العلاقة بين آيتيّ الخليل والبلاغ

العلاقة بين آيتيّ الخليل والبلاغ

 

الملخص:

تحدّث الكاتب عن العلاقة بين آية الخليل وبين آية البلاغ، فالأولى تؤصّل إلى مفهوم الإمامة كبروياً، والثانية للتطبيق والمصداق لمفهوم الإمامة في علي بن أبي طالبg، ثمّ ذكر جملة من الحقائق المستفادة من الآيتين منها: عظم مرتبة الإمامة وعالميّتها، وإبطالها لإمامة الظالمين إلى يوم القيامة، كما أثبت نزول آية البلاغ في يوم الغدير مجيباً عمّا يثار مخالفاً ذلك. خاتماً بتأمّلات في مفهوم الإمامة بين الخاصّة والعامّة وذكر عدداً من التوصيات.

 

مقدّمة

يستعرض القرآن الكريم بنحوٍ متكرّر وبصورٍ مختلفة المنظومة الاعتقاديّة -وهي ما يعبَّر عنه في علم الكلام بأصول العقيدة، التي هي: التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد- إلّا أنّ هذا الاستعراض والتكرار له مبرراته المتعدّدة والكثيرة التي من أهمّها تركيز القرآن على ضرورة الالتزام بهذه المنظومة العقائديّة والأصول الاعتقاديّة، بما يعني ضرورة أن يستحضر الإنسان إيمانه بالله وهكذا ارتباطه بخط الرسالات ونهج الأنبياء وامتداد هذا المنهج المتمثّل في خطّ الإمامة.

هذا الاستحضار الذي يقوم على قاعدة قويّة من البرهان والحجّة والبيان، ولا شكّ في أنّ هذا الاستحضار العقليّ سوف يستتبعه الحضور الوجدانيّ والعاطفيّ، مما يؤدّي إلى ارتباط عمليّ يقوم على أساس الطاعة لله ولرسوله ولمن أمر الله ورسوله بطاعتهم وهم أئمة الحقّ والهدىi.

وبذلك يتحقّق الهدف وتحصل الغاية القرآنيّة من هذا الاستحضار الدائم والمؤكّد والمستمر من قبل القرآن الكريم لهذه المنظومة الاعتقاديّة والأصول العقائديّة، فيحصل التفاعل في الدوائر التي يدخلها الإيمان بالله والتصديق برسله وحججه المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين)، من دائرة الإيمان العقليّ إلى دائرة الانفعال الوجدانيّ والعاطفيّ إلى مستوى التأثّر الفعليّ والعمليّ، فيتحوّل الإنسان من مستوى الإيمان والتصديق بالله وبرسله وحججه إلى العامل بطاعة ربّه ونبيّه ووليّه ووصيّه.

هذه هي الغاية الكبرى والعظمى من ذلك الاستحضار الواسع والتأكيد المستمر، فيفتح الإنسان عقله أمام البراهين والحقائق الموصلة للإيمان بالله، على ألّا يكون ذلك الإيمان مجرّد قضيّة عقليّة يدركها عقله دون أن تنفذ لوجدانه، بل ينفعل بذلك الإيمان الوجدانيّ والعاطفيّ ليتحوّل إلى واقع عمليّ قائم على أساس الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} النساء: 152، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} البقرة: 25، وقال تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} إبراهيم: 23.

ولا شكّ في أنّ مفردات المنظومة العقائديّة متفاوتة رُتَباً ودرجات، فالإيمان بالله يأتي في الدرجة الأولى ويحتلّ المرتبة الأساسيّة، في حين أنّ الإيمان برسله يحتلّ المرتبة الثانية، ويأتي في المرتبة الثالثة الإيمان باليوم الآخر، وهذا هو سرّ التفاوت في اختلاف تأكيدات القرآن الكريم على مفردات المنظومة العقائدية.

وتأتي مسألة الإمامة باعتبارها واحدة من مفردات المنظومة العقائديّة بالغة الأهميّة، فقد تعرّض القرآن الكريم لمسألة الإمامة في أكثر من آية، إمّا بنحو التأصيل وبيان أساس الإمامة وما ترتكز عليه، وإمّا من خلال تحديد المصداق الخارجي من خلال الأوصاف التي لا يمكن أن تنطبق على غير مصداقها كما سوف يتّضح ذلك من خلال هذه المقالة المتواضعة، وسوف أتناول آيتين محاولاً كشف العلاقة بينهما:

الآية الأولى: وهي آية الخليل صلوات الله عليه، وهي قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} البقرة: 124.

والآية الأخرى: هي آية البلاغ، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} المائدة: 67.

الآية الأولى: آية الخليل

أمّا فيما يرتبط بالحديث حول آية الخليل: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} البقرة: 124.

فهذه الآية تشير إلى جملة من الحقائق والأصول التي تقوم عليها الإمامة، فالآية تقرر أنّ إبراهيمo بعد أن مرّ بجملة من المواقف والامتحانات، وتجاوزها بنجاح تامّ كما عبّر القرآن عن ذلك بقوله: {فَأَتَمَّهُنَّ} جعله الله للناس إماماً، وهنا جملة من الحقائق:

الحقيقة الأولى: مرتبة الإمامة

إنّ مرتبة الإمامة مرتبة عظيمة ومنصب شامخ وليست مقاماً عاديّاً أو منصباً إداريّاً أو ما هو من قبيله، ولذلك منحه الله تعالى إبراهيم بعد أن جعله واتخذه نبيّاً وخليلاً، وهذا ما تشير إليه الرواية التي رواها عبد العزيز بن مسلم قال: كنّا مع الرضا g ...... إلى قوله: >إنّ الإمامة خصّ الله عزّ وجلّ بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوّة والخلّة مرتبة ثالثة، وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره، فقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} فقال الخليلo سروراً بها : {وَمِن ذُرِّيَّتِي} قال الله تبارك وتعالى : {لا ينال عهدي الظالمين}<([1]).

وليست الإمامة التي نالها إبراهيمm بعد النبوّة والخلّة هي بمعنى الأسوة والقدوة، لأنّ الأسوة والقدوة حاصلة مع مقام النبوّة، فكلّ نبيّ هو أسوة وقدوة مضافاً إلى أنّ نفس الأسوة والقدوة ليست أمراً يُجعل، وإنّما هي أمر واقعيّ يتحقق من خلال مقامات معنويّة وروحيّة وأخلاقيّة يتحقق بها النبيّ فيكون بذلك أسوة لقومه، وعلى هذه الحقيقة تكون الإمامة كالنبوّة في كونها مقاماً إلهياً ومقاماً ربانياً ليس لأحد غير الله أن يتدخل في الاختيار لهذا المنصب والتعيين له.

الحقيقة الثانية: الإمامة جعل الإلهي

قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ} ممّا يعني ويعطي أنّ الإمامة تكون بالجعل الإلهيّ والاختيار الربانيّ وليس هناك طريق غير هذا الطريق.

الحقيقة الثالثة: عالمية الإمامة

إنّ الإمامة أمرٌ عامٌّ وإمامة عالميّة ولا يختّص بجماعة معيّنة أو طائفة أو فئة، بل هو أمر عامّ لجميع البشر والناس، وهذا أيضاً يعزّز أنّ الأمر لا يختّص اختياره بجماعة أو عنوان معيّن، ولا يستطيع أحدٌ بمعاييره أو مقاييسه الخاصة أن يختار للنّاس إماماً، بل لا يصلح لاختيار إمام للناس كلّ الناس إلّا من هو مطّلع وعارف بما يصلح الناس وما يكون مناسباً صالحاً.

الحقيقة الرابعة: إبطال إمامة الظالمين

إنّ إبراهيم الخليلm بعد أن سُرّ بهذه المرتبة الإلهية سأل الله أن تكون الإمامة في ذريته {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي}، فأجابه الجليل بقوله: {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وهذا يقرّر حقيقة الكمال، قال الإمام الرضاg: >... فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ...<([2])، ودلالتها إبطال إمامة كلّ ظالم؛ والمقصود به من تلبّس بالمعصية في أيّ مرحلة من عمره، وذلك بالتوضيح الذي شرحه العلامة الطباطبائيx وذلك من خلال تقسيم رباعيّ تُلحظ فيه نسبة الإنسان إلى المعصية وهي كالتالي:

القسم الأوّل: الإنسان الذي يكون بداية عمره وخاتمة عمره في معصية، وهذا لا شكّ فيه ظالم لا يرتاب أحدٌ في صدق هذا العنوان عليه وهو لا يستحق ولا يليق به منصب الإمامة.

القسم الثاني: الإنسان الذي يكون بداية عمره غير متلوّث بالمعصية وخاتمة عمره يكون عاصياً، وهذا أيضاً يصدق عليه عنوان الظالم ولا يكون مستحقاً لهذا المنصب.

القسم الثالث: وهو من يكون بداية عمره ظالماً ويكون خاتمة عمره غير ظالم، وهذا أيضاً يصدق عليه عنوان الظالم.

فعنوان الظالم يصدق على جميع الأقسام، وقد نفت الآية استحقاق الجميع من هذه الأقسام لمقام الإمامة ومنصبها.

وأمّا القسم الرابع: فهو من لم يتلبّس بالظلم أبداً لا بداية عمره ولا خاتمة عمره، وهذا هو غير الظالم الذي يستحق منصب الإمامة ويليق به مقامها، وإلى هذا أشار الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) بأنّ هذه الآية أبطلت إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة([3]).

وروى الشيخ الكلينيp في أصول الكافي عن الصادقg: >إنّ الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإنّ الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإنّ الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإنّ الله اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلمّا جمع له الأشياء قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}، قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، قال: لا يكون السفيه إمام التقي<([4]).

والنتيجة: أنّ الإمام لا يمكن أن يكون ظالماً أو متلبّساً بالمعصية، ولا بدّ من أن يكون انتفاء الظلم عن الإمام بدرجة عالية كما تصرّح وتدلّ عليه الآية بالبيان المتقدّم.

الحقيقة الخامسة: الإمامة هداية للناس

إنّ الإمامة هي هداية الناس إلى الله تعالى كما يدلّ عليه معنى ومفهوم الإمامة لغةً وكما تؤكّده مجموعة من الآيات الكريمة:

قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} الأنبياء: 73.

وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة: 24.

وهذه الآيات عند التأمل فيها يتضح أمرٌ وتتّضح حقيقةٌ أخرى، وهو أنّ هذه الهداية ليست مجرّد الموعظة والإرشاد وبيان الحقائق والمعارف والأحكام الإلهية، بل هي بأمر الله تعالى وتسليط منه سبحانه لمن يختاره هو لمنصب الإمامة وإعطائه صلاحياتٍ عمليّة لكلّ ما يحتاج إليه في مقام تحقيق ذلك الفرض من الجعل الإلهي.

الحقيقة السادسة: تنصيب الإمام أمر إلهيّ

من مجموع الحقائق المتقدّمة يتضح أنّ مسألة الإمامة هي أمرٌ إلهيّ وعهدٌ ربانيّ، وليست شأناً بشرياً للبشر حقّ الاختيار فيه أو الترشيح لمن يختارونه لهذا المنصب، بل هي أمر إلهيّ يختاره الله لمن يكون متوفّراً على مواصفات هذا الاستحقاق الإلهي، كما تدلّ عليه ما تضمّنته الآيات المشتملة على ألفاظ الجعل، وقرينة اعتبار عدم التلبّس بالظلم والمعصية في جميع مراحل العمر، والذي لا يمكن أن يتيسر لسائر الخلق معرفته وتمييزه إلّا من قبل الحقّ العالم بأحوال الناس والخلق، وبمنتهى علمه يعلم المصلِح من المفسد ويعلم المطيع من العاصي، ويعلم من هو أهلٌ لهذا المنصب والموقع من غيره، قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} الأنعام: 124.

 

النتيجة

وما نستنتجه من كلّ الحقائق التي تُستنتج من الآية المتقدّمة والتي تتمثّل في:

أولاً: الإمامة تكون بالجعل الإلهيّ.

ثانياً: الإمامة شأن إلهيّ.

ثالثاً: الإمامة مرتبة سامية ومقام رفيع.

رابعاً: الإمامة تعني هداية الخلق وأخذهم إلى الطريق المستقيم.

خامساً: الإمامة مسألة عالميّة وليست أمراً خاصاً بطائفة أو قوم.

سادساً: عدم صلاحية مطلق الظالم والمتلبّس بالمعصية لهذا المقام.

وهذا يحمل دلالة كبرى وهي أنّ مسألة الإمامة والتي تعني هداية الناس وإيصالهم إلى كمالهم لا يمكن تحديدها لا مفهوماً ولا مصداقاً من قبل الناس، ولا يمكن للبشر أن يتدخّلوا في تحديد المفهوم خارج هذا الإطار الذي رسمته الآية، ولا يمكن لهم التدخّل في تطبيق المصداق وتعيينه، فتحديد المفهوم يكون من قبل الله تعالى وتعيين مصداقه من قبله أيضاً.

الآية الثانية: آية البلاغ

وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} المائدة: 67.

اتضح أنّ آية الخليل تكون بمنزلة الكبرى، وأمّا آية البلاغ فهي تتكفّل مع آية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} المائدة: 55 ببيان مصداق الإمامة الكبرى وتشخيصه.

الحقيقة الأولى: نزول آية البلاغ يوم غدير خمّ في عليّ بن أبي طالبg

الذي أجمع عليه مفسروا مدرسة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) أنّ هذه الآية المباركة نزلت يوم غدير خمّ في عليّ بن أبي طالبg، ووافقهم جماعة من علماء المسلمين كالواحديّ في أسباب النزول([5])، ورُوي ذلك في الدرّ المنثور([6]) وفتح القدير([7]) وتفسير المنار([8]) وابن عساكر([9])، والألوسيّ إلا أنّه نسبه إلى الإماميّة([10])، وقد ذكر شيخنا العلّامة الحجّة البحاثّة العلّامة الأمينيّ قائمة ممّن ذكر أنّ الآية نزلت في يوم غدير خمّ في عليّ بن أبي طالبg يندرج تحتها ثلاثون مصدراً يمكن مراجعتها في الجزء الأول من كتاب موسوعة الغدير([11]).

بل الحفّاظ أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ المتوفى سنة 310 هـ  ألّف كتاباً إلى طرق حديث الغدير، وأودّ أن أزيّن هذه الصفحات بالرواية التي رواها ابن جرير الطبريّ عن زيد بن أرقم قال: "قال لما نزل النبيe بغدير خمّ في رجوعه من حجّة الوداع وكان في وقت الضحى وحرّ شديد أمر بالدوحات فقمّت ونادى الصلاة جامعة فاجتمعنا فخطب خطبة بالغة ثم قال: إنّ الله تعالى أنزل إليّ: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، وقد أمرني جبرئيل عن ربّي أن أقوم في هذا المشهد وأعلم كل أبيض وأسود: إنّ عليّ بن أبي طالب أخي ووصيّي وخليفتي والإمام بعدي، فسألت جبرئيل أن يستعفي لي ربّي لعلمي بقلّة المتقين وكثرة المؤذين لي واللائمين لكثرة ملازمتي لعليّ وشدّة إقبالي عليه حتى سمّوني أذناً، فقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ}.

ولو شئت أن أسمّيهم وأدلّ عليهم لفعلت ولكنّي بسترهم قد تكرّمت، فلم يرض الله إلّا بتبليغي فيه فاعلموا معاشر الناس ذلك فإنّ الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً، وفرض طاعته على كلّ أحد، ماض حكمه، جائز قوله، ملعون من خالفه، مرحوم من صدّقه، اسمعوا وأطيعوا، فإنّ الله مولاكم وعليّ إمامكم، ثمّ الإمامة في ولدي من صلبه إلى القيامة .... الخ»([12]).

الحقيقة الثانية: ادّعاءات المفسرين والمؤولين في آية البلاغ لا تصمد أمام حقيقة نزول الآية يوم غدير خمّ في علي بن أبي طالبg

هذا هو المعروف بين أتباع مدرسة أهل البيتi ووافقهم على ذلك جماعة كثيرة من سائر علماء المسلمين، وأنّ الآية نزلت في يوم غدير خم، وقد جاءت محاولات متعدّدة من قِبل البعض بمحاولة حرف الآية بذكر حكايات أخرى كثيرة في سبب نزول الآية، وهي مع كونها متضاربة توحي أنّها صُنعت من الآية الشريفة أعني ما جاء في ذيلها وهي قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} من أنّها نزلت بعد أن كان النبيّ يحرسه جماعة من الصحابة، قالوا: إنّ أبا طالب كان يرسل مع النبيّ رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فأخبرهم بذلك فتركوا حراسته كما ذكر ذلك الطبراني([13]) وابن كثير([14]) والألوسي([15]) وغيرهم.

ولاحظ ما رووه عن عائشة أم المؤمنين: >أنّه كان يُحرس وكان معها -أي في بيتها– يسهر حتى يأتي من يحرسه، فينام حتى تسمع غطيطه، فلما نزلت الآية أخرج رأسه من الطاقة فصرفه<([16])، فلاحظ أنّه على القول الأوّل تكون الآية نزلت في مكّة قبل الهجرة في حياة أبي طالب، وعلى الثاني أنّها نزلت بعد الهجرة وبعد زواجه| من عائشة، فكلّ من القولين يناقض الآخر ويكذّبه وهذا كافٍ في إسقاط القولين عن الاعتبار.

وإنّك لتعجب من قول المراغيّ من كون هذه الآية المباركة مكيّة وهي مدنيّة لتدلّ على أنّ النبيّe كان عرضة لإيذائهم أيضاً وأنّ الله تعالى عصمه من كيدهم([17]).

واقرأ بعد قول الثعالبيّ: "ولعلمائنا في الآية تأويلات، أصحّها: أنّ العصمة عامّة في كلّ مكروه، وأنّ الآية نزلت بعد أن شجّ وجهه، وكسرت رباعيتهS"([18]).

وأمّا ابن كثير فقد ذكر الروايات التي ترجع إلى تبليغ أوّل الإسلام ثم أنكرها بقوله: "وهذه الآية مدنيّة والحديث يقتضي كونها مكيّة"، ثم قال: "والصحيح أنّ هذه الآية مدنيّة، بل هي من أواخر ما نزل والله أعلم".

قال: "ورُوي أنّهe في غزوة ذات الرّقاع انفرد عن الجيش، وجلس على رأس بئر، قد أدلى رجليه، قال الحارث بن النّجار: لأقتلنّ محمّداً، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟، قال: أقول له أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به، قال: فأتاه، فقال: يا محمّد، أعطني سيفك أشيّمه، فأعطاه إياه، فرعدت يده، حتى سقط السيف من يده، فقالe: >حال الله بينك وبين ما تريد<، فأنزل الله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}"([19]).

وذكر المؤرّخون المفسرّون في سبب نزول الآية سبعة أقوال، وأسدّ هذه الأقوال ما رُوي أنّها نزلت في يوم غدير خمّ في عليّ بن أبي طالبg، وذلك لأمور:

١- سلامتها من كلّ ما وقعت فيه الروايات الأخرى المذكورة في أسباب النزول من اضطراب.

٢- صحّة سند هذه الروايات على خلاف تلك الروايات فإنّ أسانيدها ضعيفة.

٣- اتحادها الزمانيّ مع الآية.

٤- مطابقتها تماماً لنصّ الآية ودلالتها.

وتوضيح ذلك: إنّ في الآية هذه الجملة: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فإنّ هذه الجملة تحمل في طياتها تطميناً للنبيّe من أمرٍ يخشاه من الناس وليس ذلك إلّا عبارة عن طعنهم في النبيّe وتشكيكهم في ذلك، ولا يعقل أنّ الأمر الذي لو بلّغه النبيّe للأمّة يمثّل خشية منهe على الأمّة بارتدادها أو تشكيكها لو كان ذلك الأمر هو بياناً لأحكامٍ شرعيّة فرعيّة من وجوب أو حرمة، فإنّ مثل ذلك لا يمثّل خشية من النبيe بحيث يصل الأمر إلى تطمينهe من قبل الوحي، فالمناسب لخشيته وتطمين الله له هو التبليغ بالولاية لعليّ بن أبي طالبg، فهو لا يأمن من تسرّب الشكّ لدى بعضهم بأنّه آثر ابن عمّه وفضّله عليهم.

الحقيقة الثالثة: علي بن أبي طالبg هو المصداق الوحيد والأمثل لآية البلاغ

من خلال ما ذكرناه في سبب نزول الآية وأنّ الصحيح أنّها نزلت بشأن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبg وتنصيبه خليفة لرسولهe، فإذا جئنا إلى ما يمتلكه عليّg من تاريخ طويل عريض في الإسلام وسابقة جهاد ومواصفات لا يشاركه فيها أحدٌ من المسلمين، وما جاء به عن النبيّe من عشرات الأحاديث حتى قال الإمام أحمد بن حنبل فيها: "ما جاء لأحدٍ من أصحاب رسول الله من الفضائل ما جاء لعليّ بن أبي طالبg"([20])، فكلّ هذه الأحاديث وتاريخ عليّg وسابقة جهاده وتعدّد فضائله وكثرة مناقبه وسابقة إيمانه وما نزل فيه من القرآن، يدلّل بما لا يدع للشكّ مجالاً أو للريب مكاناً من كونه مصداقاً لذلك العهد الربانيّ والميثاق الإلهيّ، وأنّ كمال الدين بنصب عليg خليفة على المسلمين وإماماً بعد النبيe.

ومن هنا صرّح بعض الباحثين وهو عبد الفتّاح عبد المقصود -أستاذ كرسيّ الأدب العربيّ- بأنّ الشخص القارئ للأحاديث الواردة عن النبيّe يفهم منها ترشيح النبيّe للإمام عليّg خليفة على المسلمين من بعده([21]).

فإذاً عليّg باتفاق جميع المسلمين هو مصداق لآيتي البلاغ والخليل، حيث إنّه لم يتلبّس بظلم من عبادة صنم أو السجود له، حتى ميّزه المسلمون عن سائر الصحابة في مقام الدعاء والثناء بكلمة (كرم الله وجهه)، بل كلّ حياته طهرٌ ونقاءٌ وصلاحٌ وعبادةٌ لله وإخلاص لرسولهe ودينه، وهو الذي يمثّل الضمان لحفظ الدين بعد رسوله وبولايته يكتمل الدين وترتفع المخاطر والمخاوف المحدقة بالإسلام.

 

 ملحق: تأملات في مفهوم الإمامة

مفهوم الإمامة عند المدارس المختلفة ومدرسة أهل البيتi

من خلال مراجعة كلمات علماء الكلام من الجانبين جمهور المسلمين وأتباع مدرسة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) يتّضح وجود نقاط يشترك فيها الجانبان، ونقاط افترقت فيها مدرسة أهل البيتi في نظرتهم للإمامة عن جمهور المسلمين.

نقاط الاشتراك

النقطة الأولى: ما يشترك فيه جمهور المسلمين مع الشيعة أتباع مدرسة أهل البيتi هو ضرورة وجود الإمام -الخليفة الحاكم– وأنّه لا غنى للمسلمين عن وجود إمام بحسب نظرية أتباع أهل البيت (صلوات الله عليهم)، أو خليفة بحسب رأي جمهور المسلمين، وإن كانت هناك خلافات في هذه النّقطة بين بعض من علماء الجمهور، فهناك من يذهب إلى عدم وجوب نصب الإمام كالخوارج، أو بعضٍ قالوا بوجوب نصب الإمام عند الخوف وظهور الفتن، وأمّا مع الأمن فلا يجب، وبعضهم عكس فقال بوجوب نصب الإمام في حالة الأمن، وأمّا مع الفتن والاضطرابات فلا يجب نصب الإمام.

ولكن هذه آراء شاذة عند علماء الجمهور، فجمهور علماء المسلمين متفقون مع علماء مدرسة أهل البيتi على ضرورة وجود الإمام، حتى أنّ التفتازاني شارح المقاصد صرّح في كتابه بضرورتها حيث قال: "وهو العمدة إجماع الصحابة حتى جعلوا ذلك أهمّ الواجبات واشتغلوا به عن دفن الرسولe وكذا عقيب موت كلّ إمام. روي أنّه لما توفي النبيّe خطب أبو بكر فقال: أيّها الناس من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد ربّ محمّد فإنّه حيّ لا يموت، لا بدّ لهذا الأمر ممّن يقوم به فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم الله، فتبادروا من كلّ جانب، وقالوا: صدقت، ولكن ننظر في هذا الأمر، ولم يقل أحد أنّه لا حاجة إلى الإمام"([22])، فمن هذا الكلام يتضح التقائهم مع الإماميّة أتباع مدرسة أهل البيتi في وجوب نصب الإمام وضرورة وجوده.

النقطة الثانية: كون الإمامة منصب عامّ شامل لأمور المسلمين في الدين والدنيا وأنّها نيابة وخلافة عن الرسول|، قال في المقاصد: "والإمامة رياسة عامّة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبيّ عليه الصلاة والسلام"([23]).

أقول: وهذا ما تدلّ عليه الأحاديث الواردة عن النبيّe والتي رواها المسلمون عنه، وقد قال عنها جملة من العلماء المحققين أنّها متظافرة عن النبيّe مثل قوله: >من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية<([24]) وهي كثيرة، وهذه الأحاديث في إثبات ضرورة وجود الإمام في كلّ زمان وعصر، وذلك لأنّ المحمول لا يصحّ دون وجود الموضوع وقيام المحمول بوجود الموضوع، فلا معنى لوجوب بيعة الأمّة إذا لم يكن الإمام موجوداً، وكذلك ظاهر الآية المباركة {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} الإسراء: 71، حيث تدلّ على أنّ لكلّ إنسان إمام يدعى به.

نقاط الافتراق

وأما نقاط افتراق علماء مدرسة أهل البيتi عن جمهور علماء المسلمين في النّظر لمفهوم الإمامة فهو يتجلّى وينعكس في هذه النقاط:

١- الإمامة شأن إلهيّ ومنصب إلهيّ كالنبوّة.

٢- الإمامة نصّ من الله تعالى، ولا تحتاج أو تتوقف على اختيار الناس وبيعتهم له، بل يجب عليهم بيعته وطاعته بعد أن جعله الله تعالى إماماً.

٣- الإمامة من الأصول الاعتقاديّة لا من الفروع الفقهيّة ولهم أدلّتهم على ذلك مفصّلة في كتبهم المخصّصة لمباحث علم الكلام الإسلاميّ.

٤- الإمام له دور الهداية للأمّة.

 

نيابة الفقية عن الإمام المعصوم، وسعة نيابته

إنّ مسألة نيابة الفقهاء وسعة هذه النيابة عن الإمام المعصومg مسألة وقع فيها الخلاف بين علماء مدرسة أهل البيتi، فمنهم من قال بعدم ثبوت النيابة العامّة بمعنى ما يشمل الولاية على أمور المسلمين، كما هو الحال في الإمام المعصومg، ومنهم من ذهب إلى نيابة الفقيه الجامع للشرائط عن الإمام المعصومg في كلّ ما هو ثابت للإمام المعصوم بعنوان أنّه وليّ الأمر فهو ثابت للفقيه الجامع للشرائط.

وتوضيح ذلك أنّ المقامات للإمام المعصومg متعدّدة منها: مقام العصمة، مقام النصّ عليه من قبل الله تعالى بواسطة الرسولe، المقامات المعنويّة والغيبيّة، مقام الولاية على أمور المسلمين بعنوان أنّه وليّ الأمر.

فما هو ثابت للإمام بلحاظ مقام العصمة ومقام النصّ الخاصّ عليه من قبل الله تعالى، أو بلحاظ المقامات المعنوية والغيبية فهي لا تثبت للفقيه قطعاً لعدم شمول الدليل لهذه المقامات، وأمّا ما كان ثابتاً للإمام بعنوان أنّه وليّ الأمر كالتصرّف في أمور المسلمين اقتصاديّة وسياسيّة وعسكريّة وأمنيّة وثقافيّة واجتماعيّة، فإنّها ثابتة للفقيه الجامع للشرائط.

 

التبعيّة في مفهوم الإمامة

قد يتسائل بأنّ مفهوم الإمامة نوع من التبعّة وعدم الاستقلال، وخصوصاً على المستوى الفكري، وهذا السؤال -كباقي الأسئلة التي تطرح على مستوى الساحة الفكريّة، وتعجّ بها الساحة الفكريّة- يحتوي ويشتمل على مغالطة، وهي أنّ التبعيّة الفكريّة مطلقاً شيء سلبيّ وتمثّل نقصاً في الإنسان، وعلى الإنسان أن يتحرّر من هذا النّقص كما يتحرّر ويتخلّى عن سائر النّواقص والسلبيات، في حين أنّ المنطق والبرهان والموضوعيّة تقتضي ألّا تكون مطلق التبعيّة تمثل حالة نقص أو أمر سلبيّ في الإنسان، بل التبعيّة التي تمثّل نقصاً وعيباً في الإنسان تتمثّل في الحالات الآتية:

١- التبعيّة غير الواقعيّة، والتي تنطبق عليه وتعكسه حالة التقليد الأعمى، فهذه تبعية مذمومة لأنّها تغيّب وعي الإنسان وتفقده رشده ومعرفته وعقله.

٢- التبعيّة لمن ليس متوفراً على رجاحة العقل وكماله، مما تكون معه التبعيّة تمثّل وقوعاً في الخطر ومخالفة الواقع على مستوى الاحتمال الكبير.

٣- التبعيّة من الرجوع لغير أهل الاختصاص مما تكون معه مظنّة الوقوع في الاشتباه بنسبة أكبر.

أمّا الرجوع للمعصوم والذي يمثّل منتهى الكمال الذي يمكن أن يتوصّل إليه الإنسان ويصل إليه، والذي لا تكون فيه المتابعة إلّا إصابة الواقعة واتباع الحقّ والأخذ بأسباب الهداية والصلاح والسعادة فهذه ليست تبعيّة مرفوضة، أو تمثّل نقصاً أو حالة سلبيّة في الإنسان، بل هي مستوى من الوعي الراقي والمتقدّم.

وقد جاء في الزيارات هذا المضمون، كما في الزيارة الجامعة الكبيرة: >واللازِم لكم لاحق، والمقصّر في حقّكم زاهق، والحقّ معكم وفيكم ومنكم وإليكم وأنتم أهله ومعدنه ... وفاز من تمسّك بكم، وأمِن من لجأ إليكم، وسلِم من صدّقكم، وهديَ من اعتصم بكم، فالجنّة مأواه... كلامكم نور، وأمركم رُشد، ووصيّتكم التقوى، وفعلكم الخير<.

وفي حديث السفينة >مثلُ أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها زُجّ في النّار<([25])، وغيره >... إنّهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة ...<([26])، وفي حديث الثقلين المشهور المتواتر: >إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض<.

فالتبعيّة للمعصوم هي تمسّك بالأمان من الزّيغ والانحراف والضياع، وتمثّل التبعيّة الواعية في مقابل التقليد الأعمى المذموم.

 

الجوانب المتعدّدة لمفهوم الإمامة، والدوائر والجوانب التي يدخل فيها مفهوم الإمامة

الإمامة هي رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا، والإمام هو القيّم على الدين ببيان أحكامه وتفسيره وتوضيحه وتطبيقه وإقامة الحدود في صور المخالفة بمقتضى رئاسته الدينيّة وقيمومته على الدين، وهو القيّم على مصالح المسلمين وحمايتها من أمور سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو عسكريّة أو ثقافيّة أو أمنيّة أو صحيّة أو غذائيّة وإلى غير ذلك؛ لأنّهg رئيس الدنيا فمقتضى زعامته الدنيويّة له القيام على مصالح المسلمين الدنيويّة، كما أنّ له دور الهداية كما نصّ على ذلك القرآن الكريم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة: 24.

 

تعاطي الأمّة مع الإمام

التعاطي مع الإمام، وفهم دور الإمام وتلّقي السنّة المرويّة عنه، يتّضح من خلال الفهم الصحيح لمعنى الإمامة، وأنّها كما في مفهومها عند مدرسة أهل البيتi امتداد للنبوّة وأنّها مقام إلهيّ ربانيّ ولا دخل للناس فيه، وأنّها ليست أمراً بشرياً، وأنّ الإمام لا بدّ من أن يكون أفضل الناس علماً وعملاً ومعرفةً وزهداً وشجاعةً وكرماً، عندما نفهم الإمامة بهذا الحدّ ونعرفها بهذا المستوى سوف يحصل التعاطي الصحيح مع الإمام على مستوى فهم دوره ووجوب طاعته وحرمة معصيته وتلقّي حديثه متلقّى الحديث عن النبيe.

وأودّ هنا أن أنقل حديث عبد العزيز بن مسلم وهو أحد الرواة عن الإمام الرضاg، والراوي رجل ممدوح في كلمات الرّجاليين والعلماء، يروي حديثاً عن الإمام الرضاg قال: >كنّا مع الرضا g بمروٍ فاجتمعنا في المسجد الجامع بها، فأدار الناس بينهم أمرَ الإمامة، فذكروا كثرة الاختلاف فيها، فدخلت على سيدي ومولاي الرضاg فأعلمته بما خاض الناس فيه، فتبسمg، ثم قال: >... إلى أن قالg: هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأمّة فيجوز فيها اختيارهم، إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلا مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم، إنّ الإمامة خصّ الله! بها إبراهيم الخليلo بعد النبوّة والخلّة مرتبة ثالثة، وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره، فقال : {إني جاعلك للناس إماماً} فقال الخليلo سروراً بها: {ومن ذريتي} قال الله تبارك وتعالى : {لا ينال عهدي الظالمين} فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ...... إلى أن قالg: إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إنّ الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسولe، ومقام أمير المؤمنينg، وميراث الحسن والحسينh، إنّ الإمامة زمام الدّين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أسّ الإسلام النّامي، وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصّدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف.....<([27]).

دعوة الآخر إلى خطّ الإمام

أقول بكل صراحة لا يوجد في روايات أهل البيتi أمر ولا توجيه لشيعتهم لأمر الآخرين بالدعوة للإمام أو المذهب، بل ربما جاء في بعض الروايات النهي عن أيّ نشاط يمارسه الإنسان المؤمن الشيعي لمذهب أهل البيتi، نعم الموجود في روايات أهل البيتi أمر الإنسان الموالي بحسن السلوك وأداء الأمانة وصدق الحديث وحسن الجوار والورع، والأمر بكلّ هذه القيم الأخلاقيّة التي يتحلّى بها أئمّة الحقّ والهدى وأن يقتدي الإنسان المؤمن في سلوكه وتصرّفاته وأفعاله بأئمّة الحقّ وأن نكون دعاة لهم بغير ألستنا.

 

توصيات في رحاب الغدير

١- لا شكّ في أنّ مسألة الإمامة والبحث فيها من البحوث التي ثار حولها الجدل بين المسلمين قديماً وحديثاً حتى قال الشهرستانيّ في توصيف هذا الجدل: "ما سُلّ سيف على قاعدة من قواعد الدّين مثل ما سُلّ على الإمامة في كلّ زمان"([28])، وخوض هذا الموضوع ينبغي أن يكون بالأدوات العلميّة والنزيهة والموضوعيّة، بعيداً عن أجواء التّعصب أو ما يثير البغضاء والشحناء بين طوائف المسلمين، في حين أنّهم في أمسّ ما يكونوا فيه من الحاجة إلى التلاحم والتواصل والوحدة، ولا يجب أن يكون هذا البحث ما دام في أطره العلميّة والأخلاقيّة سبباً للتحسّس أو المصادرة للأفكار.

٢- يجب رفض كلّ توظيف لمثل مسائل الإمامة وقضايا أهل البيتi توظيفاً يستفيد منه أعداء المسلمين أو يُستغلّ لضرب وحدتهم، فكلّ توظيف من هذا القبيل هو مرفوض مشجوب بعيدٌ عن تعاليم أئمة الهدىi ووصاياهم لشيعتهم.

٣- قضيّة الغدير لا تعني أنّه يوم وانقضى، بل هي قضيّة قيادة الدين والمسلمين، وتحتاجها الأمّة المسلمة لحفظ مصالحها وهويتها ودينها فهي مستمرّة وقائمة، وبحسب ما يعتقده أتباع مدرسة أهل البيت (صلوات الله عليهم) تتمثّل في الإمام المعصوم في زمان حضوره، وفي زمن غيبته تتمثّل هذه القيادة في الفقهاء العدول والذين هم حصون الإسلام وورثة الأنبياء ومجاري الأمور بيدهم، ومِن تفرّعات تلك القيادة وشؤونها هي المرجعيّة الفكرية التي يجب على الأمّة أن تلتزم بمرجعية الفقهاء الفقهية والفكريّة والروحيّة، وألّا يأخذوا معالم دينهم ومفاهيمه وتعاليمه وأفكاره إلّا من العلماء الأمناء على حلال الله وحرامه، الذين تخصّصوا في أمر الدين وتكونت لديهم نتيجةً لتلك الفترة من التخصص وطول الزمان من الدراسة والبحث رؤية شموليّة للدين أصولاً وفروعاً وفكراً ومفاهيماً وتعاليماً، وقد نصّ التوقيع الصادر عن مولانا الحجّة l على هذه المرجعيّة والتي لا تعني مرجعيّة مقيّدة أو محدّدة في جانب من الدّين دون جانب، بل هي مرجعيّة عامّة مطلقة لجميع نواحي وجوانب الدين، وعليه نحذّر من الرجوع في أمر الدين كحالة اختصاصية لغير العلماء الأمناء على حلاله وحرامه في زمن غلبت فيه الفوضى، فوضى ضياع المقاييس وفقدان المعايير، وعلى حدّ تعبير الأحاديث الشريفة زمن الهرج والمرج.

 

 

([1]) الكافي، الكليني، ج1، ص198 - 203، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، ح١.

([2]) المصدر السابق.

([3]) الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج1، ص274.

([4]) الكافي، الكليني، ج1، ص175، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة، ح 3.

([5]) أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص201.

([6]) الدّر المنثور في التفسير بالمأثور، السيوطي، ج2، ص298.

([7]) فتح القدير، الشوكاني، ج2، ص60.

([8]) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، رشيد رضا، ج6، ص384.

([9]) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج42، ص237.

([10]) تفسير الآلوسي، ج6، ص192.

([11]) الغدير في الكتاب والسنة، العلامة الأميني، ج1، ص214-229

([12]) الغدير في الكتاب والسنة، العلامة الأميني، ج1، ص214-215.

([13]) المعجم الكبير، الطبراني، ج11، ص205.

([14]) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، ابن كثير، ج2، ص81.

([15]) تفسير الآلوسي، ج6، ص199.

([16]) تفسير ابن كثير، ج2، ص81.

([17]) تفسير المراغي، ج6، ص160.

([18]) تفسير الثعالبي، ج1، ص476.

([19]) تفسير ابن كثير، ج2، ص81.

([20]) المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج3، ص107.

([21]) المجموعة الكاملة، عبد الفتاح عبد المقصود، ...................

([22]) شرح المقاصد، التفتازاني، ج2، ص273.

([23]) شرح المقاصد، التفتازاني، ج2، ص272.

([24]) مجمع الزوائد،  الهيثمي، ج5، ص225.

([25]) عيون أخبار الرضاo، الصدوق، ج2، ص30.

([26]) الكافي، الكليني، ج1، ص287.

([27]) الكافي، الكليني، ج1، ص198 - 203، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، ح1.

([28]) الملل والنّحل، الشهرستاني، ج 1، ص24.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا