الفجر في الليالي البِيْض والمقمرة

الفجر في الليالي البِيْض والمقمرة

مقدّمة:

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد نبيّه وآله وسلّم تسليما..

عنوان الفجر أو تبيُّنه- من باب الإضافة للمفعول- بصورة عامَّة، وفي الليالي البِيْض والمقمرة بصورة خاصَّة من العناوين الّتي أُنيطت بها جملة من الوظائف الشَّرعية كصلاة الفجر، والصَّوم، وصلاة العشائين -ولو بالإضافة إلى غير المختار في تأخيرهما-، وصلاة الليل -بناءً على كون وقتها من منتصف الليل لا قبله، وأنَّ حساب وقتها منه إلى طلوع الفجر لا إلى طلوع الشَّمس-، والمبيت بمنى إلى منتصف الليل -بناءً على حساب منتصفه إلى طلوع الفجر-، وغسل الجمعة وأنَّ مبدأ وقته الفجر، إلى غير ذلك من الوظائف الشَّرعيّة. 

مسألتنا:

وقد وقع الكلام بين الأعلام في اعتبار تبيُّن الفجر في الأفق بالفعل، "فلا يكفي التَّقدير- كما قال الفقيه الهمدانيS- مع القمر لو أثَّر في تأخُّر تبيُّن البياض المعترض في الأفق"([1])، أو لا يعتبر تبيُّنه فعلاً إذا فرض تحقُّقه في نفسه وواقعاً إلا أنَّ ضوء القمر منع عن رؤيته -كما أفاد سيُّد الأعاظمS([2]).

[الاستدلال للقول الأوَّل بالآية وردُّه:]

وقد استُدلَّ للأوَّل بأنَّه ظاهر قول الله سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر}([3]).

وتقريب ذلك في مقدِّمات:

الأولى: -ولو بحسب بعض الكلمات- أنَّ {مِنَ} في قوله سبحانه: {مِنَ الفجر} بيانيَّة، وأنَّ تبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود وتميُّزه عنه -المتقوِّم بظهور ضياء الشَّمس وغلبته على نور القمر- هو الفجر، فلا واقع له إلا ذلك، لا أنَّ الفجر شيء، والتبيُّن شيءٌ آخر. نعم يكون العلم أمارةً على هذا التبيُّن والامتياز النَّفس الأمريّ([4]).

الثَّانية: أنَّ الظَّاهر من التَّبيُّن والتميُّز هو التميُّز الفعليّ التَّحقيقيّ، كما هو الشَّأن في كلِّ العناوين المأخوذة في العقود والقضايا.

الثَّالثة: -ولو بحسب بعض الكلمات- إنَّه مع ضوء القمر لا وجود للبياض ما لم يقهره ضوء الفجر، بيانها: ثمَّة دعوى -ولو مقدَّرةً- بعدم الفرق بين ضوء القمر وبين الغيم ونحوه من موانع رؤية الفجر وبياضه، فكما لا يعتبر تبيَّن الفجر فعلاً مع الموانع غير ضوء القمر، بل يكفي العلم بواقع الفجر، فيكفي مع كون المانع من تبيُّنه هو ضوء القمر. وقد أُجيب عنها بمنع قياس ضوء القمر بنحو الغيم، ووجه المنع "أنَّ ضوء القمر مانع من تحقُّق البياض ما لم يقهره ضوء الفجر، والغيمُ مانعٌ عن الرُّؤية لا عن التَّحقّق"([5]).

[الملاحظات على المقدِّمات:]

ويلاحظ على المقدِّمة الأولى

بأنَّ {مِن الفجر} بيان للخيط الأبيض، لا للتبيُّن، ولا أقلَّ من احتمال ذلك. كما يبعِّد احتمال كونه بياناً للتبيُّن إضافته للمخاطَبين بحيث يعود مفاد الآية بموجبه أنَّ الفجر هو تبيُّنكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ومن الواضح أنَّ الفجر ليس محض ذلك وقتما اتفق([6]).

ويكفي لرفع اليد عن الاحتمال المذكور -لو سلَّمنا بكونه ظاهر الآية- معتبرة عليِّ بن مهزيار عن أبي جعفر الثَّانيg -في جواب السُّؤال عن الفجر، وأنَّه الخيط الأبيض لا تبيُّنه- قال: 

>الفجر-يرحمك الله- هو الخيط الأبيض المعترض، وليس هو الأبيض صعداً، فلا تصلِّ في سفر ولا حضر حتى تَبَيَّنَه [= تَتَبَيَّنَه]؛ فإنَّ الله تبارك وتعالى لم يجعل خلقه في شبهةٍ من هذا، فقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، فالخيط الأبيض هو المعترض (الفجر) الّذي يحرم به الأكل والشُّرب في الصَّوم، وكذلك هو الذي يوجب به الصَّلاة([7]). وقد وصفتها بالمعتبرة وإن كان في طريقها -بنقل الكلينيO- سهل بن زياد؛ لأنَّه ثقة على المختار([8]).

ويلاحظ على المقدِّمة الثَّانية:

بأنَّ من العناوين ما لا موضوعيَّة له لدى أهل المحاورة، كعنوان العلم والتبيُّن, وأنَّها محض طريق إلى متعلَّقاتها، ويؤكِّد ذلك -في مقامنا- إضافة التبيُّن للمخاطَبين، فالعبرة بواقع المتبيَّن ووجوده وإن كان مقهوراً بضوء القمر، وكان ثمَّة طريق لإحرازه، وسيأتي -إن شاء الله- ما يزيد هذه النُّقطة وضوحاً.

ويلاحظ على المقدِّمة الثَّالثة

بعدم الفرق بين ضوء القمر وبين غيره من موانع الرُّؤية فإنَّه أيضاً مانع عن التبيُّن؛ لعدم الفرق في أصل تكوين البياض بين الليالي المقمرة وبين غيرها، والقاهريَّة المدَّعاة إنَّما تمنع عن فعلية الرُّؤية لا عن تحقُّق المرئي، كما يرشدك إليه بوضوح فرض الانخساف؛ فإنَّ البياض الموجود يستبين وقتئذٍ بنفسه، فإذا عُلِم به -ولو من غير طريق الرُّؤية- ترتَّب عليه الحكم، وحال ضياء القمر حال الأنوار الكهربائيّة؛ لاشتراك الكلِّ في القاهريّة([9]).

وقد يلاحظ على القول الأوَّل -بصورة عامَّة- بأنَّ الفجر في الليالي المقمرة بعد مضيِّ مدَّة تؤذن بغلبة ضياء الشَّمس على نور القمر لا يكون بصفة الخيط الأبيض -كما في الآية-، ولا يكون معترضاً كأنَّه بياض نهر سوراء -كما في بعض روايات الباب-([10]). 

[لملمة الاستدلال للقول الثَّاني بالآية مع إضافة دقيقة:]

ثمَّ إنَّه -رغم تبيُّن وجه القول الثَّاني من خلال الملاحظات على مقدِّمات الاستدلال للقول الأوَّل بالآية، وأنَّ {من الفجر} بيانيَّة للخيط الأبيض وأنَّه الفجر لا للتبيُّن، وأنَّ العبرة بواقع المتبيَّن ووجوده، ولا موضوعيَّة للتبيُّن، وأنَّ ضوء القمر كما الغيم مانعٌ عن رؤية البياض لا عن تحقُّقه- إلا أنَّ ثمّة إضافةً ترتبط بتبيُّن الخيط الأبيض، ومعها لا تعود للآية أدنى صلة بالقول الأوَّل، وهذه الإضافة هي: 

أنَّ الآية قد جعلت تبيُّن الفجر (من باب الإضافة للفاعل) غايةً لجواز الأكل والشُّرب، وغايةً بالإضافة إلى المخاطَبين، فلا يكفي في حصول الغاية تبيُّن الفجر (من باب الإضافة للمفعول) بمجرَّد بزوغه وانبثاقه ما لم يصل إلى حدِّ تبيُّنه (من باب الإضافة للفاعل) للمخاطَب، فإنَّ ضوء الفجر غير قابل للرُّؤية إلا بعد مضيِّ مدَّة من انبثاقه وارتفاعه من الأفق، وقد حكي عن بعض الفقهاء أنَّ ضوء الفجر لا يأخذ صفة الفجر إلا إذا ارتفع ثلاث درجات من الأفق([11]).

وعلى أيِّ حال فلا يتَّصف ذلك الضوء بالفجر إذا رآه الشوَّاف -حادّ البصر- أو رُؤي بالعين المسلَّحة بحيث لا يُرى للنَّوع بالعين المجرَّدة حتى مع عدم المانع([12]).

وبعبارة أخرى: إنَّ مثل عنوان العلم والتبيُّن حيث يرد في العقود والقضايا وإن كان طريقيّاً، إلا أنَّ عنوان (تبيَّن الفجر للمخاطبَين) ليس طريقيّاً، بل له موضوعيَّة لا من حيث اعتبار التبيُّن حسّيّاً- كما عن الفقيه الهمدانيS-، بل من حيث بلوغه حدّاً من السُّطوع وإن لم يعاين بالفعل بعد قيام الحجَّة ببلوغه ذلك الحدِّ.

ومنه يعرف النَّظر في إطلاق ما أفيد في بعض الكلمات من أنَّ تبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمارة على الفجر الّذي هو وصول شعاع الشَّمس إلى حدٍّ خاصٍّ من الأفق، فالعلمُ بهِ يكون متَّبعاً ولو تخلَّفت الأمارة([13]).

ونظير ما نحن فيه ما ورد في أمر الهلال من أنَّه >إذا رآه واحد رآه مائة، وإذا رآه مائة رآه ألف<، و>إذا رآه واحد رآه ألف<، و>إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف<، >وليس الرُّؤية أن يراه واحد، ولا اثنان، ولا خمسون<([14])؛ فإنَّ المستفاد من هذا النَّحو من البيان اعتبار بلوغ الهلال حدّاً من الظُّهور والوضوح لا يكتفى معه -مع كون السَّماء صحواً- أن يكون بمستوى لا يراه إلا الشوَّاف. ثمَّ إنَّ جميع روايات الباب على اختلاف ألسنتها([15]) -هي الأخرى- تلتقي مع ما استفدناه من الآية:

فمنها: صحيحة أبي بصير ليث المراديّ قال: سألت أبا عبد اللهg فقلت: متى يحرم الطَّعام والشَّراب على الصَّائم، وتحلُّ الصَّلاة، صلاة الفجر؟ فقال: >إذا اعترض الفجر فكان كالقبطيَّة البيضاء، فثَمّ يحرم الطعام على الصائم، وتحلّ الصلاة صلاة الفجر..<.

ومنها: صحيحة عليّ بن عطيّة عن أبي عبد اللهg أنّه قال: >الصُّبح (الفجر) هو الّذي إذا رأيته كان معترضاً كأنَّه بياض نهر سوراء<. 

ومنها: معتبرة ابن مهزيار المتقدَّمة. 

ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفرg قال: كان رسول اللهe يصلِّي ركعتي الصُّبح -وهي الفجر- إذا اعترض الفجر وأضاء حسنا([16]).

[النتيجة:]

والمتحصِّل أنَّه -بموجب ما قدَّمنا- رشح نظرٌ مخالف للقول الثَّاني كما هو مخالف للقول الأوَّل.

نعم ثمَّة مشكل يحول دون الجزم بكفاية العلم بواقع الفجر ولو بالنَّحو الّذي بيَّناه، وأنَّ من اللازم معه تبيُّنه بالحسِّ والنَّظر، وهو من نظرات السيِّد الأستاذ الحائريّ’ F حيث قال في رسالته في المسألة: "بما أنَّ الاكتشافات العلميَّة الموجودة في زماننا لم تكن موجودة في زمن الشَّريعة،‌ فالإنسان الاعتياديّ لم يكن يدرك معنى لحصول الفجر في الليالي المقمرة من دون التبيُّن بالبصر -وكانوا يرون أنَّ تبيُّن الفجر في حدِّ ذاته مساوق للانفجار الحقيقيّ- وكان على الشَّريعة أن تنبِّههم على خطئهم، -وأن تردعهم عن هذا الفهم- ولم تفعل ذلك، وهذا معناه إمضاء ما كانوا عليه عملاً"([17]).

[مقتضى الأصل:]

ولو وصلت النَّوبة إلى الأصل العمليّ أمَّا الاستصحاب الموضوعيّ فلا يجري؛ إذ الشُّبهة مفهوميّة، فإنَّه مع علمنا بطلوع الفجر إذا لم يتبيّن (بالبناء للفاعل أو المفعول) يكون الفجر قد طلع إذا لم يؤخذ تبيُّنه الفعليّ، ولم يطلع إذا أُخذ تبيُّنه كذلك، وفي مثلها لا يجري الاستصحاب؛ إذ المشكوك -وهو المفهوم- ليس مجراه، ومجراه -وهو الخارج- ليس مشكوكاً.

نعم يجري الاستصحاب الحكميّ، فبعد علمنا بطلوعه وقبل تبيُّنه الحسّيّ نشكُّ في جواز الأكل والشُّرب -إذ الفرض أنَّ النَّهار نهار صوم- وفي جواز الدُّخول في صلاة الصُّبح، فنستصحب جواز الأكل والشُّرب وعدم جواز الدُّخول في الصَّلاة.

إذن ما لم نستظهر كفاية طلوع الفجر ولما يتبيَّن فعلاً فالوظيفة هي لزوم تأخير الصَّلاة. والحمد لله أوّلاً وآخرا، وصلَّى الله على محمَّدٍ المصطفى وآلِه النُّجباء([18])..


([1]) مصباح الفقيه للفقيه الهمدانيّ+9: 134.

([2]) انظر: مستند العروة الوثقى (ك. الصلاة1)= موسوعة الإمام الخوئيّS11: 202.

([3]) سورة البقرة: 187.

([4]) انظر: الرَّسائل العشر -الخامسة: في الفجر في الليالي المقمرة- للإمام الخمينيّS: ص200-201.

([5]) مصباح الفقيه9: ص134.

([6]) وللفاضل اللنكرانيO جملة مناقشات جيّدة على ما استفاده الإمام الخمينيّS، عمدتها: أنّه لو فسّر الشارع الفجر بالتبيّن لكان له وجهٌ، ولكنّه في الآية- بموجب تلك الاستفادة- فَعَلَ العكس، وفسّر التبيّن بالفجر، وهو خلاف المعهود من تفسير مثل (الصلاة) بمخترَعها لدى الشارع- انظر: ثلاث رسائل- الفجر في الليالي المقمرة- للمرحوم الفاضل اللنكرانيّO: ص192-. 

([7]) وسائل الشيعة4: 210 ب27 من أبواب المواقيت ح4.

([8]) انظر كتابي: مجموع الرسائل الفقهيّة: 533. 

([9]) انظر: مستند العروة الوثقى (ك. الصلاة1)= موسوعة الإمام الخوئيّO11: 201، 202.

([10]) انظر: الفجر في الليالي المقمرة للسيّد عليّ الحسينيّ الإشكوريّ: 29.

([11]) انظر: معايير رؤية الفجر والهلال للعلامة المنار: 18، وانظره في أمر انبثاق ضوء الفجر شيئاً فشيئاً: 17- 19، 23، 24.

([12]) لا يقال بأنَّ ذلك لا يتناسب مع التَّعبير عنه بـ{الخيط} الّذي من خصوصيّته دقَّته؛ إذ يحتفظ بهذه الخصوصيّة ولو بالإضافة إلى سواد الليل الضَّارب للأفق بأكمله، وقد سمَّاه القرآن -هو الآخر- بـ {الخيط الأسود} ولو لجهة المشاكلة. 

([13]) انظر: نهاية التَّقرير1: 68، جامع المدارك1: 242، 243.

([14]) وسائل الشيعة10: 289، 290 ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان ح10- 12.

([15]) وسائل الشيعة4: 209- 212 ب27 من أبواب المواقيت ح1- 6.

([16]) وسائل الشيعة4: 209- 211 ب27 من أبواب المواقيت ح1، 2، 5.

([17]) مقياس طلوع الفجر في الليالي المقمرة للمرجع السيّد كاظم الحسينيّ الحائري’- منشور على صفحته الإلكترونيّة-: 3، 7.

([18]) وقع الفراغ من كتابة هذه الكلمات بجوار كريمة أهل البيت السيِّدة فاطمة المعصومة في ذكرى ولادة جدّتها السيِّدة فاطمة الزَّهراءj من سنة 1443 هـ.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا