الحياد حينما يكون خذلاناً للحق وأهله

الحياد حينما يكون خذلاناً للحق وأهله

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، اللهمَّ صلِّ علَى محمَّدٍ وآلِ ومحمَّدٍ الطَّيبينَ الطَّاهِرينَ..

 

* لقد أصبحت لفظة "الحياد" -بعد تزيينها وتزييف محتواها، والخلط بين مصاديقها- تشير إلى الموقف الحكيم تجاه أصحاب الصراع القائم والذي لا ينتهي بين بني البشر محقين أو مبطلين، فحتى تعتذر بشكلٍ مقبول من المشاركة في أي صراع ما عليك إلا ادعاء الحياد.

وهذا المقدار مقبول حينما يكون طرفا النزاع من أهل الدنيا، وأهل الباطل، ويكون الصراع بينهما فتنة لا يرجى منها خير ولا حق، وهنا تطبق حكمة أمير المؤمنينg: >كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب<([1])، وبذلك تقطع الطريق عمن يريد بكل الوسائل أن يستغلك في خدمة باطله.

* وأمَّا لو كان الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل، فلا يحسن هناك السكوت ولا "الحياد"، بل لا يصحُّ ولا يجوز؛ لأنَّه لا يكونُ إلا في صالح أهل الباطل، ولا يعني إلا هروبا من مسؤولية الدفاع عن الحق، ولا يؤدي إلا إلى تقوية الباطل وأهله، وأهل الحقِّ قليل، وتابعي الباطل كثير، "فالحياد" حينئذ إنما هو خذلان، وجبن، ومذلة، وتلون، وفرار عن الواجب..

* وقد يصرُّ البعضُ على الهروب والفرار بحيلة أخرى يبرر فيها ضرورة "الحياد المزعوم"، فيدعي أنَّ الصِّراع إنما هو فتنة، لا يعرف فيها أهل الحق من أهل الباطل.. ولكن هذا لا يجدي أيضاً حيث يجب السعي لمعرفة أهل الحق لنصرتهم، وأهل الباطل للوقوف بوجههم.

* وقد يتلوَّن مرَّةً أخرى فيدعي أنَّ الصراعات الموجودة كلها صراعات مصالح حتى لو تلبس بعضها بلباس الدين والحق، وهي بذلك تكون فتن يجدر الـ "الحياد" فيها.. وهذا الفرض يدل على أن صاحب "الحياد" إما أن يدعي أنه الوحيد الذي يطلب الحق ولا ينظر إلى المصالح الخاصة، وإما أن يحكم على نفسه بالجهل والضياع والعجز، فلا يرى في الدنيا إلا الضلال والمصالح الضيقة، وأنه حيث لا وجود لأهل الحق فلأكن من أهل الباطل ولكن من "المحايدين"..

* كل ما مرَّ قد يتقبله الكثير إذا نظر إلى الصراعات السياسية بين الأنظمة، أو بين الأحزاب، أو حتى الشعوب المتناحرة، بلحاظ أنَّ السياسة "الدنيوية الضيقة" ما دخلت شيئا إلا ولوثته.. فالغالبية تكون من الباطل، لأنَّها تلهث وراء الدنيا، وتروم لتحقيق المصالح الخاصة الهابطة.. ولكن الداخل حينئذ في أتون السياسة ودهاليزها لا بد أن يحكم على نفسه بأنه من أهل الباطل أيضاً وفقا لنفس النظرية، ولا يمكنه "الحياد" لأنَّه طرف من الأطراف المتصارعة..

* ولكن الأدهى والأمر والذي يبعث على الاشمئزاز حينما ينظر إلى كل الناس بهذا المنظار الضيق(منظار المصالح الخاصة) فيعمم ليسري حتى على العلماء والفقهاء وأهل الدين، سواء منهم المنخرطين في السياسة أم البعيدين عنها.. فينظر إلى كلِّ صراع على أنَّه خلاف على المصالح، وينبغي "حينئذ" الحياد والابتعاد عن هذا الصراع، وعدم مناصرة أي طرف.. فلا أنا مع العلماء ولا أهل التدين ولا ضدهم، لا في الأمور العقدية.. ولا الفقهية.. ولا الأخلاقية.. ولا الاجتماعية، ومع ذلك فأنا رجل متدين!!

* إنه "حياد كاذب ومخادع ومتلون".. حينما يستنهض الدينُ المؤمنينَ فيقال للمستنهِضين: بأنَّكم لا تمثلون الدين ولا سلطة لكم عليه..

إنه "حياد منافق" حينما يتساوى أهل الدين مع أهل المعصية والفسق والفجور، ويتساوى أهل الحق والعدل مع أهل الظلم والعدوان، ويتساوى العلماء الثقات مع الحكام الأرجاس..

وهو "حياد خبيث" حينما يبرر لكل الأطراف بحرية ما يطرحون..

بل هو ليس حياداً، وإنما هو اصطفاف مع أهل الباطل بصورة السكوت والنظرة المتساوية لكل الأطراف.. وهل يريد أهل الباطل إلا سكوت الناس والمجتمع..

ولو أنَّ الناس تركوا هذا "الحياد المغلوط" لما سلبت الحقوق، ولا انتهكت المحارم، ولا سفكت الدماء، ولا انتشر الفساد في الأرض، ولا ضاعت الشريعة، ولا وجدت الفتن التي يفر منها "المحايدون" حسب زعمهم.

"الحياد المخاذل" هو من سمح لأهل الباطل بظلم أهل الحق وإذلالهم.. من ضلع فاطمة، وتقييد علي.. وسم الحسن.. وذبح الحسين وقتل أهل بيته وأصحابه، وسبي نسائه وانتهاك حرمات الله ورسوله في الأرض..

ولا زال أصحاب هذا "الحياد واللاحياد" يبررون كل ظلم، وكل فساد، وكل رذيلة، وكل فسق ومجون، وكل خروج عن المبادئ والقيم..

فلا تتعرضوا لمثل يزيد"الشخص" ولا يزيد"النوع" لأن ذلك موجبا للفتنة..!!

ولا تتعرضوا لأصحاب الأفكار المنحرفة والباطلة.. لأنها آراء ولكلٍ رأيه والاعتراض يوجب الاختلاف والخلاف..!!

ولا تعترضوا على أهل المجون والخلاعة.. لأنه "تدخل" في شؤون الآخرين دون وجه حق..!!

ولا تتحدثوا عن الفساد والانحراف.. لأنه موجب لتكدير حياة الناس، وخلق التحدي والشَّحناء..!!

بل.. عليكم أن تكونوا "محايدين" حتى يصفو الجو للجميع، ويعم الأمن، ويذهب الخلاف..

هكذا يقول المبطلون.. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}.. والله سبحانه يقول: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} الأنفال:7-8.

 

رئيس التحرير

 

([1]) نهج البلاغة، ج4، ص3.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا