بِسْمِ اللهِ الرَّحَمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العَالمين، وصلَّى اللهُ على محمَّدٍ وآلِ محمَّدٍ وعجِّل فرّجهم..
إنَّ شخصية العقيلة زينب بنت علي بن أبي طالبj، من الشِّخصيات التَّاريخية الخالدة والملهمة، ولا يوجد مؤمن ولا مؤمنة لا يعرفُ هذه الشخصية، ولكن مع ذلك لم تعطَ هذه المرأة العظيمة الاهتمام الواسع والذي يليق بمكانها السَّامي من حيث البحث عن جوانب شخصيتها، ومميِّزاتها، وجهادها، وعطائها، ومكانتها في الإسلام، خصوصاً في الدَّائرة الإسلاميَّة الواسعة، بل ربما كثيرٌ من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن عظمة هذه المرأة، ووفاءً لشيءٍ يسيرٍ من حقها، فهي شريكة أخيها الحسينg، نجري هذا الحوار الشَّيِّق مع الخطيب والمبلِّغ العزيز سماحة الشَّيخ حامد عاشور البحراني، ليضيء لنا شيئاً من عظمة الحوراء زينبj، فإليكم نصَّ الحوار:
سماحة الشَّيخ العزيز نبدأ معكم بهذا السُّؤال: لماذا زينبj دونَ غيرها اختيرت لمهمَّةٍ أقلُّ ما يقال عنها أنَّها تهدُّ الجبال هداً؟
مقدمةٌ مهمة: بدايةُ لا يمكن القبول بإنَّ القضية كانت وليدة السَّاعة، وإنَّ الأمر لم يكن بتدبيرٍ رباني إلهي، وإنَّما كلُّ الأمورِ كانت تسير وفق مخطَّط من السَّماء من أول الانطلاق وإلى ما بعد الفاجعة، وما يؤيِّد هذا القول الكثير من الشَّواهد والمؤيِّدات،
منها: ما ذكره السِّيد ابن طاووس وغيره حين عزم الحسينg على الخروج من مكة: "فقال له: يا أخي ألم تعدني النَّظر فيما سألتك؟ قال بلى، قال: فما حداك على الخروج عاجلا فقال: أتاني رسول اللهe بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين أخرج فإنَّ الله قد شاء أن يراك قتيلا، فقال له ابن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: قد قال لي إنَّ الله قد شاء أن يراهن سبايا، وسلم عليه ومضى".[2]
ومنها: لمَّا عزم على الخروج إلى العراق قام خطيبا، فقال: «الحمدُ لله، وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله وسلم. خُطَّ الموتِ على ولدِ آدم مخطَّ القلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي! اشتياقي كاشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأنَّي بأوصالي تتقطَّعها عسلان الفلوات بين النَّواويس وكربلاء، فيملأن منِّي أكراشاً جُوَفاً وأجربةً سُغبا، لا محيصَ عن يومٍ خُطَّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصَّابرين، لن تشذَّ عن رسول اللهe لحمته؛ [بل] هي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وينجز لهم وعده. من كان باذلا فينا مهجته، وموطّنا على لقائنا نفسه فليرحل، فإني راحل مصبحاً إن شاء الله».[3]
وغيرهما من المؤيِّدات والشَّواهد التي تصرح أنَّ ثورة الحسينg بكلِّ مجرياتها وتفاصيلها كانت -إن صحَّ التَّعبير- بتخطيطٍ رباني.
بعد هذه المقدِّمة، يتَّضح أنَّ وجود زينبj في كربلاء وحملها لمسؤوليات جمَّة لم يكن صدفةً أو أمراً اتِّفاقياً، بل كان من الإعداد الإلهي، وهنا ينبثق السُّؤال المهم، ولماذا زينبj دون غيرها؟
وباختصار، لأنَّ زينبj تمتلك المؤهَّلات والصِّفات التي تجعلها القائم مقام الإمام في حمل الأعباء الجمَّة والصَّعبة. ومن أبرز هذه الصِّفات في شخص زينبj:
الصِّفة الأُولى: فصاحتها بلاغتها
وهذا عنصر مهم جداً لأنَّها كانت اللسان النَّاطق والأعلام المتحرِّك الذي أوصل مظلومية الحسين وأهل بيتهi وما جرى عليهم من انتهاكات صارخة، ولا يتأتَّى ذلك بدون فصحِ الكلام وبلاغته، وهذا ما تقرأهُ بوضوحٍ في خطبتها سواءً في الكوفة أو بمجلس يزيد بن معاوية، ومن تلك النَّماذج:
التَّشبيه البلاغي: «إنّما مَثَلكُم كمَثَلِ التي نَقَضَت غَزْلَها من بَعد قوّةٍ أنكاثاً».
السَّجع: «قد هَتكتَ سُتورَهُنّ، وأبدَيتَ وجوهَهُنّ»[4] وفي موضع آخر تقول: «نتيجة خِلالِ الكُفر، وحبٍّ يُجرجر في الصَّدرِ لقتلى بدر»[5].
فنّ تَجاهُل العارِف: «هل فيكم إلاّ الصَّلف والعجب والشَّنف والكذب؟!»[6]، وفي موضع آخر تقول: «أمِن العدلِ ـ يا ابنَ الطُّلقاء ـ تَخديرُكَ حرائرَك وإماءَك، وسَوقُك بناتِ رسول اللهe سَبايا؟!»[7]
الاستصغار والتَّحقير بإذلال: «شمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان فرحا، حين رأيت الدُّنيا لك مستوثقة، والأمور متسقة»[8].
وخلاصة القول يختصرها حذلم بن ستير -أو بشير أو كثير- الأسدي وهو من فصحاء العرب؛ إذ يقول حين سمع فصاحة زينب وبلاغتها: "كأنَّها تفرغُ عن لسان أمير المؤمنينg".[9]
الصِّفة الثَّانية: شجاعتها
وهذه من أبرز الأمور التي لا بدَّ أن تتوفَّر في مثل هذه المواقف التي تبلغ فيها القلوب الحناجر، وتزلُّ فيها أقدامُ الأبطال والشُّجعان، وقد حملت زينب بنت عليg العبء بكلِّ شجاعةٍ ومن أبرز مواقفها:
الموقف الأوَّل: منع القوم من قتل الإمام علي بن الحسينg
"ثمَّ انتهى القوم إلى عليِّ بن الحسين زين العابدينg -وهو مريض منبسط على فراشه لا يستطيع النُّهوض- وإذا بجماعة من الرَّجَّالة، في مقدِّمتهم شمر بن ذي الجوشن، يقولون: ألا نقتل هذا العليل؟ فقال حميد بن مسلم: سبحان الله، أتقتل الصُّبيان؟ إنَّما هذا صبي، فقال الشِّمر: قد صدر أمر الأمير عبيد الله بن زياد بقتل جميع أولاد الحسين، وبالغ ابن سعد في منعه حينما رأى العقيلة زينب قد أقبلت إليه وأهوت عليه، وقالت: والله لا يقتل حتَّى أقتل دونه، فكفّوا عنه".[10]
الموقف الثَّاني: خطابها للطَّاغية يزيد
بعد مجزرة يشيب لها رأس الطِّفل الرضيع، وبعد سبي وضرب وإذلال، وبعد مسير من كربلاء وإلى الكوفة ومن الكوفة الى الشَّام، وبعد إيقافهن للفرجة وعرض الرؤوس على أسنة الرِّماح، أدخلوهنَّ مجلس الطَّاغية يزيد، وقد وضع رأس الحسينg أمامه، وأحضرت زينبj وبناته والنُّسوة الأطفال، وصار ينكثُ ثنايا الحسينg، فوقفت زينبj بكلِّ شموخ وإباء وشجاعة مخاطبةً طاغية زمانه دون أدني خوف أو اضطراب بخطبة في مجلسه أمام قواد جيشه وأركان دولته، وممَّا قالت:
«ثم كد كيدك، واجهد جهدك فوالله الذي شرَّفنا بالوحي والكتاب، والنُّبوة والانتخاب، لا تدرك أمدنا، ولا تبلغ غايتنا، ولا تمحو ذكرنا، ولا يرحض عنك عارنا[عارها]، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم يناد المنادي ألا لعنَ اللهُ الظَّالمَ العادي»[11].
وقد أوجز وأجاد آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئيS في معجمه حين وصفها، قائلا: "إنَّها شريكة أخيها الحسينg في الذبِّ عن الإسلام والجهاد في سبيل الله، والدِّفاع عن شريعة جدِّها سيِّد المرسلين، فتراها في الفصاحة كأنَّها تفرغُ عن لسانِ أبيها، وتراها في الثَّبات تنبئ عن ثبات أبيها، لا تخضع عند الجبابرة، ولا تخشى غير الله سبحانه، تقول حقاً وصدقاً، لا تحرِّكها العواصف، ولا تزيلها القواصف، فحقاً هي أخت الحسينg، وشريكته في سبيل عقيدته وجهاده"[12].
الصِّفة الثَّالثة: إيمانها وعبادتها
وصفة الإيمان والعبادة التي تمثل العصب الأساس لعلاقة الإنسان بربِّه ولا يتأتى لأحد أن يقف أمام المحن والمصائب بصبرٍ وثباتٍ دون هذه الصِّفة، وقد بلغت السَّيدة زينبj هذه المرتبة بأعلاها، ونذكر بعض الشَّواهد على عبادتها التي تعكس إيمانها وعلاقتها مع ربها:
منها: قالت فاطمة بنت الحسينg: "وأمَّا عمَّتي زينب، فإنَّها لم تزل قائمة في تلك اللّيلة في محرابها تستغيث إلى ربِّها، والله فما هدأت لنا عين، ولا سكنت لنا رنَّة".[13]
ومنها: عن الفاضل النائيني البروجردي عن بعض المقاتل المعتبرة عن مولانا السجاد g أنَّه قال: «إنَّ عمتي زينب مع تلك المصائب والمحن النَّازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تركت تهجدها»[14].
ومنها: عن الفاضل النائيني البروجردي: أنَّ الحسين لما ودع أخته زينب وداعه الأخير قال لها: «يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل».[15]
ومنها: قال بعض ذوي الفضل: "أنَّها(صلوات الله عليها) ما تركت تهجدها لله تعالى طولَ دهرها حتى ليلة الحادي عشر من المحرم".[16]
هذه ثلاث صفات من بين صفات عدَّة لم نذكرها خشية الإطالة والتي تعكس شخصية السيدةg في أبرز معالمها، فلا غروَ أنْ تكون الاختيار الإلهي لها في حمل أعباء المسيرة وإكمال طريق ثورة الإمام الحسينg.
من أهمِّ ما يميِّز الحوراءj صفة الصَّبر، والذي يحتاجه الإنسان المؤمن في حياته لينجح في تجاوز امتحانات وابتلاءات الدُّنيا، ما هو سرُّ هذا الصَّبر العظيم الذي تحمله السَّيدة زينبj؟
الحديث عن صبر السَّيدة زينبj لا يمكن أن نختصره في هذه العجالة لما له من تشعُّبات ووقفات مهمَّة وتحليلات عميقة، ولكن اختصره قدر الإمكان في عدَّة نقاط:
النُّقطة الأولى: لم تكن السَّيدة زينب يوم عاشوراء يوم اللحظة والسَّاعة، بل كان صبرها ورسوخها وثباتها نتاج قريب الستة وخمسون عاماً مضى، كما أنَّ العباس بن أمير المؤمنينh حين امتنع عن شرب الماء، ما كان إلا نتاج جهاد نفس يربو عن الثَّلاثين عاماً، ولذا البحثُ عن الشَّيء بعينه لا يعطي الجواب، وإنَّما البحث عن مقوِّمات ومقدِّمات ومؤهلات النَّتيجة.
النُّقطة الثَّانية: مقومات الصَّبر وأسسه ومقدماته في الرِّوايات عديدة، وسنشير لبعض منها بإسقاطات على السَّيدة زينبj:
منها: عن أمير المؤمنينg: «أصل الصَّبر التَّوكل على الله»[17]، وعنهg: «أصْلُ الصَّبْرِ حُسْنُ الْيَقِينِ بِالله»[18]، وعنهg: «من توالت عليه نكبات الزَّمان أكسبته فضيلة الصَّبر»[19]، وعن أبي عبد اللهg قال «الصَّبر من الإيمان بمنزلة الرَّأس من الجسد، فإذا ذهب الرَّأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصَّبر ذهب الإيمان»[20].
هذه بعضٌ من روايات أهل البيتg، ونلاحظ من خلالها وما يُستفاد من غيرها من الرِّوايات أنَّ للصَّبر مقوماتِه -كما ذكرنا- وهذه بعينها قد تجسدت في شخصية زينبj وكانت أحد أسرار صبرها، وسنشير لها لاحقاً في النَّقاط التَّالية.
النُّقطة الثَّالثة: من إبراز المقوِّمات والمقدِّمات للصَّبر مرور المرء بتجارب ومحن وابتلاءات، والسَّيدة زينبj قد مرَّت منذ نعومة أظافرها بمصائب جمَّة كماً وكيفاً، كما لا يخفى.
فقد عانت -بأبي وأمي- رحيل جدِّها المصطفىe الحضن الأوَّل لها، ولم تكن تجاوزت الست سنين، ورأت محنَ ما بعد رحيل جدِّها، من إقصاء أبيها عن منصبه الإلهي لمدة خمس وعشرين عاماً، وتجرَّعت غصص جور القوم على أمِّها من منعهم لحقها، وغصبهم لإرثها، وهجومهم على دارها، وإحراق الدَّار وما جرى فيها، وضرب أمِّها وتلويعها، وكسر ضلعها وإسقاط محسنها، وعاينت الفتن التي تلت أحداث العام، والويلات التي كابدها أمير المؤمنينg لخمس سنين، من معارك ثلاث جائرة، والتي انتهت بفتنة الخوارج ولم تنتهي، وقتل أبيها في محرابه، وفراقه عنها، وظلم الأمة لأخيها الحسنg، وخذلانهم له، ومحاولات الاغتيال لقتله التي لم تنقطع حتى تجرَّع غصص سم بني أميَّة عن طريق جعدة بنت الأشعث، وما بعده من رمي جنازة أخيها الحسن بسبعين نبلة!
فما كانت كربلاء إلا بعد 50 عاماً من المحن المتتالية والمتسارعة والمتزايدة، وما كان يوم العاشر إلا وزينب قد حملت ما تزول عنه الجبال الرَّواسي.
النُّقطة الرَّابعة: من خلال عنصرين مهمَّين وهما ما بينته الرِّوايات في الصَّبر والمحن التي مرَّت على زينبj يتَّضح أنَّهما أحد أبرز سببين، ولإيضاح العنصر الأوَّل، نبيِّن أن أهمَّ ما تضمَّنته الرِّوايات من أصل الصَّبر والذي هو التَّوكل على الله، وهذا يتَّضح جلياً في مواقفها -كما سيأتي- وخطبها، أصل الصَّبر بحسن اليقين بالله، فهو ممَّا لا يخفى على أحدٍ في يقينها، وهي التي سلَّمت لله التَّسليم الذي تعجبت له السَّموات قبل الأرض، وهي زينب التي توالت عليه نكبات الزَّمان فأكسبتها فضيلة الصَّبر، وهي زينب التي صبرها من الإيمان، والذي كان إيمانها قوام صبرها.
النُّقطة الخامسة: أشير الى بعض مواقف صبرها باختصار شديد:
الموقف الأول: "فأقبل عليها ابنُ زياد وخاطبها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم، فأجابته زينبj: «الحمد لله الذي أكرمنا بنبيِّه محمدe، وطهَّرنا من الرِّجس تطهيراً، إنَّما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا، فقال: كيف رأيت فعل الله بأخيك وأهل بيتك، فقالت: «ما رأيتُ إلا جميلا!»"[21].
الموقف الثَّاني: فقلن النُّسوة: بالله عليكم إلّا ما مررتم بنا على القتلى؛ ولمَّا نظرن إليهم مقطَّعين الأوصال قد طعمتهم سمر الرِّماح، ونهلت من دمائهم بيض الصِّفاح، وطحنتهم الخيل بسنابكها، صحن ولطمن الوجوه، وصاحت زينب: «يا محمَّداه، هذا حسين بالعراء، مرمَّل بالدِّماء، مقطَّع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذرَّيُّتك مقتَّلة». فأبكت كلَّ عدوٍّ وصديق، حتَّى جرت دموع الخيل على حوافرها، ثمَّ بسطت يديها تحت بدنه المقدَّس ورفعته نحو السَّماء، وقالت: «إلهي تقبَّل منَّا هذا القربان»"[22].
الموقف الثَّالث: فإنَّه لمَّا نظر عليٌّ بن الحسينh إلى أهله مجزَّرين، وبينهم مهجة الزَّهراء بحالة تنفطر لها السَّماوات، وتنشقُّ الأرض، وتخرُّ الجبال هدّا، عظم ذلك عليه واشتدَّ قلقُه، فلمَّا تبيّنت ذلك منه زينبj أهمَّها أمر الإمام، فأخذت تسلّيه وتصبّره وهو الّذي لا توازن الجبال بصبره، وفيما قالت له: «ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيَّة جدّي، وأبي وإخوتي؟ فو الله إنَّ هذا لعهد من الله إلى جدِّك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السَّماوات، أنَّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطَّعة والجسوم المضرَّجة فيوارونها، وينصبون بهذا الطفِّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يدرس أثره، ولا يمحى رسمه على كور الليالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلّا علوّا»[23].
وخلاصة القول: سرُّ صبر زينبj هو رسوخ عقيدتها، وإيمانها، والتزامها وتقواها، وتربيتها في أحضان النُّبوة والإمامة والعصمة، وما مرَّت به من محن جمَّة.
ما هي دلالات الرِّواية المروية عن الإمام السَّجادg في حقِّ السَّيدة زينبj: «.. وَأَنْتِ بِحَمْدِ الله عَالِمَةٌ غَيْرُ مُعَلَّمَةٍ، فَهِمَةٌ غَيْرُ مُفَهَّمَة..»؟[24]
بدايةً، الرِّواية هي جزءٌ مقتطعٌ من رواية طويلة قد ذكرها صاحب الاحتجاج في كتابه[25] تحت عنوان «خطبة زينب بنت علي بن أبي طالب بحضرة أهل الكوفة في ذلك اليوم تقريعاً لهم وتأنيبا»، وقد عقَّب عليها الإمام زينُ العابدينg بعد انتهاءها من خطبتها: «يا عمَّة، اسكتي، ففي الباقي من الماضي اعتبار، وأنتِ بحمدِ الله عالمة غير معلمة، فهمة غير مفهمة، إنَّ البُكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر، فسكتت»[26].
ولا بدَّ من الإشارة ولو بنحوٍ يسيرٍ حول البحث السَّندي للرِّواية، فبحسب التَّتبع -القاصر- وجدتُ أقدم مصدرين لهذه الرِّواية:
كتاب المجدي في أنساب الطَّالبيين[27]، لمؤلفه ابن الصُّوفي النَّسابة المتوفى عام أربعمائة وست وستون للهجرة.
كتاب الاحتجاج[28] لمصنفه أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطَّبرسي المتوفى سنة ستمائة وعشرون للهجرة.
وينتهي الحديثُ إلى راويه وهو(حذيم بن شريك الأسدي) وقد ذكره الشَّيخ من رجال الشيعة، وعدَّه في رجاله[29] من أصحاب الإمام علي بن الحسينg. وعلى أيِّ حالٍ، فإنَّ الرَّاوي ممَّا لم يختلف أحدٌ في وثاقتِه.
وأمَّا من حيثُ البحث الدَّلالي فقد أطال شُرَّاح الخُطبة في مداليلها وأبعادها، سيَّما أنَّها شهادة من لسانِ معصوم، ولسنا في مقام التَّفصيل، ولكن سنقفُ على مجموعة من بعض دلالات هذه الرِّواية المباركة بعد ذكر مقدِّمة مهمَّة.
مقدمة لا بدّ منها:
إنَّ شهادة المعصوم ومن فوقها شهادة السَّماء لأيِّ فردٍ لا يُحتمل أبداً أنَّها محاباة أو مداراة كما هي شهادة البشر، بل ولا يمكن أن تجانب الصَّواب والحقَّ والحقيقة والواقع، بخلاف شهادة البشر التي يحتمل فيها الخطأ والاشتباه على أقلِّ تقدير، وكذلك لا علاقة للنَّسب والدَّم والعرق في دافع الشَّهادة منهمi، وعليه فلا نتصوَّر -من قريب ولا من بعيد- أن تكون شهادة الإمام علي بن الحسينg في حقِّ عمَّته زينبh أن تكون محاباة أو مجاملة أو مداراة، ولا أن تكون شهادتُه مجانبة للخطأ والاشتباه أبداً.
بعد هذه المقدِّمة، نذكر ثلاثة وقفات حول دلالات الرِّواية المباركة: المدلول الأوَّل: علمها علمٌ لدني. المدلول الثَّاني: عصمتها الاكتسابية. المدلول الثَّالث: فصاحتها وبلاغتها وقوَّة بيانها.
المدلول الأوَّل: علمها علمٌ لدني
العلم تارة يكون (علماً اكتسابياً)، وأخرى يكون (علماً لدُنيّاً)، والعلم اللدني عُرِّف بعدَّة تعريفات؛ من أبرزها ما ذكره آية الله السيد محمد صادق الروحاني[30]: "نورٌ يظهر في القلب فينشرح، فيشاهد الغيب وينفسح، فيحتمل البلاء ويحفظ السرّ، وعلامته التَّجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتأهُّب للموت قبل نزوله، ويسمَّى بالعلم اللدنّيّ أخذاً من قوله تعالى: <وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً>".[31]
فهو علمٌ من الله إلى بعض أصفيائه من الخلق، ولا ينال ذلك إلا من خلال عدَّة عوامل وشروط قد حقَّقها العبد في علاقته مع الله، ومن بينها، الإخلاص والتَّقوى ومجاهدة النَّفس والعمل بما يرضي الله وما إلى ذلك، كما في آيات عديدة وأحاديث معتبرة، ومنها:
قوله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ>[32]، وموضع الشَّاهد، ويجعل لكم نوراً تمشون به.
وقوله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ>[33]، فموضع الشَّاهد، يجعل لكم فرقاناً.
وما رُوي عن النَّبيe: «من عمل بما يعلم، ورَّثه اللهُ علمَ ما لم يعلم»[34]، وعنه في ذكر مقام المصلِّين قالe: «لِلمُصَلّي حُبُّ المَلائِكَةِ، وهُدًى، وإيمانٌ، ونورُ المَعرِفَةِ»[35]، وفي ذكره لصلاة الليل قالe: «صلاة الليل مرضاة للربِّ، وحب الملائكة، وسنَّة الأنبياء، ونورُ المعرفة، وأصل الإيمان»[36]، وقال أيضاe: «إنَّ العبدَ إذا تخلَّى بسيِّده في جوف الليل المظلم وناجاه أثبت الله النُّور في قلبِه»[37].
وحين ذكر مقام وعظمة الصِّيام قالe: «الصَّوم يورث الحكمة، والحكمة تورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين»[38]. وقالe: «ليس العلم بكثرة التَّعلم، إنَّما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه»[39]، وقالe: «العلم نورٌ، وضياء يقذفه الله في قلوب أوليائه ونطق به على لسانهم»[40]، وقالe: «ما من عبدٍ إلا ولقلبه عينان وهما غيب يدرك بهما الغيب، فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح عيني قلبه فيرى ما هو غائب عن بصره»[41]، وقال أيضاe: «من أخلصَ للّه أربعينَ صباحاً ظهرت ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه»[42]، وأيضا ممَّا رُوي عنه قال: «من علم علماً أتمَّ اللهُ له أجره، ومن تعلَّم فعمل علمه الله ما لم يعلم»[43]. وغير ذلك من النُّصوص الكثيرة.
وخلاصة القول: إنَّ وصف العلم الذي عبَّر عنه الإمام علي بن الحسينg في حقِّ عمَّته هو من العلم اللدني«عالمة غير معلمة»، وهذا يكشف عن مقام السَّيدة زينب في إيمانها، وعقيدتها، وتقواها، وإخلاصها، وخلوصها، وصلاتها، وصيامها، وعملها، ورتبتها العظيمة عند الله التي أورثتها العلم اللدني، ويؤيِّد هذا المعنى ما أوجزه ببيان مختصر رائع السِّيد ميرزا جعفر الطباطبائي الحائري في كتابه إرشاد العباد، ما نصُّه: "هذه الجمل الذَّهبية الصادرة عن الإمام المعصومg في حقِّ عمَّتهj من أعظم جمل الثَّناء والمدح الدَّالة على أنَّ علمها بالأحكام الإلهية يفاض عليها بنحوِ ما يفاض على المعصومg، وإنَّه لدنيٌ غيرُ اكتسابي، ويكون نتيجة ذلك حجية فعلِها وقولها، بل وتقريرهاj لثبوت جلالتها، والمقام المنيع لها عند الأئمة عليهم السلام كما لا يخفى فلاحظ"[44].
المدلول الثَّاني: عصمتها الاكتسابية
العصمة كما قرَّرها علماءُ الكلام مرَّة تكون بنحو العصمة الذَّاتية، ومرَّة عصمة اكتسابية، وجرت في ذلك عدَّة ألفاظٍ كالعصمة الصُّغرى والكبرى، والذَّاتية والأفعالية وما إلى ذلك، ولسنا في مقام ذكر ذلك وما هو المطلوب في المقام، استفادة الأعلام من مدلول النَّص على عصمة السَّيدة زينبj، إمَّا من خلال جعل الملازمة بين علمها وعصمتها، أو بين ما وصلت له من مقام عالي اكسبها ومكَّنها من حصول العلم اللدني الذي تمَّ في المدلول الأوَّل.
وقد أجاب آية الله السِّيد عادل العلويS في كتابه عصمة الحوراء زينبj [45] حول إثبات العصمة الأفعالية للسِّيدة زينبj بعدَّة أدلَّة، وكان من أبرز ما استشهد به مدلول النَّص الذي نحن فيه، وهو قول الإمام في حقها: «أنتِ عالمة غير معلمة»، ونذكر موضع الشَّاهد من كلامهS يقول:
"كيف لا تكون معصومة وإمام زمانها زين العابدينg يقول في حقِّها: أنتِ بحمد الله عالمة غير معلَّمة؟ فلا ريبَ ولا شكَّ في أنَّها معصومة، إلّا أنَّ عصمتها عصمة أفعالية تختلف عن عصمة أُمِّها فاطمة الزَّهراءh، تختلف عن عصمة الأنبياء والأئمة الأطهار i"[46].
المدلول الثَّالث: فصاحتها، وبلاغتها وقوَّة بيانها
ولبيان هذا المدلول أذكر مقدمة قبل التَّفصيل فيه:
ما هي البلاغة، وما الفصاحة، وما هو البيان في الكلام؟ فقد وجدت عدة تعريفات في كتب ومتون البلاغة، ولكن من أروع من أوقفني في هذا المعنى كلام أبو هلال العسكري[47] يقول: "فإذا كان الكلام قد جمع العذوبة، والجزالة، والسُّهولة، والرَّصانة، مع السَّلاسة والنَّصاعة، واشتمل على الرَّونق والطَّلاوة، وسلم من حيف التَّأليف، وبعُدَ عن سماجة التَّركيب، وورد على الفهم الثَّاقب قبله ولم يردَّه، وعلى السَّمع المصيب استوعبه ولم يمجَّه؛ والنَّفس تقبل اللطيف، وتنبو عن الغليظ، وتقلق من الجاسي البشع؛ وجميع جوارح البدن وحواسِّه تسكن إلى ما يوافقه، وتنفر عمَّا يضادُّه ويخالفه؛ والعين تألف الحسن، وتقذى بالقبيح؛ والأنف يرتاح للطيب، وينغر للمنتن؛ والفم يلتذّ بالحلو، ويمجُّ المرّ؛ والسَّمع يتشوَّف للصَّواب الرَّائع، وينزوي عن الجهير الهائل؛ واليد تنعم باللّين، وتتأذَّى بالخشن؛ والفهم يأنس من الكلام بالمعروف، ويسكن إلى المألوف، ويصغى إلى الصَّواب، ويهرب من المحال، وينقبض عن الوخم، ويتأخَّر عن الجافي الغليظ، ولا يقبلُ الكلام المضطرب إلا الفهم المضطرب، والرويَّة الفاسدة.
وليس الشَّأن في إيراد المعاني؛ لأنَّ المعاني يعرفها العربىُّ والعجميُّ، والقروي والبدوي، وإنَّما هو في جودة اللَّفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه؛ وكثرة طلاوته ومائه، مع صحَّة السَّبك والتَّركيب، والخلوّ من أود النَّظم والتَّأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدَّمت"[48].
يتَّضح معنى البلاغة والفصاحة والبيان بأحسن إيجاز قد ذكره أحد أبرز أصحاب هذا الفنِّ، وما نحن فيه من مدلول مهم في الرِّواية المباركة:«عَالِمَةٌ غَيْرُ مُعَلَّمَةٍ، فَهِمَةٌ غَيْرُ مُفَهَّمَة»، هو بلاغة السَّيدة زينب وفصاحتها وذلك لعدَّة أمور أذكرها:
الأمر الأول: وحدة السِّياق -في كلام الإمام، وانتهاءها من الخطبة مباشرة وتعقيبه بما يشير إلى أنَّه- في مقام بيان فصاحتها وبلاغتها.
الأمر الثَّاني: ما تؤيُّده كلمات مَن كان حاضراً حينها، ووصفهم لبلاغتها وفصاحتها، أنَّها فرع لبلاغة سيِّد الفصاحة والبيان أمير المؤمنينg، ومن ذلك:
ورویٰ إسحاق السَّبيعي عن خديم الأسدي قال: رأيت زين العابدينg -وهم يبكون- فقال: تبكون علينا؟ ومن قتلنا غيركم؟! ورأيتُ زينب بنت عليg، فلم أرَ خفِرةً أنطق منها، كأنَّما تفرغُ عن لسان أبيها، فأومأت إلى النَّاس أن اسكتوا فسكنت الأنفاس، وهدأت الأجراس، فقالت: «الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على محمَّد خاتم المرسلين، أمَّا بعد، يا أهل الختل والخذل، أتبكون؟! فلا رأقت العبرة ولا هدأت الرَّنَّة...الخ»[49].
والرَّاوي هو حذلم بن كثير وهو من فصحاء العرب، وقد أذهله ما سمعه من فصاحة زينب وبلاغتها، وأخذته الدَّهشة مأخذاً من شجاعتها وارتجالها بكلام بديع بليغ، فلا عجب أن يشبِّهها بأبيها سيِّد البُلغاء والفُصحاء، فقال: «كأنَّها تفرغُ عن لسان أمير المؤمنين».
الأمر الثَّالث: ما أجمع عليه شُرَّاح خطبتها، والتي مورد الحديث والرِّواية منها، ويعقبون أنَّ من شواهد بلاغتها وصفُ الإمام علي بن الحسينg لها بقوله: «أنتِ عالمة غير معلمة». منهم السِّيد محمد كاظم القزويني في كتابه[50](زينب الكبرىjمن المهد الى اللحد) وغيره من الأعلام.
ما مدى صحَّة واعتبار ما ينقل من بعض المواقف التي صدرت من السَّيدة زينبj، والتي قد يقال بأنَّها تدلُّ على جزعها، وقلَّة صبرها على المصاب، مثل إغمائها ليلة العاشر بعد أن أخبرها الإمامg بأنَّه راحل؟
البحث في هذا الجواب يلزم -بحسب معايير البحث العلمي- أن نستعرض جملة من الرِّوايات التَّاريخية والحديثية كي يمكننا ذكر الآراء في هذه الإشكالية:
الرِّواية الأولى: عن زين العابدينg: «كنت يومئذ مريضاً، فجاء أبي إلى خيمتي، وبعد أن صلَّى صلاة المغرب والعشاء دعا مولىً لأبي ذر وكان عارفاً بصقل السِّلاح، وقال له: أصلح لنا سلاحنا، وكانت عمَّتي حاضرة لديه، وقد تناهبتها الأفكار والهواجس، وسمعت أبي ينشد:
يا دهـــرُ أفٍّ لـــك مـن خليل |
| كــم لــك بالإشراق والأصيل |
مـــن صــاحب وطــالب قتيل |
| والـــدَّهر لا يــقنــع بالبــديل |
وإنـَّما الأمـــرُ إلـــى الجـتليل |
| وكـــلُّ حــــيٍّ ســـالكٍ سبيلي |
فعلمت أنَّ البَلاء قد نزل، فخنقتني العبرة وصبرت، أمَّا عمَّتي فلم تصبر، ومن شأن النِّساء الرِّقَّة والجزع، فأقبلت على أخيها الحسين وهي باكية، ونادت: اليوم ماتَت أمِّي فاطمة الزَّهراء، وأبي عليّ، وأخي الحسن، يا خليفةَ الماضي، وثمال الباقي، ليتني وسدَّت أطباق الثَّرى، وأخذت تندبه بهذا ونحوه، فقال الحسينg: يا أختاه، لا يذهبنَّ بحلمك الشَّيطان، وترقرقت عيناه بالدُّموع، وقال: يا أختاه، لو ترك القطا لنام، وأغمي عليها، فنضح أبي على وجهها الماء حتَّى عادت إلى وعيها، وقال: أخيَّه، اتّقي الله وتعزّي بعزاء الله، إنَّ أهل الأرض والسَّماء لا يبقون، وإنَّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهه، الذي خلق الخلق بقدرته وإليه يعود وهو واحد، أبي خيرٌ منّي، وأمّي خير منّي، فهما ماتا، وما زال بها حتَّى هدأ روعها، وخرجت من خيمته وأمر أن تقرب المضارب بعضها من بعض لئلّا يهاجمهم العدوّ ليلاً، ثمَّ أمرهم بالاستغفار وقراءة القرآن لأنَّها ليلة آخر العمر»[51].
الرِّواية الثَّانية: إنَّ عمر بن سعد نادى، يا خيل الله اركبي وابشري، فركب في النَّاس، ثمَّ زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمامَ بيتِه، محتبياً بسيفِه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته زينب الصَّيحة، فدنت من أخيها، فقالت: «يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟» قال: فرفع الحسين رأسه فقال: «إني رأيت رسول اللهe في المنام فقال لي: إنَّك تروح إلينا»، قال: فلطمت أخته وجهها، وقالت: «يا ويلتي»، فقال: «ليس لك الويل يا أخية، اسكتي رحمك الرحمان»[52].
الرِّواية الثَّالثة: "وأمَّا زينب، فإنَّها لما رأت رأسَ الحسينgأهوت إلى جيبها فشقته، ثمَّ نادت بصوتٍ حزينٍ يقرِّح الكبد، ويوهي الجلد: «يا حسيناه، يا حبيب جدِّه الرسول، ويا ثمرة فؤاد الزَّهراء البتول، يا ابن بنت المصطفى، يا ابن مكة ومنى، يا ابن علي المرتضى»، فضجَّ المجلسُ بالبكاء، ويزيد ساكت، وهو بذاك شامت، ثمَّ دعا بقضيب فجعل ينكت ثنايا الحسين".[53]
هذه جملة من بين روايات عدَّة، وقد تعدَّدت الآراء في هذا البحث، وأشير لبعض هذه الآراء:
الرَّأي الأوَّل: رفضُ أيِّ رأيٍ يتنافى -ولو ظاهراً- مع صبر وثبات السَّيدة زينبj-وللإنصاف- نقول، توجيه الرِّوايات التي فيها ما يشير للجزع بتأويلات لا تستلزم نقصان أو خدش صبرها.
الرَّأي الثَّاني: الجمع بين هذه الرِّوايات بين ما كان إظهار الجزع مع أخيها أو في محيط المخيمات، وبين ثباتها وعدم إبراز الجزع أمام الأعداء، وبالتَّالي تُرفض أي رواية فيها خلاف هذا الجمع، كرواية الجصَّاص -مع ضعف سندها- في نضح زينب رأسها بمقدَّم المحمل.
الرَّأي الثَّالث: أنَّ الجزع لا ينافي الصَّبر؛ أي بكاءها، أو إغماءها، أو صياحها، أو بعض كلماتها لا تنافي صبرها، فهي في موارد الصَّبر صابرة، وفي جانبها الإنساني عميقة في مشاعرها.
الرَّأي الرَّابع: أنَّ الجزع على الحسينg ليس بجزع، وبالتَّالي مهما صدر منها من موقف أو حديث فهو ليس بجزع؛ إذ إنَّ مصيبة الحسينg بكت لها السماوات والأرضين، كجملة الرِّوايات التي يرويها كامل الزِّيارات: منها ما عن أبي عبد اللهg يقول: «إنَّ أبا عبد الله الحسين بن عليh لما مضى بكت عليه السَّماوات السَّبع، والأرضون السَّبع، وما فيهن وما بينهن ومن ينقلب عليهن، والجنَّة والنَّار، وما خلق ربُّنا، وما يرى، وما لا يرى»[54].
بعد هذه الآراء يمكن تلخيص الجواب بالتَّالي:
لا يمكن أن يشكِّك أحدٌ في صبرها، ومواقفها التي شهد لها العدو قبل القريب، ولم يختلف أحدٌ في صبرها وثباتها، ومن يرفض روايات الجزع بناءً على الخدش الذي سيكون في دائرة الصَّبر، ولذا الاختلاف يقع في الجمع بين الجزع والصَّبر، فعلى رأي تمَّ تأويل كلِّ مواقف الجزع بأنها ليست بجزع مذموم فعلاً، إما برفع عنوان الجزع المذموم لأنَّها على الحسينg فيكون ممدوحاً، أو أنَّها لم يكن من الجزع أساساً، فالجزعُ الذي يكون في العلن أمامَ الأعداء مثلاً، وبالتَّالي فإنَّ كلَّ الأقوال لا تختلف في نقطة صبرها، وإن صرَّحت بعض الآراء بظهور الجزع أمام الآخرين.
قد يُتوهَّم أنَّ حجابَ وسترَ المرأة عائقٌ عن قيامها بدورها في المجتمع، فإمَّا أن تكون المرأة عاملة في المجتمع مع ترك الحجاب والسِّتر أو تلزم السِّتر والمنزل، كيف نردُّ على هذا التَّوهم من خلال التَّأمُّل في حياة السَّيدة زينبj، وما هو حدود عمل المرأة في المجتمع؟
يقع الجواب في شقَّين:
الشِّق الأوَّل: عدمُ تزاحم الحجاب مع دور المرأة في عملها
فلا يمكن القول إنَّ الحجاب يعني عدم النُّهوض بدور المرأة، فهو ليس بعائق، وكذا لا يمكن أن يلازم النُّهوض بدور المرأة ترك الحجاب أو اختلال أي شيء منه بأي شكلٍ من الأشكال، ولتقريب الفكرة سأذكر نموذجين من منبع العفاف فاطمة الزهراء وابنتها زينبj:
النُّموذج الأوَّل: حين خرجت فاطمة الزَّهراء في المطالبة والقيام بدورها في الذود والدِّفاع عن إمام زمانها أمير المؤمنينg، وخطبت أمام الرِّجال من المهاجرين والأنصار، فقد خرجت بكلِّ حجابها وعفافها، ولم ينقص من حجابها ذرة، قال أهل الحديث والتَّاريخ:
"لاثَتْ خِمارَها على رأسِها، واشْتَمَلَتْ بِجِلْبابِها، وأَقْبَلَتْ في لُمَةٍ مِنْ حَفَدتِها ونساءِ قَوْمِها، تَطأ ذُيُولَها، ما تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسولِ اللهe، حَتّى دَخَلَتْ عَلى أَبي بَكْر وَهُو في حَشْدٍ مِنَ المهاجِرين والأَنصارِ وَغَيْرِهِمْ فَنيطَتْ دونَها مُلاءَةٌ، فَجَلَسَتْ، ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ القومُ لها بِالْبُكاءِ، فَارْتَجَّ الْمَجلِس"[55].
لاحظ، أجواء حجاب فاطمة كيف كان:
- لاثت خمارها على رأسها.
- اشتملت بجلبابها.
- أقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها.
- تطأ ذيولها.
- ما تخرم مشيتها مشية رسول اللهe.
- نيطت دونها ملاءة.
مع أنَّها كانت في وضع حرج لما ألمَّ بها من فقد أبيهاg، وما تلته من أحداث صعبة.
النُّموذج الثَّاني: السَّيدة زينبj في الكوفة وهي تحت وطاءة الأسر والسَّبي، وشماتة الأعداء، وقد خلَّفت جسد أخيها الحسينg، وأخوتها، وأبناءها مجزرين على البوغاء صرعى، وقد خطبت بفصيح القول وبليغ الكلام، وقامت بدور عظيم لا ينهض بهذا الدَّور عصبة من الرِّجال، ورغم ذلك يصفها الرَّاوي بهذا الوصف:
"ونظرت إلى زينب بنت عليg يومئذ فلم أرَ خفرة أنطق منها"[56].
والخفرة شديدة الحياء، فلم يكن كلُّ أشكال الشِّدة والقسوة والظُّلم مانعاً لقيامها بدورها، والنُّهوض بدور المرأة.
الشِّق الثَّاني: حدود عمل المرأة
مسألة عمل المرأة تخضع للضَّوابط الفقهية والشَّرعية، حالها حال كلِّ المسائل الفقهية في كلِّ القضايا، والبحث عن ضوابط عمل المرأة باختصار:
أن لا يكون مزاحماً لواجب أهم كتربية الأولاد تربية إسلامية صالحة وكحقِّ الزَّوج.
أن يكون عملُها مشروعاً فلا تقع في أيِّ محذورٍ شرعي بسبب عملها، ولا يكون مقدِّمة مباشرة للوقوع في أيِّ إشكال شرعي، كما هو المروي عنهمg: "لا يطاع الله من حيث يعصى"[57].
أن يكون عملُها بكلِّ حجابها وسترها، ولا يؤثِّر على حياءها، ولا ينقص من عفَّتها.
أن تجعل الأحكام الشَّرعية هي المعيار في عملها، فلو تعارض الحكمُ الشرعي مع أيِّ متعلّق لعملها -فضلا أن يكون التعارض مع صلب العمل- فلا يتم استيفاء الشروط لعملها.
أن تلتزم بالأخلاق الإسلامية، وإن لم يكن ذلك فيه محذور بالمعنى الشَّرعي، وهذا قيدٌ مهمٌ، فكثيرٌ من النِّساء قد وقعن من حيث لا يشعرن ولا يقصدن في منزلقات كثيرة بعنوان أنَّ هذا جائز ولا محذور فيه، كالنَّظر للرِّجال من دون ريبة والحديث معهم، مع أن الأخلاق الإسلامية قد حذَّرت الرِّجال والنَّساء، وأمرتهم بغضِّ النَّظر، وعدم إطالة الحديث -مثلا-، وجعلت بعض الرِّوايات أنَّ كثرة محادثة النِّساء سبباً يورث قسوة القلب.
هذه أبرز الأمور من بين أمور أخرى لا يسع المقام لذكرها، تضع الضَّابط في حدود عمل المرأة وفق الرُّؤية الدِّينية.
كيف كانت علاقة السَّيدة زينبj بالإمام الحسينg في يوم عاشوراء وقبله حيث أجواء الحزن وترقب المصيبة والفراق؟ وما هي الدُّروس المستلهمة من ذلك؟
بدايةً: زينبj كانت الرَّفيق الأوَّل للحسينg، الذي لم تفارقه في كلِّ أحداث الواقعة منذ بداية ثورته في قصر الأمارة بالمدينة المنورة بإعلانه «ومثلي لا يبايع مثله»، وحين خروجه من المدينة وفراقه عن قبر جدِّه، وحتى نزوله مكة، وما بعد خروجه اضطراراً منها، وفي كلِّ منازل الطَّريق من الحجاز للعراق، وإلى أن نزل بكربلاء، واجتمعت عليه الجيوش، بل وحين الحصار واشتعال المعركة الأليمة، كلُّ ذلك كانت زينب والحسينh لا يفترقان وهي الحاضرة في كلِّ ذلك.
ومع أجواء الحزن والأسى كان الحسينg المسلي والملهم لزينب، وكانت زينب الرَّاعية الحنون على أخيها الحسين، وحين نقرأ الكثير من المواقف نلحظ جلياً أنَّ السَّيدة زينب على مقربة جداً من الحسينg، وهذا ما يفسِّر كثرةَ إلمام السَّيدة بكلِّ أحداث أخيها الحسينg.
ونذكر أهمَّ الدُّروس التي نستلهمها من ذلك:
الأوَّل: نصرة إمام زماني، والحجَّة الواجب عليَّ طاعتُه، ومن يقوم مقامه من المرجعية وخطِّها، بكلِّ ما أمتلك وما أتمكن وأستطيع.
الثاني: أن لا تكون المحن والمصائب سبباً وعذراً للتَّخلي عن الإمامg، وإن كانت المصائب عظيمة وشديدة وكثيرة.
الثالثة: الأخوَّةُ لا تفرِّقُها أيُّ ظروف، ولا تقطعها القواطع، فهذه زينب وهذا الحسين امتدادٌ راسخٌ لمعنى الأخوة بين الأخ وأخته وبين الأخت وأخيها.
الرَّابع: أن نسلِّي بعضنا بعضاً في كلِّ موقفٍ يحتاج أحدُنا للآخر، فهذا الحسين ما ترك تسلية أخته لا في ليلة العاشر ولا في يوم العاشر ولا حين الوداع.
الخامس: أن نتحمَّل مسؤولية بعضنِا البعض، وأن نكون خيرَ معينٍ ونصيرٍ لبعضنا البعض، فزينبj مع أنَّها امرأة إلا أنَّها خير معين ونصير لأخيها الحسينg في حفظ أطفاله، وعياله، ونسوته، وأهل بيته، حتى أنَّها قدَّمت نفسها فداءً لابن أخيها الإمام علي بن الحسين حين همُّوا بقتله.
السَّادس: أن يكون اللهُ حاضراً عندنا في مواقف الحزن والأسى، وأن يكون اللهُ هو المعين لنا في حمل المحن والمصائب، فتكون(إنَّا لله وإنا إليه راجعون) شعارنا في مواقف المصيبة، كما كانت في كلِّ آنات الحسين مع أخته زينبj: «أهل الأرض يموتون، وأهل السَّماء لا يبقون».
السابع: حفظُ الوَّصية والالتزام بها، وهو ما طبَّقتُه زينبj من وصايا أخيها الحسينg.
هل شارك أحدٌ من أبناءِ السَّيدة زينبj في واقعة كربلاء؟ ولم لا نسمع عنهم الكثير؟
الجواب يقع في شقَّين:
الشِّق الأوَّل: أبناء السَّيدة الذين استشهدوا في كربلاء
تزَّوجت السَّيدة زينبj من ابن عمِّها عبد الله بن جعفر الطَّيار، وقد أنجبت منه (علياً، وعوناً، وعباساً، ومحمداً، وبنتاً اسمها أمّ كلثوم)[58].
وقد استشهد من أبناءها:
1- عون بن عبد الله بن جعفر(المعروف بعون الأكبر):
إذ كان لعبد الله ابنان باسم عون، عون الأكبر، وأمُّه زينب، وعون الأصغر، وأمُّه جمانة بنت المسيب بن نجبة[59]، قيل: إنَّه قتل في واقعة الحرة، وقيل: إنَّه من قادة ثورة التَّوابين.
لا خلاف في حضورهما كربلاء، لكنَّ المشهور -بحسب تتبعي القاصر- الأكبر كان حاضراً كربلاء وقد استشهد، وأنَّ الأصغر استشهد في وقعة الحرة في المدينة، وهذا ما صرَّح به جملة من المؤرخين كابن شهر آشوب، وصاحب مقاتل الطالبيين الأصفهاني وغيرهما، ممَّا لا يسع المقام ذكر تفصيله.
وقد التحق بخاله الإمام الحسينg لمَّا خرج من مكة في حادثة إرسال عبد الله بن جعفر كتاباً للحسينg يسأله الرُّجوع عن عزمِه، وأرسل إليه ابنيه عوناً ومحمَّداً، وحينما رأى عبدُ الله بن جعفر أنَّ الإمام عازمٌ على أمرِه، أوصى ابنيه أن يلتحقا بالإمام، وأن يقاتلا دونه.[60]
شهادته: في يوم عاشوراء خرج عون يرتجز:
إن تنـــكروني فـــأنا ابـــن جعفر |
| شــهيد صـــدقٍ في الجــنان أزهـــر |
يطـــير فيــــها بجـــناحٍ أخــضر |
| كفـــى بهـــذا شــرفاً في المــحشر[61] |
يقول ابن شهر آشوب عن شجاعته: "ضرب فيهم بسيفه، حتى قتل منهم ثلاثة فوارس وثمانية عشر راجلاً، ثمَّ ضربَه عبدُ الله بن قطنة الطَّائي النَّبهاني بسيفه فقتله".[62]
وقد ورد اسمُه في زيارة الشُّهداء بالسَّلام عليه، ولعن قاتله:
"السَّلَامُ عَلَى عَوْنِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ جَعْفَرٍ الطَّيارِ فِي الْجِنَانِ حَلِيفِ الإيمان، وَمُنَازِلِ الْأَقْرَانِ، النَّاصِحِ لِلرَّحْمَنِ، التَّالِي لِلْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ، لَعَنَ الله قَاتِلَهُ عَبْدَ الله بْنَ قُطْبَةَ النَّبْهَانِي".[63]
2- محمَّد بن عبد الله بن جعفر:
وقع الخلافُ مَنْ هي أمُّه، وخلاصة ذلك قولان:
أمُّه زينب بنت أمير المؤمنينg. أو الخوصاء بنت حفصة بن ثقيف[64].
التحاقه بالإمام الحسينg
لمَّا خرج الحسينg من مكَّة كتب إليه عبد الله بن جعفر كتاباً يسأله فيه الرُّجوع عن عزمه، وأرسل إليه ابنيه عوناً ومحمداً، وحينما رأى عبدُ الله بن جعفر أنَّ الإمام عازمٌ على أمرِه أوصى ابنيه أن يلتحقا بالإمام، وأن يقاتلا دونه[65].
وكان حاضراً كربلاء يوم العاشر، وتقدَّم قبل أخيه عون إلى الحرب، فبرز إليهم، وهو يقول:
أشكـــو إلى اللهِ مــن العــدوان |
| فعــال قــوم في الرَّدى عــميان |
قـــد بـــدَّلوا مـــعالم القـــرآن |
| ومحــكم التَّنـــزيل والتِّبيـــان |
وَأَظْــهَرُوا الْـــكُفْرَ مَــعَ الــطُّغْيَان[66]
فقتل عشرة أنفس، ثمَّ تعاطفوا عليه، فقتله عامرُ بن نهشل التَّميمي.
وقع التَّسليم عليه في زيارة الشُّهداء، ولعن قاتله: «السَّلام على محمَّد بن عبد الله بن جعفر، الشَّاهد مكان أبيه، والتَّالي لأخيه، وواقيه ببدنه، لعن اللهُ قاتله عامر بن نهشل التيمي».[67]
والجدير بالذِّكر أنَّ ابنتها أمَّ كلثوم قد تزوَّج بها ابنُ عمِّها القاسم بن محمَّد بن جعفر، وقد استُشهد مع الحسينg في كربلاء.
الشِّق الثَّاني: عدم معرفة البعض عنهم
ومن خلال الشِّق الأوَّل يتَّضح المنشأ الأساس في خلاف المؤرخين في تحديد أنَّهما من أبناء زينبj أم هما من أبناء عبد الله بن جعفر من أمٍّ أخرى.
والمنشأ الثَّاني، هو قلَّة البحوث التَّاريخية وبالذات التَّحقيقية في البحوث المنبرية.
والمنشأ الثَّالث، عدمُ إنصاف التَّاريخ لكثيرٍ من الأسماء، ومنهم أبناء السَّيدة زينبj، ولنكن أكثر إنصافاً فإنَّ الكثيرَ ممَّا كُتبَ لم يصل إلينا.
ما هي بنظركم أصعبُ المواقف التي مرَّت على السَّيدة زينبj في يوم عاشوراء وبعده؟ وكيف تعاملتj مع ذلك الموقف؟
حين نتحدَّث عن زينب وما عاينته فيمكننا القول إنَّ زينب رأت وعاصرت وشاهدت كلَّ الأحداث مع الحسين من أوَّل لحظات الحادثة وإلى ما بعد الحادثة، فقد عاينت زينب خروج الحسين من مدينة جدِّه بعياله وأطفاله، وخروجه من مكَّة طريداً عن بيت الله، وكيف اعترضه الحرُّ وسايره في وسط الصَّحراء وإجباره على النُّزول، وكيف تفرَّق قبل ذلك عنه القومُ ممَّن خروجوا معه من الحجاز سيَّما بعد وصول خبر مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، ولم يبقَ معه إلا القِّلة الذين استشهدوا، ورأت بأمِّ عينها الجيوش التي زحفت وأحاطت معسكرَ أخيها وحاصرته وأهل بيته، وما شاهدته من اضطراب النِّساء وخوفهن حين نزلوا كربلاء، وما فعله القوم في منع الماء عنهم، وقد سمعت صراخ الأطفال من شدَّة العطش، وكانت هي التي تسلِّي الأطفال والنِّساء وتداريهم، وعاشت مع أخيها الحسين مصائب قتل أصحابه وأهل بيته واحداً تلو الآخر، بما فيهم ولديها عون ومحمَّد، ورأت أخيها وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين، وشاهدت تفاصيل المجزرة الأليمة التي أشدُّها ذبح الحسين، وحزُّ نحره الشَّريف، وسلبه ورضِّ جسده، وحرق خيمه، وفرار الأطفال والنُّسوة وسلب الأعداء لهن، وأخذهم سبايا من كربلاء، وإلى الكوفة وإلى الشَّام، ومداراة ابن أخيها زين العابدينg وهو في شدَّة مرضه مقيداً بالجامعة والحديد. المصائب عديدة وكثيرة وكلُّها مؤلمة وشديدة، ولا يمكن تعدادها في وريقات معدودة، ولكن سألخصها مختصراً على النَّحو التَّالي:
أولا: المصائب والمواقف المؤلمة قبل مصرع الحسينg
حصار الحسينg وأهل بيته وأصحابه، ومنعهم الماء ثلاثة أيام، وقد اشتدَّ بهم العطش والظَّما، يقول ابن الأثير في كامله: "ثمَّ كتب إلى عمر يأمره أن يعرض على الحسين بيعة يزيد فإن فعل ذلك رأينا رأينا، وأن يمنعه ومن معه الماء. فأرسل عمر بن سعد عمرو بن الحجّاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشَّريعة وحالوا بين الحسين وبين الماء، وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيَّام، ونادى عبد الله بن أبي الحصين الأزديّ، وعداده في بجيلة: يا حسين أما تنظر إلى الماء؟ لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً!"[68].
قتل أولاد الحسين وأبناء أخيه وأخوته وأبناء عمومته ورجاله وأصحابه، حتى بلغ عدد القتال بين يدي الحسين نيف وسبعين، كلّهم مجزَّرون كالأضاحي.
ذبح الطِّفل الرضيع وهو على صدر أبيه وذبح الصبي وهو ابن أخيه عبد الله الحسن، بعد قطع يده وذبحه في حجر عمِّه، روى ابن طاووس في كتابه اللهوف على قتلى الطفوف: "لمَّا رأى الحسينg مصارع فتيانه وأحبته عزم على لقاء القوم بمهجته، ونادى: هل من ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول اللهe؟ هل من موِّحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟
فارتفعت أصوات النِّساء بالعويل، فتقدم إلى باب الخيمة وقال لزينب: ناوليني ولدي الصَّغير حتى أودِّعه، فأخذه، وأومأ إليه؛ ليقبله، فرماه حرملة بن الكاهل الأسدي بسهمٍ فوقع في نحره فذبحه. فقال لزينب: خذيه، ثمَّ تلقَّى الدَّم بكفَّيه، فلمَّا امتلأتا رمى بالدَّم نحو السَّماء، ثمَّ قال: «هوَّنَ عليَّ ما نزل بي أنَّه بعين الله»، قال الباقرg: «فلم يسقط من ذلك الدَّم قطرة إلى الأرض»"[69].
هكذا ذُبح طفل رضيع وهو على صدر أبيه، وأمَّا ابن أخيه فقد ذبح وهو في حجر عمِّه الحسينg فقد روى الشيخ المفيد في إرشاده: "فخرج إليهم عبد الله بن الحسن بن عليg -وهو غلام لم يراهق- من عند النِّساء يشتدُّ حتى وقف إلى جنب الحسينg، فلحقته زينب بنت عليj لتحبسه فقال لها الحسين: «أحبسيه يا أختي»، فأبى وامتنع عليها امتناعاً شديداً.
وقال: والله لا أفارق عمِّي. وأهوى أبجر بن كعب إلى الحسينg بالسَّيف، فقال له الغلام: ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمِّي؟! فضربه أبجر بالسَّيف فاتقاها الغلام بيده فأطَّنها إلى الجلدة فإذا يده معلَّقة، ونادى الغلام: يا أمتاه! فأخذه الحسينg فضمَّه إليه وقال: «يا ابن أخي، اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإنَّ الله يلحقك بآبائك الصالحين»، فرماه حرملةُ بسهم فذبحه وهو في حجر عمِّه.
ثمَّ رفع الحسينg يده وقال: «اللهمَّ إنْ متعتهم إلى حين ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فإنَّهم دعونا لينصرونا، ثمَّ عدوا علينا فقتلونا»"[70].
المصيبة العظمى والفاجعة الكبرى، ألا وهي مصرع الحسينg وقد أجاد سماحة الشيخ محمد صنقور في كتابه تساؤلات حول النهضة الحسينية في وصف ذلك، قال: "بعد أنْ أثخنت الحسينَ الجراحاتُ سقط على وجه الأرض وهو يقول: «.. صبرًا على قضائك يا ربِّ، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين، ما لي ربٌّ سواك، ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك، يا غياث من لا غياث له، يا دائمًا لا نفاد له.. احكم بيني وبينهم وأنت خيرُ الحاكمين»".
فتواثب عليه المعسكرُ الأموي فضربه زرعةُ بن شريك على كتفِه الأيسر، ورماه الحصينُ في حلقه، وضربه آخرُ على عاتقه، وطعنه سنانُ بن أنس في ترقوته ثمَّ في بواني صدره، ثمَّ رماه بسهمٍ في نحرِه، وطعنه صالح بن وهب في جنبه، ثمَّ صاح عمرُ بن سعد: انزلوا إليه وأريحوه، فنزل إليه شمرٌ فرفسه وجلس على صدره، وقبض على شيبته المقدَّسة، وضربه بالسِّيف اثنتي عشرة ضربة، واحتزّ رأسه المقدَّس.
ثانيا: المصائب والمواقف المؤلمة بعد مصرع الحسينg
رضُّ الجسد الشَّريف، قال أهل السير: "ثمَّ نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب إلى الحسين فيوطئه فرسه، فانتدب عشرة، منهم إسحاق بن حيوة الحضرمي، وهو الذي سلب قميص الحسين، فبرص بعدُ، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتّى رضُّوا ظهرَه وصدرَه"[71].
سلب الحسينg وهو ممَّا رواه الفريقان: أقبلوا على سلب الحسين[72]g، فأخذ قميصه إسحاق بن حيوة الحضرمي، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد بن علقمة الحضرمي، وقيل جابر بن يزيد الأودي، وأخذ نعليه الأسود بن خالد، وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبي، وقطع إصبعه مع الخاتم، وأخذ قطيفة له كانت من خزٍّ قيسُ بن الأشعث، ولذا سمَّى بقيس القطيفة، وأخذ درعَه البتراء عمر بن سعد، وأخذ سيفه جميع بن الخلق الأزدي.
حرق الخيم وسلب الأطفال والنُّسوة، قال بعض من شهد تلك الأحوال العضال: رأيتُ امرأة جليلة واقفة بباب الخيمة، والنَّار تشتعل من جوانبها وهي تارة تنظر يمنة ويسرة، وأخرى تنظر إلى السَّماء وتصفق بيديها، وتارة تدخل في تلك الخيمة وتخرج، فأسرعت إليها، وقلت: يا هذه، ما وقوفك ها هنا، والنَّار تشتعل من جوانبك، وهذه النُّسوة قد فررنَ وتفرَّقنَ، ولم لا تلحقي بهنَّ؟ وما شأنك؟ فبكت وقالت: يا شيخ إنَّ لنا عليلاً في الخيمة، وهو لا يتمكَّن من الجلوس والنُّهوض، فكيف أفارقه، وقد أحاطت به النَّار، فأحرقوا الخيم بعد أن نهبوا ما فيها، وسلبوا الفاطميات بحيث لم يبق لهن ما يستترن به.[73]
السَّبي والأسر الذي حالَ بنو أميَّة أن يذلُّوهم أيمَّا إذلال، فقد كانت طريقة السَّبي طريقة يندى لها جبين الإنسانية بما فعلوا فيهم، وكيف جعلوهم عرضةً للنَّاظرين، ومحلاً يتشفَّى فيه الشَّامتون.
إدخال زينبj والنِّساء على الطَّاغيتين، عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية، ولعلَّ هذا من أعظم وأفظع ما يبكي أهل البيتi وهو وقوف الطُّهر والعفاف والصَّون والحجاب في مجلس شارب الخمرة.
رأت رأسَ الحسينg مرفوعاً على سنان، وأخرى يتلاقفوه، وأدهى وأفظع من ذلك أنَّها رأت يزيد ينكث ثناياه -بأبي وأمي- بخيزرانه.
هذه بعضُ ما رأتُه زينب، وما يكمل الحديث هو الشُّق الثَّاني، وهو كيف تعاملت زينبj مع كلِّ هذه المواقف المؤلمة؟
«ما رأيتُ إلا جميلا...». تختزل هذه الكلمة موقف زينبj أمام كلِّ المواقف، فقد نقل ابن نما الحلِّي الرِّواية، فيقول: قال حميد بن مسلم، لمَّا أدخلَ رهط الحسينg على عبيد الله بن زياد(لعنهما الله) أذن للنَّاس إذناً عاماً، وجيء بالرَّأس، فوضع بين يديه، وكانت زينب بنت عليj قد لبست أردأ ثيابِها، وهي متنكرة، فسأل عبيدُ اللهِ عنها ثلاث مرَّات، وهي لا تتكلَّم، قيل له: إنَّها زينب بنت علي بن أبي طالب، فأقبل عليها، وقال: الحمد لله الذي فضحكم، وقتلكم، وأكذب أحدوثتكم، فقالت: «الحمدُ الذي أكرمنا بمحمَّدe، وطهَّرنا تطهيراً، إنمَّا يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا»، فقال: كيف رأيتِ صنعَ الله بأهل بيتك؟ قالت: «ما رأيتُ إلا جميلاً، هؤلاءِ قومٌ كُتِبَ عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمعُ اللهُ بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج، هبلتك أمُّك يا ابن مرجانة»[74].حينما نقول: "الحجاب الزَّيني"، ماذا نقصد من ذلك؟
الجواب يقع في محطَّتين:
المحطَّة الأولى: الحجاب الزينبي
والمقصود منه هو الحجاب الكامل في شكلِه ومضمونِه، وظاهرِه وباطنِه، وحقيقتِه وقالبِه، فهو الحجاب الذي لم يتغيَّر في كلِّ الظُّروف التي مرَّت بالسَّيدة ومع كلِّ الأحوال الصَّعبة، فالحجابُ يعني زينب، وزينب تعني الحجاب.
عُرفت زينبj أنَّها صاحبةُ الحجاب حتى صارت رمزاً للحجاب، ويمكننا من خلال ما ذُكر -في حجابها- أن نستعرض بعض شذرات حجاب زينبj:
الموقف الأول: "وحدث يحيى المازني قال: كنت في جوار أمير المؤمنينg في المدينة مدَّة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصاً، ولا سمعت لها صوتاً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدِّها رسولِ اللهِ تخرج ليلاً، والحسن عن يمينها، والحسين عن شمالها، وأميرُ المؤمنينg أمامها، فإذا قربت من القبر الشَّريف سبقها أميرُ المؤمنينg، فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسنg مرَّةً عن ذلك فقالg: «أخشى أن ينظر أحدٌ إلى شخص أختك زينب»[75].
الموقف الثَّاني: خطابها لأهل الكوفة في عدم النَّظر لهنَّ- رعاية لحجابهنَّ- فقالت: "يا أهل الكوفة، غضُّوا أبصاركم عنَّا. أما تستحيون من الله ورسوله، أن تنظروا إلى حرم رسول الله..؟!"[76].
الموقف الثَّالث: روى ابن طاووس أنَّه لمَّا جيء بسبايا أهل البيت إلى الكوفة، جعل أهلُ الكوفة ينوحون ويبكون، قال بشر بن خزيم الأسدي: ونظرت إلى زينب بنت علي ع يومئذ فلم أر خفرة أنطق منها"[77].
قال أهل اللغة: امرأة خفرة: لا تبرز للرِّجال[78]، وخفرة أي شدَّة الحياء، وامرأة خفرة: حيية متخفِّرة.[79]
هذه بعضٌ من حجاب زينبj، لذلك حين ندعو أن تكون زينب قدوةً لكلِّ الفتيات والنِّساء في حجابهنَّ؛ فذلك لأنَّها الحجاب الزَّينبي الكامل.
المحطة الثانية: ما هي مميِّزات(الحجاب الزينبي)؟
يمتاز بأمور مهمَّة وأبرزها:
الميزة الأولى: السِّتر المادي، ونعني به الغطاء والقماش الذي يتوشَّح كلُّ رأسِ وجسدِ المرأة.
الميزة الثَّانية: العنصر المعنوي في حجابها، وهو الحياء، فلعلَّ الحجاب المادي والوشاح والعباءة كاملاً بمعناه الشَّرعي والفقهي، ولكن قد لا يتحقَّق عنصرُ الحياء من داخل المرأة، فلا يتحقَّق الحجابُ الكامل، فالكمال في الحجاب ليس محصوراً في العباءة وفقط.
الميزة الثَّالثة: عدم مخالطة الرِّجال، سواء كانت المخالطة بالمحادثات أو المفاكهة والممازحة -والعياذ بالله-، من كلِّ أنواعِ المخالطات التي تخدش الحجاب.
الميزة الرَّابعة: العفاف، وقد يكون العفافُ حياءً، والحياء عفة؛ لاشتراكهما في بعض المواضع والمواطن، وقد يفترقان، وعلى سبيل المثال من باب تعريف أهل اللغة لهما، ذكر الخليل الفراهيدي: "عفَّ: العفَّة: الكفُّ عمَّا لا يحلُّ"[80]، وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: "الحياء انقباض النَّفس عن القبائح"[81]، وعلى أيِّ حالٍ، فالمقام لا يسع لذكر التَّفصيل، وما يمكن قولُه هنا، أنَّ العفافَ مقدِّمة للحياء، فالعفاف تركٌ وإن كانت النَّفس ترغب، ولكنَّ الحياء وليد العفاف ووليد بعض الأمور الأخرى كالإيمان، فتتكوَّن ملكةُ التَّجنُّب عن ذلك بالحياء.
كيف يمكنُ للمرأة المسلمة المعاصرة أن تقتدي بالسَّيدة زينبj، والحال أنَّ طبيعة الحياة تغيَّرت في كثيرٍ من الأمور، فلا يوجد أيُّ تشابهٍ بين ذلك الزَّمان وهذا الزَّمان؟
هناك مميِّزات عدَّة لأيِّ قدوة، ومن أبرزها أنَّها لكلِّ زمان ومكان وإن تعدَّدت وتغيَّرت الظُّروف واختلفت، وألَّا يلزم لغوية أن يكون النَّبيe قدوةً لنا، مع أنَّ اللهَa يصرِّح للعالمين: <لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا>(سورة الأحزاب: الآية21).
وميزة الاقتداء بالسَّيدة زينبj أنَّها مرَّت بظروف شديدة، وقاهرة، وقاسية بكلِّ ألوان التغيُّر، ورُغمَ ذلك كانت المتمسِّكة، والمحافظة، والمراعية لدينها، وأخلاقها، وحياءها، وعفتها، وحجابها.
إنَّي أرى أنَّ السَّيدة زينبj قدوة للمرأة المعاصرة اليوم لنكتةٍ مهمَّة؛ وهي لأنهاj نموذجٌ للثَّبات مع تغيُّر الأحوال، فاختلاف الظُّروف -اليوم- لا يشكِّل مانعاً حتى لو افترقنا عن ظروف السَّيدة زينبj زماناً؛ لأنَّ المعيار في التَّقييم للدِّراسة هو عين تغيُّر الظُّروف وتعدُّدها، وإن لم يكن بفارقٍ زمني.
وزينبj مرَّت بكلِّ أشكالِ التَّغيُّر الذي لا يختلفُ في جوهرِه عن اختلاف الظُّروف اليوم، وللايضاح أكثر أقرِّب الفكرة بالقول:
زينبj مرَّت بظرفِ البيت المحافظ والرَّاعي لها، وفي ذات الوقت فقدت كلَّ عشيرتِها بأصعبِ ظرفٍ يمرُّ على أيِّ امرأةٍ وفتاةٍ. وزينبj هي العفاف في حَضَرِها وسَفَرِها، وما أقسى سفر زينبj. وزينبj اضطرَّت لمخاطبة الرِّجال في مواطن عدَّة، ففي كربلاء، وبالكوفة، وفي مجلس الطَّاغية عبيد الله بن زياد، وأميره الطَّاغية يزيد، ولم يكن ذلك الظَّرف مؤثراً في شخصية زينبj الكاملة.
وزينبj التي كانت تُدرِّس في فترة مكوثها في الكوفة هي زينب التي وقفت خاطبة في السَّبي، وشتَّان بين الظَّرفين. فلا اختلاف الظُّروف مانعاً، ولا صعباً أن نجعل من زينبj قدوة لنا.
ما هو تشخيصكم لحال المرأة المؤمنة اليوم بالنِّسبة لقربِها من منهج الحوراء زينبj؟
في الواقع لا يمكن التَّشخيص بدون دراسات مستوفية، فلعلِّي لا أنصفُ الموضوع ولا أعطيه حقَّه، والتَّشخيص يبتني على مقدِّمات عدَّة، واستيفاءها عادة ما يكون صعب، ولكن من خلال الاستقراء النَّاقص، ومن خلال التَّعايش والاختلاط بالمجتمع وفي عدَّة محطَّات، أقول: لعلِّي أستطيع بنحوٍ يسيرٍ أن أعطي تصوُّراً أوَّلياً.
مقدِّمة أقول: نمرُّ نحن طلبة العلوم الدِّينية بأحوالٍ وظروفٍ متعدِّدة كالسَّفرِ للحجِّ للإرشاد والسَّفر للمزارات للتَّبليغ، ونختلطُ بكلِّ طبقاتِ النَّاس بحكم مراجعات النَّاس لنا، والتَّواصل الاجتماعي المستمر مع النَّاس في مشاكلهم واستفساراتهم واستشارتهم وما شابه، ومتابعة السَّاحة الفكرية، والوضع الاجتماعي والأخلاق وغير ذلك، كلُّ ذلك وغيره أعطى ولو تصوراً ولو بنحوٍ موجز.
المرأةُ المؤمنةُ تسعى لأن تكون على نهج زينبj، وتحاولُ أنْ تتلبَّسَ بشخصية زينبj، ولكن قد تنجحُ كثيراً وقد تخفقُ في بعض الأحيان، وسأذكر -من نافلة القول- بعضَ العوائق:
العائق الأوَّل: وسائلُ التَّواصل الاجتماعي الذي يحوطنا من فوقنِا، ومن تحتنا، وعن يميننا وشمالنا, وما يحوي من فساد مستشري بنحوٍ وحدٍّ كبير، ويستهدف الحجابَ والمرأة بصورة أساسية.
العائق الثَّاني: الحربُ النَّاعمة التي لا ينكرُها إلا مكابر.
العائق الثَّالث: المحيط المدرسي والجامعي وبعده محيط العمل، وما في المحيطات من أجواءٍ غيرِ صالحةٍ، ولا تنسجم مع منهج الحوراء زينبj.
العائق الرَّابع: ضعفُ التَّربية الدِّينية وتراجعها في بعض المجتمعات والتَّركيز كلُّ التَّركيز على التَّربية للتَّحصيل الأكاديمي، ولو على حساب التَّربية الدِّينية والأخلاقية للفتاة.
العائق الخامس: قلَّةُ تعدِّد وسائل التَّبليغ مع العمل المتواصل، والجهود الجبَّارة للمبلغين، ولكن سرعة الطَّفرة المتقدِّمة تكنلوجياً، واندفاع النَّاس لتلك الطَّفرة، ومع كثرة الأعمال، والمشاغل للمبلغين في تبليغهم، وضعف إمكاناتهم سبَّب كلَّ ذلك عدم توازن في تعدِّد وتنوُّع الأساليب.
العائق السَّادس: التَّأثر بالثَّقافة الغربية، والانفتاح على الكثير من الأمور التي غزت حتى بيوتاتنا وبناتنا، فصار الاختلاط أمراً لا يمكن إنكاره، وصار نشر الفتيات لصورهنَّ بكلِّ زينتهنَّ من الأمور الغير منكرة، بل إنكارها أصبح منكراً والعياذ بالله.
وغيرُ ذلك من العوائق الكثيرة، إمَّا بنحوٍ أساسيٍ أو جزئي قد اجتمعت على إبعاد المرأة المؤمنة عن منهج ونهج الحوراء زينبj، ولكن يمكن بالتَّواصي والحثِّ والسَّعي المستمر أنْ تتعاضد الجهود في ذلك، فتكون نساؤنا المؤمنات أقرب وأقرب بما يدخل السُّرور في قلب الحوراء زينبj. والحمد لله رب العالمين..
نشكركم سماحة الشَّيخ العزيز، على قبول الدَّعوة، وعلى هذه الإفادات المهمَّة، والنَّقاط الجديرة بالتَّأمُّل، ونسأل اللهَ تعالى لنا ولكم دوام الموفقيَّة والسَّداد.
[1] سماحة الشيخ من قرية داركليب من قرى البحرين العريقة، ولد سنة ١٩٧٦م وتخرج من القسم الأدبي في المرحلة الثانوية، التحق الحوزة العلمية في البحرين سنة ١٩٩٢م، ثم بحوزة قم المقدسة ٢٠٠١م ولازال، وهو خطيب حسيني معروف، بدأ الخطابة الحسينية سنة ١٩٩٣م، وله فعاليات كثيرة بالإضافة إلى الخطابة الحسينية، منها صلاة الجماعة، وإلقاء الكلمات، والتبليغ، وأقام عدة دورات في الخطابة وغيرها، وله عدة مؤلفات منها: سلسلة الدروس الفقهية للجامعيين، كتاب الخشية بين المفاصلة والمفاضلة وغيرها.
[2] اللهوف في قتلى الطُّفوف، السَّيد ابن طاووس، ص٤٠.
[3] نثر الدُّر في المحاضرات، أبو سعد منصور بن الحسين الآبي، ج١، ص٢٢٨.
[4] الاحتجاج، أحمد بن علي الطبرسي، ج٢، ص٣٥.
[5] نفس المصدر، ص٣6.
[6] الأمالي، الشَّيخ المفيد، ص٣٥٣.
[7] مناقب آل أبي طالب، ج٣، ابن شهر آشوب، ص٢٦١.
[8] بلاغات النِّساء، ابن طيفور، ص٢١.
[9] مقتل الحسين(ع)، الموفَّق الخوارزمي، ج٢، ص٧٢.
[10] موسوعة الإمام الحسينg(تاريخ إمام حسينg، ج١٠، مكتب طباعة الكتب المساعدة التعليمية، ص٧٢٩.
[11] الاحتجاج، أحمد بن علي الطبرسي، ج٢، ص٣٧.
[12] معجم رجال الحديث، السَّيد الخوئي، ج٢٤، ص٢١٩.
[13] موسوعة الإمام الحسينg(تاريخ إمام حسينg)، ج١٠، مكتب طباعة الكتب المساعدة التعليمية، ص٥٦٤.
[14] وفيَّات الأئمة، من علماء البحرين والقطيف، ص٤٤١.
[15] العوالم، السَّيدة الزهراءj، الشَّيخ عبد الله البحراني، ج٢، ص٤١٨.
[16] العوالم، السَّيدة الزهراءj، الشَّيخ عبد الله البحراني، ج٢، الشَّيخ عبد الله البحراني، ص٤١٨.
[17] عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص١٢٠.
[18] ميزان الحكمة، الشَّيخ محمد الرَّيشهري، ج2، ص1564.
[19] نفس المصدر.
[20] الوافي، الفيض الكاشاني، ج4، ص333.
[21] أعيان الشِّيعة، السَّيد محسن الأمين، ج1، ص614.
[22] العوالم، السَّيدة الزهراءj، الشَّيخ عبد الله البحراني، ج٢، ص٤٢٢.
[23] نفس المصدر.
[24] بحار الأنوار(ط - بيروت)، ج45، ص: 164.
[25] الاحتجاج، أحمد بن علي الطبرسي، ج٢، ص٢٩.
[26] الاحتجاج، أحمد بن علي الطبرسي، ج٢، ص31.
[27] المجدي في أنساب الطَّالبيين، ابن الصُّوفي النَّسابة، ص٥٤.
[28] الاحتجاج، أحمد بن علي الطبرسي، ج٢، ص31.
[29] الأبواب(رجال الطوسي)، الشَّيخ الطوسي، ص١١٣.
[30] عين الإجابة أخذه من الحديث النَّبوي المعروف: "إنَّ النُّور إذا دخل في القلب انشرح وانفسح، قيل: يا رسول الله هل لذلك من علامة؟ قال: "نعم، التَّجافي عن دار الغُرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله) المصدر، الحقائق في محاسن الأخلاق، الفيض الكاشاني، ص٤٢٨.
[31] أجوبة المسائل في الفكر والعقيدة والتَّاريخ والأخلاق، السَّيد محمد صادق الروحاني، ج١، ص٦٨.
[32] سورة الحديد، الآية 28.
[33] سورة الأنفال، الآية 29.
[34] الفصول المختارة، الشَّيخ المفيد، ص١٠٧.
[35] حكم النَّبي الأعظمe، ج١، محمَّد الرَّيشهري، ص٢٤٢.
[36] إرشاد القلوب، الحسن بن محمد الدَّيلمي، ج١، ص١٩١.
[37] الأمالي، الشَّيخ الصَّدوق، ص٣٥٤.
[38] الجواهر السَّنية، الحرُّ العاملي، ص١٩٧.
[39] منية المريد، الشَّهيد الثاني، ص١٦٧.
[40] كلمات مكنونة من علوم أهل الحكمة والمعرفة، الفيض الكاشاني، ص٢٥٩.
[41] المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج٥، الفيض الكاشاني، ص٤٦.
[42] شرح نهج البلاغة، ج١١، ابن أبي الحديد، ص٢١٣.
[43] كنز العمال، ج١٠، المتقي الهندي، ص١٣٢
[44] إرشاد العباد إلى استحباب لبس السَّواد، السَّيد ميرزا جعفر الطباطبائي الحائري، ص٣٧.
[45] راجع كتاب عصمة الحوراء زينب، السَّيد عادل العلوي، ص65.
[46] نفس المصدر.
[47] أبو هلال العسكري، وهو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيي بن مهران العسكري، توفى عام(395 هـ)،وكان شاعراً وأديباً، وله مؤلَّفات كثيرة.
[48] الصِّناعتين، الكتابة والشِّعر، أبي هلال العسكري، ص٦١.
[49] مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص٧٣.
[50] زينب الكبرىjمن المهد الى اللَّحد، السَّيد محمَّد كاظم القزويني، ص407.
[51] كامل البهائي في السِّقيفة، ج٢، عماد الدِّين حسن بن علي الطَّبري(تعريب: فاخر)، ص٣٤٨-٣٤٩.
[52] مقتل الحسينg، أبو مخنف الأزدي، ص١١٨-١١٩.
[53] مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص٨٦.
[54] كامل الزِّيارات، جعفر بن محمد بن قولويه، ص166.
[55] الاحتجاج، الشَّيخ الطبرسي، ج1 ص131.
[56] أعيان الشِّيعة، السَّيد محسن الأمين، ج7، ص138.
[57] الصَّحيح من سيرة النَّبي الأعظمe، السَّيد جعفر مرتضى العاملي، ج25، ص31.
[58] موسوعة الإمام الحسينg(تاريخ إمام حسينg، ج١٠، مكتب طباعة الكتب المساعدة التعليمية، ص٣٧٣.
[59] تذكرة الخواص من الأمَّة بذكر خصائص الأئمة(ط المجمع العالمي)، سبط ابن الجوزي، ج٢، ص١٧٦.
[60] الإرشاد، الشَّيخ المفيد ج2، ص68 و69.
[61] الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ج٥، ص١١٢.
[62] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج٣، ص٢٥٤.
[63] المزار، محمَّد بن جعفر المشهدي، ص491.
[64] إبصار العين في أنصار الحسينg(ط. زمزم هدايت)، الشَّيخ محمَّد بن طاهر السَّماوي(تحقيق الطبسي)، ص٧٣.
[65] الإرشاد، الشَّيخ المفيد، ج2، ص68 و69، لواعج الأشجان، السَّيد محسن الأمين، ص٧٨.
[66] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج٣، ص٢٥٤.
[67] المزار، محمَّد بن جعفر المشهدي، ص٤٩١.
[68] الكامل في التَّاريخ، ابن الأثير، ج٤، ص٥٣.
[69] اللهوف في قتلى الطُّفوف(فارسي)، السَّيد ابن طاووس، (مترجم: بخشايشي)، ص1420.
[70] الإرشاد، الشَّيخ المفيد، ج2، ص110.
[71] الكامل في التَّاريخ، ابن الأثير، ج4، ص80.
[72] ويظهر من بعضِ القَرائن سلب الشُّهداء من أهلِ بيتِه وأصحابِه، فقد روى ابن نما إنَّ حكيم بن طفيل(لعنه الله) سلب ثياب وسلاح العبَّاسg، وكذا ما جاء في الزِّيارة الصَّادقية للشُّهداء: «إنَّهم قتلوكم ظلماً، وأرادوا إماتةَ الحقِّ، وسلبوكم لابن سمية»، كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه، ص422، وما روي عن عليِّ بن الحسينg: «وكيف لا أجزع ولا أهلع، وقد أرى سيِّدي، وإخوتي، وعمومتي، وولد عمِّي، وأهلي مصرَّعين بدمائهم، مرمَّلين بالعراء، مسلَّبين، لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنَّهم أهلُ بيتٍ من الدَّيلم والخزر»، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج28، ص57.
[73] وفيات الأئمة، من علماء البحرين والقطيف، ص159.
[74] مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص71.
[75] وفيَّات الأئمة، من علماء البحرين والقطيف، ص436.
[76] موسوعة كربلاء، لبيب بيضون، ج2، ص265.
[77] أعيان الشِّيعة، السَّيد محسن الأمين، ج7، ص138.
[78] معجم لغة الفقهاء، محمَّد قلعجي، ص198.
[79] العين، الخليل الفراهيدي، ج4، ص253.
[80] العين، الخليل الفراهيدي، ج1، ص92.
[81] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج19، ص45.
0 التعليق
ارسال التعليق