التَّعامل الواعي مع القضيَّة الحسينيَّة

التَّعامل الواعي مع القضيَّة الحسينيَّة

المقدَّمة
بسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيم، اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّدٍe
القضيَّة الحسينيَّة كانت ولا زالت تمثِّل ركنا أساسياً للدِّين والمذهب، والرِّوايات الشَّريفة التي تحدَّثت عن هذه القضية ربما لم تنلها قضية وواقعة أخرى تأكيداً وتأصيلاً.. بحيث أصبحت ثورةُ كربلاء وقائدها الإمام الحسين‌g شعاراً دائماً لا ينقطع عنه لسان المؤمن..
وكما ينقل عن السِّيد الإمام(رضوان الله عليه): "كل ما لدينا من عاشوراء"..
قد يعتقد البعضُ أنَّ هناك شيء من المبالغة في التَّأصيل لهذه القضيَّة، فإنَّ قضايا الإسلام كثيرة، وما يرتبط برسالة النَّبيe أو الوقائع التي وقعت مع أمير المؤمنينg أهمُّ بكثير.. 
وربما يأتي من يتحدَّث عن كثرة الانشغال بهذه القضيَّة، أو كثرة ما يصرف عليها من أموال، أو تعطيل حياة النَّاس خصوصاً في أیام الإحیاء الخ، بينما ينبغي التَّركيز على ما له أثرٌ عمليٌ ملموسٌ في حياة النَّاس، واقتصادهم، وأمور معاشهم ووو.
وهنا عدة نقاط:
النُّقطة الأولى: أهميَّة القضيَّة الحسينيَّة في الرِّوايات
حجم الرِّوايات التي أكَّدت على البكاء على الحسينg أكثر من بقية المعصومين.
كثرة الرِّوايات الحاثَّة على إقامة العزاء.
كثرة الرِّوايات الحاثَّة على الزِّيارة الجسدية لقبر الحسينg حتى وقت الخوف من القتل وما شاكل، وهذه صارت سيرة للشِّيعة من عصر الأئمةi.. وكذلك نرى استحباب زيارتهg في أكثر المناسبات الدِّينية.
العبادات والأفعال المقرونة بما يرتبط بسيِّد الشُّهداءg، كالصَّلاة على طين قبره المبارك، والسبحة الحسينية، ولعن قاتله في عند شرب الماء الذي نحتاج إلیه في كلِّ يومٍ.. 
هذه الأمور الأربعة وغيرها تؤكِّد لنا: أنَّ قضيَّة الحسينg ينبغي أن تكون حيَّة، مستمرِّة، وأن لا يغفل عنها المؤمن، فهي تربِّي المؤمن تربية عملية وبطريقة تجعله لا يمكن أن ينسى الحسينg. ولهذا فإنّ المؤمن في كلِّ يومٍ ربَّما يذكر الحسينg أكثر من مرَّة.. بعد شرب الماء، بعد الانتهاء من الصَّلاة يسلِّم على الحسينg، وهكذا!
بعد أن ندرك هذا الاهتمام الكبير بقضية الحسينg، نحتاج أن نعرف لماذا كلُّ هذا؟! 
النُّقطة الثَّانية: الأهداف العُليا لثورة الإمام الحسينg 
إنَّ هذا الاهتمام الملفت والثَّواب العظيم الذي أعدَّ لإحياء ذِكر الحسينg بشتَّى أنواعه من بكاء وعزاء ومجالس وطبخ، وزيارة.. يدلُّ بلا شكٍ (باعتبار حكمة الله تعالى) على كون قضيَّة الحسينg سبب رئيس وأساس لحفظ الدِّين والتَّدين والقيم والمبادئ الإسلامية، فإنَّ الله تعالى لكونه حكيماً لا يعقل أن يأمر النَّاس بشيءٍ لا أهميَّة له في ذاتِه، ولا أثرَ له في دين الله تعالى.
ويمكن إجمال تعداد أهداف الثَّورة الحسينية إلى عدَّة أمور:
هناك عنوان عامٌ أطلَقه سيِّد الشُّهداء وهو عنوان: >الإصلاح في أمَّة جدِّي رسول اللهe<.. ممَّا يدلُّ على حصول الفساد والانحراف التَّام لولا هذا التَّحرُّك، وهوg يقول: >وعلى الإسلام السَّلام إذ قد بليت الأمَّة براعٍ مثلِ يزيد<.
وهناك تفاصيل تستفاد من كلماته ومواقفه المتنوِّعة تشيرُ إلى أهداف أو وسائل لعملية الإصلاح:
1. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يقول لأخيه ابن الحنفية: >أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر<. وفي مسيره إلى كربلاء يقولg: >ألا ترون أنّ الحق لا يعمل به وأنّ الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإنِّي لا أرى الموتَ إلا سعادة ولا الحياة مع الظَّالمين إلا برما<.
2. السَّير بسيرة النَّبيe وسيرة عليg: >وأسيرُ بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب عليهما السلام<. وهاتان وسيلتان للإصلاح.
3. الصلاة: روي أنَّه «لمَّا رأى ذلك أبو ثمامة الصّيداوي قال للحسينg: «يا أبا عبد الله، نفسي لنفسك الفداء هؤلاء اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك، وأحبُّ أن ألقى الله ربي وقد صلَّيت هذه الصَّلاة، فرفع الحسين رأسه إلى السَّماء وقال: >ذكرت الصَّلاة جعلك اللهُ من المصلين، نعم هذا أوَّل وقتِها< ثمَّ قال: >سلوهم أن يكفُّوا عنَّا حتى نصلِّي<.
ذكرت هذا ضمن الأهداف، لأنَّ هذا الموقف يشير بشكلٍ واضحٍ إلى أنَّه لا يقدَّم على الصلاة شيء أبداً، حتَّى وهم أثناء المعركة والحرب، والسُّيوف، نرى التَّركيز على عمود الدِّين، فيمكن القول بأنَّ أحد الأهداف المهمَّة هي إقامة الصَّلاة والحفاظ عليها.
إذاً هناك هدف وهو الإصلاح، وهناك وسيلة مهمة وهي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بالإضافة إلى التقيُّد بالواجبات والتي على رأسها الصلاة..
النُّقطة الثَّالثة: بعض الاشتباهات في التَّعامل مع شعائرِ الحُسينg
يظهر ممَّا أنَّ ضمان عملية الإصلاح في الأمَّة وفي المجتمع وفي كلِّ نواحي الحياة يتوقَّف على إحياءِ هذه الشَّعيرة المقدَّسة، وبتوقُّف هذه الشَّعائر -بشتَّى صورها- سوف يتغلَّب الفساد بين النَّاس، وبقدر ما ستحيى سوف يعمُّ الصَّلاح والإصلاح..
ولكنَّ الضَّمانة لحصول الهدف الكبير وهو «الإصلاح» في الأمَّة ينبغي أن يتحقَّق الإحياء أولاً، والمقدار المطلوب ثانياً، وبالطَّريقة المرضية التي لا تنافي مفهوم الصَّلاح ثالثاً.
وهنا نقول: 
أولاً: لا بدَّ أن يحمل كلُّ فرد منَّا -صغيراً أو كبيراً، رجلاً أو امرأةً- همَّ الإصلاح في نفس عميلة الإحياء؛ يعني الخطيب، الرادود، الباكي، الحاضر في المأتم، المطعم للطعام، أصحاب المضيف، علیهم أن يعيشوا هذا الهدف الكبير والمهم.
ثانياً: ما هو المقصود من وجود أثرٍ ملموسٍ لعملية الإصلاح؟ فهل يعني ذلك هو الجانب المادي المشاهد كأثر، أم أعمُّ من ذلك؟
قد أصلي وأرى أثراً واضحاً كاجتناب المحرَّم الفلاني، ولكن هناك آثار إمَّا لا يشعر بها الإنسان وإمَّا أنَّه لا يدرك أنَّها ضمن الآثار المطلوبة والمقصودة من عملية الإحياء ومن ذكر الحسينg.
ومن هنا تكمن أهميَّة الوعي لمعرفة هذه الأهداف والآثار حتى لا يقع الإنسان في الفكر الخاطئ في التَّعاطي مع شعائر الحسينg، ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك:
1.التعامل مع العبادة والسُّلوك
إذا كان الهدف الأعلى -كما تقدَّم- هو إصلاح الأمَّة، فهو قبل أن يكون في المنحى السِّياسي والحكم فهو يتَّجه إلى تصحيح عقائد النَّاس، وإلى سلوكياتها وأخلاقها، ومدى تمسُّكها بالشَّرع المقدَّس.. والعنصر الذي كان بارزاً في تخوَّف الحسينg من حكمِ يزيد هو أنَّه >ويزيدٌ رجلٌ فاسقٌ شارب الخمر، قاتل النَّفس المحرَّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله<.
فهنا، ينبغي الحذر الشَّديد جداً، من غياب هذا الجانب في مسألة إحياء عاشوراء، ولا يصحُّ أن يكونَ الإحياءُ للشَّعائر الحسينية سبباً لتركِ فريضةٍ أو عمل معصية، وحتى يتضح المراد لا بأس بذكر بعض الأمثلة:
أ- تأخير الصَّلاة: 
من موقف أبي ثمامة الصيداوي(رضوان الله عليه) المتقدم نستنتج أنَّ إقامة الصَّلاة ممَّا يستحقُّ أن تراق لأجلها الدِّماء، فهم كانوا في وقت عصيب، والمعركة كانت قد بدأت، والجهد والعطش، والخوف من القتل، ولكن هذا العظيم يتذَّكر الصَّلاة في أوَّل وقتها؛ ليقول للمؤمنين إنَّما جئنا لأجل الدفاع عن الصَّلاة.
ولكن للأسف: البعض حرصاً على أن يبقى في مواکب العزاء للصباح، أو حرصاً على المشاركة في تهئية المأتم، أو تركيب السواد، أو المشاركة في الطبخ نجده لایعتني بإیقاع الصلاة في وقتها أم خارج وقتها.
ب- الاختلاط والتَّبرج: 
أقول على نحو الإشارة فقط، أنّه حينما تخرج المرأة أمام الرِّجال، وفي وسط أجواء الرِّجال، وتسعى لذلك بصورة واضحة مع تبرّجها وتتعمَّد ذالك لا تترك مجالا لحمل سلوكها على محمل الخير! نعم، قد تضطرُّ لذلك.. وأمَّا مسألة التبرج وإظهار الزِّينة أثناء الإحياءات، فهو من أكبر الجرائم التي تحصل تجاه القضيَّة الحسينيَّة، وهي طعنة في صدر الحسينg الذي ذاد عن عرضه حتى استشهد.
جـ- الخلاف بين المؤمنين 
راية الحسينg هي أكبر الرِّايات التي أثَّرت في توحيد المؤمنين وجمع قلوبهم على التَّقوى.. ولكن طبيعة العمل والنَّشاط الدِّيني في المأتم وموكب العزاء  تقتضي الحصول على مناصب، فهناك رئيس ونائب ومسؤول القسم الفلاني وما شاكل، وطبيعة المنصب -حتى لو كان دينياً- يؤثِّر على نفس الإنسان وأخلاقه، وانشداده إلى الدُّنيا.. لأنَّ للمنصب جنبة دنيويَّة، فإنَّ أحدَ أهمِّ الأسباب للانحراف والظُّلم والخروج عن الدِّين هو الطَّمع في المقام والسُّلطة والحكم، ويزيد وأمثاله لم يجرِموا كلَّ هذا الإجرام إلا حفاظاً وخوفاً على هذا المنصب.
ولكن الإنسان المخلص والواعي لأهداف القضيَّة الحسينيَّة لا يمكن أن يجعل نفس القضيَّة الحسينيَّة سبباً للاختلاف بين المؤمنين، ووجود الشَّحناء، والتَّنافس غير الشَّريف. فلا يصحُّ ولا يجوزُ أن أكونَ سبباً للفتنة بين المؤمنين باسم الحسينg.
د. التَّعامل مع الفِكرة 
قد أكون إعلامياً، وهي وسيلتي الاقتصادية أو مجرَّد عملية تبليغية، ولكن يغيب عني هذا الهدف وهو أنِّي ضمن عملية (الإصلاح) فلا أرى أهميَّة لما ينقل على هذه المنابر المباركة من مواعظ، ومعارف، وقيم، ومبادئ، وعقيدة.. فيتمُّ التَّركيز فقط على مقاطع النَّعي(مع أهمِّيتها)، ويغيب عني أنَّ عنصر الإصلاح من مقوماته (الكلمة) و(الفكرة).. وهذه وإن كانت تتحقق جزئيا بالنعي، إلا أنَّها لا تكفي..
وقد يعمد البعض إلى التركيز في نقله للفكرة إلى ما يوجب الاختلاف من قبل الخطباء والاقتطاع لأجل السبق والشهرة!!
مثال آخر: أنا وظيفتي التَّصوير: ما هي الأشياء التي ينبغي أن أفكِّر فيها أثناءَ عملية التَّصوير؟ بعبارة أخرى: ما هو الغرض والهدف من عميلة التَّصوير والنَّشر؟ فإن كنتُ ضمن مشروع الإصلاح الحسيني، وملتفتُ إلى أهدافه العليا، فسأفكر في كيفية إيصال هذه الأهداف من خلال عملية التَّصوير، وهكذا الشَّاعر والرَّادود فضلاً عن الخطيب.
هـ. التَّعامل مع العِبرة 
بناء على ما سبق قد يفهم البعض أنَّ العِبرة والفكرة ما دامت هي الأساس، إذاً لا ينبغي أن نضيِّع الوقت كثيراً في العَبرة والدمعة لأنَّهما مجرَّد وسيلة، فيتم التعامل مع مسألة البكاء بسذاجة وبساطة وقلة وعي، ويتم التقليل من أهميتها، وهذه الطريقة من التعاطي فيها خطر كبير جداً على أهداف القضية الحسينية، لأنَّ الدَّمعة هي روح القضيَّة، والمقوم الأساس لها، فحتَّى لو فهمنا من النُّصوص الشريفة -وهو غير واضح- أنَّ الدَّمعة مجرَّد وسيلة، فإنَّنا نفهم منها أيضاً أنَّ هذه الوسيلة لا بديل لها، فهي بمنزلة الهدف والغاية الذَّاتية، ولذلك لا تجد في النُّصوص ربط هذه المسألة(الدمعة والبكاء) بشيء آخر بحيث إذا لم يتحقَّق هذا الأمر الآخر فمعناه لا قيمة للدَّمعة.. وذلك ورد عن الصادقg: >من ذكر الحسينg عنده فخرج من عينيه من الدُّموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على اللهa، ولم يرض له بدون الجنَّة<. بل أكثر من ذلك ما ورد عنهg أيضاً: >ومن أنشد في الحسين شعرا فتباكى فله الجنة<.
وللدمعة تأثير عاطفي مهم جداً يدعم الجانب المعرفي والعقدي، ويؤثر حتى على القناعة، فلا يكفي أن تكون الفكرة صحيحة، بل لا بد من إيصالها إلى قلب الإنسان، فليس كل الناس يتمكنون من هضم الأفكار، ورد الشبهات، ولهذا نجد حتى أصحاب الفكر الضال والفاسد، يستخدمون العاطفة، بل لا يوجد أحد لا يستعمل العاطفة في تمرير أفكاره.. فكيف لا يُستخدم إذاً في مسألة حقَّة، وليس في ذلك تضعيف للفكرة، بل هو تقوية لها، ومن أقوى الوسائل لإدخالها إلى القلوب بل والعقول.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا