الثّابت والمتغيِّر في الشّريعة

الثّابت والمتغيِّر في الشّريعة

الجلسة الأولى[2]

أعوذ بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الغويّ الرّجيم، بسم الله الرّحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين، واللّعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدِّين.

السّؤال الأوّل: ما تعريف المصطلحات الأوليّة: الثّابت، المتغيِّر، الشّريعة، الحكم الأوّليّ، والحكم الثّانويّ؟

الثّابت والمتغيِّر:

ليس للمتغيِّر والثّابت مصطلح خاصّ شرعيّ ولا متشرعيّ، هما مستعملان عند الباحثين بمعناهما اللّغويّ، فالمتغيِّر هو ما يأتي عليه التّغيير والتّحوّل، وأمّا الثّابت هو ما على خلاف ذلك، والمعنى ليس من المركّبات الاعتباريّة كالصّلاة والصّوم حتى تكون له أجزاؤه وشروطه وموانعه.

الشّريعة:

أمّا الشّريعة فهي منظومة الأحكام الإلهيّة التّكليفيّة والوضعيّة، وهي كذلك الأحكام الولائيّة التي تضبط حركة الإنسان في الحياة في دوائرها المختلفة من الدّائرة الصّغيرة إلى الدّائرة الكبيرة، ومجموع علاقاته مع الآخر.

الحكم الأوّليّ:

الحكم الأوّليّ هو الحكم الذي جُعل لموضوعه بلحاظ العنوان لذلك الموضوع، من غير ملاحظة أيّ قيود وأيّ عنوان طارئ كعنوان الاضطرار، الإكراه، الحرج أو الضرر، وغير ذلك. مثال ذلك: وجوب الصّلاة على المكلَّف، فعندنا مكلَّف، وعندنا فعل هو الصّلاة، وعندنا حكم متعلِّق بهذا الفعل وهو الوجوب، لم يُلحظ في إيجاب الصّلاة للصّلاة غير عنوان الصّلاة، فوجوب الصّلاة موضوعٌ على الصّلاة بما هي صلاة، وعلى المكلَّف بما هو مكلَّف.

الحكم الثانويّ:

قد يأتي عنوان آخر بسبب مزاحمة فعلٍ آخر للصّلاة:

كإنقاذ الغريق مثلاً، فنكون أمام حالة جديدة يخلقها التزاحم.

أو صلاة تسبِّب الموت لشخص[3]، فنأتي ونقارن بين الصّلاة والموت.

أو كالصّلاة وإزالة النّجاسة عن المسجد، فالصّلاة لها وقت ممتد والنّجاسة يجب إزالتها فوراً، فتُقدَّم إزالة النّجاسة.

الصّوم واجب على المكلّف بما هو صوم شهر رمضان، هذا الإيجاب على الصّوم بما هو صوم وليس أكثر من ذلك، ولكن هذا الصّوم قد يطرأ عليه طارئ يكون ضرريّاً أو حرجيّاً، وعندنا الحرج مرفوع.

فالصّلاة - بما هي صلاة -عنوانٌ أوّليّ، ووجوبها حكم أوّليّ، وكذلك الصّوم بما هو صوم -وهو عنوان أوّليّ-وجوبه حكم أوّليّ، أمّا الصّوم الضرريّ، أو الذي فيه تلف الحياة، فهذا ليس صوماً فقط، بل صوم بعنوان أنّه ضرريّ، فهذا صوم يسقط وجوبه، وإذا كان يسبِّب الوفاة يصل لحدّ الحرمة.

فالحكم الثانويّ هو الحكم المترتِّب على موضوع بلحاظ عنوان طارئ على ذلك الموضوع، كعنوان الضرر والحرج والاضطرار والإكراه.

مثال: أكل الميتة حرام، فأكل الميتة عنوان أوّليّ، وحرمة أكل الميتة حكم أوّليّ، لكن يأتي أنّ هذه الحرمة يضطر إليها المكلَّف اضطراراً بحيث لا حياة له بدون أن يتناول ما يسدّ رمقه منها، فهذا عنوان ثانويّ، طارئ، وهو عنوان الاضطرار إلى أكل الميتة، فيأخذ حكماً آخر وهو الإباحة أو الوجوب.

السُؤال الثّاني: هل الثّابت ما اتفقت عليه الأمّة؟

كلٌّ من الحكم الثّابت وما قد يُطلق عليه أنّه متغيِّر، وكلٌّ من الحكم الأوّليّ والثّانويّ حكمٌ شرعيّ.

الحكم الثّانوي كلّ ما هناك أنّه محدود ومُقدَّر بالحالة الطارئة، ففي جواز أكل لحم الميتة أو وجوبه فإنّ هذا الحكم ينتهي بانتهاء ظرف الاضطرار.

كلُّ الأحكام الولائيّة، والأوّليّة، والثّانويّة، قد لا يكون متّفَقاً عليها بكاملها، فالتّقية ثابتة في المذهب الجعفريّ، وليست كذلك في مذهب آخر، وهناك ثابت على مستوى الضّرورة الدِّينيّة، فكلّ المتديّنين يعرفون أنّ الصّلاة واجبة ويثبتون وجوبها، وهي ضرورة من ضرورات الدِّين، بينما هناك أحياناً ضرورة مذهبيّة، وقد يكون هناك ضروريّ فقهيّ.

والحقّ أنّ كلّ الأحكام التي شرّعها الله، أو جاءت في القرآن الكريم والسُّنّة المطهَّرة، ما علمناه منها وما لم نعلمه، ما اكتشفه الفقيه وما لم يكتشفه، وما وصل الزّمن إلى طرح السّؤال عنه وما لم يصل الزّمن إلى طرح السّؤال عنه، وكلّ ما كان مشرَّعاً عند اللهa -بعد انتهاء زمن النّسخ- فهو ثابت في عالم التّشريع.

فهناك عالَم يُسمّى عالَم التّشريع وآخر يُسمّى عالَم الفعليّة، فأيّ تغيُّر هو في عالَم الفعليّة وليس في عالَم التّشريع، فعلى مستوى التّشريع والجعل والمجعول فكلُّ الأحكام الإلهيّة -بعد انتهاء عملية النَّسخ- ثابتة ولا تغيٌّر فيها. أمّا كيف تواجه الأحكامُ الثّابتةُ حركةَ الزّمن وحركة التّطوّر فهذا سيأتي بيانه إن شاء الله.

السّؤال الثّالث: هل نستطيع أن نقول بأنّ ما يلزم حالة واحدة في زمان ومكان لأيّ شخصٍ وفي أيّ حالة هو الثّابت، وما دون ذلك هو المتغيِّر؟

سبق القول بأنّ الحكم أوّليّ وثانويّ، وأرجع فأقول: إنّ كلّاً من الحكم الأوّليّ والحكم الثّانوي ثابتٌ جعلاً ومجعولاً تبعاً لتقدير الموضوع، وكلاهما مشرّعان من اللهa، وهناك أحكام نُسخت[4]، وهناك أحكام مطلقة، فكلٌّ من الحكم الأوّليّ والحكم الثّانويّ مطلق في عالَم التّشريع، فهذا مشرِّع لعنوانه، وذاك مشرِّع لعنوانه، فالعنوان الأوّليّ له حكمه الأوّليّ، والعنوان الثّانويّ له حكمه الثّانويّ ويبقى مرتبطاً به، والموضوع مأخوذ بنحو تقدير الوجود، بمعنى أنّه كلَّما وُجد هذا الموضوع خارجاً كلَّما ثبت له هذا الحكم فعلاً، فهو إذاً ثابت له في عالَم التّشريع.

هناك عالَم يُسمّى عالَم الفعليّة، فمثلاً: كان وجوب الحجّ على كلِّ مكلَّف ثابتاً منذ الأزل، أي أنّه في علم الله هناك تشريع أنّ من استطاع الحجّ من المكلَّفين وجب عليه الحجّ، فهنا يوجد وجوب على مستوى التّشريع، أي أنّه اعتُبِر الوجوب وتحصَّل الوجوب الاعتباريّ حتّى منذ الأزل، وهذا ثابتٌ وباقٍ، ولكنّ هذا الوجوب له مرحلة ثانية تُسمّى الفعليّة، أي التّحقق والتّنجُّز، فإن لم يوجد هذا المكلَّف المستطيع فالتّشريع له ثابت أو لا؟ نعم.. التّشريع له ثابت وموجودٌ في عالَم التّشريع، ولكن ما إن يوجد هذا المكلَّف ويصل إلى سنّ التّكليف وتحصل له الاستطاعة، تحصل مرحلة جديدة في الحكم تُسمّى مرحلة الفعليّة، ويكون هذا مخاطَباً الآن بأن يذهب إلى الحجّ، فقبل أن يستطيع لم يكن مخاطَباً، أمّا الآن فقد جاءت المخاطبة، وهذه هي مرحلة الفعليّة.

كان السّؤال: هل الثّابت هو ما يلزم حالة واحدة؟

فأقول: لو جئتُ للحكم الثّابت.. هل هو لكلّ حالة؟ لا.. ليس لكلّ حالة؛ لأنّ الحكم الثّابت قد يحصل له مزاحِم يرفع فعليّته في وقت معيَّن، فعلى مستوى الفعليّة ليس ثابتاً لكلّ واحد، أمّا على مستوى التّشريع فهو ثابت لكلّ واحد، فهناك مرحلتان: مرحلة فعليّةٍ ومرحلة تشريع، فالحكم الأوّليّ والحكم الثّانويّ في نظري أنّهما ثابتان في مرحلة التّشريع، غير أنّ الحكم في مرحلته الفعليّة قد يتغيّر وإن كان حكماً أوّليّاً، فأكلُ الميتةِ الحرامُ.. حينما أكون مضطراً إليه فعلاً لا يكون حراماً عليّ، وكذلك وجوب إزالة النجاسة ولم يبق من وقت صلاة العصر إلّا مقدار صلاة العصر أو مقدار ركعة واحدة، فالواجب عليّ الصلاة ولست مخاطباً خطاباً فعلياً بإزالة النجاسة.

السّؤال الرّابع: لماذا هناك عنوان الثّابت والمتغيِّر في الشّريعة؟

جواب سماحة الشّيخ: الدِّين عقيدة، وشريعة، وأصول خلقيّة فطريّة.

العقيدة مجموعة حقائق لها تقرّرها الذّاتي وواقعيّتها، وليست محلّاً لاعتبار، فهي لا تحتاج إلى الاعتبار، ولا تتأثّر بالاعتبار، ولا ترتفع بالاعتبار، ولا توضع بالاعتبار.

عمليّة الجعل لا تمسّ الحقائق[5]، فهذه حقيقة مادّيّة موجودة الآن[6]، وأنت قلت أنا اعتبرها غير موجودة، فهل يرتفع وجودها؟ طبعاً لا يرتفع وجودها. هل يحتاج وجودها إلى اعتبار؟ طبعاً لا يحتاج وجودها إلى اعتبار. 

الحقائق المعنويّة أيضاً كذلك، مثل (إنّ للكون خالقاً)، فهي حقيقة لا يؤثّر فيها الاعتبار: اعتبار العدم أو اعتبار الوجود، فإمّا أن يكون للكون خالق وإمّا ألّا يكون للكون خالق. فهذه الحقائق أين يأتي نقاشها؟ يأتي نقاشها في الوجود وفي العدم، أي أنّها تكون متّصفة بالوجود أو متّصفة بالعدم، إمّا أن أنكرها أو أعترف بها، فهي قابلة للاعتراف والإنكار الذّهنيّ والنّفسيّ، وليست قابلة للرّفع أو التّوقيت أو ما إلى ذلك، فقضية (الكون له خالق)، إمّا أن يكون له خالق دائماً، وإمّا ألّا يكون له خالق أبداً.

أيضاً النّبوّة، و(إنَّ بعث الأنبياء هو الحقّ)[7]، فهذا إمّا أن يكون حقّاً وإمّا أن يكون باطلاً، إمّا أن يكون صادقاً كحقيقة واقعيّة، وإمّا أن يكون كاذباً كحقيقة واقعيّة[8]. فالعقيدة لا يمسُّها التّغيّر ولا يمكن أن يُتصوّر فيها التّغيّر حتى يُطرح السُّؤال بشأنها هل العقيدة متغيِّرة أو غير متغيِّرة، فلا موضوع للسّؤال عن التّغيّر في العقيدة لعدم قابليّة العقيدة للتّغيّر.

أمّا الشّريعة فهي تعالج مسائل الإنسان وعلاقاته: بربِّه سبحانه، وبأخيه الإنسان، وبالطّبيعة. 

وعلى الشّريعة أن تقدِّم إجاباتها عن الأوضاع المستجدّة بسبب حركة الإنسان العقليّة والإراديّة، واستمرار انتاجيَّته على امتداد الزّمن، بما يجعل تعامله مع هذه الأوضاع المختلفة منسجماً مع إرادتها.

نريد شريعة تضبط علاقاتنا مع اللهa، تضبط علاقاتنا مع أنفسنا، تضبط علاقاتنا في كلّ أطرها، بحيث تكون عمليّة الضّبط هذه منسجمة مع إرادة الشّريعة التي هي من إرادة اللهa . فمن أجل أن تأتي حياتنا منسجمة في خطِّها بالكامل مع إرادة الله، علينا أن نطلب شريعة تعطينا الأجوبة التي يفرزها التّطوّر الحضاريّ والتّطوّر الزّمنيّ وما إلى ذلك.

في مسألة الشّريعة عندي ثابت عندي متحرِّك.

عندي ثابت وهو الإنسان الذي وُجد من أوّل يوم وعنده قوّة إدراك، عنده مشاعر، عنده دوافع مادّيّة، عنده دوافع معنويّة، فالإنسان اليوم في نظرنا هو الإنسان في الأمس بالنِّسبة لفطرته ولكلّ هذه الأبعاد، وهذا ثابت، وما هو ثابت لا بدَّ أن يواجَه شرعاً بأحكام ثابتة.

وعندي متغيِّر وهو تطوُّر الأوضاع بسبب التغيُّر الحضاريّ، وأمثلة ذلك واضحة، منها: الحركة الصناعيّة، الحركة التجاريّة، حركة المصارف، المواصلات، الذّهاب إلى المريخ، الذّهاب إلى القمر، وكلّ هذا يخلق مسائل ومسائل مستجدّة بشكل سيَّال ومتدفِّق، وهذا يحتاج إلى إجابات.

هذا اللّون من التّغيّر يصحِّح لنا أن نطرح هذا السُؤال: هل في الشّريعة متغيِّر أو ليس فيها متغيِّر؟ وإذا كان ليس فيها متغيِّر فكيف بنصوصها المحدودة تستطيع أن تلبّي حاجة الثّابت وحاجة المتغيِّر؟ فصار فرقٌ بين ما هو عقيدة وما هو شريعة في صحّة طرح السُّؤال عن التّغيّر بالنِّسبة للشّريعة، وعدم صحّة طرحه بالنِّسبة للعقيدة.

السُؤال الخامس: ذكرتم عالم التّشريع وعالم الفعليّة، فهل يوجد متغيِّر في الشّريعة في عالم التّشريع؟

أوّلاً: ليس هناك حكم ينقلبُ في عالم التّشريع عن وضعه، فالوجوب وجوب، والحرمة حرمة. الصّلاة واجبة.. تبقى واجبة، والرّبا حرام.. يبقى حراماً، وقتل النّفس حرام.. يبقى قتل النّفس حراماً، فكلّ الأحكام في عالم التّشريع -حتى الأحكام الثّانويّة- تحتفظ بثباتها. 

وإذا كان هناك تغيُّر فهو في عالم الفعليّة، أي في أنّني هل أنا الآن مخاطَب بهذا الحكم فعلاً (أي بهذه الحرمة أو هذا الوجوب)؟ أو أنّه يوجد سببٌ طارئٌ يرفع عنّي فعليّة الخطاب؟ ظرفي الطّارئ لا يخرجني من تشريع هذا الحكم ممّن شرّع له، أي لا يخرجني هذا الظّرف الطارئ من حكم الوجوب أو الحرمة، ولا يضع حدّاً لهذا الحكم على مستوى التّشريع، نعم.. لست مخاطَباً به فعلاً، هذا صحيح، فلست مخاطَباً بحرمة أكل الميتة في حال الاضطرار، ولست مخاطَباً بالصّوم مع الضّرر، ولست مخاطَباً بالفعل الفلانيّ حين يسبِّب لي حرجاً، وهكذا. 

ثانياً: هناك أحكامٌ غيرُ معروفة يبعث التّطوّرُ الفقيهَ على أن يلتفت إلى الحاجة إليها، نسأل من أين جاء هذا التّغيّر؟ ما يحصل عند الفقيه هو اكتشاف الحكم لهذه الحالة المستجدّة. فمثلاً الصّلاة على القمر وعلى المريخ كيف؟ وما حكم المعاملات المصرفيّة؟ أو التّأمين على الحياة؟ أو بيع الأعضاء مثلاً؟ هذه مسائل كانت غير مطروحة، ولم تكن ذات موضوع خارجيّ في العالم، وصار لها الآن موضوع خارجيّ وبدأ السّؤال عنها، فمن هنا تتحرّك عقليّة الفقيه إلى أن يبحث عن أحكام هذه المسائل.

ثالثاً: هناك حكمٌ يتغيّر موضوعُه خارجاً فيتغيّر الحكم، فالحكم الذي ثبت لموضوعه لم يتغيّر، بل هو ثابتٌ له ما دام موضوعه. ومن الأمثلة على ذلك:

مباح أو محرّم يُضطَّر إليه. فأكلك مباح، تأكل منه الآن أو لا تأكل فهو مباح، لكن لو توقّفت حياتك على أن تأكل الآن، كيف يكون الحكم؟ يجب عليك الأكل. خرج الحكم من نوع الإباحة إلى الحكم الإلزاميّ (الوجوب). 

يحرم عليك أن تتداوى بالخمر، لكن انحصر الدَّواء في الخمر، وتوقّفت الحياة على التّناول من الخمر بمقدار الضّرورة التي تدخل في العلاج الذي ينقذ الحياة، فهنا يأتي كلامٌ بأن يشرب من الخمر، ويأكل من الميتة ... فما الذي حصل؟ هل تغيَّر حكم حرمة الخمر؟ لا. كان الموضوع هو الخمر، والآن الموضوع خمر مضطّر إليه، أو أكلٌ تتوقّف عليه الحياة فهو مضطّر إليه، فهذا الحكم الثَّاني (أي: وجوب الأكل) هو حكم ثبت لموضوعٍ هو غير موضوعِ ما ثبت له حكم الإباحة، فحكم الإباحة باقٍ على موضوعه، فما إن تنتهِ من أكل اللّقمة التي تحفظ حياتك ويرتفع ضررك لا يجب عليك أن تأكل، فالحكم (أي: حكم وجوب الأكل عند الاضطرار) حكم له موضوعه الخّاصّ، وحكم إباحة الأكل له موضوعه الآخر (وهو عمليّة الأكل نفسها). فهذا قد نطلق عليه بأنَّه تغيُّر في الحكم، وهو ليس تغيُّراً حقيقيّاً؛ وإنّما تغيّر مجازيٌّ، أي: قل إنّه تغيُّر الحكم بتغيِّر الموضوع، وهذا أمر طبيعيّ جداً، فكلّ موضوع له حكمه الذي يسانخه ويناسبه.

الشطرنج كما عند السّيّد الإمام الخمينيّp: الشطرنج حرام، لكنّ موضوع الحرمة عند السّيّد الإمام ليس الشطرنج في نفسه، إنّما هو لعبة الشَّطرنج المتلهَّى به[9]، فحينما يكتشف أنّ الموضوع هو هذا (أي: إنّ الشطرنج الحرام هو الشطرنج المتلهّى به وليس ذات الشطرنج)؛ فحينئذٍ عندما يكون شطرنج خالٍ من التلهّي، وفيه ريّاضة فكريّة، فإنّه قد انخلق لي موضوع ثانٍ.

إذاً... فالواقع الخارجيّ والممارسة كانت تعطي الشطرنج عنوان أنّه لعبة للتلهّي، ولكن انخلق موضوع ثانٍ ولنسمّه الشطرنج الرياضيّ أو الترويضيّ «أي: الترويض الذهنيّ»، فهذا موضوع ثانٍ. فذاك الحكم ثابت لم يتغيَّر (حكم حرمة الشطرنج)، وهذا حكم ثان من أجل موضوع ثان، فلا يتعارضان. وهذا قد يسمّى متغيِّراً.

(حكم مهمّ يزاحمه حكم أهمّ): (كما مرَّ في مثال سابق): الصّلاة وإزالة النّجاسة عن المسجد، فلو كانت الصّلاة في أوّل الوقت أو في وسطه، فإزالة النّجاسة هنا تكون هي الأهمّ وتُقدّم على الصلاة، ولكن حينما لا يكون قد بقي من الوقت إلّا مقدار أربع ركعات أو ركعة واحدة من صلاة العصر فهنا تُقدّم الصلاة. فأين ذهب حكم وجوب إزالة النّجاسة فوراً؟ هل ارتفع؟ طبعاً في عالم التّشريع لم يرتفع، ولكن هناك موضوع ثانٍ، وهو موضوع إزالة نجاسةٍ تزاحمُ الصّلاة الأهمّ[10]، فينخلق بسبب حالة التَّزاحم موضوع ثانٍ وينتفي موضوع الحكم الأوّل. وهذا يدخل أيضاً في التغيُّر.

يختلف أيضاً التّطبيق للحكم الشّرعيّ باختلاف الزّمان فتنخلق حالة جديدة أيضاً، ولنأخذ أمثلة على ذلك: 

لباس الشُّهرة: وهو لباس ينكره عليك المجتمع، ويجعلك محلّ ملاحظة النّاس ومحلّ كلامهم ونقدهم، وتكون شاذّاً. فهذا اللّباس قد يكون اليوم لباس شهرة، ولكن بعد زمن لا يكون لباس شهرة، فهل تغيّرت حرمة لباس الشّهرة؟ لا، لم تتغير ولكنّ الموضوع تبدّل، فما هو حرام هو لباس الشّهرة، ولكنّه اليوم ليس لباس شهرة حتى يكون حراماً. فهذا فاعليّة زمان.

التّشبه بلباس الكفّار: فربطة العنق مثلاً عندما يقال إنّها حرام لأنّها تشبُّه بالكافر، فما دامت الحالة حالة تشبّه بالكافر تبقى الحرمة، ولكن [إذا] انتفى هذا الموضوع وصار هذا اللّباس ليس لباس الكفّار، بل لباس العالَم كلّه، فهل تبقى الحرمة؟ لا، فهنا حصل تبدّل موضوع.

نفقة الزّوجة واتساعها وضيقها: فالزَّمان له أثره، فالنفقة تتّبع الإمساك بالمعروف[11]، بحيث تكون وحدة من وحدات الإمساك بالمعروف، ولكن هل هناك تحديد شرعيّ ثابت للنّفقة؟ بحيث يقول إنّ لها -مثلاً- في اليوم رغيفين ولها لباسها وما إلى ذلك؟ لا يوجد، فهنا الإمساك بالمعروف هو النفقة الواجبة، والمعروف ما هو؟ هو الحسن المتوافق عليه عند النّاس (الحسن وليس القبيح) فهذا معروف. 

اليوم يوجد مستوى نفقة يكلِّف في الشهر -فرَضاً- خمسين ديناراً حسب المتعارف، ولكن يأتي زمن تكون النّفقة فيه تساوي -مثلاً- عشرين ديناراً، أو يأتي زمن تكون فيه النّفقة تساوي مِائة دينار، وهناك أمور قد تدخل في النّفقة حسب العرف وقد تخرج، فتحديد النّفقة هنا سيكون متغيّراً، ولكن ذلك ليس لتغيّر في الحكم وإنّما لتغيّرٍ فيما يحقق المعروف من النّفقة.

أمثلة تطبيقيّة أخرى على الثّابت والمتغيِّر

الأحكام تكليفيّة (كوجوب الصلاة والصوم)، ووضعيّة (كالصّحّة والفساد والطّهارة والنّجاسة والشرطيّة والمانعيّة). 

من الثّابت في الحكمِ التّكليفُ بالعبادات[12]، وجوب بقاء عمليّة التّناسل، (فيجب على كل الأجيال أن تُبقي على عمليّة التّناسل)، وجوب حفظ الأمن، وجوب تربيّة الأولاد، وجوب حفظ حدود الدّولة الإسلاميّة، الإنفاق على الزّوجة، حرمة التّعدّي على الأنبياء‍i، حرمة إيذاء المؤمن من غير حق، وجوب التّبليغ وتعليم الجاهل، حرمة بيع الخنزير والميتة، إقامة الحدود، وطائفة كبيرة جداً من الأحكام الثّابتة. 

من أمثلة المتغيِّر في الحكم التّكليفيّ: 

المستحب لو تعلّق به نذر أو حلف كما سبق، المستحبّ لو تعلّق به نذر طبعاً سيجب، لو تعلّق به حلف سيجب. 

المكروه لو نذر تركه صار حراماً. 

المرور بالمكان المغصوب مع الانحصار لإنقاذ غريق سيكون واجباً إذا قلنا بوجوب المقدّمة، أو على الأقلّ سترتفع الحرمة وسيكون مباحاً. 

وجوب المبادرة لإزالة النجاسة عن المسجد، هذا الحكم سيرتفع بتضايق وقت الصلاة الواجبة.

من أمثلة الثّابت على مستوى الحكم الوضعيّ: 

صحّة البيع: حيث إنّ البيع غير جائز في وقت النداء، إلّا أنّه حتى في وقت النّداء لصلاة الجمعة فإنّهم يصحّحون البيع ويسمّونه صحّة وضعيّة، رغم أنّ هناك حرمة تكليفيّة. فعلى كلّ حال.. على مستوى الحكم الوضعيّ فإنّهم يقولون بصحّة البيع وسائر المعاملات المحكوم بصحتها.

فساد الرّبا مثلاً، عدم التّملّك بالغصب والسّرقة والقمار، فكلّ هذه أحكام وضعيّة ثابتة. 

من أمثلة المتغيِّر في الحكم الوضعيّ:

الشّرط الضّمنيّ: كخدمة الزّوجة في بيت زوجها بالمقدار المتعارف، طبعاً ليس هناك حكم يقول يجب على الزّوجة أن تخدم زوجها، لكن في الوقت الذي كان متعارفاً في المجتمع أنّ الزّوجة تخدم زوجها، فلو أنّ بنت فلان ستتزوّج من زوجها ابن فلان، فالكلّ يعرف أنّ الزواج وراءه أن تخدم الزّوجة زوجها بالخدمة المتعارفة، فهذا الشّرط غير موجود في العقد -طبعاً تخدمه أو لا تخدمه فهذا أمر مباح بالنّسبة لها-، فهل خدمتها هذه تكون شرطاً من شروطه عليها ومن شروطها على نفسها له؟

في وقت من الأوقات يكون المعروف والمعاش تماماً هو خدمة الزّوجة لزوجها حين يتم العقد يتمّ وكأنّه يقول إنّ على الزّوجة أن تقوم بخدمة زوجها حسب المتعارف، فهنا لا يمكن القول إنّه لم يشترط عليها، لا.. الشرط موجودٌ.

نعم، ليس شرطاً صريحاً ولكن هناك شرط ضمنيّ. قد يأتي وقت ينتهي هذا لكثرة اشتراط الزوجات عدم الخدمة في الوقت الذي كان متعارفاً فيه الخدمة، فيأتي وقت يصبح على الزّوج هو أن يشترط على الزّوجة خدمتها له، في وقت يرتفع فيه هذا الأمر ولا يكون متعارفاً فيه أنّ الزّوجة تخدم زوجها فانتفى الشّرط الضّمنيّ، فهذا حكم وضعي متغيِّر بتغيُّر الزّمان أو المكان.

السّؤال السّادس: بعد إعطاء هذه الأمثلة التّطبيقية -سماحة الشّيخ- هل يمكن أن تبيِّن لنا لماذا بُنيت الشّريعة على هذه الثّنائيّة من الثّابت والمتغيِّر؟ 

أظنّ أنّ الجواب تقدَّم، وهو أنّ الإسلام في شريعته يتكفّل ببيان الأحكام للمكلَّفين على مدى وجودهم في الأرض. والإنسان كما تقدّم له خصائصه التّامة، كالإدراك والمشاعر والدّوافع المادّيّة والمعنويّة، هذه كلّها لا ينفكّ عنها ولا تنفكّ عنه مادام إنساناً، فالإنسان هو إنسان بفطرته، عنده دافع الأكل، دافع الشّرب، دافع الجنس، دافع حبّ التّملّك، حبّ السيطرة ... فكلّ هذا موجودٌ عنده. وله علاقاته الاجتماعيّة التي تحكمها موازين ثابتة، وهناك علاقات مع اللهa، يحمكها موقع عبوديّتي ومربوبيّتي للهa، وهذا لا يتغيَّر، فلا بدّ من ثابت، فالذي ينظِّم هذه العلاقة الثّابتة لا بدّ من أن يكون ثابتاً، فالذي يلبّي حاجات الإنسان بالقدر المجزي، والمتناسق، (أي: تلبية دوافع الإنسان المادّيّة والمعنويّة بشكلٍ متناسق ومجزٍ ويضع الإنسان على طريق كماله) هذا هل يتغيّر بتغيّر الزّمان؟ لا. هذه المعادلة لا تتغيّر بتغيّر الزّمان، الأحكام لا بدّ من أن تكفل المعادلة الدّقيقة بين هذه الدّوافع وطاقاتها وأدوارها ووظائفها وما إلى ذلك، فهذا ثابتٌ في الإنسان. 

هناك في العلاقة الاجتماعيّة حريّة فرديّة وهناك مصلحة اجتماعيّة، وهناك حدود لهذه الحريّة، فلك حريّتك ولي حريّتي، هل هذا يتغيّر بتغيّر الزّمان؟ لا، هناك ضوابط لهذه الحريّة.

حقّ الإنسان في الأمن، في الحياة، في المباحات العامّة من أرض وماء وكلأ ومعادن، وحقّه حاكماً ومحكوماً هل يتغيّر اليوم عن غد؟ لا، لا يتغيّر. وهكذا، والداً وولداً، زوجاً وزوجة. فهناك علاقات ثابتة موجودة.

موجود دوافع ثابتة وموجود هدف ثابت لحياة الإنسان، وموجود حدود لطاقة الإنسان، وموجود معادلات وموازنات لا يعلمها إلّا اللهa  لهذا الإنسان في داخله بين مؤلِّفاته وأبعاد وجوده، وبينه وبين الخارج، فهذه الثوابت كلّها موجودة، فماذا تفعل معها؟ أتجعل الشّريعة كلّ يوم متحرّكة؟

وهناك فارق تكوينيّ بين الرّجل والمرأة -مثلاً- بما هما رجل وامرأة، هذا الفارق له تأثيره الدائم في كلّ منهما، المرأة لم تتحوّل إلى رجل في طبيعتها، والرّجل لا يتحوّل في طبيعته إلى امرأة في كلّ أبعادها.

وكما أنّ للإنسان خصائصه الثّابتة، له ظروفه المتغيّرة وحركته الحضاريّة الصّاعدة التي يطرح تطوّرُها الكبيرُ كثيراً من الأسئلة المستجدّة على الشّريعة، فالصّناعة تتقدّم، الزّراعة تتقدّم، المواصلات، الطّبّ، إلى آخره، كلّ ذلك يفرز ماذا؟ يفرز العديد من المسائل التي تتطلّب أجوبة شرعيّة، فهل على الشّريعة أن تجيب على هذه الأسئلة أو لا؟ فأمام حالات متغيّرة جداً عليها أن تستجيب لحاجة هذه المستجدّات المتطلّبة للحكم الشَّرعيّ. فهذا الجانب يتطلّب من الشّريعة مرونة لا تُفقِدُها أصالتها، وقدرة مستمرّة على الإجابة، لكن هل يتطلّب تغيّراً في الحالة التّشريعية؟ ذاك أمر آخر. 

المهمّ أنّ مسؤوليّة الشّريعة ماذا؟ أن تكون مرنة وقادرة على الإجابة على أسئلتك، الإجابة التي تضمن مصلحتك كإنسان، وتضعك على طريقك الموصل إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، أمّا أنّ هذه المرونة تعني تغيُّر الحكم أو بلا تغيُّر حكم، أنّ ثوابت الشّريعة كافية، (ثوابت الشَّريعة طبعاً محدود، نصوص الشّريعة مهما كثرت فهي محدودة، وحركة التّطوّر مستمرّة ومتسعة، فكيف تلبّي النصوص المحدودة حركة الحياة الممتدّة المتطوّرة؟! هذا قد يأتي في قضية معالجات نذكر بعضها، وبعد ما طرح من أنّ التغيّر هو في عالم فعليّة الحكم وليس في عالم تشريع الحكم.

السّؤال السّابع: إنّ النّصّ بمقتضى ثباتِه وكمِّه محدود، ولكن الواقع متّسع ومتغيّر، فكيف يكون في قدرة هذا النّصّ أن يحكم حركة الواقع ويمدّها بما تحتاجه من تشريع؟ 

النّصوص الشّرعيّة بعضها أو كثيرٌ منها جاء ليعالج موارد جزئيّة وحوادث معيّنة، كأن يطرح السَائل على الإمامg سؤالاً خاصّاً عن حالته هو في ظرف معيّن وما إلى ذلك، هناك نصوص هكذا تتكفّل معالجة حوادث جزئيّة وأسئلة خاصّة، وهناك عمومات ومطلقات، منها ما هي مطلقات لفظيّة ومطلقات مقاميّة كما يسمّونها، هذه تعطي قواعد عامّة ذات بعد بعيد وأفق واسع، هذه تخدم جداً حركة التّطوّر، يعني هذه من العناصر التي تعطي الشّريعة الإسلاميّة القدرة على الإجابة على الأسئلة المستجدّة في حدود معيّنة.

هناك نصوص واردة في موارد خاصّة -كما سبق- لكن يستطيع الفقيه المتضلِّع أن يستفيد منها كلّيّات عامّة، بمعونة عددٍ من الأمور، منها ما يسمّى بمناسبات الحكم والموضوع، وما يسمّى بمفهوم الموافقة وفحوى الخطاب، ووسائل أخرى عقليّة وعرفيّة. 

هناك العناوين الثّانوية التي طرحتها الشَريعة، مثلاً: «رُفع عن أُمّتي ما لا يعلمون، ما اضطروا إليه، ما أكرهوا عليه»[13]، وكذلك عندنا قاعدة لا ضرر ولا ضرار. هذه قواعد مفتوحة تعالج كثيراً من المسائل وتبدّلات الموضوعات والمستجدات.

وعندنا باب التزاحم، فعندي مثلاً حكم بالحرمة وحكم بالوجوب يتزاحمان أحياناً، كأن يكون عندي وجوب إنقاذ غريق مؤمن، ولا يوجد طريقٌ موصل للإنقاذ إلّا أرض مغصوبة يحرم اجتيازها، فعندي حرمة وعندي وجوب، ماذا أفعل هنا وليس عندي طريق ثان لإنقاذ الغريق؟ يأتي الفقيه هنا ليحدّد بعقليّته الفقهيّة طبعاً -وليس من عنده- وبوسائله العلميّة الفقهيّة، وبقدرته الاستنباطيّة، فيتوصّل إلى أنّ وجوب إنقاذ الغريق أهمّ -لأهمّيّة متعلَّقه- من الحرمة بلحاظ متعلَّقها، فيقول يجب عليك إنقاذ الغريق.

مثال آخر: قتل المؤمن حرام. جيش إسلاميّ اختطِف منه من اختطِف أُسر من أسر، العدوّ جعل المأسورين درعاً له في الأمام، هزيمة العدوّ لا تتمّ إلّا بقتل هؤلاء المؤمنين، افرضوا خمسة أشخاص من خيرة المؤمنين، تدرَّع بهم العدوّ، فإمّا أن يُهزم الجيش الإسلاميّ وينكسر الإسلام كسرة كبيرة جداً تذهب بريح الإسلام، أو أن يقتل الخمسة المؤمنون للتوصُّل إلى هزيمة الجيش الكافر! فهنا تزاحم: حرمة ووجوب، وجوب حفظ الإسلام ودرء الخطر عن الإسلام، هذا واجب، وحرام قتل المؤمن، هنا يأتي دور الفقيه ليقول لنا اقتلوا الخمسة وانتصروا على العدوّ الكافر، وديتهم من بيت المال.

إذاً فباب التّزاحم أيضاً يحلُّ لنا بعض المشاكل. 

كما سبق: تغيّر في الموضوع، فكثيراً ما يحدث تغيّر في الموضوع، مثلاً: معروف بالحكم الأوّليّ أنّ من ملك الأرض ملك معدنها، لو استخرج معادن من الأرض التي يملكها فإنّه يملك هذه المعادن، فكمّا ملك الأرض فإنّه يملك ما في باطنها، هذا حكم ثابت، كانت القدرة على استخراج المعدن قدرة محدودة بحيث تجعل المستخرِج غنيّاً إلى حدٍّ ما ولكن لا يؤثِّر على الآخرين وعلى الأمَّة. 

أمَّا اليوم فهناك شركات تستطيع أن تستخرج معادن بلد بكامله، فهذه عندما تشتري أرضاً وتملكها وتستخرج معادنها التي تحتاجها الأمَّة وهي ملك للأمَّة فماذا يحدث؟ ينهدم اقتصاد الأمَّة! ويصير المال بيد قلَّة، فتفتقر الأمَّة.. يضطرب النِّظام، فهنا عندي مسألة وجوب حفظ النِّظام، ووجوب حفظ اقتصاد الأمَّة، وعندي حكم يقول إنّ هذا له أن يملك، فهنا يحدث تزاحم: تمليكه المعادن معناه ماذا؟ معناه سقوط مصلحة الأمَّة، وانهدام مصلحة الأمَّة، يأتي التَّزاحم فينقذ لي الموقف، فيجعل الحاكم الشّرعيّ موقفه، فيقول له: لا، لا تملك، ليس لك هذا! 

تأتي صلاحيّات وليّ الأمر المعطاة له من قبل الشّريعة وحدودها(وهي مختلَف في مقدارها).

وعندنا ما يسمّى بالأصول العمليّة كأصل البراءة مثلاً. 

فهذه كلُّها وسائل لمواجهة التغيُّر ومستجدّات التطوّر في أوضاع الحياة، وهذه تمثّل عدّة بيد الفقيه يستطيع من خلالها أن يواجه مستجدّات حركة التطوّر.

من أسئلة الجمهور: 

هل يتحوّل الكذب إلى حسن والصّدق إلى قبيح، فمثلاً عندما يُسأل عن شخص يريد قتله فهل الصّدق هنا يكون محرّماً؟

جواب سماحة الشّيخ: هنا يأتي العنوان الأوّليّ والعنوان الثّانويّ، الصّدق واجب والكذب حرام، وتأتي حالة التّزاحم بين صدقي وإهلاك المؤمن، بين أنّه يجب عليّ الصّدق وبين أنّه يحرم عليّ أن أُعين على قتل المؤمن، فصدقي يمثِّل إعانة على قتل المؤمن، أيُّهما أهمّ؟ يأتي أنّ المعونة على قتل المؤمن حرمته بشعة جداً، والمفسدة هنا تطغى على مصلحة الصّدق، فهنا لا يأتي الصّدق وإنّما يأتي الكذب. ثم إنّ هذا على خلاف العدل، أي إذا كان في الكذب ظلم فقتل المؤمن ظلمه أكبر.

سؤال في نفس السّياق -سماحة الشّيخ-، عندما يُسأل الشّخص عن شخص آخر بفرض الزواج فلا بدّ من تحديد البيانات الشخصيّة الحقيقيّة وترتفع الغيبة هنا، فهل في الأخلاق والفضائل والرذائل ثوابت ومتغيرات أيضاً؟

جواب سماحة الشّيخ: الأخلاق ثابتة، والأخلاق قيَم فطريّة منشدّة ومربوطة بها النّفس، وأصل الأخلاق العدل، فالأخلاق لا تتغيّر، هذه أصولٌ فطريّة من بناء فطرة الإنسان وكينونة الإنسان فهي لا تتغيّر، والأحكام الأخلاقيّة المراعية لهذه الأصول والقائمة عليها تبقى ثابتة، إلّا أنّه يأتي فيها التّزاحم وما إلى ذلك. 

ما الدّليل على أنّ الفقيه مُلزم باكتشاف حكم كلِّ مسألة مستجدة؟ 

جواب سماحة الشّيخ: طبعاً ما دام قادراً فهو ملزم، فإذا تصدّى للمرجعيّة أو احتاج النّاس إليه وإن لم يكن مرجعاً، والمراجع -فرضاً- ما التفتوا إلى هذا الجانب، وهو ملتفت إلى مسألة من المسائل التي إذا لم يُجِب عليها يتضرّر الإسلام، فيجب عليه أن يجيب عليها، أي عليه أن يبحث ويبذل وسعه ويستنفذ طاقته حتى يستنبط الحكم. 

إذا كانت الشّريعة فيها كلّ الأجوبة التي يحتاج إليها النّاس، فأين باب الردّ إذاً؟ قوله‌g: «أرجه حتى تلقى إمامك».

جواب سماحة الشّيخ: نعم.. ذاك في ظرف وجود الإمامg، إذا كان يمكن أن يُحمل على طلب الحكم الواقعيّ. 

الأحكام التي عندنا الآن تسمّى أحكاماً ظاهريّة، وجوب الصلاة مثلاً هو حكم واقعيّ فإنّنا نعلم يقيناً أنّ الإسلام فيه وجوب الصّلاة فهو أمرٌ واقعيٌّ، لكنّ كثيراً من الأحكام الموجودة في الرّسائل العمليّة نسمّيها أحكاماً ظاهريّة، أي أنّ الفقيه نفسه والمجتهد نفسه لا يستطيع أن يجزم لك أنّ هذا هو حكم الله في الواقعيّ، لكنّه هو الحكم المعذِّر لك، أي حسب وظيفتك الآن أن تتّبع هذا الحكم.

ما هو رأيكم سماحة الشّيخ في مصطلح «منطقة الفراغ» في الشّريعة؟

جواب سماحة الشّيخ: الأحكام الشّرعيّة فيها ملزِم وفيها غير ملزِم، ملزِم بوجوب الفعل أو بوجوب التّرك، فالحرمة -مثلاً- حكم ملزِم، والوجوب حكم ملزِم، أمّا منطقة الفراغ فهي خارج هذا النّوع من الحكم ولا تمسّ هذا الحكم. منطقة الفراغ مساحتها مساحة المباح بمعناه الأعمّ الذي يشمل المستحبّ والمكروه، والمباح بالمعنى الأخصّ الذي هو على حدٍّ سواء بين أن أفعل أو لا أفعل. 

هناك ما يسمُّونه إباحة اقتضائيّة وإباحة غير اقتضائيّة، ومنطقة الفراغ تكون في الإباحة غير الاقتضائيّة، فمثلاً تعدُّد الزّوجات في الإسلام مباح، لكنّ أصل التّشريع له مقتضيه، هناك مصلحة اقتضت أن يشرِّع الإسلام تعدّد الزّوجات، أمّا أن أجلس الآن أو أقف فهذه إباحة غير اقتضائيّة، فهما على حدٍّ سواء إذا لم أكن متضرّراً من الجلوس أو من الوقوف، أو كأن يخرج الشخص من بيتهم الآن أو لا يخرج؟ فإذا لم يوجد موجِب آخر فهو طبعاً مباح له أن يخرج أو لا يخرج فهما على حدّ سواء، لأنّه ليس وراءها مصلحة خاصّة، أي أنّ تشريعها ليس قائماً على مصلحة خاصّة. 

فمنطقة الفراغ مساحتها مساحة المباح، والتصرّف في المباح ليس من مسؤوليّة الفقيه، يعني الأمر بالمباح أو النّهي عن المباح ليس من وظائف الفقيه، بل من وظائف وليِّ الأمر -عندنا فقيه وعندنا وليّ أمر، فالفقيه بما هو وليّ أمر يملأ منطقة الفراغ، والفقيه بما هو فقيه يواجه المتغيّرات بالوسائل التي مرّ ذكر بعضها-، فالشّهيد الصدرO -مثلاً- الذي يقول بمنطقة الفراغ لا يقتصر في مواجهة التغيير على منطقة الفراغ، فبما هو فقيه فإنّ له وسائله الأخرى التي تجعله يستنبط أحكاماً لحوادث مستجدّة من خلال وسائل أخرى، أمّا كونه وليّ أمر كأن يصبح أحدهم وليّ أمر، سواء قلنا فقيها أم غير فقيه -لو اعترفنا له بولاية الأمر-، فهذا يملأ منطقة الفراغ بأوامر ولائيّة، بأحكام ولائيّة، من أمرٍ ونهي، فيأتي مثلاً لهذا الذي يريد أن يحيي الأرض ذات المعدن الغزير ويستخرج معدنها، فيقول له: لا، رغم أنّ هذا مباح له، والنّاس مسلّطون على أموالهم!

أو أنّ شخصاً له بيت يقع في وسط شارع يُراد إنشاؤه لحاجة ضروريّة إلّا أنّه غير موافق على بيعه، فهو مباح له أن يبيعه أو لا يبيعه، كيف لوليّ الأمر أن يحمله على أن يبيع؟ بأيّ وجه؟ هذه هي منطقة الفراغ، يعني يكتشف الفقيه أنّ الشارع المقدّس أعطى وليّ الأمر إذناً وصلاحيّة في أن يملأ منطقة الفراغ بما يحافظ على مصلحة المسلمين، بما يحافظ على النّظام، بما يحافظ على كيان الأمّة، فيأتي فقيه يقول له بِع بيتك، فهذا أمرٌ بماذا؟ أمرٌ بمباح، لأنّ بيعه بيته وعدم بيعه بيته مباح أو لا؟ طبعاً مباح، فعندما يقول له بِع بيتك فهل أمره بواجب أم بمستحب أم أمره بحرام؟ أمره بمباح. 

ولِأنَّ أمر ولي الأمر واجب الطَّاعة (حيث تعتمد نظرية ملء الفراغ على ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ فهذا يأتي بالنِّسبة لمقام ولاية الأمر) فهذا وليّ أمرٍ شرعيّ سواء اشترطنا الفقاهة أم لم نشترط الفقاهة، أمرني بمباح، ومن خلال أمره يتوجّب عليّ ماذا؟ أن أمتثل، فهذا ملء لمنطقة الفراغ. 

الرسولe بحسب ما وصل إليه الفقهاء مارس دورين، دور تبليغ الحكم الإلهيّ ودور الأحكام الولائيّة، حيث أعطى أحكاماً ولائيّة بالعنوان الثّانويّ لمعالجة حالات طارئة، فتصرّف وليّ الأمر في نظريّة منطقة الفراغ محدود بالتصرّف في المباح، بأن يوجبه أو يحرّمه، يأمر به أو ينهى عنه، فينشأ وجوب على المخاطب أو تنشأ حرمة في حقّه، هذا ملخّص موضوع منطقة الفراغ.

أحسنتم شيخنا. ذكرتم أنَّ الأحكام لا تتبدَّل ولا تتغيَّر في عالم التَّشريع، ألا يُعدّ نسخ الأحكام تغيُّر وتبدُّل في عالم التَّشريع؟

جواب سماحة الشّيخ: ذاك نسخ، والنَّسخ ليس تغيراً، النَّسخ يقوم على أنَّ أصل الحكم كان محدوداً مؤقتاً، النَّسخ إعلان انتهاء أمد الحكم الذي كان مؤقتاً، إعلان أنَّ وقته انتهى، أي أنَّ الحكم المؤقَّت عند الله كان مؤقتاً عند الله بهذا الوقت، النَّسخ يقول لي ماذا؟ يقول إنَّ هذا الحكم وصل وقته، فهو مؤقَّت من الأصل وليس مفتوحاً، بينما الأحكام التي نقول عنها أنَّها ثابتة فهي أحكام مفتوحة.

حفظك الله سماحة الشّيخ، سؤالي: بالعنوان الأوّليّ لربّما تأتي الإباحة ولكنّ المتفكّر قد يرى بعد ذلك أنّه قد تحدث مضرّة من استمرارية هذا العمل، وأضرب لذلك مثلاً: من يقوم بابتياع الفيزا الآن ويجلب له خمسة عشر أو عشرين أو ثلاثين عاملاً بحجّة أنّ هذا مباح، وبعد ذلك تساق في الشارع وتنافس العمالة الوطنية. طبعاً هذه كارثة...

جواب سماحة الشّيخ: يأتي هنا تشخيص الفقيه، وعلى المكلّف أن يراجع فقيهه، فهنا يحدث أنّ الفقيه يشخّص أنّ ذلك مباح أن أجلب عاملاً وما إلى ذلك، لكن إذا تولّدت من ذلك مضرّة تضرّ بالمصلحة العامّة فيأتي هنا دور الفقيه ليشخّص أنّ في هذا مضرّة وأنّها أهمّ فيوقفه.

هذا التّشخيص قد يأتي من وليّ الأمر الذي تمتثل طاعته، وقد يأتي من أنظمة وضعيّة، فكثير من القوانين التي تسنّ الآن هي ضمن أنظمة وضعيّة، ولكنّ المتعقّل يرى فعلاً أنّ خلافها سيأتي بكارثة...

جواب سماحة الشّيخ: حتى المقلِد هنا لو شخّص أنّ هذا يضرّ بالمصلحة العامّة، إذا وصل إلى قناعة بأنّه يضرّ بالمصلحة العامّة فعليه أن يقف.

بارك الله بكم شيخنا، حفظكم الله، كيف يميّز الفقيه بين الحكم الشّرعي والحكم الولائيّ للمعصومg؟

جواب سماحة الشّيخ: الحكم الولائيّ له موضوعه الثّانويّ وبارتفاعه ينتهي الحكم، فلو كان الموضوع الذي أمام الفقيه (أي الموضوع الخارجيّ) هو موضوع الحكم الثّانويّ للإمامg فيتقيّد به (أي يتقيّد بالحكم الثّانويّ)، أمّا لو ارتفع موضوع الحكم الثانويّ الذي جاء بشأنه حكم ولائيّ للنّبيّe أو الإمامg، فيرجع للحكم الأوّليّ.

كيف يميز الفقيه بين الحكمين؟ 

جواب سماحة الشّيخ: عليَّ وعليك أن نكون فقيهين لنعرف ذلك.

خمس الأرباح السنويّة هو حكم ولائيّ وليس حكم شرعيّاً؟ 

جواب سماحة الشّيخ: هذا ليس معلوماً.

إذا كانت لي ملكة في السّياسة، وتشخيصي أنّي لا أحتمل التعذيب الذي ينتابني من النّظام، بسبب ممارستي لها، هل يعفيني خوفي من عدم احتمال التعذيب لترك ممارسة هذه الملكة مع ضرورتها؟

جواب سماحة الشّيخ: المطلوب للضعيف أن يبني نفسه.

كيف يتمكّن المستنبِط من معرفة الثّابت والمتغيّر من مرويّات أهل البيتi ذات الجُمل المقتضَبة أو الوصايا المشخّصة؟ وهل يستطيع المثقّف الدينيّ أن يتمكّن من هذه المسؤوليّة، أي: تحديد الثّابت والمتغيّر؟

جواب سماحة الشّيخ: فنّ الفقه فنٌّ دقيق جداً يا إخوان، دقيق جداً إلى أقصى حدٍّ، أنت تتصوّر كبار الفقهاء المتضلِّعون جداً يحاسِبون بعضهم البعض محاسبة علميّة شديدة ناقدة بحيث توجِد نقاط ضعف عند هذا الفقيه العملاق، فهذا الفنُّ غير مطروح عند المثقَّف العادي أبداً أبداً.

هل هذه المقولة صحيحة: وجود ثبات في الأهداف ومرونة في الوسائل؟ ثبات في الأصول ومرونة في الفروع؟ ثبات في الكلّيّات ومرونة في الجزئيات؟ 

جواب سماحة الشّيخ: مرونة تصل إلى نسف الكلّيّات غير مسموح بها طبعاً، وعلى كلّ حال: الوسائل فيها الواجب وفيها المحرَّم، ولا يطاع الله من حيث يعصى، فوسيلة توصلني إلى شيء حتى ولو كان واجباً لا يمكن، إلّا بعد بيان أهمّيّة الواجب على المحرَّم وهذا هو باب التّزاحم، لكن لا يمكن التوصُّل إلى المباح بمحرّم، بل حتى إلى الواجب بمحرّم، فهو أساساً غير ممكن، إلّا في الحالة التي يشخّص فيها الفقيه ذلك، كما في حالة إنقاذ الغريق التي يراها الفقيه أهمّ من حرمة عبور الأرض المغصوبة، فالأمر راجع إلى الفقيه الذي يستطيع أن يشخّص الأهمّيّة، وأنّ هذا أهمّ من ذاك.

الثبات في الأصول المرونة في الفروع: الفروع تتبع الأصول، فالفرع الذي يهدم أصله فو مهدوم أصلاً، ولا يصحّ لفرع أن يهدم أصله، بل يأخذ شرعيّته من أصله.

بالنّسبة لربطة العنق هناك رأي يقول بأنّه قد تمت ممارسة الحرمة في البداية، ثمّ صارت ممارسة عامّة..

سماحة الشَّيخ: طبعاً الأوّل حرام، ثمّ بعد أن تصبح ممارسة عامّة يتخلّق موضوع جديد ويأخذ حكمه الجديد.

بعض الأحكام الثّابتة مربوطة بآيات من القرآن الكريم، كعدد الشهود في الزنا، واليوم قد لا نحتاج إلى نفس عدد الشهود في ظل توفر التكنلوجيا المتطورة كالتصوير وغيرها.

جواب سماحة الشّيخ: في قضية البيّنة فإنّ بعض الفقهاء يذهب لاعتماد الوسائل الإثباتيّة العلميّة. افترضوا سرقة -وما إلى ذلك- مثبَتة بوسائل علميّة يقينيّة كالكاميرات وغيرها، أيُّها أقوى هذه أو البيّنة؟ هذه تكون أقوى من البيّنة، فيأخذ الفقيه بها لأنّها توفّر علماً بل هي أكثر إثباتيّة من قضية البيّنة[14].

لماذا يكون عالم الدِّين آخر من يقبل بالمتغيِّرات الحضاريّة؟ ففي البداية يرفضها ثمّ يضطر إلى القبول بها.

جواب سماحة الشّيخ: طبعاً التّغيّرات الحضاريّة على نوعين، هناك تغيّرات حضاريّة إيجابية بالنّظر الدِّينيّ، وهناك تغيّرات حضاريّة سلبيّة بالنّظر الدينيّ، ولا يوجد معمَّم واعٍ يقف من التّغيّرات الحضاريّة الإيجابيّة موقفاً سلبياً.

الجلسة الثّانية[15]

أعوذ بالله السّميع العليم من الشيطان الغويّ الرّجيم، بسم الله الرّحمن الرّحيم، والحمد لله ربِّ العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين، واللّعن الدّائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدِّين.

السّؤال الأوّل: إنّ قصور النّصّ عن تلبية احتياجات الواقع فتح الباب للتّطوير في أصول الفقه عند إخواننا السُّنة، ونشأت نظريّات مثل سدِّ الذرائع والمصالح المرسلة، فهل في الفقه الشيعيّ نظريّات مشابهة؟

عمليّة الاستنباط في المذهب الجعفريّ تعتمد العلم، وما يسمّى أيضاً بالعلميّ، فإمّا أن يكون الدليل المثبِت للحكم الشّرعي مفيداً للعلم به كما في آية كريمة هي نصّ في حكم شرعيّ معيّن، الآية الكريمة من الناحية الثّبوتيّة لا نقاش في سندها فالقرآن الكريم مقطوع به ومتيّقَن به، فمن هذه الناحية تكون القضيّة مفروغ عنها ولا بحث للفقيه فيها، بعكس الخبر فإنّه يحتاج إلى دراسة سنده، وهل صدر عن المعصوم‍g أو لم يصدر منه.

إذا كانت الآية الكريمة وهي متيقّنة ممّا نزل به الوحي صريحة الدّلالة في مؤدّاها الذي يفيد حكماً شرعيّاً معيّناً فهذا الحكم يكون معلوماً للفقيه فلا توقّف في الأخذ به. ومن الأحكام الشَّرعيّة ما يملك هذه المرتبة من الثّبوت، وإنّما النّص الذي يدلّ عليه قد يكون ثبوته من ناحية السّند ظنّيّاً، ودلالة على مؤدّاه ظنّيّة، وقد يكون الحديث معلوم الصدور كالخبر المتواتر، لكن دلالة على مؤدّاه ظنّيّة، (والنتيجة تتبع أخس المقدّمات)، فهنا الفقيه يستفيد حكماً شرعيّاً، ولكن لا يجزم أنّه صادر عن المعصومg، فما العلاج؟

هذا النّوع من الخبر، وهذا النّوع من الدلالة، هل ينتهيان إلى دليل شرعيّ قطعيّ يعطيهما الحجيّة أم لا؟ خبر الثّقة -من ناحية السند- هذا الذي أوصل إلينا هذا الخبر فدرس الفقيه هذا الخبر فوجد أنّ كلّ رجال هذا السند ثقات، وكونهم ثقات هذا لا يعطي علماً بالصدور وإنّما يعطي ظنّاً بالصدور، وهذا الظنّ الذي يورثه خبر الثّقة فهل يوجد دليل قطعيّ يقول لي بأن آخذ خبر الثّقة؟ إذا وجد تمّت الحجّة[16].

فخبر الثّقة أعطى الاعتبار بواسطة دليل أقوى منه وهو الدليل القطعيّ، نعلم أنّه صدر من المعصومg إمّا قولٌ أو تقريرٌ بأنّ خبر الثّقة حجّة، أي تأخذون به. فهنا يأخذ به الفقيه.

الظنّ المستفاد من ظاهر الدليل، فالدليل مرة يكون صريحاً نصّاً في مدلوله، ومرّة يكون ليس نصاً صريحاً في مدلوله فيه معنى منه ظاهر، وتوجد احتمالات أن المقصود بالخبر ليس ما هو المستفاد بحسب الظهور. هل هناك دليل قطعيّ يقول لي إنّ هذا الظاهر يجب أن تُرتِّب عليه الأثر وهو حجّة؟ نعم يوجد دليلان قطعيّان، دليل يعطي خبر الثّقة الحجّيّة من ناحية السّند، ودليل قطعيّ يعطي خبر الظهور الحجّيّة من ناحية الدّلالة، فهنا يتم للفقيه استنباطه المسألة من هذا الخبر. وهذا ثبوت على المستوى العلميّ كما يسمّى، ظنٌّ معتبر بالدليل القطعيّ، وهذه هي طريقة الفقه الجعفريّ، إمّا أن ينتهي الاستدلال إلى العلم أو ينتهي إلى العلميّ.

أمّا البناء على ظنٍّ غير معتبر ولم يكن دليل قطعيّ على اعتباره والأخذ به من ناحية شرعيّة -فمع عدم وجود الدليل- فهذا الظنّ لا يؤخذ به ولا يصح الاعتماد عليه.

في مذهب الأخوة السّنّة فهم يأخذون بالقياس وبالاستحسان وبالمصالح المرسلة وبسدِّ الذرائع، ويأخذون بالكتاب والسُّنّة في استنباط الحكم الشّرعيّ.

القياس: الاستواء بين الفرع والأصل في العلّة المستنبَطة من الحكم الأصل. يأتي الحكم الشّرعيّ وهذا الحكم الشّرعيّ يعمل الفقيه رأيه فيه، فيفكِّر فيه تفكيراً مليّاً دقيقاً فيبحث عن العلّة وراء هذا الحكم -لماذا شرَّع هذا الحكم؟- فالخمرُ لما شرِّعت حرمته؟ هل لغلائه أو لأمرٍ آخر؟ لإعطاء ارتياح للطّرف الشّارب؟ فيقول لإسكاره، فالفقيه يحدّد العلّة وهذه ليست منصوصة[17]، فيعمِّم الحكم وهذا هو الأصل، والفرع هو حرمة الفقّاع مثلاً، فيقول: إنّ الفقّاع حرام، وكلّ مسكر حرام لأنّ الحكم يدور مدار علّته وجوداً وعدماً، فما وجد فيه الإسكار فقد وجدت فيه علّة التحريم.

الاستحسان: هو ما يستحسنه المجتهد في حكم معين بعقله البشريّ. ويعرف كذلك بأنّه دليل في نفس المجتهد ولا يقدر على التعبير عنه، حالة حدسيّة عنده[18].

المصالح المرسلة: هي ما لا تستند إلى أصل كلّيّ أو جزئيّ في الشّرعيّة.

سدّ الذّرائع: هي ما كان وسيلة لمصلحة أو مفسدة، أي ما يكون لمصلحة واجبة التحصيل فيجب، وما يكون طريقاً إلى مفسدة محرّمة فيحرم. وليس أن يكون مقطوعاً بأن يكون مقدّمة، فكلّ ما يتصوّر أن يكون ذريعة ويمكن أن يوصل فيحرم إذا كان ذريعة للمحرّم، وإذا كان ذريعة من ذرائع الواجب فيجب، لمجرّد المصلحة.

هذه الطرق الأربعة تجتمع في نتيجة واحدة وهي أنَّ الفقيه يتوصَّل إلى ظنٍّ بمقدار سبعين إلى ثمانين بالمِائة إلى أنّ هذا حكم شرعيّ.

نسأل هذا الظنّ هل أُعتبُر شرعاً، المعروف أنّ الظنّ في نفسِه ليس حجّة شرعيّة ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾(سورة النجم: 28). فالظنّ في نفسِه ليس حجّة شرعيّة، لا بدّ من دليل شرعيٍّ يثبت حجّية هذا الظنّ، وهذا الدّليل الثّاني إذا كان ظنّاً جاءت نفس المناقشة فلا بدّ من أن يكون دليلاً قطعيّاً، ولذلك في المذهب الجعفريّ إمّا علمٌ وإمّا علميٌّ، بمعنى أن يقوم دليلٌ قطعيّ بحجّيّة السند وعلى حجّيّة المدلول والمضمون.

ففي المذهب الجعفري لا تُعتمد أيّ وسيلة من وسائل الاستنباط إذا كانت تقف بالمجتهد عند حدّ الظنّ الذي لم يقم دليل قطعيٌّ على اعتباره وحجّيّته.

السّؤال الثّاني: إنَّ قول المسيح لبني إسرائيل: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ[19]، وثبوت النَّسخ ضمن الشّريعة الواحدة، ونسخ الشّريعة لبعض ما في شريعة قبلها دليل على تأثير الزّمان والتّطور الحضاريّ في الحكم الشَّرعيّ، فلماذا توقّف هذا التأثير في زماننا؟

ليس هناك إنكار بأنّ للزّمان والمكان وحركة التّطوّر الحضاريّ أثراً على بعض الأحكام، ولكنّ هذه القضيّة هل تستلزم نسخ بعض الأحكام؟ 

والنسخ معناه محدوديّة أمد الحكم، بحيث إنّه عند النّقطة الزّمانية المعيّنة يرتفع الحكم نهائيّاً ويفقد كلّ وجوده، وحتى لو وجد الحكم في الخارج وتوفّرت شروطه فإذا كان حكماً منسوخاً فهذا لا يعطي الحكم فاعليّة، بمعنى أنّ الحكم انتهى ولا وجود له.

هل تطوُّر الزّمان يستوجب دائماً أن ترتفع الأحكام؟

لدينا في الشّريعة الإسلاميّة حسابٌ لحركة الزّمان واختلاف المكان، هناك أدلّة تعالج الجانب الثّابت من حركة الإنسان ووجوده وحياته، وهناك أدلّة لديها نظر بعيد يتماشى مع حركة المتطوّر من حركة الإنسان.

صحيح أنّ الدليل ثابت قبل ألف وأربعمِائة سنة، ولكنّ هذا الدليل قد نظر إلى المدى الزّمنيّ كلّه، وحمَل مرونةً بحسب هذا النظر بما يغطي حاجة الحركة والتطور على طول الزّمان، وهذا تعويض عن النَّسخ فلا حاجة للنَّسخ، وإذا قلنا حكم أوّليّ وحكم ثانويّ فليس لدينا حكم في الشّريعة يرتفع، وإنّما الحكم الذي يستجدّ موضوعه أو يصبح في حالة تزاحم مع حكم آخر يقدَّم عليه، فهذا الحكم لا ينتهي وهو باق وكل ما هنالك أنّ الحكم متغيّر. وفي حال رجع الموضوع إلى طبيعته الأوّليّة فالحكمُ الأوّليّ موجود[20].

فكون الشّارع المقدَّس يضعُ حُكماً على موضوع معيّن وكما تسمّى بـ(القضيّة الحقيقيّة)، ويأخذ فيها الموضوع مقدَّر الوجود، بمعنى كلّما -مثلاً- وجد المكلّف المستطيع للحجّ والمتوفِّر على شروط الحجّ ومع ارتفاع الموانع؛ كلَّما وجب عليه الحجّ، فهذه عمليّة وضع، وجعل، واعتبار، وتقنين، وتشريع، فهذه مرحلة. ويولد شيء وهميّ يسمّى مجعولاً؛ وهي قضيّة كلّية وليس لها وجود في الخارج وإنّما موجود يتصوّره العقل، وهو قضية تقول: كلَّما وُجد مكلَّف واستطاع الحجّ وجب عليه الحجّ.

فالمرحلة الأولى: عمليّة جعل وتنسيب الحكم إلى موضوعه تنسيباً اعتباريّاً، جعليّاً قانونيّاً، تشرّعيّاً. 

والمرحلة الثّانية: القضيّة الكلّيّة العامّة وهي: كلّما قدّر وجود مكلّف في الخارج متوفّر على الاستطاعة والموانع منتفيّة في حقّه، كلّما وجب عليه الحجّ.

مثال: وُجد الحاجّ سلمان في الخارج، ووُجدت عنده الاستطاعة، ولكن استجدّ أمر وهو قبل الاستطاعة، فقبل البلوغ كانت القضية تقديريّة بالنسبة إليه، فلقد كان الوجوب تقديريّاً. ولكنّه بلغ وصار عنده استطاعة، فيوجد شيء اسمه موضوع فعليّ شرعيّ، بمعنى أنّ الحكم تنجّز فعلاً في حقّه وصار مخاطباً بالحجّ، فقبل الاستطاعة كانت تنقصه خمسين دينار فلم يكن مخاطَباً بالحجّ. فهذه مرحلة التنجّز ومرحلة الفعليّة.

مثال ذلك: قضية أنّ شرب الخمر حرام، فهذا اضطّر إلى الخمر وانحصر دواءه فيه، فجاء عنوان أنّ الحكم كان موضوعاً على ذات الخمر، وعلى عنوان الخمر أنّه حرام، ولكن أمامي الآن ليس مكلَّف وخمر، وإنّما أمامي مكلَّف وخمر والمكلَّف مضطّر إلى الخمر.  فيأخذ حكم إباحة تناول الخمر بقدر الضرورة. وحكم أنّ الخمر حرام هل انتهى؟ لا، لم ينتهي، ولكنّه ليس فعليّاً، فما دام مضطّراً فلا فعليّة في الحرمة وليس مخاطَباً بحرمة التّناول، وإنّما عنده حكم إباحة وهذا في مرحلة الفعليّة.

وأمّا مرحلة الجعل والمجعول فالحكم (أنّ الخمر حرام) باقٍ على حاله، فما إن يرتفع اضطراره فالحكم الأوّليّ فعليّ في حقّه.

فهناك عدد من الطّرق عند الفقهاء تسمح لهم بإعطاء أجوبة شرعيّة بالنّسبة للمستجدّات المختلفة في مختلف ميادين الحياة. والإسلام بما توفَّر عليه من تشريعات لم تتوفّر عليها رسالة سماويّة قبله، يوجِد تشريعات وقواعد عامّة وأدلّة عامّة. 

وضيق الإمامة المعصومة وإنّه لو امتدّ وجود الأئمةi الامتداد الطبيعيّ لحياتهم‌i سيقدّمون إجابات مغطّية لحركة الحياة بشكل كبير جدّاً وهي واقعيّة جداً. وهذا ليس من مسؤوليّة الإسلام أنّ الأمّة حرمت نفسها منه.

فالأئمةi لو عاشوا حياتهم الطّبيعيّة ومارسوا دور الإمامة كما أوجب اللهُ تبارك وتعالى، فمستوى رشد الأمّة والعلم الواسع للأمّة سيبلغ درجةً كبيرةً جداً تساعد على فهم الإسلام بدرجةٍ عاليةٍ أكثر من الآن، بحيث تعطي قدرة عاليةً على فهم القضايا المستجدّة من الشّريعة الإسلاميّة.

السّؤال الثّالث: نعلم أنّ حقّ التّشريع بالأصالة لله وحده، فهل الدور الذي يقوم به الفقهاء عند تبديل حكمِ مسألةٍ في موضوع من الإباحة إلى الحرمة والعكس تشريعٌ منهم، بحيث ينافي حصر التّشريع في الله سبحانه وتعالى؟

حقّ التّشريع بالأصالة للهa وحده لا يشاركه فيه أحد، هو المالك ولا مالك غيره، وبذلك لا حقّ لأحدٍ للطّاعة على أحدٍ إلّا بالأصل لله وحده، فالمالك هو من له حقّ الطّاعة. أنت أجنبيّ منّي وأنا أجنبيّ منك خلقاً، فلم تخلقني ولم أخلقك، فلا تملكني ولا أملكك، ولا حقّ لي أن أشرّع لك، ولا حقّ لك بالتّشريع لي.

والنّبيّe بما هو بشر -وبغض النّظر عن النّبوّة- ليس له أن يقدّم أو أن يؤخِّر، وما لم يعطَ الرّسولe حقّ التّشريع الجزئيّ من اللهa في مساحة محدودة وهي تحت علم اللهa فليس له حقّ التّشريع.

فالفقيه ليس له حقّ التّشريع لا بالأصالة ولا بالتّبع، فإذا كان الرّسولe له حقّ التّشريع الجزئيّ بالتبع[21]، فالفقيه لا حقّ له في التّشريع بالأصالة ولم يؤذن من معصوم بأن يشرِّع -فالفقهاء لا يشرِّعون- ، وإنّما عمله استنباط حكم شرعيّ من مصادر الشّريعة، وسواء كان حكماً أوّليّاً أو ثانويّاً لا فرق بينهما، وهو محكوم في استنباطه لاتباع الدّليل ولا حقّ له في زيادة ولا نقصان، ورأيه الشّخصي وعنديّاته لا دخل له في إثبات حكم شرعيّ[22]، ولذلك فإنّ الفقهاء يحترسون في عمليّة الاستنباط بأن يفتِّش عن نفسه هل ميله لهذا الفهم يمكن أن يكون صادراً من حبّ، من بغض، من خوف، فيراقب نفسه من أجل أن يكون استنباطه الحكم الشّرعي لا مرجع له إلّا خوف الله ودلالة الدّليل، ولذلك قالوا: (إنّ الفقيهَ عبدُ الدّليل).

السّؤال الرّابع: هل تتأثّر مساحة التغيّر في الشّريعة ضيقاً وسعةً بالاجتهاد وفهم الفقيه؟

بدايةً درجة فهم النّصّ تؤثّر في الاستنباط، ثمّ هناك نكات وقرائن عرفيّة قد يستفاد منها العموم لبعض النّصوص الواردة، فقد يأتي دليلٌ في قضيّة خاصّة، فكيف استفيد منه حكماً شرعيّاً عامّاً أو كلّيّاً؟ بهذا المسمّى لا يكون، ولكن قد توجد قرائن ونكات في دليل الحادثة الجزئيّة فلو اكتشفها الفقيه تعطيه فهماً بعموم الحكم، فانكشاف هذه النّكات وهذه القرائن يختلف من فقيه إلى آخر، وقد يكتشفها (ألِف) ولا يكتشفها (باء)، وإن اكتشفاها معاً قد يوافق على كفايتها (ألِف) وقد لا يوافق على كفايتها (باء).

(ألِف) الذي استفاد أنّ هذا الدليل في الحادثة المعيّنة لا يريد القول أنّ الحكم الشّرعيّ في هذه الحادثة المعينة فقط، وإنّما هناك حادثة تماثلها فيستطيع أن يستنبط منها قانوناً كلّيّاً، فهذا الفقيه سيكون أقدر على مواجهة المستجدّات من الفقيه الذي ذهب به الفهم أنّ هذا الدليل يخصّ هذه الحادثة.

من يأخذ بمناسبة الحكم والموضوع؛ فبعض الفقهاء يأخذ بها وبعضهم لا يأخذ بها، فالآخذ بمناسبات الحكم والموضوع سيستنتج قاعدة كلّية دون صاحبه وهو أقدر على مواجهة المستجدات. مثال: «دم الرّعاف نجس» فالخبر يتكلّم عن الرّعاف، الفقيه يقول إنّ العلاقة بين النجاسة ودم الرّعاف لا دخل للرّعافيّة فيه، فالنجاسة إنّما للدم وليست للدم بما هو رعاف.

فلو افترضنا أنّه لا يوجد في نجاسة الدم إلّا هذا الحديث، فالفقيه الذي يرى أنّ المناسبة لجعل الدّم نجساً هو كونه دماً وليس كونه دم رعاف سيستنتج أنّ كلّ دمٍ نجس، أمّا الفقيه الآخر الذي لم يذهب أنّ المناسبة هي هذه، سيقول بأنّ دم الرّعاف نجس، ولا أقول أنّ كلّ دم نجس فليس لديّ دليل. فتختلف السعة بين الفقيه الأوّل والثّاني. الأخذ بمفهوم الموافقة فينفتح الباب أمامه للكثير من القضايا بدرجةٍ أكبر.

وليُ الأمر ومسألة الولاية والتي تسمح لصاحبها أن يستنبط ما يحفظ النّظام الإسلاميّ والمصلحة الإسلاميّة ومصلحة المسلمين، والمحافظة على النّظام العام، ويغطّي هذه المساحة بالأحكام والمستجدّات الأخرى. فوليّ الأمر مرّة يذهب الفقيه بأنّ ولايته في الأمور الحسبيّة[23]، وهو يتيم فاقد للوليّ والجدّ من الأب، فهنا الفقيه -بما هو فقيه- يُعْمِل ولايته في هذا الشأن في حدود الأمور الحسبيّة.

ففي شؤون الدّولة الإسلاميّة التي لا وليّ لها، فهناك أمور تتوقّف عليها مصلحة الدّولة والنّظام، وهذه الأمور لو ضُيّعت لسقط النّظام بالكامل، ويتأثّر المسلمون تأثّراً سلبيّاً جدّاً، فهنا في الأمور الضّروريّة والتي يقطع بألّا يصحّ إهمالها وليس لها متولٍّ فيُعمِل ولايته فيها.

الدائرة الثّانية وهي منطقة الفراغ -وهي أوسع- وهي منطقة أحكام الإباحة بالمعنى الأعمّ[24]، والإباحة بالمعنى الأعمّ تشمل المكروه والمستحبّ، فما تعادل طرفَا الترك والفعل فهو مباح، وترجّح فيه جانب الفعل ترجّحاً لا يوجبه فهو مستحبّ ويدخل في المباح بالمعنى الأعمّ. وفعلٌ تركه أولى -الترجّح مع تركه- فهو فعل مكروه وهو يدخل في المباح بالمعنى الأعمّ، فالولاية للفقيه في حدود المباح في المعنى الأعمّ، وأمّا حرام يتحوّل إلى مباح، أو واجب يرفع عنه الوجوب، فهناك طرق أخرى كالتزاحم التي يخرج الحكم فيها عن عنوانه الأوّليّ من الوجوب لعدم الوجوب فهذا العنوان ثانويّ، وهنا الكلام حول إعمال الولاية، فمرّة يكون في الأمور الحسبيّة وأخرى في منطقة الفراغ وهي أوسع من دائرة الأمور الحسبيّة.

فربّما لا يكون الأمرُ ضروريّاً بدرجة عالية ولكن لا يوجد حكم إلزاميٌ بالنّسبة إليه، فالفقيه يُعمِل ولايةً في مقتضى مصلحة الإسلام والمسلمين وإن لم يكن الأمر لا يصحّ تضييعه، وتضييعه يهلِك، وما علمنا بأنّه لا يصح تضييعه، فبما أنّه مباح ومن مصلحة الإسلام والمسلمين فالفقيه يتصرّف، فيوجِب ما هو مباح أو يحرّم ما هو مباح، فله هذه الولاية وهذه الولاية أوسع إطاراً.

وهناك ولاية ثالثة وهي أوسع من الاثنتين وهي الولاية التي يقول بها الإمام الخمينيّp التي تُعطي الفقيه حقّ التّصرّف بما للمعصوم من التّصرّف إلّا ببعض الموارد المعلوم أنّ المعصوم مختصّ بها كالجهاد الابتدائيّ كما هو على رأي بعض الفقهاء، وأنّ الاجتهاد الابتدائيّ لا يكون إلّا بإذن الإمامg.

وبعضهم عندهم حتى في مورد الحرام والواجب يأتي تصرّف الوليّ الفقيه، وهذا يجعل لدينا اختلافاً في مساحة المتغيِّر في الشّريعة ضيقاً وسعةً بحسب ما عليه اجتهاد المجتهد.

السّؤال الخامس: ما هو الرّابط بين المتغيِّر في الشّريعة ومساحة الفراغ التي نسمع عنها؟

هذه النظريّة تقول: إنّ الشّريعة عبارة عن أحكام إلزاميّة من وجوب وحرمة، وأحكام غير إلزاميّة وهي المباح بالمعنى الأعمّ بما يشمل المباح وهذا هو المباح بالمعنى الأخصّ أو مستحبّاً أو مكروهاً. يقول إنّه أُعطي لوليّ الأمر أن يُلزم بالمباح، وإذا ألزم بالمباح وجب[25]، ولكن فعلاً هذا المباح صار واجباً في حقِّك أو حقّي، ومن ناحية فعليّة صرتُ أنا مخاطَباً بوجوب وليس بإباحة؛ لأنّه أُعطي ولاية الأمر بوجود دليل شرعيّ الذي يوجب على المكلّفين طاعته في هذه الأمر.

فالنّبيّe له جنبتان: جنبة التّبليغ، وجنبة ولاية الأمر، فقد يأتي بالحكم مبلِّغاً عن اللهa‌[26]، فكونه حاكماً بما هو رسول، وتجب طاعته كما بلّغ وتجب طاعته فيما أمر وفيما نهى عنه بما هي أوامر ولائيّة.

الفقيه مبلِّغ والاستنباط يقوم مقام التبليغ، فالفتاوى تقوم مكان التبليغ ولها حجّيّتها، والدليل الشّرعيّ قام على حجّيّة هذه الفتاوى مع اكتمال الشّروط، وسواء أُعطي في دائرة الأمور الحسبيّة أو في دائرة منطقة الفراغ أو في دائرة الولاية العامّة الأعمّ، فالدّليل قام على وجوب طاعته. ففي الأمور الحسبيّة إذا وجد الفقيه وغير الفقيه وهذا أمرٌ شرعيّ يحتاج إلى ضبط الأحكام والمصالح الشّرعية وأيّ مصلحة مقدَّمة، فمن أولى به؟ وإن جاز لثقات المؤمنين، ولكنّ دور ثقات المؤمنين بعد الفقيه، فالأمور الحسبيّة يختصّ بها الفقيه.

ومنطقة الفراغ يملؤها الفقيه بفقهه وإحاطته. الفقيه وتقديره المصالح، ولا بدّ من دليلٍ يقوم على إعطاء الولاية في هذا الأمر، والولاية على متولٍّ عليه لا بدّ من أن يطيع. فالفقيه أمامه حكم مباح، والمصلحة الإسلاميّة ومصلحة المسلمين وحفظ النّظام تقتضي أن يأخذ بصفة مستجدّة، فتجعله عند المكلَّفين واجباً، فيأمر الفقيه به وبما أنّه فقيه تجب طاعته، فيجب عليّ أنا المخاطَب بهذا الحكم الولائيّ من الفقيه الذي يقول هذا يجب عليك، وأن هذا يحرم عليك.

مثال: لديّ بيت، وبسبب عدم بيعي له تتأثّر مصلحة المسلمين كثيراً، فتحدث حوادث مروريّة كثيرة، أو منطقة استراتيجيّة، فتتضرّر مصلحة المسلمين، وأنا لست راضيّاً عن بيع البيت -ولي الحقّ ألّا أبيع البيت، أنا متصرّف في مالي، وأنا مخيَّر بين البيع و عدمه وهذا أمر مباح- ولمّا يأتي حكم الحاكم الشّرعي فيقول لي: عليك أن تبيع بيتك، الإباحة باقية في مرحلة الجعل والمجعول، ولكن من الناحية الفعليّة أنا مخاطَب وتتحوّل الإباحة في حقّي الآن إلى وجوب بيع البيت. فمنطقة الفراغ قابلت مستجدّاً من المستجدّات تقتضي مصلحة المسلمين، بأن يبيع عشرين أو أربعين شخصاً بيوتهم، بسبب الحاجة لشقّ شارع ولا بدّ من أن يشقّ، فربّما تُلغى مئات البيوت.

مثال آخر: «إذا كان لأحدكم أرضاً فليمنحها أخاه أو فليزرعها»، هل يوجد حكم شرعيّ أوّلي يقول أنت لديك أرض هل عليك أن تمنحها أخاك؟ أو تزرعها؟ هي أرضي وأنا حرّ في التصرّف فيها، أزرعها أم أبنيها أو أبيعها، والحديث يقول «إذا كان لأحدكم أرضا فليمنحها أخاه أو فليزرعها»[27] وهذا ليس حكماً أوّليّاً وإنّما حكمٌ ولائيٌ من معصوم يرى أنّ المصلحة الاقتصاديّة للمسلمين في ذلك الوقت تقتضي هذا الأمر، وهو أنّ أرضك إمّا أن تمنحها لأخيك أو أن تزرعها، فقد خرج الحكم من الإباحة إلى الوجوب.

أميرُ المؤمنينg في عهده لمالك الأشتر يقول بما مضمونه «امنع الاحتكار، وحدد السّعر بما لا يجحف للطرفين»[28]، ليس هناك حكمٌ أوّليٌ بهذا الأمر، وإنّما حكمٌ ولائيٌ. فالحكم الأوّليّ أنّ النّاس مسلَّطون على أموالهم، فلهم حقّ فرصة انتظار غلاء الأسعار، ولهم حقّ البيع أو عدمه، ولكن تقتضي مصلحة المسلمين فيأتي حكم الإمام المعصوم، وإذا أُعطي هذا الحقّ للفقيه جاء دوره بأن يلزم بعدم الاحتكار وتحديد السّعر.

فمنطقة الفراغ تشهد تبدّلاً في الحكم دون غيرها، وليست منطقة واجب وحرام، فالحرام لا حقّ له في التصرّف فيه، والحكم الواجب لا يستطيع مواجهته حتى بالعنوان الثّانويّ. 

صدر أمرٌ من المعصوم بألّا يُمنع فضلَ ماءٍ أو كلأٍ، لديك مساحة عشبيّة كبيرة وأكثر من حاجتك وماء عينك أكثر من حاجتك فلا تمعنها من الآخرين، فهذا ليس حكماً دائماً، وهذا ليس حكماً أوّليّاً، وإنّما هو حكمٌ ولائيّ يواجه ظرفاً خاصّاً متقضيّاً لمثل هذا الحكم[29].

وعن الصّادقg أنّ النبّيّe نهى عن بيع الثمرة قبل نضجها[30]، فالكلام عن الصّادقg بأنّ النّهي من النّبيّe بأنّه ليس تحريماً وإنّما لإنهاء الخصومة. هناك ظرف استجدّ في حياة المسلمين وأنّ بيع الثمرة قبل نضجها سبَّب خصومات واختلافات، هذا حكم مباح بأن أبيع الثّمرة قبل النّضج أو بعده، فجاء الأمر بأنّ هذا المباح يتوقّف؛ لاقتضاء الظّرف الخاصّ وهذا حكم ولائيّ، وهنا مدّ لمنطقة الفراغ. فصار هناك علاقة بين المتغيِّر في الشّريعة ومساحة الفراغ في التّشريع.

السّؤال السّادس: ما هو الرّابط بين المتغيِّر في الشّريعة والتبدّل في الموضوعات؟

هذه هي النّظرية التي يأخذ بها الإمام الخمينيّp، الزَّمان والمكان عند الإمام الخمينيّ يؤثِّران في الأحكام الشّرعيّة عن طريق التّأثير على موضوعات الحكم الشّرعي، فكلّ حكم شرعيّ ثابت على موضوعه، فالزّمان والمكان لا يغيِّر أيّ حكمٍ في نفسه، ولا يزيد ولا ينقص حكماً، ولكنّ الحكم يدور مدار وجود موضوعه، وارتفاع موضوعه، فإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم من ناحية فعليّة، وإذا وُجد الموضوع وُجد الحكم من ناحية فعليّة[31].

الفرق بينه وبين منطقة الفراغ تبدّل الموضوع كما يمكن أن يحصل بموضوعات الحكم بالإباحة، يمكن أن يحصل في موضوعات الحرمة والوجوب، فكما أنّ الحكم بالإباحة يتبدّل إلى وجوب أو إلى حرمة بتبدّل موضوعه، فكذلك الحرام يتبدّل إلى حلال بتبدّل موضوعه، والواجب يخرج عن وجوبه بتبدّل موضوعه[32].

تغيَّر الموضوع فنشأ حكمٌ جديد -حكم ثانويّ- وهذا الحكم مربوط بوجود موضوعه، فمع انتهاء موضوعه انتهت فعليّته. فالفقيه هنا أو وليّ الأمر ليس من دوره وليس من حقّه وضْع أحكامٍ جديدة، أو تغيّير أو وضع حكمٍ مكان حكم، أو تبديل حكمٍ مكان حكم، وإنّما دور الفقيه اكتشاف التبدّل في الموضوع، وهل موضوع الحكم بالوجوب باقٍ في الخارج أو الحالة الخارجيّة تبدّلت وسبّبت تبدّلاً في الموضوع؟ أو أنّ حركة التطوّر سبّبت تبدّلاً في الموضوع أو لا؟ فإذا لم تسبّب فالحكم هو الوجوب أو الحرمة فيما كان موضوعاً للحرمة، وأمّا إذا كانت حركة التطور غيّرت الخارج، فبدل أن يكون الموضوع موضوعاً للوجوب، انتهى ذلك الموضوع فجاء موضوعٌ آخر فنكتشفه من الشّريعة ويتناسب مع هذا الموضوع. فكلّما توصّل الفقيه إلى تبدّل في الموضوع خارجاً كلّما كان عليه أن ينسب إليه حكمه الشّرعي المناسب الثّابت له في الشّريعة.

عندَ طروءِ موضوع ثانويّ بموضوع الاضطرار إلى الميتة، فالميتة حرام وصار لها اضطرار فهنا تبدُّل في الموضوع (هذه ميتة المكلف مضطر إليها)، والحرمة موضوعة على الميته، فحرمة أكل الميته غير المضطّر إليها فتبقى على ثبوتها من ناحية فعليّة ومن ناحية المجعول الكلّيّ، ولدينا حكم ثانٍ في الشّريعة بأنّ الميتة المضطر إليها مباحه، فأنا أطبّق الحكم الثّاني لوجود عنوانه، فتبدّل الموضوع أعطى حكماً جديداً.

مثال: ملكيّة المعدن وملكيّة الأرض المحياة. لديك أرض حفرتها فاكتشفت فيها معدن فأنت ملكت الأرض، وهذا المعدن مباح وهذا حكم موجود، ولكن تطوّر الزمن وصارت شركات تشتري أراض بالكيلومترات وتستخرج ما في الأرض من مخازن وتملكها سواء كانت شركات أجنبيّة أو محلّيّة، فصارت الثروة العامّة التي تحتاجها الأجيال وتحتاجها الأمّة في يد عشرة أشخاص، فينتج لدينا موضوع جديد، فيتبدّل الحكم بأنّ محيي هذه الأرض لا يملك المعدن.

مثال ثانٍ: يطرح أحد الفقهاء مثالاً وهو مواجهة الدّولة العباسيّة، لم تكن مواجهتها جائزة وهي مضرّة بالإسلام أبلغ الضرر؛ لمقتضيات التقيّة للظّروف الخّاصّة التي تعني أنّ المواجهة فيها حرق للإسلام وإذهابه له كلّه، ولكن هذا الموضوع تبدّل فضعفت الدولة العباسيّة ويمكن مواجهتها، وقدر الانتصار عليها فهل يبقى حكم التقيّة؟ لا يبقى الحكم.

فعلى ضوء ما يحدثه الزّمان والمكان وحركة التّطوّر الحضاريّ في حياة الإنسان من تغيير خارجيّ على موضوعات الأحكام ينفتح باب واسع لأحكام فعليّة تابعة لها، والجديد هنا فعليّة هذه الأحكام وحلولها محلّ فعليّة أحكام أخرى لا أنّها مشرَّعة مكانها، وكلٌّ من الحكم الأوّليّ والثّانويّ ثابت جعلاً ومجعولاً كلّيّاً بلا تغيير.


 


[1] ندوة مع سماحة الشّيخ القائدB أقامتها جميعة التّوعية الإسلاميّة في البحرين في منطقة الدُّراز، وهي بصيغة سؤال وجواب، وهي عبارة عن جلستين متباعدتين زماناً جُمعتا ونشرتا معاً.

الأولى: أُقيمت يوم الاثنين، ٢١ ذو القعدة ١٤٣٣هـ، الموافق: ٨ أكتوبر ٢٠١٢م.

والثّانية: يوم الاثنين، ١٠ صفر ١٤٣٤هـ، الموافق: ٢٤ ديسمبر ٢٠١٢م. والثّانية لم تنشر من قبلُ.

 

[2] أُقيمت في يوم الاثنين، ٢١ ذو القعدة ١٤٣٣هـ، الموافق: ٨ أكتوبر ٢٠١٢م.

 

[3] الصّلاة لا تسقط بأيّ حال، ولكنّها هنا تسبِّب الموت.

 

[4] وكانت مؤقّتة عند اللهa، فمثلاً هذا الحكم له عشر سنوات وينتهي أمده، فهو مؤقّت من أصل جعله.

 

[5] الحقائق أعمّ من المعنويّة والمادّيّة.

 

[6] وأشار سماحته إلى المايكروفون.

 

[7] فمن لطف الله بعثُ الأنبياء، وحاجة البشر تقتضي بعث الأنبياء، وغير ذلك من المخارج.

 

[8] الواقع أعمّ من الخارج طبعاً، حيث يوجد لدينا عالَمٌ واقع وعالَمٌٌ خارج، فالخارج هو العالَم الحسّيّّ، والواقع هو كلّ ما له تحقّق مستقّلاً عن ذهن الإنسان، عن اعتبار الإنسان، عن تصوّر الإنسان، عن وجود أو عدم وجود الإنسان. فعدم اجتماع النقيضين واقع مع أنّه ليس له خارج طبعاً، أي أنّه ليس موجوداً في العالم الحسّيّ الخارجيّ، ولا يوجد شيء متجسّد يسمى عدم اجتماع النقيضين.

 

[9] ملاحظة: مشهور الفقهاء قديماً وحديثاً هو حرمة الشطرنج مُطلقاً في نفسه.

 

[10] وتوجد عند الفقهاء معالجة عند تزاحم المهمّ والأهمّ، ويخرِّجونها على أساس شيء يُسمّى تخصيص وحكومة وما إلى ذلك، وهذه مصطلحات تحتاج إلى شرح طويل.

 

[11]  لقوله تعالى في سورة البقرة، في الآية 229: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.

 

[12] وهذه الأحكام الثّابتة سيأتي في كلام أنّها قد تتعرّض عند بعضهم للتّغيّر، والتّغيّر -كما سبق- في عالَم الفعليّة وليس في عالم التّشريع.

 

[13] وهو حديث الرفع كما في توحيد الصّدوق، ص313، وتحف العقول، ص50، عن رسول اللهe: «رُفع عن أمّتي تسعة: الخطأ ، و النسيان ، وما أكرِهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطرّوا إليه ، و الحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة».

 

[14] هذا بناء على عدم احتماليّة إمكان التزوير في التصوير. (أسرة المجلة)

 

[15] أُقيمت: يوم الإثنين ١٠ صفر ١٤٣٤هـ، الموافق ٢٤ ديسمبر ٢٠١٢م.

 

[16] وهذا ثبوت ليس على مستوى العلم وإنّما على المستوى العلميّ، بمعنى أنّه معطى اعتباراً من خارجه.

 

[17] لنفرض أنّ الشريعة لم تقل إنّ الخمر حرام لكونه مسكراً، وإنّما هذا الفقيه نفسه توصّل بحسب تدقيقه وتفكيره وحدسه واستعرض كلّ العلل المحتملة ورجّح أنّ العلّة وراء هذا الحكم هي الإسكار.

 

[18] هي دليل الحكم ينقدح في نفسه ولكن ليس له المقدرة عن التعبير عنه.

 

[19] سورة آل عمران: 50.

 

[20] وبمعنى آخر هناك مراحل ثلاث: وهي الجعل للحكم الشرعيّ، والمجعول، ومرحلة فعليّة الحكم.

 

[21] بمعنى بإذن من اللهa.

 

[22] قد تؤثّر عليه في الاستنباط من حيث لا يدري، وذاك شيء آخر.

 

[23] وهي الأمور المستعجلة التي لا يصلح إهمالها، وهي مصالح لم يعيّن لها الشارع المقدّس وليّاً مثل الأيتام والمساجد فهذه مصالح لا يرضى الشارع بتضييعها، فلا يرضى بإهمال شأن المسجد وتضييع أمواله ولا تضييع أموال اليتيم.

 

[24] هناك إباحتان، المعنى الأعمّ والمعنى الأخصّ. ففي المعنى الأخصّ فيها يتساوى الفعل والترك، وتسمى مرة اقتضائيّة، وأخرى غير اقتضائيّة.

 

[25] وهو بأن يلزم المكلفين بأن يفعلوا المباح، والمباح في مرحلة الجعل والمجعول باقياً على إباحته ولا يستطيع تغيّره.

 

[26] هو مرسل وموصل فيجب طاعته في تبليغيه، وقد يصدر أمر بنظام تسيير الحكم، ويدخل في تدبير الشّأن العامّ من موقع كونه حاكماً وليس من موقع كونه رسولاً مبلّغاً.

 

[27] ورد مضمون هذا الخبر في كتب العامة، عن جابر بن عبد الله عن النبيe أنّه قال: «من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها»، مسند أحمد، ج3، ص392، صحيح مسلم، ج5، ص19، وقد مثَّل به الشهيد الصدر، في كتاب اقتصادنا، ص691.

 

[28] ونصّ الحديث «فامنع من الاحتكار فإنّ رسول اللهe منع منه ، وليكن البيع بيعاً سمحاً ، بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع»، نهج البلاغة، ج3، ص100.

 

[29] هذا منطقة فراغ.

 

[30] ففي الكافي، الكلينيّ، ج5، ص175: عن الحلبيّ قال: «سُئل أبو عبد اللهg عن شراء النّخل والكرم والثّمار ثلاث سنين أو أربع سنين قال: لا بأس به يقول: إن لم يخرج في هذه السنة أخرج في قابل، وإن اشتريته في سنة واحدة فلا تشتره حتى يبلغ فإن اشتريته ثلاث سنين قبل أن يبلغ فلا بأس، وسُئل عن الرجل يشتري الثّمرة المسمّاة من أرض فهلك ثمرة تلك الأرض كلها ، فقال : قد اختصموا في ذلك إلى رسول اللهe فكانوا يذكرون ذلك، فلمّا رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثّمرة ولم يحرمه، ولكن فعل ذلك من أجل خصومتهم».

 

[31] مرحلة الجعل والمجعول سالمتان لا يتأثّر فيهما الحكم سواء كان حكماً أوّليّاً أو ثانويّاً، فالمشرَّع ليس حكماً أوّليّاً وإنّما بالإضافة إلى الحكم الثانويّ. وكلّ منهما محتفظ بمرحلتيّ الجعل والمجعول الكلّيّ. ولكن في مرحلة الفعليّة ما أن يتبدَّل الموضوع يتبدَّل الحكم.

 

[32] المباح ربّما يذهب للوجوب، والوجوب يمكن أن يذهب للمباح حسب تبدّل الموضوع. هذه هي نظريّة الإمام الخمينيّp.

 


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا