الحجاب الشّرعيّ (تاريخه- حكمه- فلسفته- أدلّته)

الحجاب الشّرعيّ  (تاريخه- حكمه- فلسفته- أدلّته)

المقدِّمة

الدّين عبارة عن منظومة متكاملة، من الأصول والفروع والأخلاق والفكر والسّلوك، وكلّ ما يهمّ الإنسان ويكون في مصلحته في الدّنيا والآخرة. 

قد يعرف كثير منّا أصول الدّين وفروعه، ويحفظها ويعدِّدها عن ظهر قلب، ولكن قد يخفى على بعضٍ - نتيجة الغفلة أو الشّبهات أو غيرهما-بعض الفروع. ومن ضمن تلك الفروع مسألة الحجاب، مع أنّه من الأمور الواجبة الواضحة، إلّا أنّه قد تجد من يشكّك في ذلك بدعاوى واهية.

مسألة الحجاب هي من ضمن منظومة الإسلام المترابطة بعضها مع بعض، ولا يمكن فصله عن الدّين وباقي التّشريعات والتّشكيك فيه، بل أَولى الدّين الإسلاميّ أهمّيّة خاصّة للمرأة والمجتمع وعلى إثر ذلك شرّع الحجاب، وعدم الالتفات إلى ذلك يوقع في وحل الشّبهات.

ولأهمّيّة المسألة، ووضوحها، وتسالمها، ترى أنّ بعض النّساء السّافرات أو شبه السّافرات يأوّلون، أو يفسّرون الآيات، بما تهواه أنفسهم، وبما يتماشى مع القوانين الوضعيّة، التي وضعتها أيادٍ لا تريد للمرأة خيراً.

ومن جانب آخر تيّار النّسويّة الّذي هو في ظاهره يدافع عن المرأة، ولكنّه في الحقيقة والواقع يسحق المرأة وهويتها الإنسانيّة، ولا يبقي لها أيّ كرامة، باسم حقوق المرأة والعدل والمساواة.

ناهيك عن دور الاستعمار وأعداء الدّين يتربّصون بالدّين الدّوائر، فينتظرون أيّ حملة على الدّين الإسلاميّ وتشريعاته؛ لينالوا من الدّين ويحقّقون مبتغاهم.

في هذه المقالة -إن شاء الله- نتعرّض إلى عدّة نقاط مهمّة تتعلّق بالحجاب، فيقع البحث النّقاط التّالية:

أوّلاً: تاريخيّة مسألة الحجاب.

ثانياً: بيان بعض المصطلحات المتعلّقة بالبحث.

ثالثاً: الحكم الشّرعيّ للحجاب.

رابعاً: حكمة(فلسفة) تشريع الحجاب.

خامساً: دليل لزوم الحجاب.

سادساً: شبهات وردود.

النُّقطة الأولى: تاريخ  مسألة الحجاب

مسألة الحجاب لم تكن جديدة وحديثة في الإسلام -كما قد يتصوّر بعضٌ-، فقد كانت معروفة في الأمم السّابقة، والأديان السّابقة على الإسلام المحمّديّ، فإذا ما رجعنا إلى الدّيانة اليهوديّة، نجد أنّهم تشدّدوا تشدّداً بالغاً في مسألة الحجاب.

 لنلقي بنظرة مختصرة حول الحجاب في تاريخهم.

أوّلاً: الحجاب قبل زمن المسيح ابن مريم:

رغم ندرة الآثار المتاحة حول لباس اليهوديّات، في زمن ما قبل المسيح، فإنّه بإمكاننا من خلال تجميع الشّذرات المتاحة، أن نستنبط أنّ اليهوديّات كنّ يغطين رؤوسهنّ، وفي أحيان وجوههن، فقد جاء في كتاب: (مدخل عامّ إلى الأسفار المقدّسة) في مبحث (لباس العبريّات) أنَّ: "النَّساء اليهوديّات واليونانيّات لم يكن يظهرن أبداً في الأماكن العامّة دون خمار"، ويوضِّح حدوده بقوله: "الحجاب العبريّ القديم كان في بعض الأحيان كبيراً إلى درجة أنّه كان يغطّي كامل البدن"([1]).

ثانياً: الحجاب زمن المسيح ابن مريم وأثناء القرون الوسطى:

أكّد (أدمون ستابفر) Edmond Stapfer)([2])) في كتابه عن فلسطين زمن المسيح، أنّ اليهوديّات كنّ لا يخرجن إلى الشّارع إلّا ورؤوسهنّ مغطّاة بالكامل([3])، وشهد (معجم تندل للكتاب المقدّس) أنّ النّساء اليهوديّات في القرن الأوّل، كنّ دائماً يغطين رؤوسهنّ في الأماكن العامّة ([4]) وكانت اليهوديّات في آخر القرن التّالي له (القرن الثّاني) يُعرفن بارتدائهنّ الحجاب في الأماكن العامّة. ([5])

كما شهد المعجم الكتابيّ (Dictionary of Judaism in the Biblical Period) أنّ العملات التي أصدرها الإمبراطور الرّومانيّ (فسباين) (Vespasian) والمسمّاة ب(Judaea Capta coins)، والتي احتفى فيها باحتلال منطقة (اليهوديّة)، و(تــدمير الهيكل) على يد (تيطس) سنة 70م، تظهر أنّ الحجاب كان (جزءًا من الملابس الخارجيّة). ([6])

وحكى أحد الأحبار فقال: "تخرج النّساء الإسرائيليّات في البلاد العربيّة منتقّبات، في حين أنّ اليهوديّات في الهند يخرجن وهن لابسات عباءة وقد شددنها بأفواههنّ([7]).

وخلال  عهد التنايتك([8])، اعتبرت المرأة الكاشفة رأسها خلال عهد التنايتِك ([9]) أنّها تهين حشمتها. وإذا خرجت بدون غطاء رأس، تغرّم بأربعمائة (زوزيم)([10]) لهذه الجريمة([11]).

ويلخّص الحبر (Shmuel Herzfeld) ([12]) الحال في القرون الوسطى، بقوله: "كانت النّساء في القرون الوسطى يغطين أجزاء من شعورهن طوال الوقت، داخل بيوتهنّ وخارجها، باستثناء فترة قصيرة من القرن الثَّاني عشر. وقد كنّ كشفهن رؤوسهنّ عندما يسرن في الخارج فيعتبر فعلاً شنيعاً جداً"([13]).

ثالثاً: الحجاب في العصر الحديث:

تقول الموسوعة اليهوديّة (The Oxford Dictionary of the Jewish Religion): "في الأزمنة الحديثة، تغطّي الأرثودكسيّات (أي المتديّنات) المتزوّجات رؤوسهنّ بباروكة أو خمار إذا كنّ في مكان عامّ.. تحلق النّساء رؤوسهنّ قبل الزّواج في التّجمّعـات الحسيديّة([14])، ويرتدين خماراً. وتغطّي غير المتزوّجة في اليمن أيضاً رأسها"([15]).

وتحدَّث الحبر (ماير شلّر) (Mayer Schiller) عن واقع المرأة اليهوديّة اليوم؛ فبيَّن أنَّ هناك من اليهوديّات من يرفضن ارتداء الباروكة، ويرين وجوب تغطية الشّعر كاملاً بشال، وهي ظاهرة معروفة عند اليهوديّات الهنغاريّات، ومنهنّ من يغطين رؤوسهنّ بشال، ويضعن في مقدم الرّأس جزءًا من باروكة بادية على أنّها ليست شعرًا حقيقيّاً، وهو مسلك اليهوديّات في العائلات اليهوديّة الحاخاميّة في أوكرانيا، وقد أجازه بعض الأحبار كالحبر (يعقوب أمدن). ومنهنّ من يلبسن باروكة يضعن فوقها قبّعة، وهناك من يلبسن باروكة لتغطية الرأسٍ كما هو بين اليهوديّات البولنديّات والليتوانيّات الحسيديّات، وهو أيضًا عرف يهوديّات ألمانيا ([16]).

وكذلك إذا رجعنا إلى التَّاريخ، نجد أنّ لباس النّساء اليونانيّات كان معتنياً بصورة كبيرة بالستر؛ إذ إنّ أشهر أنواعه والمسمّى (peplum)، هو رداء تضعه المرأة على رأسها؛ فلا يظهر منها شيء، كما أنّه كان من عادة اليونانيّات أن يغطين وجوههنّ، فلا تبدو منهن إلّا عين واحدة([17]).

وكانت عادة (اليونانيّات) أن يغطين أنفسهنّ في الحياة العامّة (كما تؤكّد ذلك المنحوتات)، على خلاف أمرهنّ في بيوتهنّ، أو في علاقاتهنّ داخل بيوتهنّ. ما كان حال اليهوديّات قاصراً على عقد شعورهنّ، وإنمّا كنّ يغطّينها بطريقة آمنة عندما يكنّ خارجاً، لقد كنّ مغطيّات في الأماكن العامّة، وما كنّ يتكشفن في الهيكل([18]).

أمَّا فيما يتعلَّق بنساء الإمبراطوريّة الرومانيّة، فكنّ يغطين رؤوسهنّ دلالة على أنّهنّ نساء محترمات، وكنّ يلبسن إمّا النّقاب أو غطاء رأس، وهنَّ في ذلك يُعلِمن من يراهن من الرِّجال، أنَّه لا يجوز لهم الاقتراب منهن، وأنَّ أيّ فعل متعدّ منهم سيكلّفهم عقوبة زاجرة([19]).

وكانت المرأة المجوسيّة تحجب عن محارمها كالأب والأخ والعمّ والخال، فلم يكن لها الحقّ في رؤية أيّ أحد من  الرّجال مطلقاً([20]).

وبعد ذكر تاريخ المسألة لا بدَّ من  التّنبّه إلى بعض أمور:

أوّلاً: إنَّ بعض الباحثين ذهب إلى أنَّ سبب نشوء الحجاب، في الأديان السّابقة والأمم السّالفة، هو انحطاط المرأة في تلك المجتمعات؛ لما فهموه من تلازم بين الحجاب والسِّتر وبين حجب المرأة وفصلها عن المجتمع، ولذا قد يأخذ بعض منحى سلبيّاً في بحث مسألة الحجاب.

على أنّه هناك من الباحثين قد ذهب إلى أنَّ ظاهرة الحجاب لها جذور ودوافع في المجتمعات القديمة، فمنها الاقتصاديّ، ومنها الأخلاقيّ، ومنها الفلسفيّ، ومنها السّياسيّ، ومنها النّفسيّ([21]).

ثانياً: فلا بدَّ أن ننظر إلى مسألة الحجاب في الدّين الإسلامي، بغير تأثّر ونظر إلى هذا التّاريخ؛ وذلك لوضوح أنّ الدّين الإسلاميّ، يختلف في معظم تشريعاته عن الأديان الأخرى.

ثالثاً: عرض تأريخ الحجاب لا يعني الرّضا بما فعلوه ولا رفض كلّ ما فعلوه، وإنّما هو لأجل بيان أنّ أصل مسألة الحجاب ليست من اختراعات الدّين الإسلاميّ المحمّديّ، كما قد يتوهّم.

رابعاً: ليس بالضّرورة أنّ أصحاب الدّيانات الأخرى الآن هي ملتزمة بالحجاب، حتّى المتديّنات منهن، وهذا لا يلازم كذب ما نقلناه من التَّاريخ؛ لوضوح أنّه فرق بين النّظريّة والتّطبيق؛ إذ قد يعتقد شخص بمبدأ لكن لا يطبِّقه على أرض الواقع، مع لحاظ الاختلاف في الزَّمن.

النّقطة الثّانية: بيان مصطلحات البحث

المصطلح الأوّل: الحجاب

  1. ففي معجم (لسان العرب): "الحِجابُ: السِّتْرُ. حَجَبَ الشيءَ يَحْجُبُه حَجْباً وحِجاباً وحَجَّبَه: سَترَه. وقد احْتَجَبَ وتحَجَّبَ إِذا اكْتنَّ من وراءِ حِجابٍ. وامرأَة مَحْجُوبةٌ: قد سُتِرَتْ بِسِترٍ. وحَجَبَه أَي مَنَعَه عن الدّخول. وكلّ ما حالَ بين شيئين: حِجابٌ، والجمع حُجُبٌ لا غير.

وقوله تعالى: {ومِن بَيْننا وبَيْنِك حِجابٌ}(فصلت:5)، معناه: ومن بينِنا وبينِك حاجِزٌ في النِّحْلَةِ والدّين؛ وهو مثل قوله تعالى: {قُلوبُنا في أَكِنَّةٍ}(فصلت:5)، إلّا أَنَّ معنى هذا: أَنـَّا لا نُوافِقُك في مذهب. واحْتَجَبَ الـمَلِكُ عن النّاس، ومَلِكٌ مُحَجَّبٌ"([22]). 

  1. وفي معجم العين: "الحَجْب: كلّ شي‌ء منع شيئا من شي‌ء فقد حَجَبَه حَجْبا. والحِجَابة: ولاية الحاجِب. والحِجَاب، اسم ما حَجَبْت به شيئا عن شي‌ء، ويجمع [على]: حُجُب"([23]). 
  2. وكذلك في معجم  صحاح اللغة ([24])، ومقاييس اللغة ([25])، والقاموس المحيط([26]).

فإنّهم ذهبوا إلى أنَّ معنى الحجاب هو السِّتر والمنع([27]). 

ث- وفي مفردات اللغة للرّاغب الأصفهانيّ: "الحَجْب والحِجَاب: المنع من الوصول، يقال: حَجَبَه حَجْباً وحِجَاباً، وحِجَاب الجوف: ما يحجب عن الفؤاد، وقوله تعالى: {وبَيْنَهُمٰا حِجٰابٌ}(الأعراف:46)، ليس يعني به ما يحجب البصر، وإنَّما يعني ما يمنع من وصول لذَّة أهل الجنَّة إلى أهل النَّار، وأذيَّة أهل النَّار إلى أهل الجنّة، كقوله عزّ وجل: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بٰابٌ بٰاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ * وظٰاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذٰابُ}(الحديد13)، وقال عزّ وجل: {ومٰا كٰانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّٰهُ إِلّٰا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ}(الشورى:51)، أيّ: من حيث ما لا يراه مكلّمه ومبلّغه، وقوله تعالى: {حَتّٰى تَوٰارَتْ بِالْحِجٰابِ}(ص:32)، يعني الشَّمس إذا استترت بالمغيب. والحَاجِبُ: المانع عن السّلطان، والحاجبان في الرّأس لكونهما كالحاجبين للعين في الذّبّ عنهما. وحاجب الشّمس سمّي لتقدّمه عليها تقدّم الحاجب للسّلطان، وقوله عزّ وجلّ: {كَلّٰا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}(المطففين:15)، إشارة إلى منع النُّور عنهم المشار إليه بقوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ}(الحديد13)([28]).

المصطلح الثَّاني: الغضّ.

  1. ففي لسان العرب: غَضَّ، واغْتَضَّ؛ أَي وضَع ونَقَضَ([29]).

ب- وفي المقاييس: "غَضَّ طرفه، أي خَفضه، وغَضَّ من صوته، وكلّ شيءٍ كففتَه فقد غَضَضْتَهُ، والأمرُ منه في لغة أهل الحجاز اغْضُضْ، وفي التّنزيل{واغْضُضْ من صَوْتِكَ}(لقمان:19)، وأهل نجد يقولون: غُضَّ طرفك بالإدغام. قال جرير:

فلا كَعْباً بَلَغْتَ ولا كلابـا    فَغُضَّ الطَّرْفَ إنّك من نُمَيْرٍ"([30]).

ج- وفي القاموس المحيط: "غَضَّ طَرْفَهُ غِضاضاً، بالكسرِ، وغَضّاً وغَضاضاً وغَضاضةً، بِفَتْحِهِنَّ: خَفَضَهُ، واحْتَمَلَ المَكْرُوهَ، وغضّ منه: نَقَصَ، ووَضَعَ من قَدْرِهِ،

وغضّ الغُصْنَ: كَسَرَهُ فلم يُنْعِمْ كَسْرَهُ، والغَضِيضُ: الطَّرِيُّ، والطَّلْعُ الناعِمُ([31]). 

د- ففي مقاييس اللغة: "الغين والضّاد أصلانِ صحيحانِ، يدلُّ أحدُهما على كفٍّ ونَقْص، والآخر على طراوة، فالأوّل الغضّ: غضُّ البصر. وكلّ شى‌ءٍ كففتَه فقد غضَضْته. ومنه قولهم: تلحقُه فى ذلك غَضَاضةٌ، أي أمر يَغُضُّ له بصرَه. والغَضْغَضة: النُّقْصان. في الحديث: >لقد مَرَّ من الدُّنيا بِبطنته لم يُغَضْغَض<، ويقولون: هو بحرٌ لا يُغَضْغَض، وغَضْغَضْت السِّقَاءَ: نقصتُه. وكذلك الحقّ، والأصل الآخر: الغَضُّ: الطّرىُّ من كلّ شى‌ء. ويقال للطَّلْع حين يطلُعُ: غَضِيض"([32]).

هـ- مفردات القرآن: الغَضُّ: النّقصان من الطّرف، والصّوت، وما في الإناء. يقال: غَضَّ وأَغَضَّ. قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ}(النور:30)، {وقُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ}([33])، {واغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ}([34])، وقول الشَّاعر:

فَغُضَّ الطّرفَ إنّك من نمير

فعلى سبيل التّهكّم، وغَضَضْتُ السّقاء: نقصت ممّا فيه، والْغَضُّ: الطّريّ الّذي لم يطل مكثه"([35]).

ويمكن بعبارة جمعُ هذه المعاني في اللغويّة، لكلمة الغضّ أنَّه الوضع من الشَّيء عن قدره، فإذا وضع فقد نقص  شيئاً عن مكانته الأولى، وخفض عمَّا كان عليه، وحصل كسر عن المكانة الأولى وكُفَّ عنها.

المصطلح الثَّالث: الخِمار

  1. لسان العرب: "والخِمَارُ للمرأَة، وهو النَّصِيفُ، وقيل: الخِمار ما تغطّي به المرأَة رأسها، وجمعه أَخْمِرَةٌ وخُمْرٌ وخُمُرٌ. والخِمِرُّ، بكسر الخاء والميم وتشديد الرّاء: لغة في الخمار؛ عن ثعلب، وأَنشد: ثمّ أَمالَتْ جانِبَ الخِمِرِّ والخِمْرَةُ: من الخِمار كاللِّحْفَةِ من اللِّحَافِ. يقال: إِنّها لحسنة الخِمْرَةِ.

وفي المثل: إِنَّ الْعَوَانَ لا تُعَلَّمُ الخِمْرَةَ أَي إِن المرأَة المجرّبة لا تُعَلَّمُ كيف تفعل.

وتَخَمَّرَتْ بالخِمار واخْتَمَرَتْ: لَبِسَتْه، وخَمَّرَتْ به رأْسَها: غَطَّتْه.

وفي حديث أُم سلمة: أَنّه كان يمسح على الخُفِّ والخِمار؛ أَرادت بالخمار العمامة؛ لأَنّ الرّجل يغطّي بها رأْسه، كما أَنّ المرأَة تغطّيه بخمارها، وذلك إِذا كان قد اعْتَمَّ عِمَّةَ العرب فأَرادها تحت الحنك، فلا يستطيع نزعها في كلّ وقت فتصير كالخفّين، غير أَنّه يحتاج إِلى مسح قليل من الرّأْس، ثمّ يمسح على العمامة بدل الاستيعاب؛ ومنه قول عمر لمعاوية: ما أَشبه عَيْنَك بِخِمْرَةِ هِنْدٍ؛ الخمرةُ: هيئة الاختمار؛ وكلّ مغطًّى: مُخَمَّرٌ"([36]).

  1. وفي معجم العين: " اخْتَمَرَ الخَمْرُ أي: أدرك، ومُخَمِّرُهَا متخذها، وخُمْرَتُهَا: ما غشي المَخْمُورَ من الخُمَار والسّكر، قال: فلم تكد تنجلي عن قلبه الخمر.

واخْتَمَرَ الطّيبُ والعجين خُمْرَةً، ووجدت منه خُمْرَةً طيبة إذا اخْتَمَرَ الطّيبُ أي: وجد طيبه. والشّارب يصيبه خُمْرَةٌ، وقد خَمِرَ وخَمَرَ. وخَمَرْتُ العجينَ والطّيب: تركته حتّى يجود.

واخْتَمَرَتِ المرأةُ بِالْخِمَارِ، والخِمْرَةِ: الاختمار، وهما مصدران. والمُخْتَمِرَةُ من الضّأن: السّوداء ورأسها أبيض، ومن المعز أيضاً. وأَخْمَرَهُ البيت: ستره، وخَمَرْتُ البيتَ أي: سترته([37]). 

ج- وفي معجم المحيط: "خَمَرَ عَليَّ الخَبَرُ: [أي] خَفِيَ، وخَمِرَ عَنّي: تَوارىٰ وخَفِيَ"([38]). 

د- وفي الصحاح: "خَمْرَةٌ وخَمْرٌ وخُمُورٌ، مثل تَمْرَةٍ وتَمْرٍ وتُمُورٍ، يقال خَمْرَةٌ صِرْفٌ. قال ابن الأعرابىّ: سمِّيت الخَمْرُ خَمْراً لأنَّها تُرِكت فاختمرت، واختمِارها: تغيُّر رِيحِها. ويقال: سُمِّيت بذلك لمُخامرتِها العَقْل، وما عندَ فُلَانٍ خَلُّ ولا خَمْرٌ، أي خَيْرٌ ولا شَرُّ"([39]).

هـ - وفي المقاييس: "الخِمار: خِمار المرأةٌ. وامرأةٌ حسنَة الخِمْرَة، أي لُبْس الخِمار، وفي المثل: (العَوَانُ لا تُعَلَّم الخِمْرة)، والتّخمير: التّغطية. ويقال في القوم إِذا توارَوْا فى خَمَرِ الشَّجر: قد أخْمَرُوا. فأمَّا قولهم: >ما عِندَ فُلانٍ خَلٌّ ولا خَمْرٌ<، فهو يجرى مَجرى المثل، كأنَّهم أرادوا: ليس عِنده خيرٌ ولا شَرّ"([40]).

ز- مفردات القرآن: "أصل الخمر: ستر الشَّي‌ء، ويقال لما يستر به: خِمَار، لكن الخمار صار في التَّعارف اسماً لما تغطّي به المرأة رأسها، وجمعه خُمُر، قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلىٰ جُيُوبِهِنَّ}(النور:31)، واختمرت المرأة وتَخَمَّرَت، وخَمَّرَتِ الإناء: غطَّيته، وروي (خمّروا آنيتكم)، وأَخْمَرْتُ العجين: جعلت فيه، الخمير، والخميرة سمّيت لكونها مخمورة من قبل، ودخل في خِمَار النّاس، أي: في جماعتهم السّاترة لهم، والخَمْر سمّيت لكونها خامرة لمقرّ العقل([41]). 

المصطلح الرَّابع: الجيب

أ- "الجيم والياء والباء أصلٌ يجوز أن يكون من باب الإِبدال، فالجَيْبُ جَيب القميص. يقال جِبْتُ القميص قوّرت جَيْبه، وجَيَّبْتُه جعلت له جَيباً"([42]).

ب- "الجَيْبُ: جَيْبُ القَمِيصِ والدِّرْعِ، والجمع جُيُوبٌ. وفي التَّنزيل العزيز: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلىٰ جُيُوبِهِنَّ}(النور:31)، وفلانٌ ناصحُ الجَيْبِ: يُعْنَى بذلك قَلْبُه وصَدْرُه، أَي أَمِينٌ"([43]).

ج- "جَيْبُ: الْقَمِيصِ مَا يَنْفَتِحُ عَلَى النَّحْرِ والْجَمْعُ (أَجْيَابٌ) و(جُيُوبٌ)"([44]).

المصطلح الخامس: الزِّينة

أ- "الزِّيْنَةُ: اسْمٌ جامِعٌ لكلّ ما يُتَزَيَّنُ به، والزِّيَنُ: جَمْعُه([45]).

المصطلح السَّادس: الجلباب.

"الجِلْبَاب: ثوب أوسع من الخمار دون الرِّداء، تغطِّي به المرأة رأسها وصدرها"([46]).

"الجِلْبَابُ: ثَوْبٌ واسِعٌ دُوْنَ الرِّدَاءِ، يُقال: تَجَلْبَبْتُ"([47]). "والجِلباب: المِلحفة"([48]).

وبالرّجوع إلى كتب التَّفاسير، وجمعاً بين كلامهم وكلام اللغويين، هو أن الجلباب قطعة كانت تلبسها نساء العرب، ويطلق على مطلق الرِّداء حتّى للرَّجل.

حدود الحجاب

الحجاب الشَّرعيّ على نوعين، ظاهريّ وباطنيّ:

أمّا الحجاب الظّاهريّ، فهو الحجاب الّذي أمر الله عز وجلّ الفتيات والنّساء الالتزام بمواصفاته؛ كساتر للبدن أمام الرّجال غير الزّوج والمحارم، وقد أمر به في القرآن الكريم، وأكّدته أحاديث النَّبي المصطفىK والأئمّة المعصومينi. 

وقد فصَّل الفقهاء والمراجع في ذلك، ونحن نُشير الى حدوده باختصار.

الواجب في ارتداء الحجاب هو ستر الفتاة أو المرأة كافّة أجزاء بدنها، ما عدا الوجه والكفّين عن غير الزّوج والمحارم، ولا خصوصيّة للجلباب في الحجاب إذا حصل السّتر بغيره.

نعم يجب أن تتوفّر في السّاتر ( الحجاب )([49]) الأمور التّالية:

1- ألّا يكون مثيراً للفتنة النّوعيّة، سواء كان بسبب اللون أو الخياطة أو غيره.

2ـ ألّا يكون ضيّقاً بحيث يُظهر مفاتن البدن.

3ـ ألّا يكون رقيقاً بحيث يُرى من خلاله ما يجب ستره.

فإذا اجتمعت الأمور المذكورة فيما يستر البدن، كان هذا السَّاتر حجاباً شرعيّاً، حتّى لو كان السَّاتر قميصاً وسروالاً واسعين.

وهنا لا بُدَّ من الالتفات إلى  أنَّ ستر القدمين أيضاً واجب عن الأجانب، ولا فرق في ستره بالجوراب أو بغيره.

ومن الواضح أنَّه كلَّما كان الحجاب محتشماً كان أفضل.

وأما الحجاب الباطني: فهو ما أمر الله عزّ وجلّ به الفتاة والمرأة، كما أمر به الشّباب والرِّجال أيضاً في القرآن الكريم، وأكّدته أحاديث نبيّه الكريم محمَّد(صلى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومون (عليهمّ السلام).

والمقصود بالحجاب الباطنيّ هو ما يحجب الإنسان، عن الرّذيلة والفساد وكلّ ما يسخط الله، أي العفّة والحشمة وغضّ البصر، والحجاب الباطنيّ هو الحجاب الّذي يتعلّق بسلوك الفتاة والمرأة، وكذلك الفتى والرّجل، وهو كذلك مهمّ؛ حيث إنّ كلّ من الحجابين مكمّل للآخر، ولا معنى للحجاب الحقيقيّ إلّا بمراعاتهما معاً.

قال الله عز وجل: ﴿.. وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ..﴾(الأحزاب:53).

وقال جل جلاله: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النّساء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(النور:30-31).

وقال عزَّ مِنْ قائل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(الأحزاب:59).

وهنا من المناسب ذكر هذه القصَّة وهي أنَّه حدّث يحيى المازنيّ قال: "جاورت أمير المؤمنين عليg في المدينة المنوّرة، مدّة مديدة وبالقرب من البيت الذي تسكنه السّيّدة زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصاً، ولا سمعت لها صوتاً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها (صلى الله عليه وآله) تخرج ليلاً، الحسن عن يمينها والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين(عليه السّلام) أمامها، فإذا قربت من القبر الشّريف، سبقها أمير المؤمنين(عليه السّلام) فأخمد ضوء القناديل، فسأله الإمام الحسن (عليه السّلام) مرّة عن ذلك، فقال: أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب([50]). 

النُّقطة الثَّالثة: الحكم الشّرعيّ للحجاب

أولا: ما هو حكم الحجاب شرعاً؟

الجواب:الحجاب فريضة شرعية ذكرت في القرآن الكريم: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النّساء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(النور:31).

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(الأحزاب:59).

وهو من بديهيّات المسلمين؛ حيث كانت نساء النّبيّ (صلّى الله عليه وآله) وسائر النِّساء المؤمنات يواظبن على هذه الفريضة، كما هو واضح لمن اطَّلع على سيرة المسلمين منذ العصر الأوَّل، بل هي من الفرائض المشتركة بين الأديان الألهيَّة، حتّى أنَّ المجتمعات المسيحيّة كانت تراعي ذلك على العموم الى عصر قريب، ولا تزال صور (مريم) (عليها السّلام) عندهم متضمّنة لحجابها([51]).

وحتّى عند أبناء العامَّة فإنَّه من الواجبات، ويستدلّون عليه بالكتاب والسّنّة وسيرة المتشرِّعة([52]).

ثانياً: متى يجب الحجاب أو فقل: في أيِّ سنّ يجب الحجاب على المرأة؟

الجواب: عندما تصبح المرأة مكلَّفة، أي تدخل سنَّ التَّكليف.

ولمزيد بيان نقول: المكلَّف بالأحكام الشَّرعيّة في الفقه الإسلاميّ، هو الإنسان الذي توجَّه إليه الخطاب من قبل الله عزَّ وجلَّ، بوجوب امتثال أحكام الشَّريعة الإلزاميّة، إرشاداً بعد حكم العقل بوجوب إطاعة المولى لسّيّده، والمكلّف من توفّرت فيه شروط التَّكليف والتي هي:

1ـ البُلوغ: ويتحقّق البلوغ في الصّبيّ بأحد أمور أربعة:

الأوّل: بإكماله السَّنة الخامسة عشرة هلالية من عمره، ودخوله في السَّادسة عشرة، وهو يعادل أربع عشرة سنة ميلاديّة، وستة أشهر وخمسة عشر يوماً تقريباً.

الثَّاني: ظهور علائم الرّجوليّة فيه، وهي خروج المني.

الثّالث: نبات الشّعر الخشن على عانته، وهي بين البطن والعورة.

الرَّابع: نبات الشّعر الخشن، في الخدّ وفي الشّارب(عند السيد السيستاني).

ولا عبرة بنبات الشّعر في الصّدر وتحت الإبط وغلظة الصّوت.

وأمَّا في المرأة: فهو بإكمالها التَّاسعة من عمرها، ودخولها في سِنِّ العاشرة، ويكون الحساب بالسّنين القمريّة، وهو يعادل ثمان سنين ميلاديّة، وثمانية أشهر وعشرين يوماً تقريباً. ولاعبرة بحيضها قبل ذلك([53]). 

2-  العقل: وهو ضدَّ الجنون، ويراد به وعي الإنسان وإدراكه، والتَّمييز بين الضَّار والنّافع، وكون الإنسان مدركاً لما يجري حوله، وأن تكون أفعاله وأقواله نابعة عن إرادته، ممَّا يؤهّله إلى تحمّل المسؤوليّة الشّرعيّة.

3ـ القدرة: وهي القوّة التي تجعل المكلَّف قادراً على أداء التكليف الشّرعيّ، وذلك لقول الله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَهَا..﴾(البقرة:286). 

 إذن، فالمكلَّف هو الإنسان الذي تكون فيه أهليَّة امتثال الأحكام الشَّرعيّة وتحمُّل مسؤولياتها، وهو الإنسان العاقل البالغ القادر.

والمرأة التي تدخل السَّنة العاشرة القمريّة، وهي قادرة وعاقلة، يجب عليها الحجاب؛ باعتبار أنَّها صارت حينئذ مكلَّفة، فتجب عليها باقي التَّكاليف من صلاة وصيام وحجٍّ وغيرها.

ثالثا: (ما هي الأصناف التي يجب على المرأة التَّستّر عنها)؟ وما هي الأصناف التي لا يجب عليها التَّستّر عنها؟

الجواب: وهنا في الجواب لا بدَّ من الرُّجوع إلى كلام الفقهاء؛ لكي ننظر ما هو رأي الشَّارع المقدَّس؛ إذ إنَّ الفقهاء هم حجَّة علينا بتعيين من الأئمّة، فهم يفسِّرون كلام المعصوم، ونعني بالفقهاء هم كبار الفقهاء الذين لا يشكُّ في فقاهتهم، لا الفقيه الشَّاذ عن باقي الفقهاء أو من يدَّعي الفقاهة؛ إذ لا يحصل الاطمئنان بمطابقة أو قرب قوله من قول المعصوم، ناهيك عن عدم الاطمئنان ببراءة ذمَّة تقليده، ولذا سنأتي برأي أحد الفقهاء المعاصرين الذي يعتبر مرجع الطّائفة في زمانه.

1-  يجوز لكلّ من الزّوج والزّوجة، النّظر  إلى جسد الآخر ظاهره وباطنه حتّى العورة، وكذا لمس كلّ منهما بكلّ عضو منه كلّ عضو من الآخر، مع التلذّذ وبدونه([54]).

  1. يجوز للرّجل أن ينظر إلى جسد محارمه -ما عدا العورة- من دون تلذّذ شهويّ ولا ريبة، وكذا يجوز لهنّ النّظر إلى ما عدا العورة من جسده بلا تلذّذ شهويّ ولا ريبة.

 والمراد بالمحارم من يحرم عليه نكاحهنّ أبداً، من جهة النّسب أو الرضاع أو المصاهرة دون غيرها كالزّناء واللواط واللعان([55]).

والمحارم: 

 وهم الّذين تجمعهم القرابة النّسبيّة، فيجوز لكلّ منهما النّظر إلى زينة الآخر، ويحرم الزّواج فيما بينهما، وتدلّ آية المحارم([56]) على حرمة الزّواج، من الأقارب النّسبيّ والسّببيّوالرّضاعيّ.

والنّسب: هو القرابة الرّحميّة التي تنشأ من الولادة، فيحرم -بالاستناد على هذه الآية- بالنَّسب الزَّواج من سبعة أصناف من النّساء، على سبعة أصناف من الرّجال، وأصناف النِّساء:

  • الأمّ وإن علت، فتشمل الجدَّة لأب ولأمّ، وتشمل جدّة الأمّ والأب.
  • البنت وإن نزلت، فتشمل الحفيدة لابن أو بنت، وإن نزلت.
  • الأخت لأب أو لأمّ أو لهما.
  • بنت الأخت وإن نزلت.
  • بنت الأخ وإن نزلت.
  • العمّة وإن علت، فتشمل عمّة الأب والأمّ، وعمّة الجدّ والجدّة، وهكذا.
  • الخالة وإن علت، فتشمل خالة الأب والأمّ، وخالة الجدّ والجدّة، وهكذا.
  1. لا يجوز للرّجل-الأجنبي- أن ينظر إلى ما عدا الوجه والكفّين، من جسد المرأة الأجنبيّة وشعرها، سواء أكان بتلذّذ شهويّ أو مع الرّيبة أم لا، وكذا إلى الوجه والكفّين منها، إذا كان النّظر بتلذّذ شهويّ أو مع الرّيبة، وأمّا بدونهما فيجوز النّظر، وإن كان الأحوط استحباباً تركه أيضاً([57]).

الاستثناءات:

  1. صورة الاضطرار، كما إذا توقّف استنقاذ الأجنبيّة، من الغرق أو الحرق أو نحوهما على النّظر، أو اللمس المحرّم فيجوز حينئذٍ، ولكن إذا اقتضى الاضطرار النّظر، دون اللمس أو العكس اقتصر على ما اضطرّ إليه، وبمقداره لا أزيد([58]).
  2. يجوز اللمس والنَّظر من الرَّجل للصّبيّة غير البالغة -ما عدا عورتها- مع عدم التَّلذّذ الشّهويّ والرّيبة، نعم الأحوط الأولى الاقتصار على المواضع التي لم تجرِ العادة بسترها بالملابس المتعارفة، دون مثل الصَّدر والبطن والفخذ والأليين، كما أنّ الأحوط الأولى عدم تقبيلها، وعدم وضعها في الحجر إذا بلغت ستّ سنين([59]).
  3. يجوز النّظر واللمس من المرأة للصّبيّ غير البالغ، -ما عدا عورته كما عرف ممَّا مرّ- مع عدم التّلذّذ الشّهويّ والرّيبة، ولا يجب عليها التّستّر عنه، ما لم يبلغ مبلغاً يمكن أن يترتّب على نظره إليها إثارة الشّهوة، وإلّا وجب التّستّر عنه على الأحوط لزوماً.
  4. الصّبيّ والصّبيّة غير المميّزين خارجان عن أحكام التّستّر، وكذا النّظر  واللمس من غير تلذّذ شهويّ وريبة.
  5.  المجنون غير المميّز خارج عن أحكام التّستّر.
  6. النّساء المبتذلات -اللّاتي لا ينتهين إذا نُهين عن التّكشّف- بشرط عدم التلذّذ الشّهويّ ولا الرّيبة، ولا فرق في ذلك بين نساء الكفّار وغيرهنّ، كما لا فرق فيه بين الوجه والكفّين، وبين سائر ما جرت عادتهنّ على عدم ستره من بقيّة أعضاء البدن([60]).

رابعاً: ما هي حدود الحجاب؟

يجب على المرأة أن تستر شعرها وما عدا الوجه والكفّين من بدنها عن غير الزّوج والمحارم، وأمّا الوجه والكفّان فيجوز إبداؤهما إلّا مع خوف الوقوع في الحرام، أو كونه بداعي إيقاع الرّجل في النّظر المحرّم، فيحرم الإبداء حينئذٍ حتّى بالنّسبة إلى المحارم.

هذا في غير المرأة المسنّة التي لا ترجو النّكاح، وأمّا هي فيجوز لها إبداء شعرها وذراعها ونحوهما، ممّا يستره الخمار والجلباب عادة، ولكن من دون أن تتبرّج بزينة([61]).

النُّقطة الرَّابعة: ما هي فلسفة الحجاب للمرأة؟

وقبل بيان فلسفة الحجاب والحكمة منه نذكر أموراً:

أوَّلاً: لا بدَّ أن يكون واضحاً أنَّنا مخلوقون ولسنا بخالقين أنفسنا، فخالقنا الذي هو واجب الوجود يعلم ما هو الصَّالح لنا وما هو غير الصّالح لنا؛ إذ هو موجدنا من العدم، فأنعم علينا بأن خلقنا ورزقنا، فهو أعلم بحالنا.

 فإذا اتَّضح ذلك نقول بأنَّ الخالق حكيم؛ إذ لا يفعل شيئاً عبثاً وبلا غاية؛ لأنَّ العبث يصدر من الجاهل غير العالم، والخالق هو العالم الذي ليس في ساحته جهلٌ، فإذا كنَّا ننزِّه الإنسان العاقل عن فعل العبث، فكيف بخالق هذا الإنسان العاقل؟!

فإذن الخالق لا يفعل شيئاً إلّا عن حكمة، بل لا يشرِّع شيئاً إلّا لمصلحة، وإذا كانت المصلحة شديدة بحيث لا يمكن تفويتها، ويسبب عدم الإتيان بها خسارة كبيرة أو مفسدة، فحينئذٍ يشرِّع الوجوب على الإنسان المكلَّف؛ حبّاً منه لهذا الإنسان وشفقة عليه، ولا يضرّه معصية من عصاه.

وإذا كان فعل شيء فيه مفسدة عظيمة على الإنسان، فهنا يشرِّع الخالق الحرمة.

وأمَّا الاستحباب فلمصلحة ولكن لا تصل إلى العقاب عند المخالفة بالتَّرك.

والكراهة فلمفسدة ولكن لا تصل إلى استحقاق العقاب عند المخالفة بالفعل.

فكلُّ الأحكام الشّرعيّة هي خاضعة للمصالح والمفاسد، ولا يعلم المصالحَ والمفاسدَ وعللَ الأحكام إلّا الله سبحانه، أو من أراد إطلاعه من الأولياء من عباده.

ونحن باعتبار قصور عقولنا عن إدراك المصلحة الحقيقيّة والعلّة الواقعيّة للحجاب، لن نتعرض إلى ذكر العلل، ولكن يمكن التَّأمّل في كلمات أهل البيتq والعلماء، واستلال جملة من الحِكَم التي تبيِّن لنا نحواً من أنحاء فلسفة الحجاب، فنذكرها تباعاً.

الأولى: الاطمئنان النّفسيّ

وذلك أنَّ المرأة إذا لم تكن متستِّرة، فهي عرضة لنظر الغير، وعرضة لهجوم غيرها عليها؛ إذ إنَّ غريزة الجنس من أقوى غرائز الإنسان، التي تجعل الإنسان غير المهذّب نفسه والمطيع لغرائزه أكثر من الحيوان، فلا يرى ما يردعه عن أن يشبع غريزته، ولو بفعل الحرام والتّعدّي على الآخرين، ودونك القصص اليوميّة التي تنقل في الصّحف عمّا يجري في الدّول الغربيّة، فقد تعيش المرأة -في بعض المجتمعات- غير المتسترة في اضطراب نفسيّ وقلق، بينما لو لم توفِّر المرأة المقتضي لذلك وتسترت فيمكن أن يكون لها ذلك الاطمئنان النّفسيّ.

الثَّانية: استحكام الرَّوابط العائليّة

فعندما تكون المرأة وحدها لزوجها، أي لا يراها غير زوجها، فكأنَّما الزَّوج لا يرى غيرها وهي لا ترى غيره، فهنا تقوى العلاقة بين الزَّوجين وتقوى الألفة بينهما، بينما إذا لم تكن المرأة متستِّرة، فهنا فمن السَّهل أن يراها الآخرون، بل قد يفكِّر الآخرون فيها بعد نظرهم لها، وهذا يؤدِّي إلى أنَّ الآخرين قد يقطعون علاقة الزَّوجين؛ لأجل العقد على زوجته، وكم هي القصص التي فسخت فيها العقود؛ بسبب نظر الآخرين لغير أزواجهم، وبالتَّالي إذا رغب شخص وليس عنده ورع، فيفعل أيُّ شيء يمكنه في سبيل العقد على تلك المرأة.

ولكن لو كانت المرأة متسترة محتشمة عفيفة، فهي بذلك لا تخلق الأرضيّة للذّئاب البشريّة.

الثَّالثة: قيمة المرأة واحترامها

المرأة المسلمة ينظر إليها الإسلام على أنَّها جوهرة، فهي جوهرة كلَّما تحصَّنت وتستَّرت عظم شأنها وعلت منزلتها، والحجاب يعلي من شأنها، ولا يقيِّدها كما قد يُتوهَّم، فالمرأة المتستِّرة عن الأجانب هي تحمي نفسها عن ضعاف النُّفوس، فمقام المرأة يعلو ويرتفع كلَّما حافظت على حجابها، فبالحجاب تكون أطهر {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ}(الأحزاب:53)، ولعلَّ المراد من الآية أنَّك أيَّتها المرأة، تكونين طاهرة روحيّاً بالحجاب والتَّستّر والعفاف.

الرَّابعة: ضمان العفاف المجتمعيّ

وذلك أنَّ المتستِّرة تضمن سلامة الأجواء الاجتماعيَّة عن عناصر الإغراء من المرأة للرُّجل الأجنبيّ؛ لأنَّ من شأن الإغراء -بحسب سنن الحياة- أن يجذب الرَّجل للعلاقة الخاصَّة، فهذه الفريضة تقي المجتمع عن منافيات العفاف وأضرار العلائق غير المشروعة، ومن الواضح أنَّ المرأة بطبيعتها هي الأكثر تضرُّراً من الممارسات اللاأخلاقيَّة، ومن المشهود في المجتمعات التي لا تتقيَّد بالحجاب أنَّ ذلك يؤدِّي إلى عدم خلُّوه من المفاسد الأخلاقية. 

النُّقطة الخامسة: أدلّة لزوم الحجاب

الدَّليل الأوَّل: آية الجلباب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}(الأحزاب:59).

أوّلاً: سبب نزول الآية

ورد "إنَّ النّساء كُنَّ يَخْرُجْنَ إِلَى الْمَسْجِدِ ويُصَلِّينَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِe، وإِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ خَرَجْنَ إِلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ والْعِشَاءِ الْآخِرَةِ والْغَدَاةِ: يَقْعُدُ الشُّبَّانُ لَهُنَّ فِي طَرِيقِهِنَّ فَيُؤْذُونَهُنَّ، ويَتَعَرَّضُونَ لَهُنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ الْمُؤْمِنِينَ..} إِلَى قَوْلِهِ: {ذلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}([62]).

ثانياً: بيان معنى الآية

وأمَّا معاني المفردات فقد تقدَّم توضيحه في البحث، وبيان المعنى الكلّيّ أنَّه كان نساء العرب قبل الحرائر منهنَّ يلبسن الخمار، ويضربْنه خلف ظهرهن، بحيث تظهر الأقراط، والصّدر، ومقدَّم الرّأس فيكون ما ذكر ظاهراً، وكن يلبسن فوقه جلباباً وهو الثَّوب الواسع الذَّيل، يوضع على الرّأس ويصل إلى الرّكبة تقريباً.

ثالثاً: تقريب الاستدلال بالآية

  1. الآية تبيِّن لزوم إدناء الجلباب لا أصل وضع الجلباب؛ باعتبار الأمر بالإدناء للجلباب ولم تأمر بأصل الجلباب.

ومن هنا يتبيَّن أن القول بأنَّ المقصود هو أصل لبس الجلباب بعيد؛ لأنَّ الآية كأنَّها تفرض أنَّهنّ يلبسن الجلباب لا أنّهن لا يلبسنه من رأس، بل كنَّ يلبسنه ولكن ولا يدنينه، فالأمر الجديد هو الإدناء لا اللبس، وحمل الإدناء على اللبس خلاف الظَّاهر.

  1. قد يقال: الآية تشير إلى أنَّ الحرائر في الجاهليّة محصَّنات بالنَّظر العرفيّ، لا يجرأ أحد من ضعاف النُّفوس أن يتحرَّش بهن، بخلاف الإماء، فهنا تأمر الآية الحرائر؛ حتَّى يتميَّزن عن الإماء فلا يتحرَّش بهنَّ، فكأنَّ الآية جاءت للتَّفريق، وبما أنَّ في زماننا لا يوجد إماء وجواري، فالهدف والغاية المذكورة في الآية قد ارتفع، فلا يجب إدناء الجلباب.

الجواب: 

أوّلاً: لا دليل على تقييد الآية الكريمة بالحرائر دون الإماء؛ إذ الآية مطلقة والتَّقييد يحتاج إلى دليل وقرينة، ولا يوجد من ذلك شيء.

ثانياً: الآية -كما تقدَّم- تأمر بإدناء الجلباب لا لبس نفس الجلباب، ومن المعروف أنَّ الإماء والجواري كنّ لا يلبسن الجلباب عادة، فالتَّفريق قد كان موجوداً وحاصلًا آنذاك، فكيف تأتي الآية لتحصيل الحاصل!

ثالثاً: في تفسير الآية وسبب نزولها قد ذكروا بأنَّه من الأسباب هو التّحرّش بالإماء، فالأوفق هو الخطاب لهنَّ بلبس الجلباب لا أمر الحرائر بإدناء الجلباب، وهذا كاشف عن بعد هذا التَّفسير.

فالمناسب أنَّ الآية بحسب السِّياق هي دفع إيذاء النِّساء، وأن تكون النِّساء عفيفات.

صحيح أنَّ الخمار غير واجب على الإماء، ولكنَّه مطلوب وراجح شرعاً.

فالمحصَّل أنَّ الآية تدلُّ على لزوم إدناء الجلباب(الحجاب بالمعنى العرفيّ) لكلّ النِّساء، غايته أنَّ الإماء بدليل آخر غير الآية نستقيد عدم وجوبه عليهنّ مع مطلوبيّته لهن.

  1. إن قلتَ: إنَّ الآية الكريمة لا تدلُّ على حكم إلزاميّ وهو وجوب الحجاب؛ وذلك أنَّ الآية قد صدَّرت بالخطاب للنّبيّe لا للرّسول، وما كان كذلك فهو تعليم وإرشاد مرحليّ لتدارك مفسدة، نعم لو صدَّرت بالخطاب للرّسول لكان الحكم إلزاميّاً؛ وذلك لأنَّ ما يأتي بعد الرّسول يكون حكماً إلزاميّاً، فلا تدلّ الآية على حكم إلزاميّ.

قلتُ:

أوّلاً: لا دليل على هذا التَّفريق المذكور بين الخطاب للنّبيّ والرّسول، مع التّسليم بوجود فرق بين الرّسول والنّبيّ، إلّا أنّه في المقام وفي مثل هذا الخطاب فهو إلزاميّ.

ثانيّاً: ذيل الآية {وكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} لا يناسب أن يكون الحكم تعليماً وإرشاداً؛ إذ إنّ مخالفة التّعليم والإرشاد لا يوجب العقاب، فيقال للمخالف إنّ الله غفور رحيم، فالمناسب لذيل الآية هو الحكم الإلزاميّ.

الدَّليل الثَّاني: (آية الخمار): {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ..}(النور:31).

أوّلاً: سبب النُّزول: أنَّ النِّساء كنَّ في زمان النَّبيّ، يغطِّين رؤوسهنَّ بالأخمرة (وهي المقانع)، ويسدلنها من وراء الظَّهر، فيبقى النَّحر (أعلى الصّدر) والعنق لا ستر لهما، فأمرت الآية بليّ (أي: إسدال) المؤمنات للخمار على الجيوب، فتضرب الواحدة منهنّ بخمارها على جيبها (أعلى الجلباب)؛ لتستر صدرها.

ثانياً: تقريب الاستدلال بالآية:

1ـ إنّها تتضمَّن حكماً عامّاً: بأن تغضَّ المؤمنات أبصارهنَّ وأن يحفظن فروجهنّ. وهو حكم يقصد إلى نشر وتأكيد العفَّة بين المؤمنات عموماً. وتفيد أنَّ بعضهن كنَّ يطَّلعن على وجوه الرِّجال. كما تفيد الآية السَّابقة عليها: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ..}(النور:30)  أنَّهم كانوا يطَّلعون على وجوه بعض النِّساء.

2ـ الآية في صدد بيان حكم الزِّينة، التي تكون خفيَّة والتي تكون ظاهرة.

وهنا نقول بشكلٍ مختصر: بأنَّ المعروف بين الفقهاء أنَّ المراد بالزِّينة، هو تمام البدن، وكلُّ ما تضعه المرأة على البدن من زيادات تجملها، فهذه تحرم إلّا ما استثني.

والزِّينة الظّاهرة أو التي يجوز للنِّساء والفتيات إبداؤها، هي الوجه والكفين  والكحل والسّوار والأقراط والخواتم على اختلاف بين الفقهاء؛ فبعضهم يحرم حتى إظهار الوجه والكفين، وبعضهم يحرِّم مطلق الزِّينة في الكفين حتى الخاتم، -وكلّ يرجع إلى من يقلّده-؛ والزّينة الخفيّة هي ما عدا ذلك، مثل: الفخذ والصّدر والبطن وغيرها. وهذه لا يجوز أن تبدو إلّا لمن عدَّدتهم الآية، ومنهم: الأزواج، والآباء، والأبناء، وآباء البعول، وأبناء البعول (من زوجات أخرى)، والإخوة، وأبناء الإخوة، أو نسائهن.

وفي هذا الصَّدد فإنَّ على المرأة ألّا تضرب برجلها، أي تضع ساقاً على ساق -كما فسر بعضٌ-، أو لا تضرب بقدمها على الأرض، فيظهر ما يخفى من زينة الفخذ أو غيره، أو ما تضعه من أساور على قدمها. 

3ـ ما ورد في الآية من جملة {..وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ..} لا يعني فرض الخمار (الغطاء) أصلاً وشرعاً -كما تقدَّم في الآية السَّابقة-، لكنَّه يرمي إلى التَّعديل في عادة كانت قائمة وقت نزول الآية، بوضع الخمار ضمن المقانع وإلقائه على الظَّهر، بحيث يبدو الصَّدر وشيء من الرَّقبة والأذنين ومقدَّمة شعر الرَّأس ظاهرين. ومن ثمَّ كان القصد هو تعديل العادة ليوضع الخمار على الجيوب، وكانت الجيوب في ذلك الزَّمان، ولا زالت في هذا الزّمان، توضع على الصَّدر.

  1. قوله تعالى {وَلٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}، والمقصود في غير الوجه والكفين، فتدلّ على وجوب ستر تلك المواضع وحرمة كشفها، وحيث إنَّ من الواضح عرفاً أنّه لا موضوعيّة لستر الزّينة، وإنّما هو مقدِّمة لعدم نظر الرَّجل إليها، فتثبت حرمة نظر الرّجل إلى تلك المواضع.

ففي صحيحة الفضيل حيث ورد السُّؤال فيها عن الذّراعين من المرأة، هما من الزّينة التي قال اللّٰه!: {ولٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ}؟ فأجابg: >نعم<([63]). فدلَّت على حرمة إبدائهما لغير الزَّوج ومن ذكر في الآية الكريمة.

إن قلتَ: الآية قسَّمت الزّينة، فقالت بجواز الإبداء للظّاهر دون غيره، والظّاهر هو ما أظهره الله كالشّعر والرّقبة والصّدر والبطن والسّاقين، وأمَّا الباطن فهو ما خلقه الله مستوراً وهو الجيوب والجيب هو كلّ فتحة لها طبقتان، فينطبق ذلك على ما بين النّهدين وتحتهما، وتحت الإبطين وما بين الإليتين وغيره، فلا يجب ستر الرّأس.

قلتُ: 

أوّلاً: هذا خلاف كلام أهل اللغة، ولم نجد ما ذكر في كلام اللغويّين.

ثانياً: الآية تفرض أنَّ الظّاهر والباطن هما من الزّينة، فهل ما ذكر من الضَّابط والمصاديق التي هي من غير الظّاهر من الزّنية؟ 

ثالثاً: يلزم التَّكرار في الآية؛ حيث ذكرت الآية: { ولٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ..} ثمَّ يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، فعلى هذا التَّفسير أنَّ المراد من المقطع الأخير هو النَّهي عن إبداء الزِّينة، فهذا خلاف بلاغة القرآن الكريم.

الدَّليل الثَّالث: الأخبار الدالَّة على حرمة النَّظر  إلى وجه المرأة ويديها، وذلك في الرِّواية المفسِّرة لهذه الآية الكريمة: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ..}([64])، بتقريب أنَّ المقصود من الأمر بغضِّ البصر ترك النَّظر.

 ففي معتبرة سعد الإسكاف الواردة في مورد نزول الآية عن أبي جعفرg قال: >استقبلَ شابٌّ من الأنصار امرأةً بالمدينةِ، وكانت النّساء يتقَنَّعْنَ خَلفَ آذانِهِنَّ. فنظرَ إليها وهي مُقبِلةٌ، فلمَّٰا جازت نَظَر إليها، ودخلَ في الزُّقاق -قد سمّٰاهُ ببني فلانٍ- فجعل ينظرُ خلْفها، واعترضَ وجهه عظمٌ في الحائط أو زُجاجَةٌ فَشُقَّ وجْهُهُ، فلمَّا مضت المرأةُ نظر فإذا الدِّماءُ تسيلُ على ثَوْبِه وصدره، وقال: واللّٰه لآتينَّ رسول اللّٰهe ولأُخبرنَّهُ، فأتاهُ فلمَّا رآهُ رسول اللّٰهe قال: ما هذا؟ فأخبرهُ، فَهَبَط جبرئيلُg بهذهِ الآية: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ}([65]).

بتقريب أنَّه لولا نظر الشَّابّ الأنصاريّ إلى وجه المرأة ومحاسنها، لم يصر مجذوباً لها لكي يدخل في الزُّقاق، فينشقّ وجههُ باعتراض العظم. وبمقتضى مناسبة مورد نزول الآية لا بدَّ أن يكون المقصود من الأمر بغضِّ البصر إيجاب ترك النَّظر. ويمكن أن يقال: مقتضى إطلاقه حرمة النَّظر إلى جميع بدن المرأة حتَّى الوجه والكفّين.

إذن فهي تدلُّ بالأولويَّة القطعيَّة على حرمة النَّظر إلى غيرهما من أعضائها.

الدَّليل الرَّابع: الرُّوايات الدَّالة على جواز النَّظر إلى شعر المرأة وساقها لمن يريد التَّزويج منها، أو يريد شراء الأمة، كصحيحة محمَّد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفرg عن الرَّجل يريد أن يتزوَّج المرأة أن ينظر إليها؟ قال: >نعم، إنَّما يشتريها بأغلى الثّمن<([66]).

فإنَّ اختصاص الحكم فيها بمريد التَّزويج والشِّراء، يدلُّ بوضوح على الحرمة، إذا لم يكن الرَّجل بصدد الزَّواج منها، أو شرائها.

الدَّليل الخامس: معتبرة السُّكوني الدَّالة على جواز النَّظر إلى نساء أهل الكتاب، معلِّلة ذلك بأنَّهن لا حرمة لهنَّ، فعن أبي عبد اللّٰهg، قال: >قال رسول اللّٰهe: لا حرمة لنساء أهل الذِّمّة أن ينظر إلى شعورهنّ وأيديهنّ،([67]) فإنَّها تدلُّ على حرمة النّظر إلى المسلمة؛ نظراً إلى كونها محترمة من حيث العرض.

الدَّليل السَّادس: النُّصوص الدَّالة على جواز النَّظر إلى نساء أهل البادية؛ باعتبار أنَّهنّ لا ينتهين إذا نهين؛ لصحيحة عبَّاد بن صهيب، قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السلام) يقول: >لا بأس بالنَّظر إلى رؤوس أهل تهامة، والأعراب، وأهل السّواد والعلوج؛ لأنَّهم إذا نهوا لا ينتهين([68]).

فإنَّ التَّعليل يكشف عن حرمة النَّظر إلى المرأة بحدِّ ذاته، وإنَّ الحكم بالجواز في أهل البادية إنَّما ثبت؛ نتيجة إلغائهنَّ لحرمة أنفسهنَّ، وإلّا فالحكم الأوَّلي فيهن أيضاً هو عدم الجواز.

النُّقطة السَّادسة: الشُّبهات حول الحجاب

الشُّبهة الأولى: الحجاب يمنع المرأة من التَّعلّم والعمل والرّياضة وو..، فيقيدها ويمنعها من التَّقدّم في حياتها.

الجواب: الإسلام حينما فرض الحجاب فقد كرَّم المرأة وحافظ عليها؛ كي لا تتعرَّض للإيذاء من قبل الشَّواذ والفسّاق وضعاف النُّفوس، والحجاب لا نسلِّم أنَّه يمنع المرأة من التَّقدّم في شتَّى المجالات، فقد وصلت كثير من النِّساء المسلمات إلى أعلى المستويات في العلم والعمل وشتَّى المجالات وهنَّ محجَّبات، ولذا نرى كثيراً من النِّساء في عدَّة مجالات كالطَّبّ والتَّدريس والإدارة.

الشُّبهة الثَّانية: المرأة حرَّة فيما تصنع، فلها أن تستر رأسها ولها إلّا تستر، وليس لأحد أن يفرض عليها شيئاً لا تقبله، ولا يوجد إكراه في الدّين {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ..}(البقرة:256)، فلمَ تُكرهون المرأة على الحجاب؟ 

الجواب: 

أوّلاً: الإنسان مخلوق من قبل الله تعالى، فالخالق الذي خلقنا له الحقُّ في أن يلزمنا بأي إلزام وليس لنا حقُّ الاعتراض.

ثانياً: نعم الإنسان حرٌّ، ولكنَّ هذه الحرّيّة مقيَّدة بألّا تخالف الحدود الإلهيّة، فعند مخالفة الحدود الإلهيّة يكون الإنسان قد تجاوز حدَّه، فلا بدَّ من تحديد سعة وضيق الحريَّة في مرحلة سابقة بما وضعها لنا سيُّدنا وإلهنا وخالقنا ومالكنا، ثمَّ يأتي الكلام في أنَّه هل الإسلام قيَّدهما أم لا.

ثالثاً: هذا الاستشهاد بالآية غير صحيح؛ فيحتمل أن يكون المعنى هو الإخبار أنَّ دين الإسلام هو دين المنطق والعقل والحكمة، فلا يحتاج إلى إجبار أحد على أن يعتنقه، فكلُّ إنسان إذا أعمل عقله والتفت إلى فطرته يجد عقيدة الإسلام وأحكامه منسجمة مع الطَّبيعة والفطرة والعقل، وبالتّالي يعتنقها باختياره دون إكراه.

وهناك نقاش في فهم الحرّيّة العقديّة من هذه الآية، أتركه لمحلّ آخر فهو ليس بحثنا، ويكفي ما ذكرناه.

الشُّبهة الثَّالثة: الفكر الإسلاميّ لا يتناسب مع متطلَّبات الزَّمان والمكان؛ فالحجاب كان في زمن النَّبيّ مناسباً لذلك الزَّمان؛ فذلك الزَّمان لا تعمل المرأة في شتَّى المجالات كاليوم، وأمَّا هذا الزَّمان فالذي يتناسب مع عمل المرأة في شتَّى المجالات هو عدم لزوم الحجاب.

الجواب: من الذي يحدِّد أنَّ هذا هو المناسب أم لا؟ هل هو الذَّوق أم الأهواء؟ فهذه تختلف من شخص إلى شخص، ومن مكان إلى آخر ومن زمان إلى زمان، والحجاب تشريع إلهيّ من قِبَل خالق الكون، وهو سبحانه الأعرف بما يصلح الإنسان وبما يفسده.

ثمَّ إنَّا لا نسلِّم عدم مناسبة الحجاب لهذا الزَّمان أو غيره، بل الحجاب مناسب لهذا، وكلُّ زمان وفي شتَّى المجالات.

الشُّبهة الرَّابعة: الحجاب يحول دون إبراز المرأة جمالها، فهو يحجبها ويغطِّي أهمَّ ما في المرأة؟

الجواب:

 أوّلاً: لا نسلم أنَّ الحجاب الشّرعيّ يحجب جمالها، وأنَّ جمالها في كشف بدنها.

ثانياً: من قال بأنَّه يجب عليها أن تبرز مفاتنها وجمالها؛ فهي ليست بضاعة.

ثالثاً: وهل جمال البدن هو أهمُّ ما في المرأة؟ نعم، الغرب المتحلِّل يصوِّر لنا المرأة أنَّها بضاعة، ولكنَّ الواقع ليس كذلك، فالجمال جمال الرُّوح أوَّلاً، والبدن يبلي ويفسد شيئاً فشيئاً مع كِبَرها.

الشُّبهة الخامسة: أنا امرأة وليس القرآن حكراً على أحد، فلي حقَّ التَّفسير، ولم أفهم من آيات السِّتر والحجاب أنَّ الحجاب أمرٌ إلزاميّ، فلا يجب عليَّ أن أتستَّر.

الجواب: 

أوّلاً: أمّا أنَّ القرآن ليس حكراً على أحد، فإن كان المراد هو القراءة والتَّدبُّر في آياته فنعم، كيف لا وقد قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ..}(النساء:82)، ولكن لا يمكن التَّدبُّر بلا مفاتيح وآليَّات، ومن الآليات علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، وعلم الأصول والرِّجال والفقه، وقد تحتاج إلى الفلسفة وعلم الكلام وغيرها، وفهم روايات أهل البيتq الذين هم أدرى بالذي في القرآن، يحتاج إلى هذه العلوم وغيرها، ولا يمكن للعقل أن يستقل بنفسه في التَّدبر. 

نعم يمكن التَّدبر في بعض الآيات التي هي مورد اتفاق في فهمها، وليست من المتشابهات.

وأمَّا إن كان المقصود هو التَّفسير فما ذكر ليس بصحيح؛ إذ إنَّ التَّفسير كذلك يتوقَّف على عدَّة علوم كعلوم اللغة وعلم الفقه والحديث والرَّجال والأصول وغيرها، وهذه عادة يدرسها بإتقان قليل، فإذا كان المستشكلّ قد درس ذلك وفهم هذه العلم فله أن يفسِّر.

وإلّا إذا استند الإنسان إلى عقله فقط، فإنَّه يصدق عليه أنَّه فسَّر القرآن برأيه، والذي قد وردت روايات عن أهل البيت في ذمَّهم.

ثانياً: هذا حكم شرعيّ إلزامي وليس أمراً مباحاً، فكلٌّ يرجع إلى المرجع الذي يكون تقليده مبرئاً لذمته؛ للزوم التَّقليد -كما ثبت في محلِّه- وليست هذه المسألة من المسائل التي يمكن للمكلَّف العمل بها أو تركها باختياره.

الشُّبهة السَّادسة: المهم في الإنسان الطَّيبة والوجه الضَّحوك مع النَّاس، والأخلاق الحسنة، وأنَّ يكون القلبُ نظيفاً، وتكون المعاملة حسنة، ولا يجب الحجاب؛ إذ هو أمر ظاهري لا يكشف عن الباطن.

خصوصا إذا كانت خادمة لأهل البيتq، فهذه الخدمة تشفع لها يوم القيامة، فلا تنفِّروها من الخدمة؛ بالطَّلب منها أن تلبس الحجاب.

الجواب:

 أوّلاً: المهمّ في حياة الإنسان هو طاعة الله تعالى، واكتساب رضاه وتجنُّب معصيته وغضبه.

ثانياً: لتكن هذه المرأة طيَّبة القلب وغيرها من الصِّفات الحسنة وتكون مع ذلك محجَّبة؛ فلا منافاة، بل الحجاب تكليف لوحده، فقد يجتمع عنوان طيبة القلب والحجاب وقد لا يجتمعان، كما يقال بينهما عموم من وجه، والمطلوب العفاف القلبيّ والظَّاهري بالحجاب.

ثالثاً: خدمة أهل من أعظم القربات، ولكن قد يغالط الإنسان نفسه بالطَّاعة والمعصية في وقت واحد، ويكون أشبه بالمرجئة؛ وكأنَّ الطَّاعة لا تضرُّ معها المعصية، فالخدمة طاعة والسُّفور وعدم ستر الرّأس مع العلم والقصد وعدم العذر معصية، فلا يغالط الإنسان نفسه.

ثمَّ أهل البيتq الذين نخدمهم هم من أمرونا بالحجاب للمرأة.

وأمَّا تنفيرهن عن الخدمة، فلا معنى لنفرتهنّ أو امتعاضهنّ؛ إذ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تكليف إلهيّ، علَّمنا إيّاه أهل البيتi الّذين نخدمهم، نعم يبقى أن يختار الإنسان الأسلوب المناسب.

الشُّبهة السَّابعة: إذا أراد الله أن يهدي هذه المرأة غير السَّاترة لرأسها، فسوف يهديها في يوم من الأيام، فلا تكلِّفوا أنفسكم بأمرها.

الجواب: الهداية لها أسبابها، فما لم يوفِّر ويهيئ الإنسان الأرضيَّة للهداية فبعيد أن تحصل الهداية، ثمَّ هذا لا ينافي الحكم التَّشريعي والتَّكليف بلزوم الحجاب، فما لم تستر رأسها تكون عاصية، فكيف باستمرارها في المعصية فهل هذا تمهيد لأرضّية الهداية؟

الشُّبهة الثَّامنة: الإنسان لا بدَّ أن يفعل الشَّيء عن قناعة، فما لم يقتنع الإنسان بشيء فلن يفعله برغبة، وما دمتُ لستُ مقتنعة فلن ألبسَ حجابي، إلّا بعد القناعة؛ لكيلا يكون لباسي للحجاب بلا قناعة منّي.

الجواب: الحجاب وستر الرأس ليس أمرا تأتي فيه القناعة، بل حكم شرعيّ إلزاميّ، اقتنع من اقتنع ورفض من رفض، ومتى كانت الأحكام الإلزامية تدور مدار القناعة وعدمها؟ فهل أنَّ العبد إذا أمره سيده ومولاه ومالكه وخالقه لا بدَّ أن يقتنع حتى يتحرَّك؟ وهل الجندي لا يتحرَّك إلا بعد اقتناعه بأوامر قائده؟

الشُّبهة التَّاسعة: بعض النَّساء المتحجِّبات ظاهرهنَّ شيء وباطنهنَّ شيء آخر، فنجد بعض النِّساء متستّرة ظاهراً، والحال أنَّها متكدّرة -إن صحّ التّعبير- وليست بنظيفة في الباطن؛ فتحمل الأحقاد والأضغان، إذن كلُّ المحجبات هكذا، فلا داعي أن ألبسه؛ لأنَّه لن يغير من شخصيّتي.

الجواب:

 أوّلاً: نحن لا نعلم ببواطن النَّاس، فينبغي أن نحسن الظّنّ بالآخرين، ولا نتهمهم.

ثانياً: لو سلَّمنا وجود بعض النِّساء عُرفن بذلك، فما يفعلونه في الباطن ليس بصحيح، وحسابهم عند ربِّ العالمين، ولسنا نحن من نحاسبهم.

ثالثاً: من أين هذا التَّعميم؟ فلو ثبت في بعض فمن أين هذا التّعميم لكل المحجّبات؟!

رابعاً: الحجاب حكم شرعيّ إلزاميّ مخاطب به النّساء المكلَّفات، فكلُّ امرأة مكلَّفة بهذا الحكم الشّرعي ولا علاقة لها بالآخرين، ولا علاقة له بالتغيُّر من عدمه، فإذا لم تغيِّر الصَّلاة في الإنسان من جهة النَّهي عن الفحشاء والمنكر فهل يتركها؟

وهل يترك الجندي أمر قائده لأنَّه لم يرَ أثرَ أمرِ قائده؟

الشُّبهة العاشرة: الحجاب وستر الرّأس يبعد الشَّباب عنها، وبالتَّالي يمضي وقت الزَّواج ويفوتها قطار الزَّواج كما يقال، بينما لو كانت غير متسترة، فإنه تكون في معرض نظر الرِّجال، فيتقدَّمون لها لخطبتها والزّواج منها، فلا يفوتها القطار.

الجواب:

 أوّلاً: لا علاقة ولا ملازمة بين خطبة المرأة والحجاب؛ فإذا كان لها نصيب ورزق ستحصل عليه، حتَّى لو كان في قاع البحر، كثير من المؤمنات لا يخرجن من بيوتهنَّ، ومع ذلك تزوَّجن وعشن حياةً سعيدة مستقرِّة.

ثانياً: هذا الكلام مبني على نظرة خاطئة للمرأة، وأنَّها سلعة وبضاعة، وهذا خلاف نظرة الإسلام للمرأة وأنَّها جوهرة مصانة.

خاتمة

مسألة الحجاب وستر المرأة للرّأس هي من المسائل الضّروريّة الواضحة، التي لا يتطرَّق إليها الشَّكّ، ولزوم الحجاب هو حكم شرعي إلهيّ وراءه مصلحة شديدة، بحيث يكون ترك هذه الفريضة موجباً لخسران هذه المصلحة، وموجباً لحصول المفسدة العظيمة.

 فعلى المرأة المسلمة أن تفتخر بحجابها الشَّرعيّ، والذي هو شرف وفخر لها وفيه تكاملها، ولا تصغي لما يطرح من شبهات ووساوس، من قبل من يدَّعي الدِّفاع عن المرأة، وهو لا يريد الخير لها، تحت عناوين برَّاقة لامعة تغري.

فينبغي ألّا نحيد عن الحكم الشَّرعيّ والتَّكليف الإلهيّ قيد أنملة، ففي السَّير على خطِّ القرآن والعترة والفقهاء الفلاح والسَّعادة في الدَّارين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 


([1]) كتاب ((مدخل عامّ إلى الأسفار المقدّسة)) ((A General Introduction to the Sacred Scriptures))، في مبحث ((لباس العبريّات)).

([2]) ولد إدموند ستابفر عام 1844 في عائلة بروتستانتيّة. وهو حفيد فيليب ألبرت ستابفر، شقيق الكاتب بول ستابفر.

وفاته عام 1908.

أهم كتاباته هي فلسطين في زمن يسوع المسيح (1883)، ويسوع المسيح وشخصه (1891)، ونسخة فولكلورية فرنسية من العهد الجديد (1896)، كما أصدر خطبتين جماعيّتين (1904 و1908).

ويكي بيديا.

([3]) انظر

Edmond Stapfer, La Palestine au temps de Jésus-Christ d’apres le Nouveau Testament, l’historien Flavius Joséphe et les Talmuds , Paris: Librairie Fischbacher, 1892, p.149.

([4]) انظر Walter A. Elwell and Philip W. Confort, Tyndale Bible Dictionary, Ill:: Tyndale House Publishers,1001, p. 328

([5]) انظر التّرجمة الإنجليزيّة, Tertullian, ‘De Corona,’ in the Ante-Nicene Fathers, Buffalo: The Christian Literature Publishing Company, 1887 ,3/95.

وكذلك انظر؛ Shaye J. D. Cohen, The Beginnings of Jewishness: Boundaries, Varieties, Uncertainties, California: University of California Press, 1999, p. 31.

([6])

Jacob Neusner. ed. Chief, Dictionary of Judaism in the Biblical Period:450 B.C.E. to 600 C.E., New York: Macmillan Library Reference, 1996, 2/656

([7])James Hastings, ed. A Dictionary of the Bible,Hawaii: The Minerva Group, 2004, 4/848.

([8]) تنايتك Tannaitic: من الكلمة العبريّة ((تنايم))  وهم حكماء الحاخاميّين اليهود، الّذين سجّلت أقوالهم في التّلمود. وتمتد فترة (( التنايتك)) في التّعريف الشّائع عند النّقّاد من سنة 10م إلى سنة 220م, وتبدأ من تلاميذ ((شاماي)) و((هلِّل)) وتنتهي عند معاصري الحبر ((يهوذا هانازي)). 

ويكي بيديا

 

([9])(انظر؛ Benno Przybylski, Righteousness in Matthew and his World of Thought, New York: Cambridge University Press, 2004, p.39

([10]) زوز كانت زوز عملة معدنيّة مصنوعة من الفضّة عند الحضارة اليهوديّة خلال فترة ثورة بار كوخبا، بالإضافة كانت تسمية إلى عدّة من النّقود الفضّيّة غير يهوديّة. كانت تستخدم قبل وبعد ثورة بار كوخبا. كانت التّسمية تستخدم خلال عدّة من العصور التّاريخيّة كالإغريق وعملتهم دراخما حتّى العصر الرّوماني وعملته ديناريوس، وبعد ذلك الفئة الرّبعيّة لعملة بار كوخبا. وقد اجتاحت العملة اليهوديّة المتمرّدة زوز غيرها من العملات كالدّينار الامبراطوريّ الرومانيّ، أو الدّراخمة الرّومانية الرّيفية لفيسباسيان، تيتوس, دوميتان، تراجان, وهادريان. أربع فئات من زوزيم، دراخما أو ديناري يشكلون شيكل، سيلا أو تيترادراكم.

ويكي بيديا

 

([11])Menachaem M. Brayer, op. cit., p.139  .   

([12])Shmuel Herzfeld  ولد سنة 1974م: حبر يهودي أرثودكسي. يرأس (الكنيس القوميّ) في العاصمة الأمريكيّة واشنطن دي سي. له عدد من الأبحاث والمقالات.

ويكي بيديا

([13])Shmuel Herzfeld, op. cit.

([14])الحسيديّة من العبريّة أي ((تقوى)), تيار ديني يهوديّ محافظ, أسّس في القرن الثّامن عشر ميلاديّاً في شرق أوروبا. له وجود ظاهر في فلسطين المحتلّة بين الجماعات المحافظة.

ويكي بيديا

([15])The Oxford Dictionary of the Jewish Religion , p.180.

([16])انظر؛M. Schiller, op. cit.,102-103.

([17]) انظر؛ Charles Hodge, Commentary on the First Epistle to the Corinthians, Michigan: Wm. B. Eerdmans Publishing, 1994, p.209.

([18])John Duncan Martin Derrett, Studies in the New Testament: Glimpses of the Legal and Social Presuppositions of the Authors, Leiden: Brill, 1977, p.171.

([19])انظر؛ A. Rousselle, ‘Body Politics in Ancient Rome,’ in G. Duby and M. Perrot, eds.A History of Women in the West, I: From ancient Goddesses to Christian Saints, Cambridge, Mass.: Harvard, 1992, p.315, D. B. Martin,The Corinthian Body, New Haven: Yale University Press, 1995, 229-249 (Quoted by, Anthony C. Thiselton, The First Epistle to the Corinthians: a commentary on the Greek Text, Michigan: Wm. B. Eerdmans Publishing, 2000, 801 ).

([20]) ديورانت ول، قصّة الحضارة، ج2، ص441-442.

([21]) مسألة الحجاب، الشّهيد مطهّري، ص31،32.

([22]) لسان العرب؛ ج‌7، ص: 197.

([23]) كتاب العين، ج‌3، ص: 86‌.

([24]) الصّحاح - تاج اللغة وصحاح العربية؛ ج‌1، ص: 107.

([25]) معجم مقائيس اللغة؛ ج‌2، ص: 143.

([26]) المحيط في اللغة؛ ج‌2، ص: 414؛

([27]) معجم صحاح اللغة، ومقاييس اللغة، والقاموس المحيط، باب (حجب).

([28]) مفردات ألفاظ القرآن، الرّاغب الأصفهانيّ، ص: 219.

([29]) لسان العرب؛ ج‌7، ص: 196.

([30]) الصّحاح - تاج اللغة وصحاح العربيّة؛ ج‌3، ص: 1095.

([31]) المحيط في اللغة؛ ج‌4، ص: 496.

([32]) معجم مقائيس اللغة؛ ج‌4، ص: 383.

([33]) النّور: 31.

([34]) لقمان: 19.

([35]) مفردات ألفاظ القرآن، ص: 608‌.

([36]) لسان العرب؛ ج‌4، ص: 254.

([37]) كتاب العين؛ ج‌4، ص: 262.

([38]) المحيط في اللغة؛ ج‌4، ص: 341.

([39]) الصحّاح - تاج اللغة وصحاح العربيّة؛ ج‌2، ص: 649.

([40]) معجم مقاييس اللغة؛ ج‌2، ص: 216.

([41]) مفردات ألفاظ القرآن؛ ص: 298،299.

([42]) معجم مقائيس اللغة؛ ج‌1، ص: 497.

([43]) لسان العرب؛ ج‌1، ص: 288.

([44]) المصباح المنير في غريب الشّرح الكبير للرّافعيّ؛ ج‌2، ص: 115.

([45]) المحيط في اللغة؛ ج‌9، ص: 94.

([46]) كتاب العين؛ ج‌6، ص: 132.

([47]) المحيط في اللغة؛ ج‌7، ص: 114.

([48]) الصّحاح - تاج اللغة وصحاح العربيّة؛ ج‌1، ص: 101.

([49]) تنويه: قد لا يوجد في كلمات المعصومين أو الفقهاء، استعمال لفظ الحجاب بالمعنى العرفيّ اليوم، وأحد استعمالاته اليوم وكثيراً ما يطلق على قطعة القماش، الّتي توضع على الرّأس، وتغطّي الشّعر والأذنين، والرّقبة والصّدر.

([50]) العقيلة والفواطم - الحاج حسين الشاكري - الصفحة ١٨.

([51]) موقع المرجع الأعلى آية الله العظمى السّيّد السّيستانيّ مدّ ظلّه.

([52]) فصل الخطاب في مسألة الحجاب والنّقاب، درويش مصطفى حسن، ص17و 41ومن 65 إلى 70.

([53]) منهاج الصّالحين، للسّيّد السّيستانيّ، باب الحجر.

([54]) نفس المصدر السابق، باب النكاح، الفصل الثاني، في أحكام النّظر واللمس والتستّر وما يلحق بها.

([55]) المصدر نفسه.

([56]) ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾. النساء: 23.

([57]) المصدر نفسه.

([58]) المصدر نفسه.

([59]) المصدر نفسه.

([60]) المصدر نفسه.

([61]) المصدر نفسه.

([62]) تفسير القمّيّ، ج2، ص196.

([63]) الكافي، للكلينيّ، ج5، 520.

([64]) النّور: 30.

([65]) الكافي، للكلينيّ، ج5، 521.

([66]) وسائل الشّيعة، للحرّ العامليّ، ج20، ص88.

([67]) الكافي، للكلينيّ، ج5، 524.

([68]) وسائل الشّيعة، للحرّ العامليّ، ج20، ص206.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا