سرُّ الجاذبيَّة الحُسينيَّة للإنسانيَّة

سرُّ الجاذبيَّة الحُسينيَّة للإنسانيَّة

الملخّص:

((يتطرق الكاتب في هذه المقالة إلى السر الكامن في جاذبية الإمام الحسينg وثورته لجميع البشرية، فذكر في المقدمة كلمات مجموعة كثيرة من المفكرين من مختلف الديانات والطوائف، ثمَّ ذكر احتمالات متعددة لأساس هذه الحاذبية التي انتهى فيها إلى أنَّ الفطرة هي الأساس، وذلك عن الطريق الموضوعي والطريق التحليلي، ثم ذكر شواهد تكوينية وتشريعية على ذلك، وختم بعدة نتائج للبحث))

مقدمة:

ورد عن مولانا وسيدنا عن رسول اللهe أنّه قال: >إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفةً مكتومةً<([1])..

مع إطلالة سريعة على ما كُتب متناثراً في بطون الكتب والأبحاث المختلفة حول سيد الشهداءg من خارج البيت الشيعي، وعلى ما جُمع في بعض المقالات العلمية والمواقع الإلكترونية من كلمات في حقهg من قِبل شخصيّات متعدّدة تنتمي إلى معتقدات متباينة، وتخصصات متنوّعة، نُدرك مَليًّا أنّ للحسين بن عليg جاذبيةً خاصةً قد أثّرت على أصحاب هذه المسارات الفكريّة المتنافرة بنحوٍ شاملٍ جامع، بحيث يَندُرُ أنْ تجد شخصيّةً لها هذا النحو من التأثير في غير أتباعها، إلا في مثل النبيّ وأمير المؤمنين والزهراء عليهم جميعاً أفضل صلوات المصلين..

 

ويمكن لنا أن نستشهد لذلك بعدّة نماذج على النحو التالي([2]):

1) من الزاوية السياسيّة النهضويّة المبدئيّة:

نقل عن غاندي قوله: "تعلّمت من الحسين أن أكون مظلوماً فأنتصر"، وقال أيضًا: "لقد قرأت بدقّة حياة الحسين الشهيد العظيم، واهتممتُ اهتمامًا كافيًا بتأريخ واقعة كربلاء، واتّضح لي أنّ الهند إذا أرادت أن تنتصر فعليها أن تقتدي بالإمام الحسينg".

وقال الفيلسوف المستشرق الألمانيّ ماربين: (قدَّم الحسين للعالم درساً في التضحية والفداء من خلال التضحية بأعزّ الناس لديه، ومن خلال إثبات مظلوميّته وأحقيّته، وأدخل الإسلام والمسلمين إلى سجلّ التاريخ ورفع صيتهما، لقد أثبت هذا الجنديّ الباسل في العالم الإسلامي لجميع البشر أنَّ الظُّلم والجور لا دوام له، وأنَّ صرحَ الظُّلم مهما بدا راسخاً وهائلاً في الظاهر إلَّا أنّه لا يعدو أن يكون أمام الحقّ والحقيقة إلاّ كريشة في مهب الريح".

وقال الباحث المستشرق الألمانيّ يوليوس فلهاوزن: "بالرغم من القضاء على ثورة الحسين عسكريّاً، فإنَّ لاستشهاده معنى كبيراً في مثاليّته".

وقال الكاتب الدكتور بولس الحلو: (الحالة الحسينيّة ليست مقتصرة على الشيعة فحسب، إنّما هي عامّة وشاملة، ولهذا فإنّنا نجد أنّ ارتباط الثورة الحسينيّة بمبدأ مقارعة الظلم جعلها قريبة جدّاً من الإنسان، أيّاً كانت ديانته وعقيدته؛ لأنَّه ما دام هناك ظالم ومظلوم فلا بدَّ أنْ يكون هناك يزيد والحسين كرمزين أساسيَّيْن لكلٍّ مِن الجهتين".

وقال المُفكّر والروائيّ الإعلاميّ السوريّ أنطون بارا: "واقعة كربلاء لم تكن موقعة عسكريّة انتهت بانتصار وانكسار، بل كانت رمزاً لموقف أسمى لا دخل له بالصِّراع بين القوة والضعف، بين العضلات والرماح بقدر ما كانت صراعاً بين الشكّ والإيمان، بين الحقّ والظلم".

2) من وجهة نظر عاطفيّة وروحيّة:

قال المستشرق الإنجليزيّ إدوارد براون: "وهل ثمّة قلب لا يغشاه الحزن والألم حين يسمع حديثاً عن كربلاء؟! وحتّى غير المسلمين لا يسعهم إنكار طهارة الرّوح التي وقعت هذه المعركة في ظلّها".

وقال عالم الاجتماع والفيلسوف والناشط السياسيّ توماس ماساريك: "على الرُّغم مِن أنَّ القساوسة لدينا يُؤثِّرون على مشاعر النَّاس عبر ذكر مصائب المسيح، إلاّ أنَّك لا تجد لدى أتباع المسيح ذلك الحماس والانفعال الذي تجده لدى أتباع الحسين، ويبدو أنَّ سبب ذلك يعود إلى أنَّ مصائب المسيح إزاء مصائب الحسين لا تمثّل إلاّ قَشـّة أمام طود عظيم".

وقال المؤرّخ الإنجليزي إدوارد جيبون: "على الرّغم مِن مرور مدّة مديدة على واقعة كربلاء، ومع أنَّنا لا يجمعنا مع صاحب الواقعة وطنٌ واحد، ومع ذلك فإنَّ المشاقّ والمآسي التي وقعت على الحسين تثير مشاعر القارئ وإنْ كان مِن أقسى الناس قلباً، ويستشعر في ذاته نوعاً من التَّعاطف والانجذاب إلى هذه الشخصيّة".

3) ومن الزواية الأخلاقيّة:

قال فردريك جيمس: "نداء الحسين وأيّ بطل شهيد آخر هو أنَّ في هذا العالم مبادئ ثابتة في العدالة والرَّحمة والمودّة لا تغييَّر لها، ويؤكِّد لنا أنَّه كلَّما ظهر شخص للدِّفاع عن هذه الصِّفات ودعا النَّاس إلى التمسّك بها، كَتَبَ لهذه القيم والمبادئ الثباتَ والديمومةَ".

وقال الكاتب المؤرخ والمستشرق الإنجليزي بيرسي سايكس: "حقّاً إنَّ الشجاعة والبطولة التي أبْدتها هذه الفِئة القليلة، كانت على درجة بحيث دفعت كلَّ من سمعها إلى إطرائها والثناء عليها لا إراديّاً، هذه الفئة الشُّجاعة الشَّريفة جعلت لنفسها صيتاً عالياً وخالداً لا زوال له إلى الأبد".

4) من الجانب الفكري والعقائدي:

قال الهندوسي الرئيس السابق للمؤتمر الوطنيّ الهنديّ تاملاس توندون: "هذه التضحيات الكبرى من قبيل شهادة الحسين رفعت مستوى الفكر البشريّ، وخليق بهذه الذكرى أن تبقى إلى الأبد، وتذكر على الدوام".

وقال إدريس الحسينيّ في كتابه (لقد شيَّعني الحسينg): "إنّه المشهد الذي لا يزال صداه يتحرك في أقدس قداساتي، يُمنِّيني بالأحزان في كلّ حركة أتحركها. ما إنْ خلصت من قراءة (مذبحة) كربلاء، بتفاصيلها المأساويّة، حتى قامت كربلاء في نفسي وفكري، ومن هنا بدأت نقطة الثَّورة، الثّورة على كلّ مفاهيمي ومسلماتي الموروثة، ثورة الحسين داخل روحي وعقلي"([3]).

وقالت الكاتبة الإنجليزيّة فريا ستارك: "مأساة الحسين تتغلغل في كلِّ شيء حتى تصل إلى الأسس، وهي مِن القصص القليلة التي لا أستطيع قراءتها قطّ من دون أن ينتابني البكاء".

وقال المحامي الأردنيّ أحمد حسين يعقوب: "دمعت عينايَ على الحسينg فقادني جرحي النَّازف إلى التشيّع".

وقال أنطون بارا: "آثرَ الحسينُg صلاحَ أمّة جدِّه الإنسانيّة الهاديَة بالحقّ العادلةِ به على حياته، فكان في عاشوراء رمزاً لضمير الأديان على مرّ العصور".

5) من الزاوية الاجتماعيّة:

قال الباحث الإنجليزيّ جون أشر: "إنَّ مأساة الحسين بن علي تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعيّ".

6) من الزاوية الفنيّة:

قال العالم في الانثروبولوجيا (ما يسمى بعلم الإنسان) الأمريكيّ كارلتون كون: "إنَّ مأساة مصرع الحسين بن علي تشكلّ أساساً لآلاف المسرحيات الفاجعة".

ومع هذه الإطلالة السريعة على ما قيل في سيّد الشهداءg من قِبل مجموعة من المفكِّرين على اختلاف تخصصاتهم، ومنتمياتهم الفكرية، ندرك جليّاً أنّ للحسين(ع) جاذبيّة فريدة، تدعو لاحترام ما قدَّمه من نهضة دينيّة وإنسانيّة، وإلى الإعجاب به، وتقديسه، واستثماره في إبراز النكات الفكريّة، والمفاهيم الإنسانيّة، ويأتي هنا هذا التساؤل المهم، الذي يحاول أن يتلمَّسَ عمق الجوهر، ويقلّب قلب واقع هذه النهضة، مِن أجل أنْ يجعل ذلك مُنطلَقَاً في فهم سائر ما ابتنَت عليه، وما أراد صاحبها أن يبني عليها، يقول السؤال: (ما هو السرُّ في جاذبيّة النهضة الحسينيّة للإنسانيّة، حتى استرعت اهتمام كلَّ هؤلاء المفكِّرين على مرِّ العصور)؟!

وهنا ثلاث نقاط أساسيّة: الأولى: جواب السؤال، وبيان أساس الجاذبيّة الحسينيّة. الثانية: في استعراض بعض الشَّواهد والأدلَّة على أساسِ الجاذبية. ثالثاً: في بيان بعض النتائج الهامّة.

النقطة الأولى: أساس الجاذبيّة الحسينيّة

يمكن أنْ يُجاب على السُّؤال السابق مِن خلال طريقين: الطريق الأول: الطريق موضوعيّ. والطريق الثاني: الطريق التحليليّ.

أولا: الطريق الموضوعيّ:

وهو أن يُعمد إلى التجرُّد من أيِّ تأثيرات مُسبقة متسرِّبة من الخلفيّات العقديّة أو الموروثة حول هذا الموضوع، فيتساءل الباحث مع صفحة نفسه الخالية: ما هو العنوان القيميّ الذي مِن الممكن أن يكون قد استعمله الحسينg، أو الميزان المُثُليّ المُتصوَّر، الذي من الممكن أنْ يكون حاوياً على القِيم الجامعة، ومنطوياً على المفاهيم الأساسيَّة التي يُنظر إليها إنسانيّاً على أنَّها محلّ اتّفاق لا خلاف فيه، فيكون بذلك عنواناً جذَّاباً للجميع في نفسه، رغم تحقّق الخلافات الفعليّة في السَّاحات الخارجة عن هذا القاسم المشترك؟!

ويمكن من هذا المنطلق أن نقف على عدّة احتمالات:

الاحتمال الأول: الإنسانيّة:

وهذا يعني: افتراض أنَّ الحسينg قد قدَّم نهضة إنسانيّة، آمنت بمحوريّة الإنسان في حِراكها، الإنسان في جانبه الفكريّ الجذريّ البعيد، وفي طريقة أصول تفكيره الاجتماعيّ، وعمق احتياجاته البشريّة النفسيّة والجسديّة المباشرة، ونشاطاته البيولوجيّة والحيويّة المشتركة، وتركيبته الخَلقيّة المُعاشة، وغير ذلك ممَّا يمسّ الإنسان كوجود وكيان، والمدّعى -حسب هذا الاحتمال- أنَّ الحسينg قد قدّمَ أطروحة تُعنى بهذا الكيان الإنسانيّ، وتقدّم له أجوبة على أسئلته الإنسانية، وسداداً لاحتياجاته الكينونيّة، وهذا ما مكَّن هذه الثورة أن تسترعي اهتمام المسلم، والمسيحيّ، والهندوسيّ، وغيرهم؛ لأنَّهم كلَّهم مصاديقُ لعنوان الإنسان.

النّقد: ويلاحظ على هذا الاحتمال:

أولاً: أنَّ الإنسانيّة -بالمعنى المذكور- عنوان فضفاض غير واضح، وغير محدَّد، والدليل على ذلك أنَّها قُدّمت بقراءات متعددة، أدَّت إلى الاختلاف في تحديد الاحتياجات والتركيبة الخَلقيّة والنشاط الحيويّ إلى حدّ التضارب في الأسس، فكيف تصلح الإنسانيّة كأساسٍ للجذب والإقناع في الثورة الحسينيّة والحال هذه؟!

فمثلاً: ليست كلُّ القراءات الإنسانيّة تدرك معنى التضحية، والفداء، والشهادة، والتوحيد، والعرفان، والجهاد، والغيرة، والصبر، بل هناك من الأطروحات التي ابتنت على تقديم قراءة لواقع الإنسان -بحيث شكّلت الإنسانية محوراً وثيقاً لفهم الكون عندها- تخطِّئ كلَّ هذه العناوين، وتقف في الجانب الآخر من تطبيقاتها الحسينيّة، وتقرؤها على أنَّها جنون بعيد كلَّ البعد عن العقل الإنسانيّ! وهناك من انتمى إلى هذا الفهم الإنسانيّ ممَّن علَّق بإعجاب على ثورة الحسينg، فكيف لنا أن نفسِّر هذا التناقض؟!

ثانياً: لا يمكن أن يُفرض أساسٌ للنَّهضة الحسينيّة بحيث يكون بعيداً عن تصريحات صاحب الشأن نفسه، ومواقفه، وبيئته، ومنطلقاته المُعلنة، ومع مراجعة ذلك كلِّه، لا نجد نصّاً واحداً –خصوصاً في تلك الخُطب والمواقف التي اعتنى فيها الحسين(ع) ببيان أهدافه من حراكه بنحو مباشر وصريح- يُدلِّل على هذا الفرض، فلا يمكن أن نلتزم به..

نعم، هذا لا يعني أنَّ ثورة الحسينg لم تكن ثورة إنسانيّة، بحيث إنّها تتمكّن أن تلبّي حاجة الإنسان بما هو إنسان على شتّى الأصعدة، بل هي كذلك كما سوف يتّضح، إلا أنَّ عنوان الإنسانيّة ليس هو المُنطلَق المُباشِر لذلك.

الاحتمال الثاني: الدين والتوحيد:

وهذا يعني افتراض أنَّ قيام الحسينg كان من أجل التوحيد، وإعلاء كلمة الله، وفرض المبادئ الدينيّة المباشرة، وهو ما أدَّى إلى تفاعل كلِّ هذه الشخصيّات عبر الأزمنة المتعدّدة مع هذا القيام؛ باعتبار أنَّ التوحيد هو دين الحق، ومبادئه التي نادى بها -والتي قام الحسينg من أجلها- هي مبادئ الحقّ، فمن أنصف مِن نفسه، وقيّم تلك المبادئ -وإن كان مُنتمياً لدينٍ أو مَذهب آخر-، سيذعن بأحقيّة هذه المبادئ، ومَن تخلَّى عن لباس الحقِّ، فإنَّه سينفر من نداء الدين والتوحيد، فعنصر الجذب في ثورة الحسينg إذن هو: التوحيد.

النّقد: وفيه: إنَّ هذا الاحتمال وإن كان حقّاً في نفسه -حيث لا شكَّ في أنَّ الهدف الأساس الذي يُفهم من خُطب سيد الشهداءg، ومواقفه، وبيئته، وكلُّ ما يمتُّ إليه بصلة، هو إعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، والدعوة إلى توحيده سبحانه- إلا أنَّه فرْضٌ غيرُ معقول؛ لأنَّنا هنا نتكلَّم عن عنصر الجذب الذي فيه قابليّة الجذب لكلِّ الأصناف، وهذا العنصر لا بدَّ أن تكون له قابليّة الجذب في واقعه، وفي ظاهره أيضاً، والدين -كأطروحة عامّة- لا شكَّ أنَّ فيه قابليّة الجذب في واقعه، إلا أنَّ ظاهره ليس جذّاباً لجميع الأصناف، بل هو كذلك للبعض دون البعض الآخر، فليسَ ما جذَبَ المسيحيّ لثورة الحسين(ع) هو عنوان الإسلام مباشرة؛ في حين أنَّه لا يرى الإسلام حقّاً، وكذلك الهندوسيّ، وغيرهما، فلا بدَّ مِن افتراض أمر آخر إذن، يحوي صلاحيّة الجذب لهؤلاء رغم اختلافهم العقديّ والفكريّ مع الحسينg.

الاحتمال الثالث: المفاهيم البديهيّة:

بمعنى أن نفترض أنَّ النهضة الحسينيّة قامت على المبادئ اليقينيّة المُعبَّر عنها بالبديهيّات، أو: مبادئ المطالب، وهي القضايا التي ترجع إليها كلُّ المطالب الفكريّة الكسبيّة، بحيث تنتهي عندها، ولا يُطلب وراءها سبب أو علّة، وقد أحصوها منطقيّاً في ستِّ قضايا، وهي: الأوليّات، والمشاهدات، والتجربيّات، والمتواترات، والحدسيّات، والفطريّات، ولأنَّ هذه المفاهيم بديهيّة لا تحتاج إلى كسب، ونظر، وتفكير، بل هي مورد اتفاق عند كلِّ النَّاس، فهي العنصر الذي تمكن من خلاله الحسينg أن يلفت نظر كلِّ هذه الشخصيّات المتفاوتة، ويقنعها بثورته المباركة رغم اختلافها معه في المعتقد، والفكر.

النّقد: ويلاحظ على هذا الاحتمال: أنّنا بالنظر إلى أنواع البديهيّات الستّ، لا نجد لها حضوراً واضحاً في نهضة الحسينg، بل إنَّ ثورة الحسينg نفسها -وبكلِّ تفاصيلها- قامت على أساس خلافات كسبيّة معقدَّة بين أطراف عديدة من داخل البيت المسلم، فكيف يمكن أن تكون البديهيّات هي أصول مدّعياتها بحيث تكون عنصراً جاذباً بهذا النَّحو الواضح؟!

الاحتمال الرابع: الفطرة:

بمعنى أنَّ مرجع الثورة الحسينيّة بكلِّ تفاصيلها إلى الفطرة الإنسانيّة الصّافية. والفطرة تعني: أصل الخِلقة، وتركيبة الجِبِلّة، فهي شعورٌ وجدانيّ عميق، عاطفيّ، كيانيّ، داعم للفكر، والعقل، يلمسه الإنسان في أعماق وجوده دون كُلفة، ودون تعقيد، والمدَّعى في هذا الاحتمال أنَّ نهضة الحسينg لو وُضعت على ظرف الفطرة، فإنَّها ستكون بمقاسه، دون زيادة أو نقيصة، وهذا ما يجذب كلّ مَن بقى يستشعر نداءات هذه الفطرة في نفسه لهذه النهضة الفطريّة النقيّة.

ويمكن القول: إنَّ هذا الاحتمال هو الاحتمال الصحيح بلا شكّ، بل هو الاحتمال الذي يمتلك تفسيراً لبقية الاحتمالات، في نفس الوقت الذي لا يتضارب معها، فثورة الحسينg ثورة إنسانيّة بما هي ثورة فطريّة، وهي نهضة دينيّة بما هي فطريّة، وهي قيام بديهيّ بما هي فطريّة، وسيتّضح ذلك أكثر في النقطة الثانية إن شاء الله تعالى.

هذا فيما يتعلَّق بالطريقة الموضوعيّة في فهم عنصر الجاذبيّة.

الطريق الثاني: التحليل:

وهو ما يعتمد على تحليل النَّهضة الحسينية، وسبر غور مُنطلَقاتها، ومحاولة تحديد الأسباب التي دعت الإمام الحسينg للقيام بها، ولا شكَّ أنَّنا بجمع الشواهد الروائيّة والقرآنيّة، سنقف على نفس النتيجة التي أعطتنا إيّاها الطريقة الموضوعيّة في كشف سرّ الجاذبيّة الحسينيّة، وذلك عبر التالي:

أولاً: ورد عن سيّد الشهداءg أنَّه قال: >وَأَنّي لَمْ أَخْرُجْ أشِراً، وَلا بَطِراً، وَلا مُفْسِداً، وَلا ظالِما)([4])، وفي ذلك تعبير عن الحالة المقابلة، وتقديمٌ لقراءة واقعيّة لما عليه حال الأمَّة من الأشر، والبطر، والفساد، والظلم، وفيه بيانٌ للأسباب الموضوعيّة للقيام والنهوض.

ثانياً: قالg في نفس الخُطبة([5]): >وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّيe<، وهذا ما يعبَّر عن الهدف الإصلاحي الذي يبدأ باقتلاع جذور الفساد، وهو ما يمكن تسميته بالتخلية، أو التجلية، فإنَّ معالجة أيّ شيءٍ تعتمد أولاً على تصفية موضع العلاج.

ثالثاً: قالg أيضا في الخطبة نفسها([6]): >أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَسيرَ بِسيرَةِ جَدّي وَأبي عَليِّ بْنِ أَبي طالِبg وهذا ما يعبَّر عن المشروع البديل الذي أراد الحسينg استبدال الواقع الفاسد به، ويعبَّر في الوقت نفسه عن آليّة التغيير المُتَّبعة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "التحلية"، أي: ملءَ الفراغ بعد التخلية بمشروع مبتنٍ على أسس فكريّة صحيحة أولاً، وبآليّات عمليّة سليمة مشروعة ثانيّاً، وهو ما يمكن أن نعبّر عنه أصوليًّا وفروعيّاً بـ "الإسلام، ودين التوحيد"؛ لأنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر -اللذَين تكلَّم عنهما الحسينg كهدف لنهوضه- هو غاية الدين كما ورد عن الأمير(ع)، >غاية الدين الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر<([7])، وهما قوام الدين، واستقامة فرائضه، والسبيل إلى الإسلام، فعن الحسين(ع): (وذلك أنَّ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام)([8])، كما أنَّ سيرة النبيe وعليe في سيرة التوحيد.

رابعاً: ثمَّ قالg: >فَمَنْ قَبِلَني بِقَبُولِ الْحَقِّ فَاللهُ أَوْلى بِالْحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هذا أَصْبِرُ حَتّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْني وَبَيْنَ الْقَومِ بِالْحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمينَ<([9])، وفي ذلك تعبير عن الميزان الذي سيفرّق النَّاس تجاه هذا القيام إلى صنفين: صنف قابل، وصنف رادّ، وهو ميزان الحقّ، الراجع إلى الحقِّ تعالى، وهو الله تعالى، ودينه القويم.

خامساً: قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}([10])، وقد بيّنت هذه الآية المباركة الرّبط بين الدّين والفطرة، بل بيّنت أنّ الدين هو الفطرة عينها، ولا فرق بينهما من الناحية المصداقيّة، فإذا كان الحسينg قد نهض من أجل الدين، فهو قد نهض من أجل الإنسان، والحقّ، والتوحيد، أي: نهض من أجل الفطرة، والفطرة تتجلى حينئذ في كلّ مفصل من مفاصل عاشوراء، بل في كلّ جزئيّة من جزئيّاتها، فكلُّ حدث كربلائيّ، هو مجلى للفطرة الإنسانيّة، وهو مفترق طرق بين ما يناقض الفطرة فيتسبّب في النفور، كما صدر من أعداء الحسينg، وبين ما يصادق الفطرة فيتسبّب في الجذب، وهو ما صدر عن الحسين(ع) وأصحابهg.

والنتيجة: أنّ الأساس الذي بُنيت عليه النهضة الحسينيّة بحيث استطاعت أن تؤثّر طيلة هذه المدّة، وعلى مختلف الشخصيّات على اختلاف انتماءاتها العقديّة، والفكريّة، والسلوكيّة، والتخصصيّة، هو الأساس الفطريّ، ممّا يعني: أنّ قضيّة الحسين وقيامه فطريّ، ورمزيّته ذات دلالات قابعة في عمق التركيبة الإنسانيّة، ومن هنا فسَّر البعض الهدف من ثورة الحسينg على أنَّه يتمثَّل في رفع مشعل وَهّاج دائم التنوير على خطّ الزمن اللا متناهي، فلا يصحُّ حصُره في أهدافٍ على مستوى الظرف الموضوعيّ الخاصّ الذي مرَّ به، أو على مستوى المجال السياسيّ، أو العقائدي، أو الاجتماعيّ، بل كلّ ذلك يعدُّ آثاراً نتجت عن ثورة الحسينg على سبيل المقصد والرّديف، لا المقصود والمنتهى، فالهدف الأساس هو إقامة هذه الملامسة الفطريّة الوجدانيّة العاطفيّة الإنسانيّة القويمة المستمرّة، بترشيدها الدينيّ النابع من نفس المصدر، وهو الله الحقّ تعالى..

وهذا وجه وجيه له شواهد تعدّ قرائن مقرّبة لهذه الرؤية، فما هي هذه القرائن؟ من هنا أنتقل إلى النقطة الثانية..

النقطة الثانية: الدليل على فطريّة القيام الحسينيّ

الحديثُ حول مظاهر فطريّة الثورة الحسينيّة -سبب الجذب- طويلٌ ومتشعّب، وأكتفي هنا بذكر بعضها كمنبّهات على ضوء النّصوص الشريفة، دون الولوج في التفاصيل:

أولا: الشواهد التكوينيّة: ومنها:

1) حضور الحسينg في جميع العوالم، فبمراجعة الروايات نلحظ أن انعكاس الوجود الحسيني حاضر تكويناً وحقيقةً منذ أول الخلق، وفي عالم الدنيا، والكرّة، والرجعة، والبرزخ، والقيامة، والجنّة، وعلى كلِّ واحدٍ من هذه العوالم وحضور الحسينg فيها شواهد لا مجال هنا لذكرها، ولقد وفّقت العام الماضي لأن أتكلَّم حول جانب من ذلك تحت عنوان: (تجليّات الحسينg في آية: {..وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ..}([11])).

والمعلوم أنَّ الإنسان جِرمٌ فيه انطوى العالم الأكبر، فكلّ العوالم مُختزَلة في تركيبة هذا الإنسان الخَلقيّة، فإذا كان الحسينg مُنعكساً حضوراً في كلّ تلك العوالم، فلا بدًّ أن ينعكس حضوراً أيضاً في عمق الإنسان القابع في متن تجلّياته الوجوديّة.

2) كما يمكن أن يُستدلّ على فطريّة قيام الحسينg تكويناً ببعض الأحاديث التي تتكلَّم عن الحرارة الوجدانيّة الملموسة بذكر الحسينg، والمعرفة الباطنة المكتومة، والانكسار الكونيّ والخشوع لدى طروِّ اسمهg، فكأنَّها كلُّها تعبيرات أخرى على فطريّة القيام الحسينيّ الذي ينبغي لكلّ صاحب فطرة أن يتفاعل معها استجابة لمتطلّبات فطرته، وهذه الأحاديث تبيّن نحو خصوصيّة لقضية الحسينg لا يمكن فهمها -بعد معلوميّة أنّ كلّ ما صدر من الأنبياء والأوصياء كان فطرياً أيضاً؛ لأنّهم كانوا يدعون إلى دين الفطرة- إلا في سياق الأوضحيّة، والأشديّة، وهذا هو مركز الجاذبيّة، وسرعة الاستجابة إلى هذه الفطرة بواسطة الحسينg.

لاحظ مثلاً ما جاء عن رسول اللهg: >إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة<([12])، ولاحظ أيضا ما ورد عن الأميرg: >يا أبا عبد الله أسوّة أنت قُدُماً<([13])، وغيرها الكثير من الروايات الشريفة.

ثانيا: الشواهد التشريعية:

وأعني بها خصائص الأحكام الشرعيّة التابعة للوجود الحسينيّ، فإنّنا بتتبّعها نجد أنَّ للحسينg حضوراً في التشريعات بنحو متسلسل يبدأ مع الإنسان منذ وجوده الأوّل في عالم الدّنيا، وحتى خروجه منها..

وحين نقيّم طبيعة هذه الأحكام، سنجدها تلامس الحاجة الفطريّة للإنسان في سَيرِهِ التكامليّ المتّكئ على الفطرة، فالحسينg يبتدئ مع الطفل الرضيع؛ إذ يستحب تحنيكه بشيء من تربة الحسينg، ويستمر مع الإنسان طيلة أيام حياته في عمود دينه وقوام إيمانه، وهي الصلاة، حيث يستحبّ له أن يسجد على تراب الحسينg، وأن يتّخذ سبحة من تراب الحسينg، ثمّ تُختتم حياته في قبره مع تربة الحسينg، حيث يستحبّ دفن شيء من ترابهg مع الميّت، في تعبير عن استمرار الحسينg مع الإنسان في هذه النشأة من أصل وجوده (التّراب)، وحتى رجوعه إلى التراب، فيبقى مع الحسينg وترابه، فكأنّ الدّين يقول لك: كما أنَّ أصل تكوينك في هذا العالم هو التراب، فلا غنى لك عن خصوص تراب الحسينg، الذي هو أصل وجودك أيضاً من الناحية المعنويّة المجردّة، وهناك أحكام أخرى أيضاً.

وهذه الأحكام الشرعيّة الخاصّة تدلّ على تلك العلاقة الطرديّة بين التّكوين والتّشريع، ولولا وجود تلك الخصائص التكوينيّة للحسينg، لمَا اختُصّ الحسينg بجملة من الأحكام الشرعيّة.

ثمّ إنّ نفسَ الأحاديث الدّالة على إمامة الحسينg وكونه القيّم على هذا الدّين الفطريّ، يثبت أيضاً فطريّة قيامهg.

أكتفي بهذا المقدار -من النُّصوص- المؤكّد لفطرية قيام الحسينg، والمثبت لصحة أنَّ سرَّ الجذب في اسم الحسينg هو فطريّته التي برزت في لباس عاطفيّ وجدانيّ شعوريّ لم يأتِ على يد أحد من الأولياء أبداً بهذا النحو المكشوف، والطّافح.

ومن هنا أنتقل إلى النقطة الثالثة وأختم بها الحديث..

النقطة الثالثة: نتائج

نخلص إلى جملة من النّتائج الأساسيّة المبتنيّة على أساس هذا الفهم –فطريّة الثورة الحسينيّة-:

أولاً: يتّضح أنّه من الضرورة بمكان أن تُقرأ هذه الثورة في بداية قراءتها على الميزان الفطري، وما ينتج عنه من توحيد صافٍ بعيدٍ عن التعقيدات والتحليلات المشتبكة، فإذا فُهمت على هذا الأساس منذ البداية، انفتح بعد ذلك الطريق مُعبَّدًا نحو التعمّق الصّائب في تعقيدات هذه النهضة، ليُكتشف حينها أنّه في وقت التعقيد، هناك سلاسة في تلقي مبادئها ما دامت منتمية إلى الفطرة، وهكذا هو الأمر بالنسبة إلى الدين، فإنَّ الدّين في نفس الوقت الذي من الممكن أن يولَج إليه بتعقيدات مصطلحات الحكمة والفلسفة والكلام والعرفان -وهي ساحة فكريّة صعبة الولوج، وقد يلج فيها من لم يهيّئ لنفسه طريق الولوج بالدّراسة المستمرة، فتكون النتيجة هي عكس التوحيد، أي: الشِّرك، والانحراف-، فكذلك يمكن أن يولج إلى الدين في بادئ الأمر بالفطرة الصّافية السّاذجة النّقيّة من كلّ تعقيد لا داعي له، فإذا تُلُقي على هذا النمط، ووقف الباحث فيه على عمقه بهذه المبادئ الروحيّة الوجدانيّة الصّافية، استطاع بعدها أن يلج إلى الدّين بكلّ ما نتج من تعقيدات التساؤلات بطريق محكم محصّن عن الانحراف في الفهم والسّلوك، وهكذا هي نهضة الحسينg؛ لأنَّها ليست شيئاً مغايراً لأطروحة الدين، والتوحيد، والإسلام، ولو في بعض تفاصيلها؛ لأنّها خرجت عن معصوم تامّ الفهم، وكامل الأوصاف، ومستقيم كلّ الاستقامة في السلوك والعمل.

ثانياً: لا انفكاك بين الفطرة الإلهيّة، والفطرة الحسينيّة، فالفطرة التي ندرك بها الله تعالى وجداناً، هي نفسها الفطرة التي تؤدّي إلى معرفة الحسينg، فهي في طول فطريّة معرفة الله، ولا تنفكّ عنها، وعليه: كلمّا كان الإنسان أكثر صفاءً بعودته لفطرته وجبلّته الأولى، سيكون أكثر قدرة على فهم الحسينg، وبالتالي سيتفاعل مع قضيّته أكثر فأكثر من ناحية التّلقي العقليّ والقلبيّ والعاطفيّ، وكلمّا ابتعد الإنسان عن فطرته، فإنّ من الصّعب عليه أن يتلقّى هذه القضيّة بالقبول.

وهذا ما يفسّر لنا السرّ من وراء أنّ التفاعل الأكبر مع الحسينg يكون من المؤمنين خاصّة؛ لأنَّهم هم الأقرب إلى الفطرة بإيمانهم، وتوحيدهم الفطريّ المرشَّد بهدي القرآن وأهل البيتg، وهذا ما يؤكّده ما جاء عن الصادقg: >نظر النبيّ(ص) إلى الحسين بن عليّg وهو مقبل، فأجلسه في حجره، وقال: إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً. ثمّ قالg: بأبي قتيل كلّ عَبرة. قيل: وما قتيل كلّ عبرة يا ابن رسول الله(ص)؟ قال: لا يذكره مؤمن إلا بكى<([14])، فانظر إلى الرَّبط بين البكاء -الذي هو واحد من أقصى مظاهر التفاعل الروحي والعاطفي والعقلي- وبين الإيمان، تقف على المغزى.

ثالثاً: فطريّة الثورة الحسينيّة لا تعني أنّها يجب أن تكون مقبولة لدى جميع أفراد الإنسان، فإنَّ الدين التوحيديّ فطريّ أيضاً، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}([15])، ومن هنا يمكن أن نفهم الوجه في عدم تلقي البعض لهذه النورانيّة الحسينيّة الفطريّة، وعدم قبوله لها، فإنَّ ذلك يُفهم في سياق التنكُّر للفطرة بغض النَّظر عن أسبابه، فكلُّ من يرفض نهضة الحسينg، وكلُّ من يخطّئها، إنّما يقفز على فطرته، ويتمرَّد على أعماق جبلِّته، ويتأثَّر بالموانع التي تدسُّ تلك الفطرة تحت تراب الغفلة أو التغافل، لشهوة، أو نزوة، أو شبهة، أو غير ذلك من موانع متصوّرة.

رابعاً: يُفهم ممَّا تقدَّم وجه الخصوصيّة في ثورة الحسينg التي تَلقى كلَّ هذا التأثير، وتمتلك كلَّ هذه الجاذبيّة، حيث إنَّ حركة الأنبياء والأوصياء كلَّها فطريّة بلا استثناء، إلا أنَّ حركة الحسينg فطريّتها أوضح، وأجلى؛ لأنّها تطبيق عمليّ مباشر لمرتكزات الفطرة المعرفيّة والوجدانيّة، تخترق القلوب مباشرة عبر معطيات المأساة والفاجعة، فالفطرة عادة ما تكون كامنة في أصلها، بيِّنة في دلالاتها، ويحتاج الإنسان إلى التأمّل التام، والإصغاء الهادئ إلى صوتها البعيد القريب، متجرّداً عن الموانع الجمّة، إلا أنّ الحسينg قد أخرَجَ هذا الكامن في لباس مأساة كشفت عن الفطرة الإنسانيّة الصّافية، وعمَّا يناقضها، بنحوٍ لا مجال فيه للتنكُّر إلا بالانسلاخ الصَّريح الخطير عن الفطرة والإنسانيّة..

ولقد تجلَّت تلك الفطرة المعرفية في حركة الأنبياء والأوصياء بنحوٍ متفاوت، فمنها ما تركَّز بيانه على الجانب المعرفيّ، مع محدوديّة امتداداته العمليّة، ومنها ما ركّز على الجانب العمليّ، ومنها ما وازن بين الأمرين، كلُّ ذلك بمقتضى متطلّبات الظرف الذي مرّ به هذا النبيّ أو ذاك الوصيّ، أمَّا حركة الحسينg فهي الأجلى والأوضح في جانبها المعرفيّ، وفي جانبها التطبيقيّ، وجانب بيان العلاقة بين الجانبين المزبورين، ويمكن القول حينها: إنَّ ثورة الحسينg هي خلاصة وعصارة الحراك النبويّ في الدّعوة إلى دين التوحيد، بحيث لا يمكن أن تكون هناك صورة أجلى من صورة كربلاء الحسينg في توضيح الأسس الفطريّة لهذا الدّين القويم..

إنَّ ما صنعه الحسينg ضرَبَ -ولا زال يضرب- في عمق الفطرة الإنسانيّة، بتحريكه للمبادئ بنحو فعليّ واقعيّ، لا يقتصر على المثاليّة والتنظير فقط، فقد امتازت هذه النهضة بالحيويّة الفاعلة، وهذا ما يفتحنا على قيمة ما نقوم به من إحياء لهذه النهضة في نفوسنا، ومجتمعاتنا، وبخصوص هذا الأسلوب الفكريّ العاطفيّ، فإنَّ هذا المزج الذي أمر به أهل البيتg في إحياء أمر الحسينg هو التوليفة السحريّة الجذّابة، التي استطاعت أن تؤثِّر في العالم أجمع، وهي نفس التركيبة التي سيتمُّ بها التغيير الأكبر للعالم على يد مهديّ هذه الأمَّةl، وإنّنا بتمسّكنا بنهضة الحسينg، نتمسّك بمركز التأثير الفطريّ الذي يمتلك قابليّةً لأن يشعّ نوراً على كلِّ العالم، نحن باسم الحسينg نستطيع أن ندعو إلى الله تعالى بنحو فاعل مؤثِّر مقبول، له القدرة على انتزاع كلِّ الموانع التي تمنع من تلقّي هذه الأطروحة الفطريّة النقيّة..

فوا أسفاه على من لم يفهم ما هو الحسينg، ووا أسفاه على من حصر الحسينg في طقوس وعادات، أو حاول أن يفهمه من زاويته البشرية الضيّقة، أو حجَّمهg في بقعة جغرافيّة محدودة، وقطعة زمانيّة ماضية!

وبما تقدَّم نستطيع أن نفسِّر ما ورد عن النبيّe في الحسينg، حين يقول: >وبالحسين تسعدون، وبه تشقون، ألا إنّ الحسين باب من أبواب الجنة، من عانده حرّم الله عليه ريح الجنة<([16]).

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمد وآله الطِّيبين الطاهرين.

([1])  الخرائج والجرائح، ج2، القطب الراوندي، ص358، وعنه في بحار الأنوار، المجلسي، طبعة دار الوفاء، بيروت،ج43،ص272.

([2]) يمكن مراجعة موقع "مؤسسة وارث الأنبياء التابعة للمرجعية العليا في النجف الأشرف، حيث نقلت عن قرابة 50 شخصيّة متنوّعة جملة من الكلمات المهمّة حول الحسينo، (https://www.warithanbia.com/?id=283).

([3]) لقد شيعني الحسينg، ص313.

([4])  الفتوح، ابن أعثم الكوفي، ج5، ص21، ومناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، 4، ص89.

([5])   نفس المصدر.

([6])  المصدر السابق.

([7]) غرر الحكم، الآمدي، عبدالواحد، ج2، ص505.

([8]) تحف العقول، الحرّاني، ابن شعبة، ص237.

([9]) الفتوح، ابن أعثم الكوفي، ج5، ص21، ومناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، 4، ص89.

([10]) القرآن الكريم، سورة الروم، آية 30.

([11]) سورة إبراهيم: 5.

([12]) مصدر سابق.

([13]) كامل الزيارات، ابن قولويه، جعفر بن محمد، الطبعة الأولى، نشر الفقاهة،1417هـ.

([14]) مستدرك الوسائل، المحدّث النوري، ط مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1320شـ، ج10، ص318، نقلاً عن كتاب الأنوار لابن همّام.

([15]) سورة غافر: 59.

([16]) مائة منقبة، ابن شاذان القمي، محمد بن أحمد، ط مدرسة الإمام المهدي، قم المقدسة،1407هـ، ص22.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا