المؤمنُ وتلاوةُ القُرآنِ الكَريمِ

المؤمنُ وتلاوةُ القُرآنِ الكَريمِ

بسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، اللَّهمَّّ صلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّد..

مفردةُ التِّلاوة من المفردات المهمَّة الَّتي أكَّد عليها القرآنُ الكريم والرِّوايات الشَّريفة، ولها معانٍ أو مراتب عدَّة حسب ما يظهر من سياقات النُّصوص المباركة، منها ما يتبادر إلى الأذهان، وهي أصلُ قراءة القرآن؛ وهي أدنى مراتب التِّلاوة، وهذه المرتبة مطلوبة من جميع أفراد المسلمين، ويفهم من التَّأكيد عليها أنَّ أصلَ التِّلاوة -الَّتي ربَّما يغفل عنها الكثير حتَّى المهتمِّين بالشُّؤون القرآنيَّة، والمتخصِّصين في علوم القرآن والتَّفسير- لها آثارٌ كثيرة ومهمَّة على علاقة المسلم بالقرآن الكريم، ومدى تأثيره على نفسه وروحه، وهنا مجموعة من الأمور المتعلِّقة بهذه المسألة نستفيدها من الكتاب والسُّنَّة:

الأمرُ الأوَّل: مراتب التِّلاوة

بعض آيات القرآن الكريم مدحت المؤمنين لأصل تلاوة القرآن، وقرنت ذلك بالصَّلاة والنَّفقة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}(فاطر:29-30).

وأنَّ من يتلوَ القرآنَ ليلاً يختلف عن غيره كما في قوله تبارك وتعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}(آل عمران:113).

هذه مرتبة من المراتب؛ وهي أصل القراءة.

ويُفهم من آيات أخرى أنَّ للتِّلاوة مرتبة أرقى؛ فقد ورد في عدَّة آيات كريمة أنَّها من وظائف النَّبيّe:

قال تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ}(البقرة:129). و{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ}(البقرة:151). 

وفي آيةٍ ثالثة يقول سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا المُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ المَصِيرُ}(الحجّ:72).

ومن أوضح الآيات الَّتي يظهر منها وجود مراتب للتِّلاوة قوله سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ}(البقرة:121)، ففي الرِّواية عن الصَّادقg: >هُمْ الأَئِمَّةُi<([1]). وفي نهج البلاغة -في صفة من يتصدَّى للحكم بين الأمَّة وليس لذلك بأهل-: >لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ([2]) مِنَ الكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاوَتِهِ وَلا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَلا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ<([3]).

الأمر الثَّاني: آثار التِّلاوة والقراءة

يمكن استفادة كثيرٍ من الآثار من خلال الرِّوايات الشِّريفة، منها:

الأثر الأوَّل: جلاءُ القلب وطهارته

فعن النَّبيّ الأعظمe: «إِنَّ هَذِهِ القُلُوبَ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الحَدِيدُ<، قيل: فما جلاؤها؟ قالe: >ذِكْرُ اللهِ وَتِلاوَةُ القُرْآنِ<([4]). والرِّواية فيها حثُّ على المداومة؛ حيث علَّلت بأنَّ من شأن القلب هو الصَّدأ، ولمَّا كان من المطلوب من المؤمن إزالة هذا الصَّدأ على الدَّوام، فينبغي حينئذٍ المداومة علىما يزيل هذا الصَّدأ؛ والَّذي هو تلاوة القرآن الكريم.

ولعلَّ جلاءُ القلب لأنَّ التِّلاوة هي حديث مع ربِّ العزة والجلالة، فإذا كان الحديث مع المعصوم أو العالِم يؤثِّر في صفاء القلب وطهارته فكيف بالحديث معه سبحانه!

ثمَّ إنَّ هناك ملازمة بين القراءة وبين الالتفات إلى المعاني ولو بصورة عفويَّة غير مقصودة، وفي الرِّواية عن عبد الله بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللهg عن قول الله‌a: {وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً}(المزِّمل:4)؟ قال : «قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَg: بَيِّنْهُ تِبْيَاناً، وَلا تَهُذَّهُ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلا تَنْثُرْهُ نَثْرَ الرَّمْلِ، وَلَكِنْ أَفْزِعُوا قُلُوبَكُمُ القَاسِيَةَ، وَلا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ<([5]). وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللهg يقول : >إِنَّ القُرْآنَ زَاجِرٌ وَآمِرٌ؛ يَأْمُرُ بِالجَنَّةِ وَيَزْجُرُ عَنِ النَّارِ<([6]).

ولعلَّ لأجل ذلك قد ورد الأمر بقراءة القرآن بحزن، فعن الصَّادقg: >إِنَّ القُرْآنَ نَزَلَ بِالحُزْنِ فَاقْرَءُوهُ بِالحُزْنِ<([7])، فإنَّ للطَّريقة تأثيراً على القلب والرُّوح.

هذا بالإضافة إلى أنَّ الحديث والكلام مع المحبوب يؤثِّر على الحبيبنفسه بلا شكَّ، ولذلك حينما تأتي رسالة مهمَّة من المحبوبِ ترَى الحبيبَ كلَّما ضاق به الحالُ أو أصابه السَّأمُ أو اشتاق رجع إلى تلك الرِّسالة لإعادة قراءتها من جديد، فكيف برسالة ربِّ الأرباب؟!

الأثر الثَّاني: كثرةُ الخيْر

ففي الحديث عن النَّبيّ الأعظمe -وهو يحثُّ على أن تكون التِّلاوة في البيوت دون الاقتصار على المساجد-: >نَوِّرُوا بُيُوتَكُمْ بِتِلاوَةِ القُرْآنِ، وَلا تَتَّخِذُوهَا قُبُوراً كَمَا فَعَلَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ صَلَّوْا فِي الكَنَائِسِ وَالبِيَعِ وَعَطَّلُوا بُيُوتَهُمْ، فَإِنَّ البَيْتَ إِذَا كَثُرَ فِيهِ تِلاوَةُ القُرْآنِ كَثُرَ خَيْرُهُ ،وَ اتَّسَعَ أَهْلُهُ، وَأَضَاءَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيءُ نُجُومُ السَّمَاءِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا<([8]). ويبدو أنَّ العلاقة بين التِّلاوة في البيت وكثرةُ الخير هي علاقة شبه تكوينيَّة، وليس مجرَّد ثوابٍ يعطيه الله تعالى لِمَن يتلو الكتاب، حيثُ أجواءِ الكلام الحقِّ الَّذي يكون هو الغالب على ذلك البيت يؤثِّر في غلبة الخير على الشَّر. 

الأثر الثَّالث: استجابة الدُّعاء والثَّواب الجزيل

ولكون التِّلاوة أحدُ أهمِّ العبادات وترويجها بين النَّاس؛ حيث إيصال أوامر الله وزواجره، وتقدَّم أنَّ ذلك من إحدى وظائف الأنبياءi، فقد ورد أنَّه من مواطن استجابة الدُّعاء، ففي الرِّواية عن أبي عبد اللهg: قال أمير المؤمنينg: «اغْتَنِمُوا الدُّعَاءَ عِنْدَ أَرْبَعٍ: عِنْدَ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَعِنْدَ الأَذَانِ، وَعِنْدَ نُزُولِ الغَيْثِ، وَعِنْدَ التِقَاءِ الصَّفَّيْنِ لِلشَّهَادَةِ<([9]).

وأمَّا الثَّواب فالرِّوايات كثيرة جدّاً فيه، وبعضها يحثُّ على قراءة القرآن في الصَّلاة، وقد ورد عن أبي عبد اللهg قال: >مَا يَمْنَعُ التَّاجِرَ مِنْكُمُ المَشْغُولَ فِي سُوقِهِ إِذَا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ أَنْ لا يَنَامَ حَتَّى يَقْرَأَ سُورَةً مِنَ القُرْآنِ، فَتُكْتَبَ لَهُ مَكَانَ كُلِّ آيَةٍ يَقْرَؤُهَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَيُمْحَى عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ<([10]). هذا حال المشغول وأمَّا غيره فهو أولى بأن يفرد لنفسه وقتاً للتَّلاوة.

ثمَّ إنَّ هذا الثَّواب الجزيل إنمَّا جُعل للحثِّ الأكيد على التَّلاوة لما لها من أثر كما تقدَّم.

الأمر الثَّالث: تعلُّم القرآن الكريم

وهذه مرتبة تتلو مرتبة التِّلاوة؛ لأنَّ التَّعلم هو الغاية من التَّلاوة، وما التِّلاوة إلَّا نوع تمهيد للوصول إلى هذه المرتبة، نعم، ربما يُفهم من بعض الرِّوايات الحثّ على القراءة مطلقاً حتَّى لو لم يفهم شيئاً، فللقراءة موضوعيَّة، ولكن لا شكّ في أنَّ التَّعلم هو هدف أسمى وغاية أرقى من مجرَّد التَّلاوة، حالها حال الصَّلاة الَّتي هي مطلوبة في نفسها، ولكن مطلوب فيها بشكل آكد حضور القلب، والانتهاء عن المنكر.

والتَّعلم ليس بمعنى أن يستقلَّ الإنسانُ في فهم القرآن الكريم، فيقع في محذرو التَّفسير بالرَّأي، بل بالرُّجوع إلى أهل التَّخصُّص من المفسِّرين الموثوقين، ومن خلال قراءة التَّفاسير المعتبَرة، ومن خلال الجلسات القرآنيَّة التَّفسيريَّة، نعم، التَّأمل عند قراءة القرآن الكريم والتَّفكُّر بشكلٍ عامٍّ في آياتِه المباركة أمرٌ مطلوبٌ ومحبَّذ، حتَّى لا تكون قراءةً خاويةً.

جاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنينg قال: >وَ تَعَلَّمُوا القُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الحَدِيثِ، وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ القُلُوبِ وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ وَأَحْسِنُوا تِلاوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ القَصَصِ<([11]).

وفي المرسلة عن الإمام الصَّادقg: >يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لا يَمُوتَ حَتَّى يَتَعَلَّمَ القُرْآنَ أَوْ يَكُونَ فِي تَعْلِيمِهِ<([12])، وعن النَّبيّ الأكرمe: >لا يُعَذِّبُ اللهُ قَلْباً وَعَى القُرْآنَ<([13]).

نسأل الله تعالى أن يجعل لنا القرآن شافعاً مشفَّعاً، وأن يهدي قلوبنا بالقرآن، إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على محمَّدٍ وآلِه الطَّيبينَ الطَّاهرينَ.

 


 


[1]الكافي، الكلينيّ، ج1، ص215.

[2]أَبْوَر من مادَّة ب!وْر، بمعنى الهلاك والفساد.

[3]نهجالبلاغة(جمع الشَّريف الرَّضي)، (شرح: محمَّد عبده)، ج1، ص54.

[4]الدَّعوات(سلوةالحزين)، قطبالدِّين الراوندي، ص237.

[5]الكافي، الكلينيّ، ج2، ص614.

[6]الكافي، الكلينيّ، ج2، ص601.

[7]الكافي، الكلينيّ، ج2، ص114.

[8]الكافي، الكلينيّ، ج2، ص610.

[9]الكافي، الكلينيّ، ج2، ص477.

[10]الكافي، الكلينيّ، ج2، ص611.

[11]نهجالبلاغة(جمع الشريف الرضي)، ج1، ص216.

[12]الكافي، الكلينيّ، ج2، ص607.

[13]الأمالي، الطُّوسيّ، ص7.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا