاء والأصوليِّين يتناولونه بالبحث والتَّحقيق في ضمن مجالَين:

المجال الأوَّل: مدخليَّة الظُّهور الحاليّ في تنقيح ظهور الكلام وتحصيل مرادات المتكلِّم

حيث ذكروا -فيما ذكروا- تقسيم دلالات الكلام إلى تصوُّريَّة واستعماليَّة وجدِّيَّة وتفهيميَّة، وأنَّ الأولى من هذه الدّلالات لا يتوقَّف معرفتها إلَّا على العلم بالوضع، بينما الدّلالات الأخرى فهي دلالات قصديَّة، تكون ناشئة عن حالة نفسانيَّة يعيشها المتكلِّم وليست متوقِّفةً على الوضع اللُّغويّ والدّلالة اللَّفظيَّة بشكل كامل، بل هي مرتبطة به من جهة أنَّها تعيِّن أنَّ اللفظ قد استُعمل في أيّ معنى.

ولهذا يقول السَّيِّد الشَّهيد عن الدّلالات التِّصديقيَّة: "إنَّما الدّلالة التِّصديقيَّة دائماً تنشأ من ظهورات حاليّة وسياقيَّة وأمارات نوعيَّة، غير باب الأوضاع على ما يأتي إن شاء الله؛ ولذا تتأثَّر باختلاف الحالات"(8).

حينها نتساءل: إذا كانت الدّلالات القصديَّة مرتبِطةً بالنَّفس وحالاتها، وهذه الأخيرة أمور شخصيَّة داخليَّة لا كواشف لفظيَّة عنها في محلِّ الكلام، فكيف نصل إليها ونعلم بمراد المتكلِّم، وكونه قاصداً إلى هذا المعنى دون ذاك؟ هنا يأتي الظُّهور الحاليّ والدّلالة السِّياقيَّة غير الوضعيَّة وملاحظة الظُّروف المحتفَّة بكلام المتكلِّم لتعيين ذلك، وقد أشار الشَّيخ المظفَّر إلى عدد من الظُروف السِّياقيّة يتوقَّف عليها معرفة المراد التِّصديقيّ، منها كون المتكلِّم في مقام البيان والإفادة، وكونه جادّاً غير هازل، وكونه قاصداً معنى كلامه شاعراً به(9).

وأمّا كيف تتشكَّل هذه الظُّروف السِّياقيَّة ويتكوَّن ظاهرٌ للمتكلِّم فيها، ففي هذا الإطار ذكر السَّيِّد الشَّهيد حين بحثه عن تبعيَّة الدّلالة للإرادة أنَّ القصد والإرادة إنّما يكونان مستفادَين من قرينة سياقيَّة متَّصلة بالكلام، وهذه القرينة حاصلة بسبب الغلبة، أي غلبة كون المتكلِّم شاعراً بكلامه لا يتحدَّث على سبيل لقلقة اللِّسان، قال: 

"لا إشكال في أنّه تُستفاد من ظاهر الكلام الدّلالة التِّصديقيَّة أيضاً، لكنَّ هذا يكون باعتبار قرينة الغلبة، بحيث إنّ الغالب في المتكلّم العاقل عن وعي واختيار أنّه لا يتكلَّم بكلام على سبيل لقلقة اللّسان، وأنّه يقصد به أقوى المعاني المرتبِطة باللَّفظ في عالم التَّصوُّر، فهذه الغلبة تكون قرينة سياقيَّة على ثبوت الإرادة، فبهذه القرينة تتمّ الدّلالة التِّصديقيَّة، وبما أنّ هذه القرينة واضحة ومركوزة في الأذهان أصبحت كالقرينة المتَّصلة، فأوجبت الظُّهور في الكلام في ثبوت الإرادة للمعنى.

فأصل ظهور الكلام في ثبوت إرادة معناه في نفس المتكلِّم مسلَّم، إلَّا أنَّه ليس عن طريق الوضع، وإنَّما عن طريق القرينة السِّياقيّة"(10).

المجال الثَّاني: ظاهر الحال لوحده دلالةٌ استقلاليَّةٌ

لا ترتبط بتنقيح دلالة أخرى، بل هو بمجرَّده يكون كاشفاً عن أمرٍ ما، كما يُذكر في دلالة ظاهر الحال على الإذن والرِّضا(11)، وهناك عددٌ من الموارد استفاد فيها الفقهاء من هذا القسم من ظاهر الحال في تحديد الموقف الشَّرعيّ، منها:

مدخليَّة ظاهر الحال في تحديد دائرة الإذن:

لو فرضنا أرضاً لزيد قد غصبها عمرو، ثمَّ أعطى زيد إذناً مطلقاً للصَّلاة في أرضه المغصوبة، فهل يشمل الإذنُ الغاصبَ عمرو أيضا؟ تمسَّك العلَّامة بظاهر الحال في بيان عدم شموله له، قال ما نصّه: "لو أذن المالك للغاصب أو لغيره صحت صلاته لزوال المانع، ولو أذن مطلقا جاز لغير الغاصب عملاً بظاهر الحال"(12).

دلالة ظاهر الحال على عدم كون قبرَي مسلم بن عقيل وهاني بن عروة جزء من مسجد الكوفة:

قال السَّيِّد الخوئيّ: "سيجيء في المسألة الآتية أنَّه لو شُكَّ في موضعٍ أنَّه جزءٌ من المسجد أم لا، لم يجرِ عليه حكم المسجد، لأصالة العدم، إلَّا أنَّه في خصوص قبرهماh [مسلم وهاني] لا تصل النَّوبة إلى الشَّكّ كي يُتمسّك بالأصل، لأنّ شاهد الحال وظاهر الأمر يقتضي الجزم بالعدم، لأنَّ من المعلوم أنَّهماh قُتلا مظلومَين مقهورين من قبل طاغوت الوقت، ومن هذا شأنه كيف يتيسَّر دفنه في المسجد الجامع المبنيّ على نوعٍ من التَّعظيم والتَّكريم؟! ومن الَّذي يتجرّأ على ذلك في قبال تلك السُّلطة الجبَّارة الَّتي تصدَّت لذلك الهتك المعروف في كيفيَّة القتل وما بعده؟!"(13)

دلالة ظاهر حال من خلا بزوجته وأرخى السِّتر الدُّخول بها:

تفرض هذه المسألة أنَّ زوجاً قد طلّق زوجته ثمَّ اختصما في تحقُّق الدُّخول وعدمه، حيث مع الدُّخول يجب المهر أجمع على الزوج، والعدَّة على الزَّوجة، ومع عدمه يجب نصف المهر، ولا تجب عدَّة الزَّوجة، فقيل في المسألة استناداً إلى بعض الرِّوايات(14) وظاهر الحال أنّه إذا كان الزوجان متهمين غير مصدّقين، وقد خلا الزوج بزوجته وأرخى الستر فيجب عليه تمام المهر. قال الشَّيخ الطُّوسيّ: "متى خلا الرَّجل بامرأته، فأرخى السِّتر، ثمَّ طلّقها، وجب عليه المهر على ظاهر الحال، وكان على الحاكم أن يحكم بذلك، وإن لم يكن قد دخل بها، إلَّا أنَّه لا يحلُّ للمرأة أن تأخذ أكثر من نصف المهر ما لم يدخل بها"(15).

على ضوء ذلك سنسعى في طيَّات البحث أن نستخلص آثار الظُّهور الحاليّ في التَّبليغ للمعصوم على المستويَين المتقدِّمَين، أعني مدخليَّته في تنقيح ظهور الكلام، والأثر المستفاد منه لوحده من دون ارتباطٍ بالألفاظ، حيث ينفعنا الثَّاني في مباحث التَّقرير من السُّنَّة، وأنَّه لو تمَّ فسيكون مدركاً من مدارك دلالة السُّكوت على الإمضاء.

المبحث الثَّاني: في أحوال المعصومg

يفترِض عنوان البحث أنَّ للمعصوم ظهورَ حالٍ في التَّبليغ، ممَّا يعني وجود أحوال أخرى له تكون مزاحمةً لهذا الحال ومسبّبةً لخروجه من حالة النَّصِّيَّة إلى الظُّهور، وفي بعض الأحيان انتفاء هذه الحالة مطلقاً. هنا يأتي دور البحث عن أحوال المعصوم وشؤونه، إذ بدراستها سيتمهَّد لنا الطَّريق إلى معرفة العوامل والخصوصيَّات المساهِمة في رفع احتمال ظهور حاله في حالٍ دون آخر، ومن خلال هذه النُّكتة نتعقَّل أهمِّيَّة هذا المبحث ودوره المحوريّ في تحديد دائرة الاستفادة من ظهور حال المعصوم في التَّبليغ سعةً وضيقاً، وبالتالي معالجة الرَّكيزة الأولى من ركائز هذه المقالة المتواضِعة.

الالتفات إلى تغاير أحوال المعصوم وأثرها في حجِّيَّة السُّنَّة قديم بقدم أصولنا الكلاميَّة، فهذا الشَّيخ المفيد يقرِّر عدداً من شؤون المعصوم ووظائفه، حيث يقول في موضع من كتاب أوائل المقالات: "إنَّ الأئمة القائمين مقام الأنبياءe في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشَّرائع وتأديب الأنام معصومون كعصمة الأنبياء"(16) ويقول في موضع آخر: "إنَّ رسل الله تعالى من البشر وأنبياءه والأئمَّة من خلفائه محدثون مصنوعون تلحقهم الآلام، وتحدث لهم اللَّذات، وتنمي أجسامهم بالأغذية، وتنقص على مرور الزَّمان، ويحلُّ بهم الموتُ ويجوز عليهم الفناء، وعلى هذا القول إجماع أهل التَّوحيد"(17). إذ بجمع الكلامَين نجد أنَّ سلوك المعصوم وما يصدر عنه قد يكون عن جهة بشريَّة شخصيَّة تارةً، وعن جهة إلهيَّة تتعلَّق بالمنصب المناط به من رسالة أو إمامة تارةً أخرى.

وبالمجمل يمكن أن نقسِّم الصَّادر عن المعصوم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ إلى قسمَين رئيسين؛ الأوَّل ما يكون صادراً عن جهة في المعصوم لها اقتضاء إفادة حكمٍ شرعيٍّ كلِّيٍّ، والثَّاني ما ليس كذلك. هذا التَّقسيم يمكن أن نقتنصه من كلمات الأصوليِّين حين بحثهم عن معنى السُّنَّة الحجَّة ومصداقها(18)، حيث يخصُّونها بما كانت مفيدةً لموقف شرعيّ ولا يعمِّمونها إلى غير ذلك ممَّا يفيد موقفاً أخلاقيّاً أو عقائديّاً، فضلاً عن كونه موقفاً صادراً عن جبلَّةٍ وطبيعةٍ بشريَّةٍ. وعليه، بناءً على انقسام الصَّادر عن المعصوم من قول أو سلوك إلى ما يكون سنَّة وما لا يكون كذلك، نتساءل الآن: ما هي الجهات والحالات الَّتي تكون في المعصوم فنستند إليها لإثبات كون سلوكه أو قوله سنَّةً مفيدةً لحكمٍ شرعيٍّ كلِّيٍّ، وبالتالي حجَّة على المكلَّفين، وما هي الجهات الَّتي لا تكون كذلك؟

النُّقطة الأولى: حالات لها اقتضاء إفادة حكم شرعيٍّ كلِّيٍّ

۱. تبليغ الأحكام:

يُعتبر هذا الشَّأن للمعصوم أهمّ شؤونه وحالاته، والوظيفة الأساسيَّة الَّتي من خلالها تسلّم منصب النُّبوَّة أو الإمامة، حيث يكون طريقاً واصلاً بين العباد ومعرفة التَّكاليف المناطة بهم من قبل اللهa.

ومدرك هذا الشَّأن بعد وضوحه وكونه مقتضى الاتِّصاف بوصف النُّبوَّة والإمامة قوله تعالى: {إِنِّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}(سورة الرعد: ٧) حيث وجّه الباري تعالى خطابه للرسولe أنَّ مهمَّته المجعولة له هي الإنذار وتبليغ رسالات ربِّه، وأضاف أنَّ هذه المهمَّة لا تنقضي بذهاب الرَّسول الخاتم، بل هي مستمِرَّة باستمرار الأقوام، بحيث يكون لكلِّ قومٍ هادٍ، في إشارة إلى منصب الإمامة(19).

ويظهر هذا الحال على سلوك المعصوم بأنحاءٍ مختلفة، أي أنَّ طريقة تبليغه للأحكام لا تكون دائماً على نسقٍ واحد، بل تكون تارةً من خلال بيان الحكم مباشرة من دون التَّصريح بمرجعيته القانونيَّة والمدرَكِ الَّذي على أساسه يكون الحكم نافذاً في حقِّ المكلَّفين، وهو الأغلب في أحاديث أهل البيتi، ويكون من خلال التَّصريح بمرجعيَّةٍ قانونيَّةٍ تارةً أخرى، وهي إمَّا الإبلاغ عن الوحي أو الإبلاغ عن حكم الله أو تفسير القرآن أو إعمال الولاية التَّشريعيَّة الخاصّة بالنَّبيّe أو الإبلاغ عن سنَّة النَّبيّe.

والرِّوايات التَّالية يمكن أن نعدَّها مثالاً لكلِّ مظهرٍ من المظاهر المذكورة:

بيان الحكم مباشرةً من دون التَّصريح بالمرجعيَّة القانونيَّة:

ما رواه الشَّيخ الطُّوسيّ: عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِg قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ أَرْضَ الحَرْبِ بِأَمَانٍ فَغَزَا القَوْمَ الَّذِينَ دَخَلَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ آخَرُونَ. قَالَ >عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ ويُقَاتِلَ عَلَى حُكْمِ اللهِ وحُكْمِ رَسُولِهِ، وأَمَّا أَنْ يُقَاتِلَ الكُفَّارَ عَلَى حُكْمِ الجَوْرِ وسُنَّتِهِمْ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ(20).

نلاحظ في هذه الرِّواية أنَّ المعصوم أطلق الحكم مجرَّداً عن مرجعيَّته القانونيَّة وقرَّر مباشرةً أنَّ على المكلّف حكماً بحرمة القتال مع الكفار ضدَّ كفار آخرين إذا كان منطلقهم في القتال هو الجور والطُّغيان، أو بناءً على ما تواضع عليه الكفار من أسباب تُبيح لأحدهم قتال الآخر، بل يجب على المسلم ألَّا يقاتل إلَّا للأسباب الَّتي جعلها الله ورسولهe لإباحة القتال أو إيجابه.

بيان الحكم إبلاغاً عن الوحي:

مصداق هذا النَّحو من تبليغ الأحكام هو آيات الأحكام الواردة على لسان النَّبيّe نقلاً عن الوحي عن اللهa، ومنها قوله تعالى: {فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ومَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً* وما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها واجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً واجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً* الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ والَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً}(سورة النساء: ٧٤ )، والآية –مع مثيلاتها- واضحة الدّلالة في إيجاب الجهاد على المسلمين، وهو حكم شرعيّ كلِّيّ بلّغه الرَّسول الأمينe بواسطة الوحي عن اللهa لعموم المسلمين.

بيان الحكم إبلاغاً عن حكم الله:

في هذا النَّحو من التَّبليغ يقوم المعصوم بإبلاغ الحكم مع إسناده إلى اللهa والتعبير عنه بأنَّه حكم الله. منه ما رواه ثقة الإسلام الكلينيّ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ رَفَعَهُ قَالَ: قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينg: «إِنَّ اللهَa فَرَضَ الجِهَادَ وعَظَّمَهُ وجَعَلَهُ نَصْرَهُ ونَاصِرَهُ، وَاللهِ مَا صَلَحَتْ دُنْيَا وَلاَ دِينٌ إِلاَّ بِهِ» (21)

كما نشاهد في صدر الرِّواية يسند المعصوم هنا حكم وجوب الجهاد إلى اللهa ويعبِّر عنه بأنَّه فرض منه تعالى.

بيان الحكم تفسيراً للقرآن:

في كثير من الرِّوايات نجد أنَّ المعصوم يبيّن الحكم الشَّرعيّ الكلِّيّ من خلال تفسير القرآن الكريم وتوضيح آياته وبيان الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه. من ذلك ما نقله الحرُّ العامليّ: عَنْ عَلِيّ بْنُ الحُسَيْنِ المُوسَوِيُّ المُرْتَضَى فِي رِسَالَةِ المُحْكَمِ والمُتَشَابِهِ نَقْلاً مِنْ تَفْسِيرِ النُّعْمَانِيِّ بِإِسْنَادِهِ الآتِي عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِi عَنْ عَلِيٍّg: فِي بَيَانِ النَّاسِخِ والمَنْسُوخِ قَالَ «[...] ومِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ فَرَضَ القِتَالَ عَلَى الأُمَّةِ فَجَعَلَ عَلَى الرَّجُلِ الوَاحِدِ أَنْ يُقَاتِلَ عَشَرَةً مِنَ المُشْرِكِينَ فَقَالَ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صٰابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، ثُمَّ نَسَخَهَا سُبْحَانَهُ فَقَالَ: {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صٰابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}، فَنَسَخَ بِهَذِهِ الآيَةِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَ فَرْضُ المُؤْمِنِينَ فِي الحَرْبِ إِذَا كَانَ عِدَّةُ المُشْرِكِينَ أَكْثَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ لِرَجُلٍ لَمْ يَكُنْ فَارّاً مِنَ الزَّحْفِ وإِنْ كَانَ العِدَّةُ رَجُلَيْنِ لِرَجُلٍ كَانَ فَارّاً مِنَ الزَّحْفِ»(22)

من الأحكام المذكورة في أبواب الجهاد هو حرمة الفرار من الزَّحف، وفي هذه الرِّواية نلاحظ أنَّ المعصوم يبيِّن من يصدق عليه عنوان الفارّ من الزَّحف من خلال تفسيره للقرآن وبيانه للتَّسلسل الزَّمنيّ في تغيُّر مصداقه وصولاً إلى الحكم الأخير.

بيان الحكم تشريعاً من النَّبيّe:

والمراد من هذا النَّحو من التَّبليغ أن ينصّ المعصوم على أنَّ المرجعيَّة القانونيَّة للحكم الشَّرعيّ الَّذي يبلغه هو تشريع مباشر من رسول اللهe. من ذلك ما رواه الشَّيخ الكلينيّ عَنِ الفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِg يَقُولُ فِي حَدِيثٍ: «إِنَّ اللهَaَ فَرَضَ الصَّلاَةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، فَأَضَافَ رَسُولُ اللهِe إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وإِلَى المَغْرِبِ رَكْعَةً، فَصَارَتْ عَدِيلَ الفَرِيضَةِ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُنَّ إِلَّا فِي سَفَرٍ، وأَفْرَدَ الرَّكْعَةَ فِي المَغْرِبِ فَتَرَكَهَا قَائِمَةً فِي السَّفَرِ والحَضَرِ فَأَجَازَ اللهُ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَصَارَتِ الفَرِيضَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً»(23).

يقرِّر المعصوم في هذه الرِّواية عدد الرَّكعات في الفرائض اليوميَّة، ويشير إلى أنَّ وجوب الرَّكعات الزَّائدة إنّما جاء تشريعاً من رسول اللهe.

بيان الحكم إبلاغا عن سنَّة النَّبيّe.

آخر مظهر من مظاهر التَّبليغ وأنحائه هو أن يسنِد المعصوم الحكم الشَّرعيّ الكلِّيّ إلى سنَّة رسول اللهe سواء كانت سنَّةً قوليَّةً أو فعليَّةً أو تقريريَّةً. منه ما رواه ثقة الإسلام الكلينيّ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهg قَالَ: >قَالَ رَسُولُ اللهِe: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلِمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ<(24).

۲. امتثال الأحكام:

للمعصوم بما هو مكلَّف من المكلَّفين شأن امتثال الأحكام الشَّرعيَّة، سواء كانت هذه الأحكام متعلِقةً به من جهة كونها عامّةً على كلِّ المكلّفين أو خاصَّةً بمقام ووظيفة ملقاة على عاتقه أو خاصَّة بشخصه، فالأوَّل من قبيل الأحكام التَّكليفيَّة العامَّة كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصَّلاة والحجِّ وغيرها، والثَّاني كرعاية مصالح المسلمين وإدارة شؤونهم بما هو ولي أمر للأمَّة، وكالحكم بين النَّاس في المنازعات والمرافعات بما هو قاضٍ شرعيٍّ، والثَّالث كوجوب قيام اللَّيل على رسول اللهe وجواز زواجه من أكثر من أربع نساء.

ومدرك هذا الشَّأن هو الدَّليل العقليّ القاضي أنَّ المعصوم لا يمكن أن تصدر منه مخالفة شرعيَّة، وبالتَّالي كلّ حكم قد دخل في عهدته لا نترقّب منه إلَّا امتثاله، وهذا الارتباط -الموجود بين العصمة وهذا الحال- يستند الأصوليُّون إليه في تنقيح حجِّيَّة أفعال المعصوم وتروكاته ومدى دلالتها على الحكم الشَّرعيّ الكلِّيّ، بحيث يكون المقدار المتيقّن من الاستفادة هو الجواز بالمعنى الأعمِّ حين الفعل، وعدم الوجوب حين التَّرك، إلَّا إذا اقترن فعله أو تركه بقرينة توجب تعيّنه في الحكم التَّكليفيّ(25).

وما يجب التَّنبيه عليه في النَّوع الثَّاني من الأحكام المتعلِّقة بالمعصوم، وهي الناشئة عن مقام ووظيفة ملقاة على عاتقه بالخصوص، هو أنَّ هنا فرقاً في تحصيل الحكم الشَّرعيّ الكلِّيّ بين ما يُعدُّ امتثالاً لمقتضى الولاية والقضاء من قبل المعصوم، وما يكون ناشئاً عن هاتين الصِّفتين، حيث يستفاد الحكم الشَّرعيّ الكلِّيّ من الأوَّل دون الثَّاني الَّذي يأتي فيه احتمال كون الناشئ قضيَّةً في واقعة.

توضيح ذلك: إنَّ الصِّفة الثَّابتة للمعصوم من كونه ولي أمرٍ أو قاضياً تلزِمه بعدد من التَّكاليف -كما ذكرنا آنفا-، وبالتَّالي لو ثبتت هذه الصِّفة لغير المعصوم فستثبت معها تكاليفها أيضاً، ويصير هذا المتَّصف مكلَّفاً بما كان المعصوم مكلَّفاً به، وحينها يشكِّل امتثال المعصوم لهذه التَّكاليف كاشفاً عنها، ويكون شأنه المذكور هنا من ضمن الحالات الَّتي لها اقتضاء إفادة حكمٍ شرعيٍّ كلِّيٍّ.

لكن بحكم أنَّ منصب الولاية ومنصب القضاء يعطي صلاحيةً للولي والقاضي بتشخيص وإصدار حكم في واقعةٍ ما، كقيام الولي بقطع العلاقة مع اليهود وطردهم من المدينة، وبما أنَّ الأحكام الولائيَّة ناشئة من ملاحظة المصالح والمفاسد الكلِّيَّة المتغيِّرة بتغيِّر الزَّمان والمكان والظُّروف فإنَّ احتمال لحاظ خصوصيَّاتٍ في هذه الواقعة يغدو كبيراً جدّاً، ومعه يكون الحكم مختصّاً بقضيَّةٍ خارجيَّةٍ يصعب تجريدها من كلِّ خصوصيَّاتها ولحاظ الجهة الَّتي صدر من أجلها الحكم بالذَّات، وبالتَّالي تعميمها وجعلها حكماً شرعيّاً كلِّيّاً. وكذلك الأمر في القضاء حيث يشخّص القاضي الحكم ويصدره على أساس القانون الإسلاميّ، حيث لا نعلم كيفيَّة تشخيصه وتطبيقه للقانون، فيغدو الحكم قضيَّةً في واقعة، وإن كان احتمال ذلك أقلَّ من الحكم الولائيّ.

يقول الشَّيخ النَّجفيّ في جواهره حين التَّفريق بين الفتوى والحكم: "بقي الكلام في الفرق بينهما (الفتوى والحكم)، والظَّاهر أنَّ المراد بالأولى (الفتوى) الإخبار عن الله تعالى بحكمٍ شرعيٍّ متعلِّقٍ بكلِّيٍّ، كالقول بنجاسة ملاقي البول أو الخمر، وأمَّا قول هذا القدح نجس لذلك فهو ليس فتوى في الحقيقة وإن كان ربما يتوسَّع بإطلاقها عليه، وأمَّا الحكم فهو إنشاء إنفاذ من الحاكم لا منه تعالى لحكمٍ شرعيٍّ أو وضعيٍّ أو موضوعهما في شيء مخصوص"(26).

وبالمحصَّل يكون الصَّادر عن المعصوم من جهة امتثاله لكونه وليّاً أو قاضياً مفيداً لحكمٍ شرعيٍّ كلِّيٍّ، وأمَّا تطبيقات الولاية والقضاء فلا تكون كذلك.

ومن الرِّوايات الدَّالَّة على هذا الشَّأن:

ما رواه ثقة الإسلام الكلينيّ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وزُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍg: أَنَّهُمَا سَأَلاَهُ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ قَالَ: >نَهَى رَسُولُ اللهِe عَنْهَا، وعَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِهَا فِي ذَلِكَ الوَقْتِ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَمُولَةَ النَّاسِ، وإِنَّمَا الحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُa فِي القُرْآنِ(27).

تدلُّ الرِّاوية على أنَّ التَّحريم النَّبويّ لأكل لحوم الحُمر الأهليَّة لم يكن تبليغاً عن حكم كلِّيٍّ، بل هو حكمٌ ولائيٌّ مختصٌّ بتلك الظُّروف الَّتي وقع فيها التَّحريم، وهي من جهة أخرى تدلُّ من خلال دلالة فعل النَّبيّe، وهو تحريم المباح، على جواز لمن يكون له منصب الولاية تحريم المباح.

۳ـ المحافظة على أغراض الشَّارع:

لا شكَّ في أنَّ للمشرِّع غايةً وغرضاً من جعله الأحكام الشَّرعيَّة على المكلَّفين، حيث إنَّ السِّيرة العمليَّة للمشرِّعين العرفيِّين قائمة على وضع الدَساتير رعايةً لمصلحة حفظ النِّظام بتشريع السُّلوك العمليّ وتحديد أطره القانونيَّة وتعيين ما هو مباح ممَّا هو لازم، فهو لا يقنن لأجل التَّقنين فقط وكتابة الدَّساتير وثمَّ الاحتفاظ بها في الخزائن الخاصَّة، وإلَّا كان فعله فعلاً سفهيّاً لا محصَّل له؛ لأنَّه ليس له حينئذ إنفاذ السُّلطتين الحكوميَّة والقضائيَّة والاحتجاج على عدم امتثال المكلَّف.

وقد ذُكر أنَّ الغرض من جعل الحكم الشَّرعيّ هو المحرِّكيَّة الشَّأنيَّة نحو الامتثال(28)، أي إنَّ الحكم الشَّرعيّ قد قُنّن ليصل في النِّهاية إلى المكلَّفين ويكون له شأنيَّة إيجاد الدَّاعي المولويّ للامتثال، وتحصيل هذا الغرض عند المشرِّع يقتضي إزاحة كلِّ ما من شأنه أن يشكِّل مانعاً من وجوده. يقول السَّيِّد الشَّهيد: "إنّه (المعصوم) بحكم كونه حجَّةً على العباد في تبليغ الشَّريعة مسؤول عن توضيح ما يخالفها من أوضاع النَّاس وإلَّا كان مخالفاً لمسئوليَّته بما هو مكلَّف بالفتح وناقضاً لغرضه بما هو مكلِّف بالكسر وكلاهما مستحيل. وهذا الوجه ينطبق فيما إذا كانت السِّيرة العقلائيَّة تُشكّل خطراً على أغراض الشَّارع بأنْ كان مفعولها سارياً إلى باب الشَّرعيَّات"(29).

يثبت هذا الشَّأن بملاك استحالة نقض الغرض على الحكيم الملتفِت، وكما هو ملاحظ في هذا الملاك نحن نفترض في مرتبةٍ سابقةٍ أنَّ المشرِّع حكيم ومعصوم؛ لأنَّه كما يُتصوّر نقض الغرض من غير الحكيم، يُتصوّر أيضا من الحكيم غير الملتفِت. فيكون هذا الشَّأن كسابقه تفريعاً من تفريعات العصمة؛ ولهذا استفاد منه الأصوليُّون بجعله مدركاً من مدارك دلالة السُّكوت على التَّقرير والإمضاء.

من أبرز الأمثلة على هذا الشَّأن هو النَّهي الكثير عن إعمال القياس في استنباط الأحكام الشَّرعيَّة(30).

تنبيه:

عُبّر في عنوان هذه النُّقطة من البحث بكون الشَّأن له (قابليَّة) إفادة حكمٍ شرعيًّ كلِّيٍّ؛ لأنَّه قد تُتصوَّر موانع تحول دون استكشاف الحكم الشَّرعيّ الكلِّيّ أو تعميمه، مثل وجود احتمال عدم تبليغ الحكم لمصلحة أكبر كالتَّدرج في بيان الأحكام أو التَّقيَّة في الشَّأن الأوَّل، ووجود احتمال اختصاص الفعل بشخص المعصوم في الشَّأن الثَّاني، ووجود احتمال عدم انتقاض الغرض رغم مغايرة فعل المكلَّف أو المكلَّفين في الشَّأن الثَّالث، كما لو كان الفعل موافقاً لمقتضى الاحتياط(31).

النُّقطة الثَّانية: حالات ليس لها اقتضاء إفادة حكمٍ شرعيٍّ كلِّيٍّ

وهي الحالات والشُّؤون الَّتي لا تكون مندرجةً تحت ما قدَّمناه من الشُّؤون الثَّلاثة، كفعل ما هو مقتضى الطَّبيعة البشريَّة، والإخبار عن الحقائق التَّكوينيَّة والمغيَبات. وهنا نشير إلى أهمِّ هذه الحالات الَّتي لها حضور كبير في حياة المعصومينi.

۱. التَّقيَّة:

لعبت التَّقيَّة دوراً محوريّاً في طريقة حياة كثيرٍ من أئمَّة أهل البيتi، وألقت بظلالها مباشرة على وظيفتهم في تبليغ الأحكام، فكانت سبباً رئيساً لوقوع التَّعارض بين الرِّوايات، لدرجة أنَّ الرُّواة الَّذين عايشوا أعصار التَّقيَّة التفتوا إلى هذه المشكلة وبالتالي حاولوا التَّفطُّن لكون ما صدر من المعصوم هل كان عن جهة إفادة الحكم الشَّرعيّ الواقعيّ أو كما عبَّر بعضهم كان ما صدر قد أخرجه المعصوم من «جراب النُّورة»(32).

مدرك هذا الشَّأن الرِّوايات الكثيرة الحاثَّة على ضرورة الالتزام بالتَّقيَّة أو المصرِّحة أنَّ المعصوم نفسَه يتَّقي، كما روى الحرُّ العامليّ نقلاً عن بصائر الدَّرجات، عَنِ المُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِg: >يَا مُعَلَّى اُكْتُمْ أَمْرَنَا ولاَ تُذِعْهُ، فَإِنَّهُ مَنْ كَتَمَ أَمْرَنَا ولاَ يُذِيعُهُ أَعَزَّهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا، وجَعَلَهُ نُوراً بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَقُودُهُ إِلَى الجَنَّةِ، يَا مُعَلَّى، إِنَّ التَّقِيَّةَ دِينِي ودَيْنُ آبَائِي، ولاَ دِينَ لِمَنْ لاَ تَقِيَّةَ لَهُ»(33)

ومن الرِّوايات الدَّالَّة على هذا الشَّأن:

ما رواه الشَّيخ الطُّوسيّ: عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِgُ قَالَ قَالَ لِي: >يَا مُفَضَّلُ، مَنْ تَعَرَّضَ لِسُلْطَانٍ جَائِرٍ فَأَصَابَتْهُ بَلِيَّةٌ لَمْ يُؤْجَرْ عَلَيْهَا ولَمْ يُرْزَقِ الصَّبْرَ عَلَيْهَا<(34).

ظاهر الرِّواية أنَّ المعصوم في مقام تأسيس حكمٍ شرعيٍّ كلِّيٍّ بحرمة مواجهة السُّلطان الجائر إذا ترتَّبت عليه تضحية، ولكنَّ مثل هذا المضمون يخالف السِّيرة العمليَّة لتكوُّن الإسلام وطريقة إدارته للمجتمع ونظرته للحكم(35)، ويخالف روايات أخرى وردت في مدح بعض حركات الثَّورة على سلاطين الجَور(36). هذا مضافاً إلى أنَّ الرَّاوي لهذه الرِّواية لا وجود له في كتب الرِّجال، بل الموجود هو مفضل بن مزيد لا ابن يزيد، وقد خدش فيه بعض الفقهاء واعتبروه عميلاً للسلطة، ومع ذلك يغدو احتمال التَّقيَّة -إذا لم تكن الرِّواية مكذوبة- كبيراً جدّاً.

يقول السَّيِّد الحائريّ: "مفضّل بن يزيد غير مذكور في كتب الرِّجال، وإنَّما المذكور فيها مفضَّل بن مزيد، ومن هنا يأتي احتمال كون كلمة (يزيد) تصحيفاً لكلمة (مزيد)، وكان مفضّل بن مزيد على نقل الكشيّ(37) أخا شعيب الكاتب، وكان خليفة أخيه على الدِّيوان، ومن هنا يقوى احتمال التَّقيَّة في الحديث باعتبار أنَّ الكلام قد ينتقل منه إلى رؤوس الدَّولة المرتبط بهم"(38).

۲. الإرشاد إلى أحكام العقل والعقلاء:

للمعصوم بما له من عقل وبما هو فرد من أفراد العقلاء شأنٌ يتجلَّى في الإخبار عن ما يحكم به هذين المصدرَين، فلا يكون كلامه صادراً على جهة المولويَّة والتَّكليف، بل إرشاداً لحكم العقل أو العقلاء. حيث إنَّ ملاحظة الرِّوايات يعطي تصوُّراً عن وجود ارتكاز في أذهان الموالين بالرُّجوع إلى المعصوم في كلِّ شيءٍ سواء كان مرتبطاً بشؤون التَّشريع والحكومة أم لا، ومن الطَّبيعيّ أن ينشأ مثل هذا الارتكاز بعد أن كان اعتقادهم في المعصوم أنّه معصوم متَّصِل علمُه بأصل العلم وجذره.

ومن الرِّوايات الدَّالَّة على هذا الشَّأن:

ما رواه الشَّيخ الكلينيّ عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِg قَالَ: >تَرْكُ العَشَاءِ مَهْرَمَةٌ، ويَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إِذَا أَسَنَّ أَلَّا يَبِيتَ إِلاَّ وجَوْفُهُ مُمْتَلِئٌ مِنَ الطَّعَامِ<(39)

وما رواه أيضاً عَنْ سَعِيدِ بْنِ جَنَاحٍ عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَاg قَالَ: >إِذَا اكْتَهَلَ الرَّجُلُ فَلاَ يَدَعُ أَنْ يَأْكُلَ بِاللَّيْلِ شَيْئاً؛ فَإِنَّهُ أَهْدَى لِلنَّوْمِ، وأَطْيَبُ لِلنَّكْهَةِ<(40).

تتحدَّث هاتان الرِّوايتان عن أهمِّيَّة أكل العشاء بشكلٍ عامّ، وللكهل بشكلٍ خاص، وقد يُفهم منهما استحباب أكل العشاء وكراهة تركه؛ بسبب تعبير المعصوم في الأولى بـ«ينبغي» وفي الثَّانية بـ«لا يدع»، ولكنّ ملاحظة التَّعليل الوارد في الرِّوايتَين يشير إلى أنَّ الإمام في مقام بيان حكمٍ عقلائيٍّ بسبب ما يترتَّب على أكل العشاء أو تركه؛ حيث عبَّر في الأولى عن ترك العشاء بأنَّه «مهرمة» أي مسبّب للضَّعف والكسل، وفي الثَّانية أنَّ أكل العشاء للكهل يؤدّي إلى طيب النَّكهة والهدوء في النَّوم، وحينها إذا رأى العقلاء مثل هذه الآثار للشَّيء اهتمّوا به.

وما رواه الشَّيخ الكلينيّ عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِg قَالَ: >قَالَ النَّبِيّe: اُغْزُوا تُورِثُوا أَبْنَاءَكُمْ مَجْداً(41).

وما رواه الشَّيخ الصَّدوق عَنِ السَّكُونِيُّ بِإِسْنَادِهِ -يَعْنِي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِi- قَالَ: >قَالَ رَسُولُ اللهe: سَافِرُوا تَصِحُّوا، وجَاهِدُوا تَغْنَمُوا، وحُجُّوا تَسْتَغْنُوا<"(42).

ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ حكم الجهاد حكمٌ مولويٌّ دلَّت عليه الكثيرُ من الآيات والرِّوايات، ولكن في هاتين الرِّوايتين يشير الرَّسولe إلى الآثار التَّكوينيَّة المترتِّبة على الجهاد والغزو من تحصيل المجد والعزَّة لنا ولمن يخلفنا من أبنائنا ومن تحصيل الغنائم والمحافظة على المكتسَبات، ممَّا يُفهم منه الإرشاديَّة إلى أصل حكم الجهاد عند العقلاء من دون الدُّخول في تفصيلاته، خصوصاً في الرِّواية الثَّانية حيث ذكر من ضمن الأحكام السَّفر فإنَّه يؤدِّي إلى الصِّحَّة، ومن المعلوم أنَّ السَّفر ليس واجباً شرعاً؛ ممَّا يقوِّي كون النَّبيّe في مقام الإرشاد لما يحكم به العقلاء.

النُّقطة الثَّالثة: في العوامل المحدِّدة لحال المعصوم

بعد البحث بشكلٍ إجماليّ عن الحالات الَّتي نتصوَّر توفُّر المعصوم عليها، يبقى أن ندخل في بحثٍ معرفيٍّ مهمٍّ، حاصله كيفيَّة التَّمييز بين هذه الحالات واكتشاف الحالة الَّتي يكون المعصوم عليها. والحالة الَّتي يهمُّنا في المقام البحث عنها هي حالة تبليغ الأحكام؛ ولذلك سنبحث أوَّلاً عن العوامل الَّتي تزيد من احتمال كون المعصوم في مقام التَّبليغ، ونعقَُبها بالحالات الَّتي تكون مقلِّلة لهذا الاحتمال.

أوَّلاً: عوامل تزيد من احتمال كون المعصوم في مقام التَّبليغ

١ـ إصدار حكمٍ لموضوعٍ ما ابتداءً.

إذا ابتدأ المعصوم-دون أيِّ مناسبةٍ- في الإخبار عن حكمٍ لموضوعٍ ما فإنَّ احتمال كونه في هذا المقام مبلِّغاً عن حكم اللهa الواقعيّ يبلغ غايته؛ لأنَّ ذلك متناسب مع مقتضى وظيفته الأساسيَّة النَّاشئة من منصب النُّبوَّة والإمامة أوَّلاً، ولأنَّ وجود احتمال صدوره عن غير هذه الجهة يكون ضئيلاً جدّاً ثانياً، والسَّبب في استبعاد الاحتمالات الأخرى هو ملاحظة خصائص تلك الحالات المذكورة(43):

أمَّا امتثال الأحكام، فإنَّا باستقراء تطبيقاته نجد أنَّ المورد الَّذي تتحقَّق فيه هذه الحالة يكون غالباً أحد أمرين؛ إمَّا فعل المعصوم، وإمَّا ردعه أو إمضاؤه لواقعةٍ قد حصلت أمامه بسبب امتثاله لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب تعليم الجاهل. ومن ذلك يُعلم أنَّ مورد هذا العامل لا يدخل تحت هذا الشَّأن؛ لأنَّا فرضنا أنَّ المعصوم قد بلَّغ عن الحكم بالإخبار عنه لفظاً، فهو استند إلى دلالة القول في تبليغ الحكم لا الفعل، ولأنَّا فرضنا أيضاً أنَّ تبليغه كان ابتدائيّاً لا تعليقاً على واقعةٍ تجري في محضره.

وأمَّا المحافظة على أغراض الشَّارع، فإنَّ مورد تحقُّق هذا الشَّأن كما ذكرنا فيه هو إزالة الموانع عن تحقُّق الغرض، وعليه لا تنطبق هذه الحالة إلَّا إذا وُجد المانع فيقوم المعصوم بتنحيته وإزالته، وعملٌ من هذا القبيل يندرج تحت دلالة التَّقرير؛ لأنَّ فيها يعلِّق المعصوم على أمر قد حصل أمامه فيعتبره مانعاً فيردع أو ليس كذلك فيمضي. ومنه يتَّضح وجه خروج مورد هذا العامل عن هذا الشَّأن كما تقدّم.

وأمّا التَّقيَّة فهي تستبطن -في مرحلة سابقة- وجود موضوع يُترقّب من المعصوم التَّصريح بحكمه، ولكنَّ حكم هذا الموضوع إذا صرَّح به المعصوم كان مسبِّباً للخطر عليه أو على المؤمنين، وبالتَالي يكون دفع هذا الخطر معلَّقاً على بيان حكمٍ مخالفٍ للواقع، فإذاً، نحن نفترض هنا وجود مناسبة بين الحكم الصَّادر على وجه التَّقيَّة والموضوع الَّذي تعلَّق به، وقد تقدَّم أنَّ مورد هذا العامل هو الإخبار عن حكمِ موضوعٍ ما ابتداءً ودون مناسبة.

وأمَّا الإرشاد إلى حكم العقل والعقلاء، فهذا مندفع بملاحظة لسان الدَّليل.

وهنا يبقى احتمال كون ما صدر منه حكماً ولائيّاً وبالتَّالي لا يكون في مقام التَّبليغ بل في مقام امتثال وظيفته الشَّرعيَّة، ولكنَّ هذا إنَّما نحتمله بشكلٍ جدّيٍّ في فترة حكومة النَّبيّe وأمير المؤمنين والإمام الحسنj، وأمَّا في فترة بقيَّة المعصومين فيقلُّ احتمال الحكم الولائيّ؛ لقلَّة أوامرهم الولائيَّة الصَّادرة عنهم لشيعتهم حيث كان الظَّرف بشكل عامِّ ظرفَ تقيَّة وحذر. ويمكن معرفة درجة احتمال الحكم الولائيَّ بملاحظة لسان الحكم والموضوع الَّذي انصبَّ عليه، فلو كان موضوعه مثلا متَّصلاً بالشُّؤون العامَّة للمجتمع المسلِم أو المؤمن فيقوى الاحتمال حينئذ.

من أمثلة ذلك، ما رواه الشَّيخ الكلينيّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ عَنْ حَسَنٍ قَالَ: خَطَبَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَg فَحَمِدَ اللهَ وأَثْنَى عَلَيْهِ وقَالَ: >أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَيْثُ مَا عَمِلُوا مِنَ المَعَاصِي ولَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ عَنْ ذَلِكَ، وإِنَّهُمْ لَمَّا تَمَادَوْا فِي المَعَاصِي ولَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ عَنْ ذَلِكَ نَزَلَتْ بِهِمُ العُقُوبَاتُ فَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ(44)

٢ـ الإخبار بالحكم مقترناً بمرجعيته القانونيَّة

لو فرضنا أنَّ المعصوم أراد أن يتَّقي ويعطي حكماً على خلاف الواقع، فإنَّه يكفي لذلك أن يقول: (الموضوع الفلاني حكمه كذا)، فإذا رأينا المعصوم قد أسند الحكم إلى مرجعيَّة قانونيَّة، وبيَّنه إبلاغاً عن الله أو رسولهe أو تفسيراً للقرآن فإنَّ احتمال التَّقيَّة يقلُّ بشكل كبير. وأمَّا بقيَّة الحالات فيأتي فيها ما ذكرناه آنفا.

من أمثلة ذلك، ما رواه ثقة الإسلام الكلينيّ: عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهg قَالَ: >قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَg: نَهَى رَسُولُ اللهِ eِ أَنْ يُلْقَى السَّمُّ فِي بِلاَدِ المُشْرِكِينَ(45)

٣ـ وحدة الجواب مع تكثّر السُّؤال

حينما نجد أنَّ المعصوم قد اتَّحد منه الجواب عن حكم مسألة ما، مع تعدُّد السَّائلين وتغاير ظروف السُّؤال، يرتفع عندنا احتمال كونه مبلِّغاً في إجابته عن كلِّ هذه الأسئلة، ومعه يعود احتمال التَّقيَّة صغيراً، خصوصاً إذا كان المعصوم المسؤول متعدِّداً أيضاً. وأمَّا بقيَّة الحالات فقد عُلم ما فيها. من أمثلة ذلك، الرِّوايات الواردة في إباحة المتعة(46).

٤ـ كون حكم الواقعة مخالفاً للعامَّة

يقوم هذا العامل على أنَّ الفرد الأبرز للتقيَّة هم من العامَّة، وبالتالي إذا صرَّح المعصوم بحكمِ واقعةٍ ما، وكان على خلافهم جميعاً، عرفنا أنَّه لم يتَّقِ منهم، ومعه يرتفع احتمال كونه في مقام التَّبليغ. وأمَّا بقيَّة الحالات فالكلام فيها هو الكلام.

من أمثلة ذلك، ما رواه الشَّيخ الكلينيّ عَنِ الوَشَّاءِ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ -يَعْنِي الرِّضَاg- أَسْأَلُهُ عَنِ الفُقَّاعِ فَكَتَبَ: >حَرَامٌ، ومَنْ شَرِبَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ شَارِبِ الخَمْرِ<، قَالَ: وقَالَ أَبُو الحَسَنِg: >لَوْ أَنَّ الدَّارَ دَارِي لَقَتَلْتُ بَائِعَهُ ولَجَلَدْتُ شَارِبَهُ< قَالَ: وقَالَ أَبُو الحَسَنِ الأَخِيرُg: >حَدُّهُ حَدُّ شَارِبِ الخَمْرِ< وقَالَg: >هِيَ خَمْرَةٌ اسْتَصْغَرَهَا النَّاسُ<(47).

٥ـ كون الواقعة ممَّا يهتمُّ الإسلام فيها

يبتني هذا العامل على أنَّ موضوع الحكم ممَّا يكون دخيلاً في تحصيل هداية الإنسان إلى ربِّه، وقد تكفَّل الإسلام ببيان الطُّرق المحقِّقة لهذه الهداية والتَّعريف بما يتَّصل بها، وعليه نحن نحتمل احتمالاً كبيراً أنَّ المعصوم حينما يبلِّغ عن حكم هذه الواقعة ويُفهِّم أنَّها ممَّا يهتمُّ الإسلام بها، فإنَّه يكون مبلِّغاً في ذلك عن حكم الله تعالى.

ومن أمثلة ذلك، أحكام الجهاد والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.

٦. أن يمثِّل المعصوم متعلَّق الحكم

عندما يشرِّع المقنِّن العرفيّ قانوناً، ويكون متعلَّقه بنحوٍ ما مبهمَ الحدود والخصوصيَّات، فإنَّ من الأساليب الَّتي يتَّبعها في شرحه وتفسيره هو تصوير المتعلَّق وتمثيله، وبما أنَّ التَّفسير هو ضرب من ضروب التَّبليغ كما تقدَّم، يزيد احتمال كون المعصوم في مقام التَّبليغ إذا وجدنا في الرِّواية أنَّه مثَّل المتعلَّق وطبَّقه.

من أمثلة ذلك، ما رواه ثقة الإسلام الكلينيّ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: "حَكَى لَنَا أَبُو جَعْفَرٍg وُضُوءَ رَسُولِ اللهeِ فَدَعَا بِقَدَحٍ فَأَخَذَ كَفّاً مِنْ مَاءٍ فَأَسْدَلَهُ عَلَى وَجْهِهِ (إلى آخر الحديث)"(48).

ثانياً: عوامل تقلِّل من احتمال كون المعصوم في مقام التَّبليغ

من خلال بحثنا السَّابق -في بحث الحالات التِّي ليس لها اقتضاء إفادة حكمٍ شرعيٍّ كلِّيٍّ- تتضح بعضُ العوامل المقلِّلة لاحتمال التَّبليغ، مثل:

كون موضوع الحكم ممَّا يُترقَّب فيه موقف المعصوم، كموضوع الخروج على السلطان الجائر.

واختلاف الجواب مع تعدُّد السؤال، إذ يقلُّ مع ذلك احتمال التَّبليغ؛ لأنَّ اختلاف الجواب إمَّا أن يكون للتَّقيَّة أو لكون ما صدر سابقاً هو حكم ولائيّ تبدَّل موضوعه، وهما حالتان غير حالة التَّبليغ، وإمَّا يكون لحصول النَّسخ في الحكم وهو وإن كان مندرجاً تحت شأن التَّبليغ، إلَّا أنَّ النَّسخ نادر الحصول.

وهنا توجد عوامل أخرى يمكن الإشارة إليها أيضا:

١. كون سائل المعصوم غير إماميّ

من المعلوم من سيرة بعض المعصومين أنَّهم عاشوا في جوٍّ علميٍّ متدافع بين مدارس فقهيَّة متنوِّعة، وقد كانت المدينة الواحدة محلّاً لأرباب المدارس وأتباعها، وبطبيعة الحال مثل هذا الجوّ سيؤدِّي إلى حصول الاحتكاك بين هذه الأطراف، ليس بالضَّرورة أن يكون احتكاكاً سلبيّاً بشكل دائم، بل في بعض الأحيان نجد أنَّ أتباع تلك المدارس حاولوا الاستفادة من مدرسة أهل البيت وعلمائها، ولذا وجدنا أنَّ بعض المعصومين قد استقبلوا في مجالسهم مختلف شرائح المجتمع لإجابتهم على أسئلتهم، وكان من هؤلاء السَّائلين من يتديّن بغير فقه أهل البيتi، ويكون سؤاله للمعصوم ليس من باب أنَّه مبلِّغ عن الأحكام الشَّرعيَّة، بل من باب أنَّه عالم فذّ من علماء هذه المدينة، وسؤاله هذا جوابه من مختصَّات الإماميَّة، وربَّما يكون ثقيلاً عليه إذا سمعه. فإذا وجدنا جواباً عن حكمٍ شرعيٍّ للمعصوم في هذه الحالة، يرتفع لدينا احتمال كون الجواب مداراةً للسَّائل في ما يدين به.

يقول السَّيِّد السِّيستانيّ: "كان بعضُ أصحاب الأئمَّة ومن الشِّيعة ولكنَّهم تتلمذوا عند بعض علماء السُّنَّة، لذلك ربما تغرس أحكام العامَّة ومبانيهم في أذهانهم، بحيث يستغربون في البداية من سماع ما يخالفها وربما لا يتقبلونها [...] وهذه الحالة تفرض كتمان بعض الأحكام والآراء الحقَّة في البداية حتى يصبح مستعدّاً فيلقيها إليه"(49).

من أمثلة ذلك، ما رواه الشَّيخ الطُّوسيّ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِg: مَتَى أُصَلِّي رَكْعَتَيِ الفَجْرِ؟ قَالَ: فَقَالَ لِي: >بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ<، قُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍg أَمَرَنِي أَنْ أُصَلِّيَهُمَا قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ! فَقَالَ: >يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّ الشِّيعَةَ أَتَوْا أَبِي مُسْتَرْشِدِينَ فَأَفْتَاهُمْ بِمُرِّ الحَقِّ وأَتَوْنِي شُكَّاكاً فَأَفْتَيْتُهُمْ بِالتَّقِيَّةِ<"(50).

٢. تعليل الحكم بأثر تكوينيّ له

السِّرُّ في هذا العامل أنَّه يرفع لدينا احتمال كون الصَّادر عن المعصوم هو من جهة الإرشاد لحكم العقل أو العقلاء؛ وذلك لأنَّ العقلاء حينما يدركون مصلحةً أو مفسدةً في شيء ما فإنّهم يرتِّبون على أساس ذلك حكماً بالاقتحام أو عدم الاقتحام، والمعصوم تكون وظيفته في هذه الحالة هو تنبيههم وإرشادهم إلى هذا الأثر التَّكوينيّ للحكم الشَّرعيّ، دون أن يكون له قصد إيجاد الدَّاعي المولويّ في نفوسهم بما هو مبلِّغ عن المولى بالضَّرورة، بل يعتمد في إيجاد هذا الدَّاعي على ما سيحكم به مقتضى العقل والعقلاء بمجرَّد التفاتهم إلى الأثر التَّكوينيّ. وقد تقدَّمت روايات تصلح مثالاً لذلك.

٣. أن يكون الحكم بلسان الأمر المباشر للأتباع

إذا كان لسان الحكم لساناً قاطعاً وموجّهاً بشكل مباشر لكلِّ الأتباع أو لبعضهم يقلُّ احتمال كونه صادراً عن المعصوم بما هو مبلِّغ؛ لأنّا نحتمل كونه حكماً ولائيّاً باعتبار أنَّ لسان القيادة كثيراً ما يخاطب المكلَّف أو المكلَّفين مباشرة ويأمرهم بتنفيذ متعلِّق الحكم، كأن يقول: (أيها الأتباع، قوموا لجهاد الكافرين) أو (يا زيد اذهب للتَّبليغ في أدغال إفريقيَّة).

ومن أمثلة ذلك، ما رواه الشَّيخ الكلينيّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍgُ قَالَ: >دَخَلَ قَوْمٌ عَلَى الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّg، فَرَأَوْهُ مُخْتَضِباً بِالسَّوَادِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَمَدَّ يَدَهُ إِلَى لِحْيَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِe فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا أَنْ يَخْتَضِبُوا بِالسَّوَادِ لِيَقْوَوْا بِهِ عَلَى المُشْرِكِينَ<(51).

النُّقطة الرَّابعة: في دائرة الاستفادة من الظُّهور الحاليّ في التَّبليغ

ببلوغنا إلى هذه النُّقطة نصل إلى المرحلة الَّتي نقطف فيها ثمرة القسم الأوَّل من هذه المقالة، ونستطيع ببركة ما قدَّمناه أن نعيِّن الدَّائرة الَّتي ينطبق عليها ظهور حال المعصوم في التَّبليغ، ونعرف مدى حضور هذا الحال في حياته، وذلك انطلاقاً من هذين التساؤلَين: 

١. على أيِّ أساس نجد بعض العلماء(52) يقدِّمون شأن التَّبليغ على غيره من الشؤون، وكأنَّه الشَّأن الأبرز عند المعصوم؟

٢. وما هي الظُّروف الَّتي يتمظهر فيها هذا الحال؟

أساس تقديم التَّبليغ على غيره من الشُّؤون:

أمّا السؤال الأوَّل فيمكن أن يجاب عنه بما قدّمناه سابقاً من أنَّ مقتضى النُّبوَّة والإمامة هو تبليغ أحكام اللهa للمكلَفين، فالمعصوم عندما يُشهر نبوَّته أو إمامته للنَّاس فكأنَّه يقول لهم: (أنا الواسطة بينكم وبين الله)، ومعنى ذلك أنَّه مبلِّغ عن اللهa، وبالتَّالي يغدو هذا الشَّأن هو الأصل في حياته، وتعود بقية الشُّؤون طارئة قليلة. نظير ذلك في الشَّيخ بالنِّسبة إلى قبيلته حيث يجدون فيه المرجع الَّذي يسنُّ قوانين القبيلة ويوجّهها نحو صلاحها، وبذلك يعتبرون سلطته التَّشريعيَّة هي أبرز صفة فيه، وذلك لا يتنافى مع كونه مرشداً أخلاقيّاً لهم مثلا.

تأمُّل:

إلَّا أنَّ هذا الجواب يمكن أن يُتأمَّل فيه من جهتَين؛ الجهة الأولى أنَّ هناك دائرةً كبيرةً من الأحكام الواردة في الشَّريعة السَّمحاء تتَّفق مع ما يحكم به العقلاء، مثل الأحكام الأخلاقيَّة والفطريَّة والعقليَّة، وبالتَّالي سيكون إخبار المعصوم عن هذه الأحكام إخباراً إرشاديّاً لا مولويّاً، فلا يكون حاله وشأنه تبليغ الأحكام عن اللهa، بل إثارة العقول وإيقاظ النُّفوس، وتكون وظيفته في ذلك وظيفةً جوهريةً منبثقةً من لبِّ النُّبوَّة والإمامة، ولا تقل أهمِّيَّةً عن تبليغ الأحكام. ويؤيِّد ذلك ما نقله الشَّريف الرَّضيّ من خطبة لأمير المؤمنينg يتكلَّم فيها عن سبب اختيار الأنبياء وبعثهم، حيث يقول: >وَاصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى الوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ، واتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَهُ، واجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، واقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبليغ، ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ العُقُولِ<(53).

والجهة الثَّانية هي علمنا أنَّ منصب القيادة والولاية عند المعصوم لا ينفكُّ عن منصب التَّشريع ولا يقلُّ عنه أهمِّيَّةً أيضاً، فمن لاحظ طريقة تكوُّن الإسلام في بداياته، والتفت لحكم العقل بضرورة وجود الإمام، وعرف مقدار حضور الأحكام الإجرائيَّة والعقابيَّة في شريعة السَّماء(54)، لآمن أنَّ شأن الولاية من أهمِّ شؤون المعصوم، وعليه المدار في ما تعرّضوا له من ظلم واضطهاد في مسيرة حياتهم.

هذا مضافاً إلى ما ورد عن بعض المعصومين ما ظاهرُه من أنَّ الإجابة على أسئلة النَّاس الشَّرعيَّة ليست إلزاميَّة عليهم، بل إن شاؤوا أجابوا وإن شاؤوا لم يجيبوا(55)، وكذا علمنا أنَّ من طريقتهم في تبليغ الأحكام رعاية مصلحة التَّدرُّج في البيان ورعاية ظروف التَّقيَّة المانعة من إظهار الحقِّ وإبراز الحكم الواقعيّ. كلُّ هذا يشكّل عاملاً سلبيّاً تجاه تكوّن ظهور حال للمعصوم في التَّبليغ.

وفي النَّتيجة -بحسب هذا التَّأمَّل- يختلُّ عندنا ظهور حال المعصوم في التَّبليغ لوحده استناداً إلى أنَّه الوظيفة الأساسيَّة الملقاة على عاتقه، بل يبدو أنَّ ظاهر حال المعصوم هو كونه مبلّغاً وحاكماً ومرشِداً على حدٍّ سواء، أو أنَّ حالة التَّبليغ تكون أسبق ولكن لا تتجاوز مرحلة الظَّنِّ البسيط الَّذي لا يصل إلى الظُّهور، وعليه نحتاج إلى ملاحظة قرائن في المقام تصرفنا عن شأن الحكومة والإرشاد حتّى ولو كانت قرينةً إجماليّةً، كالقول إنَّ منصب الحكومة الظَّاهريَّة كان غائباً عن الأمَّة في حياة أغلب المعصومين.

الظُّروف الَّتي يتمظهر فيها حال التَّبليغ:

إذاً الموقف من السُّؤال الأوَّل يقدِّم لنا معطىً أوليّاً عن مدى حضور شأن تبليغ الأحكام في حياة المعصوم، ويبقى أنْ نحلِّل هذا المعطى لنعرف جواب السُّؤال الثاني. وننطلق في ذلك ممَّا أشرنا إليه في النُّقطة الثَّانية من التَّمهيد، وهو اختلاف ظهور الحال المجرَّد عن ظهور الحال الدَّخيل في تنقيح ظهور الكلام، ونحاول أن نعرف مدى حضور هذا الشَّأن على المستويَين.

مستوى الظُّهور الحاليّ الدَّخيل في تنقيح ظهور الكلام:

يُتصوَّر في الدَّليل الشَّرعيّ اللَّفظي تارة أن يظهر في إرادة الحكم المولويّ، وتارة في الحكم الولائيّ، وأخرى في الحكم الإرشاديّ، فلو أردنا أن نحدِّد ظهور الكلام في أيّ سنخ من هذه الأحكام، فإنَّا يمكن أن نتشبث بظاهر حال المعصوم كونه في مقام التَّبليغ لتنقيح ظهور ألفاظ الدَّليل في الحكم المولويّ؛ لأنَّه يخبر عن حكم اللهa وإرادته ثبوت الحكم لموضوعه.

هذا إذا كنَّا نقبل وجود ظاهر حالٍ للمعصوم من هذا القبيل، وأمَّا لو رجعنا للتَّأمّل السَّابق وقبلناه، فإنَّه لا يعود لهذا الشَّأن ظهور إلَّا بقرينة ولا يمكن التَّشبّث بنكتةٍ عامَّةٍ -ككون تبليغ الأحكام هو أهمُّ وظائف المعصوم- لتنقيح ظهوره الحاليّ في التَّبليغ، ومعه يقلُّ حضور هذا الشَّأن على هذا المستوى.

مستوى الظُّهور الحاليّ المجرَّد:

لا يُتصوَّر هذا المستوى إلَّا ضمن دلالتَيّ الفعل والتَّقرير عند المعصوم، وقد استفاد الأعلام من الشَّأن التَّبليغيّ للمعصوم في اعتباره مَدركاً من مدارك دلالة السُّكوت على الإمضاء، وهو يفترض أنَّ لنفس هذا الظُّهور الحاليّ دلالةً خاصّةً به ولا يحتاج إلى الاقتران بأيِّ لفظ.

وفي هذا المستوى حتى لو تجاوزنا التَّأمُّل السَّابق وقلنا إنَّ للمعصوم ظهور حالٍ في التَّبليغ، فإنَّا نتساءل عن دائرة هذا الظُّهور هل يشمل حالة السُّكوت أم لا، وهنا لنا أن نشير إلى بعض القرائن الَّتي تَصرفه عن حالة السُّكوت:

طريقة المقنِّن العرفيّ قائمة على تبليغ الأحكام من خلال دلالة الألفاظ فقط، ولا يفهم العقلاء من سكوت الهيئة التَّشريعيَّة في مجتمع من المجتمعات عن إمضائها لذلك المسكوت عنه بحجَّة وجود ظهور حالٍ للهيئة في كونها مبلِّغة عن الأحكام الدَّخيلة في إدارة شؤون المجتمع، فالطَّريقة العرفيَّة هذه لا تنفي الظُّهور الحاليّ للهيئة التَّشريعيَّة في تبليغ القوانين، ولكن لا توسِّعها إلى دائرة السُّكوت بحيث كلَّما سكتت عن شيء كان معنى ذلك إمضاؤها له.

ومن المعلوم أنَّ الأحكام التَّكليفيَّة ليست إلزاميَّة وإباحيَّة فقط، بل تشمل الاستحباب والكراهة أيضاً، فلو كان للمعصوم ظهور حال في التَّبليغ لوجب أن يبيِّن الحكم التَّكليفيّ على وجهه بالنِّسبة إلى الواقعة ولا يسكت إلَّا إذا انعقدت الواقعة على الحكم نفسه، فمثلاً لو كانت الواقعة الَّتي تجري أمامه يُستفاد منها إباحة الفعل، وكان الحكم في الواقع هو استحبابه، فعلى المعصوم أن ينبَّه بمقتضى الظُّهور الحاليّ في التَّبليغ. ولو كان مثل هذا معهوداً من سيرتهمi لوصل وبان ورأينا أثره في الرِّوايات الَّتي بين أيدينا. فإذا قيل أنَّه لم ينبِّه لأن الفعل على هذا الوجه لا ينقض غرضه، كان الجواب أنَّ هذا رجوع إلى شأن آخر من شؤونه وهو المحافظة على أغراض الشَّارع.

وعلى هذا الأساس يقلُّ حضور ظهور حال المعصوم في التَّبليغ على هذا المستوى أيضاً، وتتقلّص دائرة هذا الشَّأن بشكلٍ كبير، فهذه التَّأملات لا تناقِش اعتبار ظهور حال المعصوم في التَّبليغ، بل تسلِّم أنّه لو حصل ظهورٌ للحال أو قُطع به فإنَّه سيدلُّ على مولويَّة الأحكام وإمضاء الوقائع والسِّيَر، وإنَّما تحاول أن تقيِّد ظروف انعقاد هذا الظُّهور ومدى حضوره في حياة المعصوم بشكلٍ إجماليٍّ، فإذا تجاوزناها وجدنا أنَّ الدَّائرة تتوسَّع بشكلٍ فاقعٍ لتشمل معظم مصاديق المستويَين إلَّا إذا كانت هناك قرينة على الخلاف.

المبحث الثَّالث: في حجِّيَّة الظُّهور الحاليّ للمعصوم

يعالج هذا المبحث حيثيَّة اعتبار الظُّهور الحاليّ بشكلٍ مطلَق أوَّلاً، وثمَّ بشكل خاص في اعتبار ظهور حال المعصوم في التَّبليغ، ويحاول أن يبحث عن المدرك الَّذي على أساسه نقول بحجِّيَّة ظهور هذا الشَّأن، أي صلاحيته للكشف عن الحكم الشَّرعيّ ودخالته في طريق الاستنباط.

وقبل الدُّخول في بيان هاتَين النُّقطتَين نشير هنا إلى أنَّ البحث عن الاعتبار يأتي فيه أيضاً المستويان المذكوران، أي اعتبار ظهور الحال مقترِنا بظهور اللَّفظ، واعتباره مجرَّداً، والبحث هنا ينصبُّ على الثَّاني بالذَّات؛ لأنَّ الأوَّل لم يقع فيه نقاش واعتبِر حجَّة بالقول بحجِّيَّة ظهور الكلام، حيث إنَّ السِّيرة قائمة على الالتفات إلى القرائن الحاليَّة في معرفة مراد المتكلِّم.

النُّقطة الأولى: موقف السَّيِّد الخوئيّ من اعتبار ظاهر الحال

توجد في الشَّريعة بعض الموارد الخاصَّة الَّتي يظهر منها كفاية الظَّنِّ بالحال لترتيب الأثر، كتحصيل الإذن بالأكل من بيوت جماعة دلَّت عليهم الآية الكريمة(56)، ولكن هل يمكن القول بأنَّ مطلق الظَّنِّ بالحال ولو في غير هذه الموارد يكون حجَّة أيضاً بحيث نرتِّب عليه آثار مقتضى ذلك الحال؟

يظهر من مجموع كلام السَّيِّد الخوئيّ التَّفصيل بين الأحوال المراد استكشافها، فإن كان الحال المراد كشفه هو الرِّضا النَّفسانيّ والإذن والقبول بالاقتحام، فإنَّه يكفي مطلق الشَّاهد على الحال من فعل أو سكوت إذا كان العقلاء قد تواضعوا عليه بجعله كاشفاً نوعيّاً عن الرِّضا النَّفسانيّ كما تواضعوا على جعل الألفاظ مبرِزةً لذلك أيضاً، ومثّل لذلك بالحمّاميّ الَّذي يفتح باب الحمَّام حيث يشكّل فعله هذا شاهداً على حاله بكونه راضٍ بدخول النَّاس للاستحمام. وأمّا إذا كان هذا الشَّاهد ممَّا لم يتواضع عليه العقلاء ولم يعتبروه أمارةً على الحال فإنّه لا يكون حجَّة(57).

وإذا كان الحال غير ذلك كأن يكون ظاهر حال شخص أنَّه مبلِّغٌ أو عالِمٌ أو سارقٌ أو غيرها من العناوين الَّتي يترتَّب على العلم بها أحكام تكليفيَّة أو وضعيَّة، فإنَّه لا يكفي الظُّهور الحاليّ لترتيب الأثر، وإنَّما يُشترط العلم والقطع بالحال(58)، حيث قال: "إنَّ الأقوى اعتبار القطع في شاهد الحال وما في حكمه، من قيام أمارة معتبَرة كبيَّنة ونحوها، وأمَّا الظَّنُّ بمجرَّده الَّذي لم يقم دليل على اعتباره فهو مُلحق بالشَّكِّ، وقد عرفت آنفاً أنَّ الحكم في صورة الشَّكِ المنع عملاً بالاستصحاب"(59)، وقد قرّب السَّيِّد الخوئيّ ذلك بذكر مثالَين في من كان معتاداً على الاستبراء أو مواظباً على الصَّلاة أوَّل الوقت حيث يتشكّل لديه ظاهر حال بأنّه قد استبرأ أو قد أتى بالصَّلاة في أوَّل وقتها، فلو جاء يوم وشكَّ في ذلك، أي شكَّ في أنّه استبرأ بعد تخلِّيه أو شكَّ بأنّه أتى بالصلاة، فمن الواضح أنَّه ليس له البناء على ظاهر حاله فلا يأتي بالصَّلاة أو يعتبر ما خرج منه ليس ناقضاً للطهارة(60).

النُّقطة الثَّانية: في أدلَّة حجِّيَّة الظُّهور الحاليّ

۱. السِّيرة المتشرِّعيَّة:

من الأدلّة الَّتي استدلَّ بها الأصوليُّون على حجِّيَّة الظَّواهر هو ما انعقد في زمان المتشرِّعة من العمل بالظُّهورات، فكما أنَّ الظُّهور اللَّفظيّ حجَّة كذلك الظُّهور الحاليّ حجَّة؛ لأنَّ كلِّيّهما من سنخ الظُّهور فلا مقتضي لجرِّ باء هذا دون هذا.

المناقشة:

السِّيرة من الأدلَّة اللُّبيَّة الَّتي يُقتصر فيها على القدر المتيقَّن منها، والَّذي نتأكَّد منه أنَّ سيرتهم قامت في مجال استنباط الحكم الشَّرعيّ أوَّلاً، وثانياً على العمل بظهورات الكتاب والرِّوايات فقط، فليس لنا أن نعمِّم هذه السِّيرة إلى غير استنباط الأحكام الشَّرعيَّة أو غير ظهورات الكلام، يقول السَّيِّد الشَّهيد: "هذه السِّيرة باعتبارها دليلاً لبِّيّاً لا بدَّ من أَنْ يُقتصر فيه على القدر القطعيّ المتيقَّن من مدلوله، فلا يمكن أَنْ نثبت بها إِلَّا ما أُحرز يقيناً عمل المتشرِّعة به من الظُّهورات، فمثلاً لا يمكن أَنْ نثبت بها حجِّيَّة الظَّواهر الحاليَّة البحتة غير المكتنفة بالكلام، إِذ لا يمكن القطع أنَّ عمل أصحاب الأئمَّة كان على الأخذ بها لعدم شيوع الاستدلال بمثلها في مجال الاستنباط بخلاف الظَّواهر اللَّفظيَّة المتمثِّلة في الكتاب والسُّنَّة"(61).

۲. السِّيرة العقلائيَّة:

استدلَّ الأصوليُّون أيضاً على حجِّيَّة الظواهر من خلال السِّيرة العقلائيَّة المتَّصِلة بزمن المعصوم، حيث إنَّا لا نحتمل في المتشرِّعة أو العقلاء أن يسلكوا طريقاً في التَّفاهم والتَّفهيم سواء في أغراضهم التَّكوينيّة أو التَّشريعيَّة غير طريق الظُّهور اللَّفظيّ، ولو كان لديهم أسلوب آخر لبان ووصل، بل يمكن أن يُقال إنَّ التخلِّي عن هذا الأسلوب في التَّفاهم موجِب لوقوع الخلل في نظم المجتمع ولا يتصوَّر بديل له، وعليه لا بدَّ من اتِّصال هذه السِّيرة بزمن المعصوم ولا بدَّ من إمضائه لها.

والفارق بين هذه السِّيرة وسيرة المتشرِّعة، أنَّ العقلاء لا يتعبَّدون في سيَرهم وإنّما دائماً ما يلاحظون حيثيَّة الكاشفيَّة والطَّريقيَّة في ما ساروا عليه، والمدّعى هنا أنَّهم لاحظوا صلاحية كشف الظُّهور عن المرادات، وهي نكتة مشترَكة بين الظُّهور اللَّفظيّ والظُّهور الحاليّ، فيكون الإمضاء من قبل المعصوم هو لهذه النُّكتة والارتكاز العقلائيّ. يقول السَّيِّد الشَّهيد: "السِّيرة العقلائيَّة المنعقِدة بمعنى القضيَّة الطَّبعيَّة العقلائيَّة فإنَّه لا يُشكُّ في عمومها لمطلق الظَّواهر الحاليَّة واللَّفظيَّة بمراتبها المتعارَفة عقلائيّاً"(62).

المناقشة:

هذا التَّقريب متين في نفسه، ويصلح لاعتبار الظُّهور الحاليّ بشكلٍ مطلقٍ سواء كان ظنّاً أو اطمئناناً، وسواء كان في حال الرِّضا أو غيره من الأحوال، لكنَّه يواجه ملاحظةً صغرويّةً وتأمُّلاً في النُّكتة الَّتي انعقدت عليها سيرة العقلاء، فهل إنَّ العقلاء حقّاً يلاحظون حيثيَّة الكاشفيَّة في الظُّهور فقط؟ وهل يعتبرون مطلق درجات الظُّهور؟

إذا ما رجعنا إلى عرفنا واستنطقناه، وجدنا أنَّه يفرِّق بين حالتَين، بين ما إذا كان المنكشف أمراً خطيراً أو كان أمراً يسيراً، ففي الأمر اليسير يكتفون بالظَّنِّ الحاصل من الظُّهور، كما لو كنتَ صغيراً ورأيتَ أباك قد وضع جهاز الألعاب في صالة المنزل بعد أن كان يمنع من اللَّعب به، فإنَّ ظاهر حاله في المثال أنَّه رفع الحظر السَّابق وأذن باللعب بالجهاز، ونفس هذا الظُّهور كافٍ في الاقتحام واعتباره حجَّة على الأب بحيث لو قال لاحقاً: (لم أكن راضياً) لامه العقلاء، وأمَّا في الأمر الخطير فلا يكتفون بهذا الظَّنِّ ويكون المعتبَر عندهم درجةً أعلى منه كالاطمئنان أو العلم، كما لو رأيت أباك قد وضع بدل جهاز الألعاب (شيشةً) أو (غليوناً)(63)، فإنَّه ليس لك أن تقتحم وتعتمد على ظاهر الحال فقط؛ لأنَّ درجة مبغوضيَّة شرب (الشِّيشة) للأبناء عند الآباء تكون كبيرةً جدّاً، فلو حصل الاقتحام ثمَّ نزل عليك عقاب أبيك لما لامه العقلاء، فلا يكفي الظَّنُّ الحاليّ لرفع الحظر، بل يحتاج ذلك لتحصيل الاطمئنان أو العلم.

۳. الرِّوايات:

توجد العديد من الرِّوايات تجيز العمل بظاهر الحال قد وردت في أماكن مختلفة من أبواب الفقه، منها ما ورد في تحصيل عنوان العدالة، وما ورد في تحصيل عنوان الإسلام، وما ورد في إحسان الظَّنِّ بالخلّان والإخوان، وما ورد في تحصيل رضا المخطوبة بالزَّواج. لكنَّ الإنصاف أنَّ أكثرها لا يُستفاد منها التَّعميم، بل تُحتمل الخصوصيَّة في مواردها، إلَّا رواية واحدة يمكن أن تقع محلّاً للبحث، وهي:

ما رواه الشَّيخ الطُّوسيّ في التهذيب بإسناده إلى عَلِيّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهg قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ البَيِّنَةِ إِذَا أُقِيمَتْ عَلَى الحَقِّ أَيَحِلُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِقَوْلِ البَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُمْ؟ قَالَ: فَقَالَ: >خَمْسَةُ أَشْيَاءَ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَأْخُذُوا بِهَا بِظَاهِرِ الحَالِ؛ الوِلاَيَاتُ، والتَّنَاكُحُ، والمَوَارِيثُ، والذَّبَائِحُ، والشَّهَادَاتُ، فَإِذَا كَانَ ظَاهِرُهُ ظَاهِراً مَأْمُوناً جَازَتْ شَهَادَتُهُ ولاَ يُسْأَلُ عَنْ بَاطِنِهِ(64).

تقريب الاستدلال: السَّائل سأل المعصوم عن كيفيَّة إحراز عدالة الشُّهود عند القاضي، فهل يجب عليه الفحص والسُّؤال عن حالهم أو لا، فأجابه الإمام بقاعدة عامَّة في تحصيل بعض العناوين الشَّرعيَّة، وهي ليست خاصَّةً بالقضاة فقط، بل على جميع النَّاس أن يتابعوها بقرينة قوله «عَلَى النَّاسِ»، فلو كانت هذه القاعدة مختصَّة بالقضاة لقال (على القضاة). ومفاد هذه القاعدة هو عدم اشتراط البحث والسُّؤال في معرفة كون الفرد وليّاً أو زوجاً أو وارثاً أو مذكّياً أو عادلاً، بل يكفي الاستناد إلى ظاهر حاله في ذلك لترتيب الأثر. وفي آخر الرِّواية طبّق المعصوم هذه القاعدة على مورد السُّؤال، وقال في مقام الجواب أنَّه يجوز الأخذ بشهادته من دون السُّؤال عن واقع حاله إذا كان ظاهره مأموناً.

قال الفيض الكاشانيّ في بيان الرِّواية: "يعني أنّ المتولّي لأمور غيره إذا ادّعى نيابته مثلاً أو وصايته، والمباشِر لامرأةٍ إذا ادّعى زواجها، والمتصرِّف في تركة الميِّت إذا ادّعى نسبه، وبائع اللَّحم إذا ادّعى تذكيته، والشَّاهد على أمر إذا ادّعى العلم به، ولا معارض لأحد من هؤلاء، تُقبل أقوالهم ولا يفتَّش عن صدقهم حتّى يظهر خلافه بشرط أن يكون مأموناً بحسب الظَّاهر"(65).

ولتتميم الاستدلال لا بدَّ من ضمِّ مقدِّمةٍ خارجيَّةٍ، حاصلها أنَّ الأعراض والأموال والحدود ممَّا تشدَّد فيها الإسلام بشكل كبير، فإذا وجدناه قد وضع كواشف عنها من قبيل ظاهر الحال، فبقياس الأولويَّة نسرِّي العمل بهذا الكاشف لغيره من الموضوعات. فإذا قيل إنَّ المعصوم قد حصر الأخذ بظاهر الحال في هذه الخمسة ولم يذكر سواها، كان الجواب أوَّلاً أنَّ العدد لا مفهوم له(66)، وثانياً لا يظهر من الرِّواية أنَّ المعصوم كان في مقام الحصر والتَّحديد، بل كان في مقام بيان أبرز الأفراد الَّتي يمكن أن يُشكِّك المكلَّفون في حجِّيَّة العمل بظاهر الحال فيها، فأراد المعصوم التَّنبيه على أنَّ هذه الموارد يُعمل فيها بظاهر الحال، فكيف ببقيَّة الموارد. 

المناقشة:

الاستدلال بهذه الرِّواية منقوض من جهتَين:

فهي غير تامَّة سنداً؛ لإرسال يونس الرِّواية عن بعض رجاله، ولوجود محمَّد بن عيسى بن عُبيد الَّذي استثناه ابن الوليد من رجال نوادر الحكمة، وضعَّفه الشَّيخ الطُّوسيّ(67).

ومخدوشة دلالة؛ باعتبار أنَّ المعصوم وإن جاء تعبيره بـ(ظاهر الحال)، إلَّا أنّه لم يبيِّن درجة الظَّنِّ في هذا الظَّاهر، فهل يكفي الظَّنُّ الاحتماليّ أو لا بدَّ من كون الظَّاهر بدرجة أعلى تصل إلى الظَّنِّ الاطمئنانيّ، كلاهما محتملان، والقدر المتيقَّن هو الظُّهور الاطمئنانيّ الموافق للسِّيرة العقلائيَّة، فليس لنا الأخذ بأكثر من ذلك.

النُّقطة الثَّالثة: الظُّهور الحاليّ في التَّبليغ حجَّة بالخصوص

ما يهمُّنا بالفعل هو إثبات حجِّيَّة ظهور حال المعصوم في التَّبليغ، فلو سلمنا بالمناقشات السَّابقة وقلنا إنَّ مطلق الظُّهور الحاليّ ليس بحجَّة، لكن نقول هنا إنَّ خصوص هذا النَّحو من الظُّهور حجَّة، ويُستدل عليه بالسِّيرة العقلائيَّة القائمة على أنَّ الفعل الشخصيّ أو العامّ إذا وقع في محضر المشرِّع والمقنِّن المسؤول عن تبليغ الأحكام وأدائها وسكت، فإنَّ ذلك دالٌّ على إمضائه وقبوله لهذا الفعل ببركة ظاهر حاله. نظير ذلك ما إذا كان المرجع جالساً في مجلس الإفتاء، وقد ذكرت الفتاوى في محضره ولم يعلِّق مع التفاته وعدم وجود مانع من قول الحق، فإنَّ ذلك دالٌّ على قبوله بها ببركة ظاهر حاله(68).

المناقشة:

إنَّما يتمُّ الاستدلال المذكور فيما إذا كان القانون المراد اكتشافه ليس بالأمر الخطير، كما لو قام لاعبوا ملعب كرة قدم لأهالي ضيعة من ضيع قرى البحرين بالكتابة على كرات القدم بمحضر إدارة الملعب الَّتي تشرف على وضع القوانين وتطبيقها، ولم تعلّق هذه الإدارة، فإنَّ مثل هذا الأمر اليسير لا يحتاج إلى أكثر من انعقاد ظهور الحال لاستكشاف الإمضاء.

أمّا لو كان القانون المراد اكتشافه يترتّب عليه الأثر الكبير والخطير كالأحكام الشَّرعيَّة المجعولة لهداية الإنسان ووقايته من الضَّلال والَّتي يترتَّب على نسبتها للمشرِّع بغير وجه حق انطباق عنوان البدعة، فإنَّه من غير الواضح تماميَّة الاستدلال المذكور، بل نجد العقلاء يسعون للاستيثاق وتحصيل الاطمئنان بكون المقنِّن في مقام التَّبليغ وبالتَّالي قبوله ورضاه، ولا يكتفون بمجرّد الظَّنِّ الحاصل من هذا الظُّهور. والتَّنظير المذكور في الاستدلال لا يعطي أقلَّ من الاطمئنان بكون المرجع في مقام التَّبليغ، فإذا كانت كل هذه القرائن الموجودة لا تورِث اطمئناناً أو علماً فما هي القرائن الَّتي يمكن أن تفعل ذلك؟

وهذا البحث عن الاطمئنان بكون الصَّادر من المعصوم هو الحكم الشَّرعيّ نجد له انعكاساً في سلوك الرُّواة مع المعصومين، من ذلك:

ما رواه ثقة الإسلام الكلينيّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فَلاَحَانِي زُرَارَةُ فِي نَتْفِ الإِبْطِ وحَلْقِه،ِ فَقُلْتُ: حَلْقُهُ أَفْضَلُ، وقَالَ زُرَارَةُ: نَتْفُهُ أَفْضَلُ، فَاسْتَأْذَنَّا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِg فَأَذِنَ لَنَا وهُوَ فِي الحَمَّامِ يَطَّلِي، وقَدِ اطَّلَى إِبْطَيْهِ، فَقُلْتُ لِزُرَارَةَ: يَكْفِيكَ؟ قَالَ: لاَ، لَعَلَّهُ فَعَلَ هَذَا لِمَا لاَ يَجُوزُ لِي أَنْ أَفْعَلَهُ، فَقَالَ: «فِيمَا أَنْتُمَا؟» فَقُلْتُ: إِنَّ زُرَارَةَ لاَحَانِي فِي نَتْفِ الإِبْطِ وحَلْقِهِ، قُلْتُ: حَلْقُهُ أَفْضَلُ، وقَالَ زُرَارَةُ: نَتْفُهُ أَفْضَلُ، فَقَالَ: «أَصَبْتَ السُّنَّةَ وأَخْطَأَهَا زُرَارَةُ؛ حَلْقُهُ أَفْضَلُ مِنْ نَتْفِهِ، وطَلْيُهُ أَفْضَلُ مِنْ حَلْقِهِ»، ثُمَّ قَالَ لَنَا «اطَّلِيَا»، فَقُلْنَا: فَعَلْنَا مُنْذُ ثَلاَثٍ، فَقَالَ: «أَعِيدَا؛ فَإِنَّ الاطِّلاَءَ طَهُورٌ»(69).

وما رواه أيضا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِg: إِنَّ عَمَّاراً السَّابَاطِيَّ رَوَى عَنْكَ رِوَايَةً، قَالَ: «ومَا هِيَ؟» قُلْتُ: رَوَى أَنَّ السُّنَّةَ فَرِيضَةٌ، فَقَالَ: >أَيْنَ يَذْهَبُ! أَيْنَ يَذْهَبُ! لَيْسَ هَكَذَا حَدَّثْتُهُ(70).

نلاحظ في هذه الرِّوايات أنَّ الأصحاب كانوا يسعون لتحصيل الاطمئنان بكون ما صدر عنهم دالّاً على الحكم الشَّرعيّ لا أنَّه صدر على وجه آخر، ككون الفعل مختصاً بالمعصوم في الرِّواية الأولى، أو كون ثقة ما مشتبهاً في الرِّواية الثَّانية، فعلى الرغم من أنَّ الصَّادر منهما في الرِّوايتين كان من السنة القولية والفعلية الَّتي هي أقوى من السنة التقريرية إلَّا أنَّ الأصحاب سعوا لتحصيل الوثوق والاطمئنان فكيف بمثل السنَّة التقريرية؟!

خاتمة البحث

بحمد الله وعونه إلى هنا انتهى بحث (ظهور حال المعصوم في التَّبليغ.. المدى والحجِّيَّة) الَّذي حاولتُ فيه أن أعطي إطلالةً موجَزة توضِّح الجوانب الخفيَّة، وما وراء هذا الشَّأن وظهوره، وأضيء على أهمِّ العناوين الَّتي تعالج المبحث من زاوية شروط وكيفيَّة انعقاد ظهور المعصوم في التَّبليغ ومدارك حجِّيَّته، وقد توصَّلتُ من خلال البحث إلى أهمِّ النتائج التالية:

١. للمعصوم شؤون وأحوال متعدِّدة، يمكن أنْ ندرجها تحت قائمتَين رئيستَين؛ القائمة الأولى تحوي الشُّؤون الَّتي لها اقتضاء إفادة حكمٍ شرعيٍّ كلِّيٍّ، والقائمة الثَّانية تحوي الشُّؤون الَّتي لا تكون كذلك.

٢. شأن التَّبليغ للمعصوم من أهمِّ شؤونه، ولكن يزاحمه في الأهمِّيَّة شأن الولاية والإرشاد، بحيث إنَّ درجة الأهمِّيَّة تكاد تكون متساوية.

٣. نحتاج في كلِّ مورد أن نبحث عن قرائن تعيِّن لنا حال المعصوم أو ترفعه إلى درجة الظُّهور، ولا يكفي أن نعتمد على كونه مبلِّغاً لأحكام الله، فنقول بتحقق الظُّهور مباشرةً؛ لأنَّ لدينا أحوالاً وشؤوناً محتمَلة بشكل جدّي في أغلب الموارد.

٤. حجِّيَّة ظهور الحال الدَّخيل في تنقيح ظهور الكلام تابعة لدليل حجِّيَّة الظُّهور في الألفاظ.

٥. حجِّيَّة ظهور الحال إنَّما تثبت بسيرة العقلاء حيث يمضي المعصوم النُّكتة الارتكازيَّة عندهم في كون الظُّهور معتبراً من جهة لحاظ الكاشف والمنكشِف.

٦. في مورد دلالة ظهور حال المعصوم في التَّبليغ على الحكم الشَّرعيّ نحتاج إلى الاطمئنان ولا يكفي الظَّنّ؛ لأنَّ الأحكام الشَّرعيَّة من الأمور الخطيرة.

والله أسأل أن أكون وفّقت فيما وصلت إليه من نتائج، وأن يكون هذا الجهد المتواضع واقعاً موقعه في خدمة الدين وخدمة طلاب العلوم الشَّرعيَّة، وأتمنّى أن يكون ذا فائدة لمن يودّ أن يتعمّق في المسألة بشكل أكبر ويعطيه أهم المباحث المتعلِّقة بذلك بما يشكّل له مدخلاً تأسيسيّاً يُنطلق منه إلى أبحاث أعلى وأكثر عمقاً.


(1) الأزهريّ، محمَّد بن أحمد، تهذيب اللُّغة، ج٦، ص١٣٨. والزبيديّ، المرتضى، تاج العروس، ج٧، ص١٧٠.

(2) الجوهريّ، أبو نصر، الصِّحاح، ج٢، ص٧٣٢.

(3) الصَّدر، السَّيِّد محمَّد باقر، دروس في علم الأصول، ج٢، ص١٥٨.

(4) ابن سيِّده، أبو الحسن، المحكم والمحيط الأعظم، ج٤، ص٨. وابن منظور، جمال الدِّين، لسان العرب، ج١١، ص١٩٠.

(5) تاج العروس، ج١٤، ص١٨٣.

(6) لسان العرب، ج٨، ص٤١٩. والصِّحاح، ج٤، ص١٣١٦.

(7) الصَّدر، السَّيِّد محمَّد باقر، بحوث في علم الأصول، تقرير السَّيِّد محمود الشاهروديّ، ج٤، ص٢٤٤.

(8) الصَّدر، السَّيِّد محمَّد باقر، مباحث الأصول، تقرير السَّيِّد كاظم الحائريّ، ج١، ص١٧٢.

(9) المظفَّر، محمَّد رضا، أصول الفقه، تحقيق رحمتي أراكيّ، ج١، ص٦٥.

(10) مباحث الأصول، ج١، ص٢٤٩-٢٥٠.

(11) الخوئيّ، السَّيِّد أبو القاسم، موسوعة الخوئيّ، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئيّ، ج١٣، ص٥٣.

(12) الحلِّيّ، ابن المطهَّر، تذكرة الفقهاء، تحقيق مؤسَّسة آل البيتi لإحياء التُّراث، ج٢، ص٤٧٧.

(13) موسوعة الخوئيّ، ج٢٢، ص٤٣١.

(14) العامليّ، الحرُّ، وسائل الشِّيعة، تحقيق مؤسَّسة آل البيتi لإحياء التُّراث، الباب ٥٦ من أبواب المهور.

(15) الطُّوسيّ، أبو جعفر، النِّهاية، ص٤٧٧.

(16) المفيد، الشَّيخ محمَّد بن محمَّد بن النُّعمان، أوائل المقالات، ص٦٥.

(17)المصدر نفسه، ص٧٢.

(18) انظر: المرتضى، عليّ بن الحسين، الذَّريعة إلى أصول الشَّريعة، تحقيق أبو القاسم گرجي، ج٢، ص٥٧٦-٥٧٧: يتعرّض السَّيِّد المرتضى إلى التأسِّي بفعل المعصوم الحجَّة، ويؤكِّد على خروج المباحات الَّتي تخصُّه كالأكل والنَّوم. والشَّهيد الأوَّل، محمَّد بن مكِّيّ العامليّ، القواعد والفوائد، تحقيق الدُّكتور السَّيِّد عبد الهادي الحكيم، ج١، ص٢١١.

(19) انظر: الطَّباطبائيّ، السَّيِّد محمَّد حسين، تفسير الميزان، ج١١، ص٣٠٥. والطُّوسيّ، أبو جعفر، تفسير التِّبيان، ج٦، ص٢٢٣.

(20) الطُّوسيّ، أبو جعفر، تهذيب الأحكام، تحقيق وتعليق حسن خرسان، ج٦، ص١٣٦.

(21) الكلينيّ، محمَّد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر غفاريّ ومحمَّد آخونديّ، ج٥، ص٨.

(22) وسائل الشِّيعة، ج١٥، ص٨٥.

(23) الكافي، الكلينيّ، ج١، ص٢٦٦.

(24)وسائل الشِّيعة، ج٥، ص٥٢.

(25) انظر: أصول المظفَّر، ج٢، ص٦٦. ودروس في علم الأصول، ج١، ص٢٣١.

(26) النَّجفيّ، الشَّيخ محمَّد حسن، جواهر الكلام، تحقيق عبَّاس قوجانيّ، ج٤٠، ص١٠٠.

(27) الكافي، الكلينيّ، ج٦، ص٢٤٥.

(28) انظر: دروس في علم الأصول، ج٢، ص٢٠٦.

(29) بحوث في علم الأصول، ج٤، ص٢٤٣.

(30) انظر: وسائل الشِّيعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، بَابُ عَدَمِ جَوَازِ القَضَاءِ والحُكْمِ بِالرَّأْيِ والاجْتِهَادِ والمَقَايِيسِ ونَحْوِهَا مِنَ الاسْتِنْبَاطَاتِ الظَّنِّيَّةِ فِي نَفْسِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

(31) لجنة الفقه المعاصر، الفائق في الأصول، ص٣٧.

(32) تهذيب الأحكام، ج٩، ص٣٣٢.

(33) وسائل الشِّيعة، ج١٦، ص٢١٠.

(34) تهذيب الأحكام، ج٦، ص١٧٨.

(35) انظر: الحائريّ، السَّيِّد كاظم، ولاية الأمر في عصر الغَيبة، ص٤٧.

(36) ابن بابويه، محمَّد بن عليّ، عيون أخبار الرضا، تصحيح وتعليق الشَّيخ حسين الأعلميّ، ج٢، ص٢٢٥.

(37) الكشيّ، محمَّد بن عمر، اختيار معرفة الرِّجال، تحقيق وتصحيح الشَّيخ الطُّوسيّ، ج١، ص٣٧٤.

(38) ولاية الأمر في عصر الغَيبة، ص٧٠.

(39) الكافي، الكلينيّ، ج٦، ص٢٨٨.

(40) المصدر نفسه.

(41) الكافي، الكلينيّ، ج٥، ص٨.

(42) ابن بابويه، محمَّد بن عليّ، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق عليّ أكبر غفاريّ، ج٢، ص٢٦٥.

(43) معرفة هذه الخصائص ستساهم في فهم سبب كون العوامل الآتية رافعةً لاحتمال التَّبليغ.

(44) الكافي، الكلينيّ، ج٥، ص٥٧.

(45) الكافي، الكلينيّ، ج٥، ص٢٨.

(46) وسائل الشِّيعة، كتاب النِّكاح، الباب الأول من أبواب المتعة، ج٢١.

(47) الكافي، الكلينيّ، ج٦، ص٤٢٣.

(48) المصدر نفسه، ج٣، ص٢٤.

(49) السِّيستانيّ، السَّيِّد علي، تعارض الأدِّلَّة واختلاف الحديث، تقرير السَّيِّد هاشم الهاشميّ، ص٢٨٥.

(50) تهذيب الأحكام، ج٢، ص١٣٥.

(51) الكافي، الكلينيّ، ج٦، ص٤٨١.

(52) انظر: بحوث في علم الأصول، ج٤، ص٢٤٣. والفائق في الأصول، ص٤٤.

(53) السَّيِّد الرَّضيّ، أبو الحسن، نهج البلاغة، تحقيق الدُّكتور صبحي الصَّالح، ج١، ص٤٣.

(54) الخمينيّ، السَّيِّد روح الله، البيع، ج٢، ص٦٥٥.

(55) الكافي، الكلينيّ، ج١، ص٢١٠. واختيار معرفة الرِّجال، ج١، ص١٤٣.

(56) سورة النُّور: ٦١.

(57) موسوعة الخوئيّ، ج١٣، ص٥٣-٥٤.

(58) المصدر نفسه، ج١٧، ص٥٩.

(59)موسوعة الخوئيّ، ج١٣، ص٥٧.

(60) المصدر نفسه، ج١٩، ص١٠٧.

(61) بحوث في علم الأصول، ج٤، ص٢٥٤.

(62) المصدر نفسه، ج٤، ص٢٥٥.

(63) (الشِّيشة) و(الغليون) جهازان مُعدَّان للتَّدخين.

(64) تهذيب الأحكام، ج٦، ص٢٨٨.

(65) الكاشانيّ، الفيض، الشافي في العقائد والأخلاق والأحكام، ج٢، ص١٢٩٩.

(66) أصول المظفَّر، ج١، ص١٨١.

(67) يمكن تتميم السَّند على بعض المباني القائلة بأخذ مرسَلات أصحاب الإجماع، والقائلة بتقديم قول النَّجاشيّ على الشَّيخ الطُّوسيّ حين تعارضهما في الجرح والتَّعديل، حيث إنَّ محمَّد بن عيسى بن عبيد وإن كان قد ضعَّفه الشَّيخ (انظر: الطُّوسيّ، الشَّيخ أبو جعفر، فهرست كتب الشِّيعة وأصولهم، ص٤٠٢) إلَّا أن النَّجاشيّ قد وثَّقه. (انظر: رجال النَّجاشيّ، ص٣٣٣)

(68) الفائق في الأصول، ص٤٨.

(69) الكافي، الكلينيّ، ج٤، ص٣٢٧.

(70) المصدر نفسه، ج٣، ص٣٦٢.

 


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا