الإِسْنادُ القَوْلي في القُرآنِ الكَريمِ أهميته، أشكاله، عوامل تنوعه، ودلالاته

الإِسْنادُ القَوْلي في القُرآنِ الكَريمِ أهميته، أشكاله، عوامل تنوعه، ودلالاته

المقدِّمة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمَّد نبيِّه وآله وسلم تسليما كثيرا..

 لا شكَّ أنَّ هناك العديد من الوسائل والأدوات للكشف عن المدلول القرآني. وتعبِّر تلك الوسائل عن قواعد عامَّة وقضايا كليَّة. ويمكن أن نستعير من التعبيرات الأصوليَّة مفردة العناصر المشتركة. فالقواعد العامَّة لأجل استنباط المفهوم والمدلول القرآني تعبِّر عن عناصر مشتركة تتوارد على آيات مختلفة ولا تتحدد بموضوعاتها، من قبيل كيفيَّة الاستفادة من المعاجم اللغويَّة، أو أسباب النزول لفهم الآية. وهناك أيضا عناصر خاصَّة بكل مقطع نصيٍّ، كمعنى الكلمة المعيَّنة، وسبب نزول الآية وغيرها. وتلك العناصر الخاصَّة لو تكرَّرت، فإنَّها تمثِّل ظاهرة، يعدُّ تناولها مثمرا في الإسهام في عمليّة التدبُّر أو التفسير. 

ومن تلك العناصر الخاصّة هي الإسناد القولي في القرآن الكريم. إنَّ الحالات التي أسند فيها القرآن الكريم قولا لجهةٍ عديدةٌ جدا. وإحصائيَّا، أكثر الأفعال ورودا في القرآن الكريم هو الفعل "قال". كما يعتبر ثاني كلمة مستقلَّة بعد لفظ الجلالة من حيث الورود. ومن أجل ذلك كان الإسناد القولي في القرآن عنصرا خاصَّا يمثل ظاهرة فيه. على أن نقل القول في القرآن الكريم لا يقتصر على استخدام هذه المفردة في أحيان قليلة.

 

(الرسم التوضيحي(1): الأفعال الأكثر وروداً في القرآن الكريم)

 

في الرسم التوضيحي(1)، يعبِّر الرسم البياني أدناه عن الأفعال الأكثر ورودا في القرآن الكريم([1]). ولم يؤخذ فيه بعين الاعتبار مختلف الصور الاشتقاقية للأفعال؛ فلم يحتسب إلا "قال"، دون "يقول" و"قل" وغيرها. وهكذا بالنسبة للأفعال الأخرى. ومع ذلك فهو مؤشِّر جيِّد لتفاوت نسب الورود في القرآن الكريم. وقد تمَّ استثناء الأفعال الناقصة أيضا، لافتقادها لمعنى مستقلٍّ في نفسها؛ لأنَّ الغرض تتبع الأفعال بما تحمل من دلالة، وأمَّا الأفعال الناقصة فكشفها ناقص عن الدلالة. ومن الرسم يتضح تفوُّق الفعل "قال" على غيره. وعلى وجه التقريب، إنَّ عدد وروده يأخذ ثلث النسبة من عدد ورود الأفعال المذكورة مجتمعة.

ولو أخذنا بعين الاعتبار جذور الكلمات، فالجذر "ق و ل" يتكرر 1722 مرة، في 120 كلمة مختلفة. بينما جذر الفعل الثاني في الرسم البياني، وهو الجذر "أ م ن"، فيتكرر 879 مرة في 131 كلمة مختلفة. وهذا يعني أن الفارق يزداد باحتساب الصور الاشتقاقية المختلفة.

الرسم التوضيحي 2 يعبر عن أكثر الجذور تكرارا في القرآن([2]). ولم تحتسب إلَّا الجذور الدالَّة على معاني مستقلَّة لما مرَّ معنا. ويستبين من الرسم أن الجذر "قول" أكثر الجذور تكرارا بعد جذر لفظ الجلالة، "أله".

 

 

 

(الرسم التوضيحي(2): الجذور الأكثر وروداً في القرآن الكريم)

  
 
Text Box: رسم توضيحي 2: الجذور الأكثر ورودا في القرآن الكريم.


 

 

وغير خاف أنَّه كلَّما كانت ظاهرة لفظيَّة أكثر حضورا، كلَّما كشف ذلك عن أهميَّة دلالاتها في فهم النص. وإن كان في البين عوامل أخرى أيضا. وهكذا نظفر بالمبرر الأوَّل للبحث عن الإسناد القولي في القرآني الكريم، أو أدب النَّقل القرآني، إذ هو أهم دلالات هذا الحضور اللفظي.

وهناك أمر آخر يزيد من ضرورة البحث، وهو اتصاله بموضوعات هامَّة كالنَّقل بالمعنى في الحديث، وحجيَّته، وكذلك جواز الترجمة للحديث والقرآن الكريم ونسبتهما. فيمكن أن يقال إنَّه لو ثبت وجود النَّقل بالمعنى والترجمة في النصِّ القرآني يعتبر دليلا مشرِّعا لهاتين الممارستين. وسنتناول ذلك بشيء من التفصيل.

وإضافة لذلك، إن تنوع كيفية النَّقل القولي في القرآن الكريم يستند لتنوع عوامل وأغراض وأهداف النص. وبالنظر الاستقرائي لتلك الكيفيَّات يمكن أن تلمس أغراض النص وأهدافه.

وأخيرا ينفتح من البحث باب نفيس أوسع منه، وهو كيفيَّة رواية القرآن الكريم ونقله للأحداث بشكل عام، وكيف نقرأه كنصٍّ يؤرِّخ لحدث ما. فالقرآن ليس كتابا تاريخيا، مع أنَّه نقل أحداثا تاريخيَّة. وبالتالي تختلف استفادة الحدث التاريخي من القرآن الكريم عنها من الكتاب التاريخي. 

ولم نجد مقالة علميَّة تتطابق أو تقترب كثيرا من الموضوع عدا ما كتبه محمد نقيب زادة بعنوان "النَّقل بالمعنى في القرآن الكريم"([3]). وقد تناول فيه الأدلَّة على وقوع النَّقل بالمعنى، وثمار إثبات النَّقل بالمعنى في القرآن الكريم. وبرغم أن الكاتب قد استفاد من البحث المذكور، إلا أن كونه مكتوبا باللغة الفارسية أعاق الاطلاع الدقيق والشامل. 

الإسناد القولي

لا بدَّ أن نحدد المقصود من الإسناد القولي في سياق البحث. فهو أولا إسناد ونسبة لكلام ما لجهة ما، غير أنَّنا لا نعني الإسناد المجازي هنا. والإسناد المجازي هو إسناد الفعل لغير ما هو له([4]). فمثلا، في العبارة من الآية {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}([5])، يعتبر إسناد القول للنسوة حقيقيا، إذ يمكن أن يقع منهم ذلك واقعا. بينما العبارة من الآية {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}([6]) تحوي إسنادا مجازيا، فلا يمكن أن يصدر من السماوات والأرض القول.([7])

وهناك فرق بين الإسناد بلسان الحال والإسناد المجازي. فالأوَّل من المجاز اللغويّ، ولكنَّه يمكن أن يكون من الإسناد الحقيقي. فمثلا، حين يعبِّر حال رجل ما عن الطاعة والانقياد، يقال: "قال إنني طوع بنانك". فهنا الإسناد حقيقي، لكن المسند مجاز لغوي بعنوانه العام، فهو شبَّه حالهُ بحالِ من يقول تلك العبارة. ستأتي أمثلة قرآنيَّة لاحقا.

وإسناد القول (حقيقة أو مجازا) إخبار عن صدور كلام من جهة ما، وذلك يتأتى بصور وتراكيب مختلفة. فقد يكون باستعمال لفظ القول، كقوله {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ}([8]). وقد يستعمل لفظ الحديث، كما في قوله تعالى {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}([9]). وأحيانا تفهم النسبة من السياق، كما في قوله تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا}، وقوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}([10]).

ولكن كما يتضح أنَّنا ركَّزنا القول في مفردة القول، لأنَّها المستعملة إلا في أحيان قليلة.

صور الإسناد القولي في القرآن الكريم

 الأشكال المحتملة للإسناد القولي

لو أسند كلام إلى جهة ما، فهناك أشكال عدّة محتملة لهذا الكلام المنقول:

الشكل الأوَّل: النَّقل الحرفي، أي أن يكون منقولاً بلفظه عن المتكلم. 

الشكل الثَّاني: النَّقل بالمعنى، أي أن يكون منقولا بلفظ آخر من نفس اللُّغة. وهو درجات متفاوتة في قربه من معنى اللفظ الأوَّل. 

فقد يكون متطابقا بحسب الفهم العرفي مع مدلول اللفظ الأوَّل المطابقي. وقد يكون قريباً منه من غير تطابق، إلا أنَّ مدلوله الالتزامي يطابق المدلول المطابقي للفظ الأوَّل. فمثلا، قد تنقل العبارة "كان زيد معلماً لبكر" هكذا: "بكر تلميذ لزيد في السَّابق". وأحيانا أخرى تنقل خطبة كاملة ملَّخصة في عبارة واحدة. وهذا الشَّكل الأخير ليس هو مورد الجواز المشهور للنَّقل بالمعنى للحديث الذي سيأتي ذكره.

الشَّكل الثَّالث: التَّرجمة الحرفية، وهو أن يكون منقولاً بلفظ آخر من لغة أخرى حرفيَّا.

الشَّكل الرَّابع: التَّرجمة المعنويَّة، أن يكون منقولا بلفظ آخر من لغة أخرى معنويَّا. وهو الترجمة المعنويَّة. وهو يضمُّ مصاديق عديدة مشكِّكة ومتفاوتة في وفائها للنصِّ الأوَّل باقترابها من ألفاظه. ولذلك جعل بعضهم مصطلح الترجمة الأمينة وهي ما يوازن بين الأمرين، إيصال المعنى، والاحتفاظ باللفظ قدر الإمكان.

الشَّكل الخامس: المجاز اللغويّ، أن يكون مجازا لغويَّا، أو لسان حال لا مقال. 

الشَّكل السَّادس: الإسناد المجازي، وهو خارج عن محلِّ كلامنا.

واللُّغة هنا بمعنى الوسط التواصلي، وليس بالتعريف الألسني الذي يجعل الترميز الصوتي مقوِّما لها. والنكتة في ذلك أننا نريد أن نضم المشاهد التي نقل فيها القرآن الكريم خطاب المولى! مع الأنبياء، أو حوارات الملائكة، أو خطاب الحيوان الإعجازي، وغيره، ممَّا لا ينطبق على أسلوب التواصل فيها مصطلح اللُّغة بالمعنى الحديث.

 نماذج من الآيات وتصنيفها

وسنحاول أن نستقرئ الآيات القرآنيَّة ونصنِّفها بحسب ما تقدَّم:

النَّقل الحرفي:

أمَّا ما يتعلَّق بالنَّقل الحرفي فإنه من الصعب الجزم به؛ لأنَّا نحتاج إلى نصٍّ قطعيٍّ آخر ينقل اللفظ الأوَّل حرفيا، ويتطابق مع النَّص القرآني. ومع ذلك فالتطابق وقرائن أخرى قد ترجح النَّقل الحرفي. 

المثال الأول: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}([11]).

يقول الرازي: "يقول المفسرون: اقتتل أجير عمر مع أجير عبد الله بن أُبي في بعض الغزوات فأسمع أجير عمر عبد الله بن أبي المكروهَ واشتد عليه لسانه، فغضب عبد الله وعنده رهط من قومه فقال: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ، يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله(صلى الله عليه [وآله] وسلم([12])". ويبقى هناك احتمال أن نقل سبب النَّزول قد تأثَّر بنفس الآية فحصل نقل له بالمعنى.  المثال الثَّاني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}([13]).

ينقل أن هذه الآية تعريض وإدانة لمقالة اليهود الذين كانوا يواجهون الرسول ’ بعبارة "راعنا" حين تبليغه بأمر أو حكم. ولكنَّهم لا يريدون المعنى العربي من العبارة، وإنما معنى عبراني لكلمة شبيهة جداً بها([14]).

ومع أنَّه ليس إسنادا قوليَّا بل نهياً عن قول ما، لكن جوهر البحث لا يختص بالإسناد القولي؛ فكما أنَّ نسبة القول قد تكون حرفيَّة، أو معنويَّة، أو لسان حال، فكذا الأمر بالقول والنهي عن القول قد يكون حرفيَّا، أو معنويَّا، أو غير ذلك. وسنؤكِّد هذه الفكرة لاحقا. على أنَّه، كما أسلفنا، قد تكون النسبة بالتصريح وقد تكون بالتلويح.

النَّقل بالمعنى:

وأما النَّقل بالمعنى فهو كثير في القرآن الكريم، سواء اقترب أم ابتعد من الألفاظ الأولى. 

المثال الأوَّل: نقل القرآن الكريم لقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}([15]).

تستدعي الآية نزول آية سابقة، لكنَّها لا تنقلها باللفظ. فالآية السَّابقة هي {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}([16])([17]).

المثال الثَّاني: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}([18]).

تذكر التفاسير أنَّ قائل العبارة أبي بن خلف. وتنقل الروايات تعبيرات مختلفة عن سؤاله واحتجاجه، ولكنَّها لا تتطابق مع المسند في القرآن الكريم. ينقل تفسير البرهان إحداها من أمالي الشيخ الطوسي "أنَّ نفراً من قريش اعترضوا رسول الله e منهم: عتبة بن ربيعة، وأبي بن خلف، والوليد بن المغيرة، والعاص بن سعيد، فمشى إليه أبي بن خلف بعظم رميم، ففته في يده، ثم نفخه، وقال: أتزعم أن ربك يحيي هذا بعد ما ترى؟!"([19]).

المثال الثَّالث: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}([20]).

وسبب النزول يتَّحد مع ما لآية {ليخرجن الأعز}. والرِّوايات التي تصف الحدث تتِّفق مع نقل القرآن في عبارة {ليخرجن}، لكنَّها تنقل عبارات مختلفة تعبِّر عن معاني قريبة من القول محلِّ الكلام. ينقل الرَّازي: "ثمَّ أقبل (عبد الله بن أبي) على قومه فقال: لو أمسكتم النفقة عن هؤلاء يعني المهاجرين لأوشكوا أن يتحولوا عن دياركم وبلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد"([21]).

ومن المهمِّ أن يشار إلى أنَّ روايات أسباب النزول قد لا تحظى بقيمة سنديَّة عالية، وبالتالي لا يمكن الوثوق بنقل كل واحدة منها للحكم بأن النَّقل القرآني مطابق أم لا. غير أننا نظفر مع ملاحظة عدد كبير من روايات أسباب النزول التي تدل على النَّقل بالمعنى، بنوع من التواتر المعنوي، أو قل الاستفاضة المعنويَّة -إن صحَّ التعبير- على الأقل. وبعبارة أخرى: كلُّ حالة تفيد احتمال حصول النَّقل بالمعنى، ومع تراكم الاحتمالات نجزم بحصول النَّقل بالمعنى في القرآن الكريم.

المثال الرابع: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}([22]).

قد قيل إنَّ الأنبياء شعيبا وصالحا وهوداh من العرب. فالقرآن إذن ينقل لنا حوارات عربية، غير أنَّه من البعيد أن تكون بالحرف واللفظ. ووجه البعد أنَّ النصَّ -على الأرجح- لا يسلِّط الضوء عن حوار خاص، بل يجمل تبليغ هود ونصحه لقومه، ويجمل ردود أفعالهم أيضا. فقد يكونg قد عبَّر بصور مختلفة في عدد كبير من المواقف واعظا ومرشدا، ولكن أهم قضيَّة محوريَّة ضمَّها ذلك الإرشاد يمكن إجمالها بهذا النَّص القرآني. 

وما يرجِّح ذلك أن القرآن ينسب هذه الدعوة إلى نوح وهود وشعيب وصالح، بل إلى الرسل {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}([23]). وهذا يشمل الرسول الأكرمe. ولكنَّنا لا نظفر بحديث واحد قاله الرسولe يتطابق تماما مع هذا القول، بل إن روح دعوته ورسالته وخطاباته هو التوحيد المتطابق مع مؤدى هذه الآيات.

التَّرجمة:

وأما الترجمة فأكثر الحوارات والكلام المنقول في القرآن الكريم نعلم أنه ليس باللغة العربيَّة. ونأخذ نماذج من ذلك:

النموذج الأول: ما نسب إلى الذات الإلهية المقدسة:

ولا نعني هنا بالطبع ما نسب إلى الله تعالى كما ينسب لغيره من الممكنات الناقصة. فكلامه تعالى خلقه إياه، سواء كان مسموعا، أم مجرد معنى قد فهّمه تعالى لأحد من عباده.

المثال الأوَّل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}([24]).

لا شكَّ أن الملائكة لا تتواصل بالصورة التي يتواصل بها البشر. فالله! قد فهمها بما يتناسب وتكوينها كلامه. وقد نُقل ذلك المعنى إلى اللُّغة العربيَّة في القرآن الكريم. وهو لا ينطبق على مفهوم الترجمة بمعناه الحديث، لكننا أجرينا توسعة لتشمل كل نقل من وسط تواصلي إلى وسط آخر.

ومثال آخر: ما كلَّم الله تعالى به عباده من الأنبياءi، وغيرهم.

فقد يكون كلاما للأنبياءi، وقد يكون ذلك بطريق غير لغوي، كالإخطار والإلهام، وقد يكون بلغة غير عربيَّة. ومن ذلك قوله تعالى {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}([25]). ولا نعلم كيف خاطب الله تعالى إبراهيمg، أهو بخلق كلام مسموع، أم إلهامه ذلك الكلام بلغته، أم إلهامه تلك المعاني بطريق ما؟ وكذلك قوله تعالى {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}([26]). وممَّا يرجِّح أنَّه كلام مسموع قوله تعالى لموسىg: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}([27]).

وقد يكون كلاما لعباد آخرين غير الملائكة والأنبياء. كما في قوله تعالى لأهل النّار {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ}([28]) أو {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}([29]). هذا بناء على كونه إخبارا عن حوار فعلي مستقبلي، وليس صورة رمزيَّة ومجازيَّة. وكذلك بناء على أنَّ القول حين ينسب له تعالى هنا كلاما، إذ لا يخفى أن القول حين ينسب إليه في القرآن قد يراد به نفس الخلق والفعل.

النموذج الثاني: ما نسب إلى الأنبياءi غير العرب وأقوامهم السابقين

المثال الأوَّل: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}([30])

قد تكون حواريَّة ابني آدم ترجمة لأقدم لغة بالمعنى الاصطلاحي في القرآن الكريم، إذ لم تنقل حوارية بشرية أقدم منها. 

المثال الثَّاني: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}([31]).

وجميع ما ورد من حوارات في سورة يوسفg داخل في هذا الباب. ولعلَّه لم يكن بلغة واحدة حيث لغة الكنعانيين وآل يعقوب مختلفة عن لغة أهل مصر. 

المثال الثَّالث: ما ورد في قصص موسى g من كلام وحوار. وأمثلة هذا الباب لا تخفى على أي حال. نذكر للتمثيل منها الآيات التي تنقل خطاب موسى لأهله:

{إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}([32])

{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}([33])

{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}([34])

النموذج الثالث: ما نسب إلى غير ذلك:

المثال الأوَّل: ما نسب إلى الملائكة. مثل: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}([35])

المثال الثَّاني: ما نسب إلى الجن. مثل: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا"([36])

المثال الثَّالث: ما نسب إلى الحيوان. مثل ما نسب للهدهد: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}([37]).

وبعد عرض هذه النماذج والأمثلة لا بدَّ من التَّساؤل عمَّا إذا كانت ترجمات حرفيَّة -على تقدير أنَّها ليست لسانا للحال ومجازا- أم هي ترجمات معنويَّة؟

والرَّاجح جداً أن تكون غالبا ترجمات معنويَّة لا حرفيَّة للمبرِّرات التي ستذكر لاحقا. ومن أهمِّ ما يؤكِّد ذلك ملاحظة الحوارات المتكررة في القرآن الكريم، خصوصاً بما يتصل بموسىg كما تقدَّم في المثال. حيث إنِّها تنقل بتعابير مختلفة، الأمر الذي يكشف عن نقل بعضها على الأقل بنحو الترجمة المعنويَّة.

المجاز ولسان الحال:

يستعمل القول في القرآن الكريم كثيراً ليراد به الاعتقاد، أو العمل على طبق ذلك الاعتقاد. وحيث إنَّ التّصريح بالاعتقاد معلول غالبا لذلك الاعتقاد، فإطلاق القول على الاعتقاد مجاز.

فمثلا قوله تعالى: {وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}([38]). يرجح أنَّ المراد ليس التّلفُّظ، إذ لو تلفَّظ أحد ما من دون اعتقاد، لم يكن مصبّا للخبر في الآية، ولا تتنزَّل عليه الملائكة. ولكنَّه لو اعتقد ولم يصرح بذلك بلسانه، لانعدام قدرته على الكلام، أو موانع أخرى، فإنَّه ربما يحقق موضوع الآية الشريفة. ويعقب العلَّامة الطباطبائي بقوله: "والمراد بالقول الرَّأي والاعتقاد على ما يعطيه السِّياق"([39]). ويقول في موضع آخر: "وتسمية الاعتقاد قولا وكلمة أمر شائع بينهم"([40]).

وقد يكون القول كناية عن الإعلان وعدم التستُّر، كما في بعض تفاسير الآية. يقول ابن عاشور في تفسيره: "أمَّا {وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فهو ثناء على المسلمين بأنَّهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بين المشركين ولم يتستروا بالإسلام.. والقول في قوله: {وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} كالقول في {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}"([41]).

ومن الاستعمالات المجازيَّة للقول في القرآن حين يسند إلى الذات الإلهيَّة المقدَّسة، ويقصد به الفعل التكويني والخلق. وقد ورد في رواية صحيحة في الكافي: "يقول له: كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر"([42]). ومثل ذلك كثير كقوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا"([43])([44])، وربما منه {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ"([45]).

عوامل تنوُّع أشكال الإسناد القولي في القرآن

بناء على ما تقدَّم، يتَّضح أنَّ القرآن الكريم لا ينقل القول بشكل حرفي في الغالب، ويعتمد النَّقل بالمعنى أو الترجمة المعنويَّة. وينقدح في الذهن تساؤل حول أسباب عدم الالتزام بالنَّقل الحرفي. أليس المولى! عالما به؟ وأليس النَّقل الحرفي أكثر أمانة ومصداقيَّة في النسبة لصاحب المقالة؟

وللجواب، هناك جملة من الأسباب لهذا الموقف القرآنيِّ العام نعرض لبعضها:

إشكاليَّات الترجمة الحرفيَّة:

هناك علاقة جدليَّة بين الاحتفاظ بالمعنى والاحتفاظ باللفظ في عمليَّة الترجمة، تنبَّه لها من قديم. فالمترجم أمام أمرين، إمَّا أن يكون أمينا لمعنى النصِّ الأوَّل، فيفقد الخصائص القالبيَّة واللفظيَّة له، وإمَّا أن يكون أمينا مع اللفظ تماما، فيفقد المعنى. ومن أهمِّ أسباب ذلك أن هويَّة الكلمات بين اللغتين متغايرة، حتَّى وإن كان مدلولهما متطابقا في بعض السياقات. إنَّ الكلمة لا تعبِّر عن دلالة ثنائيِّة بين دالٍّ لفظي ومدلول معنوي، بل هي عنصر من شبكة دلاليَّة، وشبكة استعماليَّة. 

ولا شكَّ أنَّ حظَّ المعنى أولى وأكبر من حظِّ اللَّفظ، وما اللَّفظ إلا خادم المعنى. وحيث إنَّ الالتزام بالترجمة الحرفيَّة تضيَّع من المعنى، كانت أحرى بالتَّجنُّب، من نصٍّ بمستوى عادي، فضلا عن القرآن الكريم.

وهذا الجواب تبرير لعدم الترجمة الحرفيَّة، دون النَّقل الحرفي.

تعقيد عمليَّة التَّواصل:

 كما هو معروف، لا تقتصر عمليَّة التَّواصل على الألفاظ، وإنَّما هناك مجموعة من العوامل المعقَّدة والمتشابكة، كالنبرة والنَّغم وعلامات الوجه والبدن والسياق وغيرها. والاقتصار على نقل دلالات محدَّدة كالألفاظ لا ينقل الرسالة التَّواصليَّة بأمانة.

ونعطي مثالا للإيضاح:

يقطِّب الأب حاجبيه بغضب، ويقول لابنه: من يكذب لا يحبُّه الناس.

ولو أردنا أن ننقل الرسالة التي أراد الأب تفهيم ولده إياها بمجرد اللفظ، لكانت ناقصة ولا تعبِّر عن جوهر الرِّسالة. وإذا أردنا أن نستوعب جميع الوسائل التَّواصليَّة ذات الدلالة في عمليَّة التَّواصل، للزمنا أن نغيِّر في العبارة. فنقول مثلا: اتَّهم الأب ولده بالكذب. 

ولتعقيد عناصر عمليَّة التَّواصل وصعوبة إبرازها والتَّعبير عنها، غلب على كتب التَّاريخ تدوين الألفاظ والأقوال. وأمَّا القرآن الكريم، فلصدوره من لدن حكيم عليم محيط بكل شيء، فهو لا تخفى عليه تلك الرسائل التواصليَّة مهما تعقَّدت. وبالتالي، يمكن أن تنقل بألفاظ تعبِّر عنها بدلا من ألفاظ الكلام الأول الذي يعبِّر عن جزء من الرِّسالة.

إعجاز القرآن الكريم:

إنَّ القرآن الكريم فوق كلِّ كلام آخر، وافتراض أنَّ القرآن الكريم ينقل حرفيّا أو يترجم ترجمة حرفيَّة لا ينسجم مع هذه الفوقيَّة، لأنَّ الكلام المنقول حرفيّا لا تختلف خصوصيّاته البلاغيَّة والبيانيَّة عن الكلام الأوَّل، وأمَّا المترجم حرفيَّا فليس له ذات الخصائص البلاغيَّة للنصِّ الأوَّل، لكن من المستبعد جدا أن يكتسي حلَّة عالية البلاغة إلا إذا خلع عنه الحرفيَّة.

وقد يرد عليه أنَّ وصف الإعجاز عارض على السورة، أو النصِّ المتتابع الجمل، لا الآية والعبارة. وينقض بوجود نقل حرفي في القرآن ولو كان قليلا.

غير أنَّه مع ملاحظة المقدار الكبير للأقوال المنقولة في القرآن الكريم، يبعد ألّا تؤثِّر خصائص المنقول على النصِّ كلِّه. لذلك لا يمكن الاحتفاظ بالمنقول أو المترجم حرفيّا من دون المساس بالخصائص الإعجازيَّة للنَّص.

وقد يكون الكلام المنقول عن الله!، ومع ذلك لن يكون من السائغ نقله حرفيّا. والسبب في ذلك أن كلام الله تعالى ليس كلُّه إعجازيّا من الجهة البلاغيّة والبيانيّة، أي أنَّ إرادته تعالى لم تتعلق بجعل كلِّ كلام خلقه معجزا من هذه الجهة. أضف إلى أنَّ الكلام البليغ ضمن نصٍّ ما، ليس بالضرورة ضمُّ نصٍّ وسياق آخر له خصوصيّاته البلاغيَّة والبيانيَّة المختلفة. ولذلك نقل القرآن الكريم كلامه بصورة أخرى وليس حرفيّا، كما أوردنا في الأمثلة سلفا. وأمَّا إذا كان الكلام الأوَّل من وسط تواصلي آخر -هو الغالب هنا-، فالترجمة الحرفيَّة لا تحتفظ بالمستوى البلاغي.

الفواصل القرآنيَّة:

لا شكَّ أنَّ للقرآن نظما صوتيّا خاصّا، ما يشكِّل قالبا يتحكَّم في الألفاظ المختارة للتّعبير. ولذا فمن البعيد أن يتناسب القول المنقول حرفيَّا أو المترجم حرفيا مع الخصائص النُّظميَّة.

ويدلُّ على ذلك بوضوح ما ذكر مثالا سلفا، وهو ما أسند للنبيِّ موسىg. فمرة يقول: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}، وأخرى {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}. فالأولى جاءت في سورة طه والتي تنتهي آياتها بألف مديَّة بشكل عامّ، بينما وردت الثانية في القصص وخواتيمها بالنون المسبوقة بالياء أو الواو المديَّة بشكل عامّ. 

أضف إلى أنَّه من البعيد أن تكون كلُّ العبارات المسندة متناسبة دائما مع الخصائص الصوتيَّة للنصِّ الذي تنقل إليه بلا تصرُّف في النَّقل أو الترجمة.

الغرض القرآني:

ليس التّوثيق التّاريخي هو الغرض الرئيس لما ينقله من أحداث وأقوال، وإنَّما كلُّها جاءت خدمة لأغراضه المبثوثة التي تصبُّ كلُّها في غرضه الهدائي. ومع اختزال النَّص، وضرورة التَّركيز على ما يخدم الغرض، لا بدَّ من أن يكون التَّصرُّف في النَّصِّ اللَّفظي الأوَّل موضحا ومبرزا لاتِّصاله بذلك الغرض. على أنَّه تصرُّف لا يلغي صحَّة إسناد القول لصاحبه. 

وما يرجِّح ذلك أنَّ الأقوال أحيانا تنقل في سياقات مختلفة بصور متنوعة كما مرَّ، حيث كلُّ سورة لها موضوعاتها وأفكارها الخاصَّة. ومن هنا ناسب أن تعرض الأقوال بما يتناسب مع الغرض المراد من السورة. وصحيح أن الخصائص الصوتيَّة والفواصل لها أثر في هذا التغاير، إلا أنَّ نظر القرآن إلى المعنى يسبق نظره للقالب واللَّفظ.

نظرة تحليليَّة لنقل المعنى

حينما تتصوَّر المعاني في ذهن ما، وتنشأ إرادة لنقله والتَّعبير عنه، يستحضر الألفاظ التي تشترك دلالاتها مع تلك المعاني. ولكن تلك الألفاظ وذلك النِّظام الدِّلالي اللُّغوي محدود، لا يمكنه أن يحيط بكل المعاني وعالمها اللامحدود، وبذلك يخسر المعنى أحيانا شيئا من هويَّته. ويمكن أن نعبِّر عن الكلام بالتَّرجمة الأولى للمعنى.

وحين يسمعه شخص ما يشترك مع المتكلم في المعرفة باللُّغة، فهو يوظِّف معرفته باللُّغة لفهم الكلام. غير أنَّه من الصعب الجزم بتطابق المعنى الذي أدركه السامع مع المعنى في ذهن المتكلِّم. نعم، المدلول الخارجي للمعنى والمصداق للمفهوم يمكن اتِّحاده، وهذا أمر مختلف عن الاتِّحاد التامّ في المفهوم. والسبب في ذلك أنَّ النِّظام اللُّغوي للأفراد ليس تامّ التّطابق؛ فالتجربة اللُّغويَّة مختلفة. 

ولو طلب من شخصين أن يتصوَّرا مفهوما معيَّنا، كالكتاب، فسيرسم كلُّ واحد منهما صورة نموذجيَّة مختلفة، كما أنَّ الشبكة الدِّلاليَّة النّاشئة من التّجارب الاستعماليَّة الخاصّة، وكذلك المشاعر التي تترافق معه ستكون مختلفة. وبذلك يمكن تسميّة نقل الكلام بالتّخاطب ترجمة ثانية للمعنى، مجازا.

وهكذا إذن، كلَّما نقل الكلام لشخص آخر تمَّت ترجمة معناه. ومن هنا لو سمحنا بنقل الكلام بمعناه، وبعدم التقيُّد باللّفظ الأوَّل للكلام، في سلسلة متتابعة من عشرين شخصا، لأصبح الكلام الأوَّل بعيدا عن الأخير، وذلك لأنَّ كلَّ انتقال يحدث انحرافا بسيطا للمعنى، إلى أن يتراكم فيصبح ملحوظا. 

والاستثناء في النَّقل المعصوم، كنقل القرآن، ونقل المعصوم، أنَّ هناك علما تاما بحقيقة الكلام الأوَّل، بل إن تعبير المعصوم عن المعاني التي نريدها نحن، أبلغ من تعبيرنا عنها. ولذلك فخالق الخلق أعلم بهم، وبما تخفي صدورهم. ومبرَّر جدّا أن يكون النَّقل بالمعنى أفضل من النَّقل باللّفظ في أحيان كثيرة.

شرعيَّة النَّقل بالمعنى والتّرجمة

شرعيّة النَّقل بالمعنى

يتَّفق المشتغلون بالحديث على وقوع النَّقل بالمعنى فيه، وإنَّما يختلفون في اتِّساع وضيق دائرته. فيذهب البعض إلى أنَّ الأحاديث ما قبل التدوين لم تسلم من النَّقل بالمعنى ولا يمكن الوثوق بالتطابق اللّفظي. وسنَّة الرسول’ جلُّها منقول بالمعنى. ويعتقد البعض أنَّ أسباب عدم استشهاد سيبويه والبصريين بالحديث لجواز وتحقُّق الرِّواية بالمعنى([46]).

 ويقول الشيخ حسين الحلِّي(ره): والظاهر أنّ النَّقل عن النبيe ومن بعده منهمi كلُّه من قبيل النَّقل بالمعنى، كما هي عادة نقلة الفتاوى في زماننا. نعم لمّا جاء دور كتابة الحديث وهو في أواخر [عصر] الأئمّة المعصومين، كان الغالب هو نقل الألفاظ وضبطها بالكتابة.([47]) ويعتبر العلَّامة الطباطبائي أنَّ شيوع النَّقل بالمعنى من أكثر ما يوهن أحاديث أسباب النزول، وهو يستدعي هذه الفكرة كثيرا في تناوله للأحاديث. يقول: "ثم شيوع النَّقل بالمعنى في الأحاديث والتّوسُّع البالغ في كيفيَّة النَّقل أوهم أنَّ الآيات نزلت في خصوص الوقائع الخاصَّة على أن تكون أسبابا منحصرة"([48]).

وليست هذه الفكرة بعيدة عن المحدِّثين، فالمجلسي الأوَّل يعتقد بوقوع النَّقل بالمعنى أيضا([49]). ويذكر السيِّد الصدر أنَّ النَّقل بالمعنى أحد مناشئ التعارض إذ يقول: "وتصرُّف الرّواة في ألفاظ النصِّ ونقلهم له غير مكترثين بألفاظه وغير محافظين على حرفيَّته في أغلب الأحيان هو العامل الآخر في نشوء التعارض بين النصوص"([50]).

والشائع جواز النَّقل بالمعنى مع وجود ضوابط خاصَّة. يقول صاحب المعالم: "يجوز نقل الحديث بالمعنى بشرط أن يكون الناقل عارفا بمواقع الألفاظ وعدم قصور الترجمة عن الأصل في إفادة المعنى ومساواتها له في الجلاء والخفاء"([51]). هذا ليس مقتصرا على المدرسة الشيعيَّة، فيقول الرازي: "يجوز نقل الخبر بالمعنى وهو مذهب الحسن البصري وأبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهم خلافا لابن سيرين وبعض المحدثين"([52]).

وهناك أدلَّة كثيرة في تجويز النَّقل بالمعنى، كما أنَّ هناك أدلَّة مثلها أو غيرها لإثبات حجيَّة المنقول بالمعنى. وما نريد التعرُّض إليه هو إمكانية اتِّخاذ النَّقل بالمعنى في القرآن الكريم دليلا مستقلَّا على جواز النَّقل بالمعنى، وحجيَّة المنقول. 

فقد يقال إنَّ السلوك القرآني مبرِّر وحجَّة على جوازه. فمثلا، يذكر صاحب كتاب أسباب اختلاف الحديث أنَّ من أدلة جواز النَّقل بالمعنى: السيرة العقلائيَّة، وكثرة وقوع النَّقل بالمعنى في القرآن الكريم([53]).

شرعيَّة التّرجمة

اختلف المسلمون في جواز ترجمة القرآن الكريم. فبين من حرَّمه([54])، وبين من أوجبه لتوقُّف الدعوة عليه. يقول الشيخ معرفة: "إنَّ ترجمة القرآن إلى سائر اللُّغات أصبحت ضرورة دينيَّة وواجبا إسلاميّا عامّا (وجوبا بالكفاية) وكان من وظيفة كل مسلم يحمل رسالة اللّه في طيَّات وجوده"([55]). كما يرى السيِّد الخوئي أنَّ التّرجمة ممَّا يعين على عموم فهم القرآن الكريم، وهو أمر واجب([56]).

ولكن لذلك شرطٌ أساس وهو فهم القرآن الكريم المنحصر بأمور ثلاثة: الظهور (وهو المعرفة بلغة النصّ بعبارة أخرى)، والعقل، وتفسير المعصوم([57]). كما يضاف لذلك الإحاطة باللُّغة المترجم لها النص. وهذان شرطان لكلِّ عمليّة ترجمة، أي المعرفة بمضمون النصّ، والمعرفة اللُّغويَّة، الأمر الذي أدركه القدماء في هذا الفن فضلا عن المحدثين؛ يقول الجاحظ: "ولا بدّ للتّرجمان من أن يكون بيانه في نفس التّرجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتّى يكون فيهما سواء وغاية"([58]).

وقد تناول الشيخ معرفة الحديث عن ضوابط تفصيليَّة لترجمة القرآن الكريم في كتابه التّفسير، ليست محل اهتمامنا([59]).

نعم، لا يأخذ النّص المترجم أحكام القرآن؛ لأنَّ موضوعها القرآن، وصحَّة النِّسبة لا تكفي لصدق عنوان القرآنيَّة كما سيأتي. فلا يحرم مسُّه بلا وضوء، ولا تجزئ قراءته في الصلاة (إلا على أقوال شاذة). 

وأمَّا ترجمة السنَّة فقد تكون من صغريات جواز النَّقل بالمعنى للحديث، وأدلُّته يمكن أن تشمل هذا المورد. ولم يقع فيها القول كما وقع في شأن ترجمة القرآن الكريم.

وما يهمُّنا هنا إمكان الاستدلال على شرعيَّة التّرجمة لوجودها في القرآن الكريم. فهل يمكن القول بأنَّ القرآن الكريم قد ترجم ونقل من لغة إلى أخرى ونسبة الأقوال إلى قائليها، وأنَّ هذا دليل على جواز هذه الممارسة، خصوصاً أحاديث المعصوم؟

وقفة مع الاستدلال:

هناك بعض الإشكاليات التي تواجه هذا النَّوع من الاستدلال، ومفادها أنَّنا لا نستطيع أن نستدل على جواز النَّقل بالمعنى والتّرجمة لمجرّد وجودهما في القرآن. فلا بدَّ من اعتماد أدلة أخرى كالنصوص، والسيرة العقلائيَّة. ومن هذه الإشكاليات:

 

الإشكال الأوَّل: دليل حجيَّة فعل المعصوم

إنَّ من مقدِّمات دليل حجيَّة فعل المعصوم مأخوذ فيها بشريته، وبوصفه ممتثلا أعلى للأوامر الإلهيّة. فالله تعالى يقول {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}([60])، حيث يشترك معكم في بشريته وطبيعة التكاليف الموجَّهة إليكم، فيصلح أن يكون قدوة وأسوة. ولكن ما هو الدليل على جواز ما يفعله المولى بالنسبة إلينا؟! 

وبعبارة أخرى، إنَّ دليل الاقتداء بالمعصوم، أو الدَّليل المثبت لحجيَّة فعله، وكونه كاشفاً عن حكم شرعي، تحت شروط معيَّنة، لا يشمل محلَّ الكلام، فهو خارج تخصُّصا عن موضوع الدّليل.

وبالطبع لا يمكن أن نفعل شيئا يشابه فعل الخالق، إلا أنَّ ما نعنيه حتّى مع تغاير طبيعة النّسبة في الفعلين. فمثلا يقول الله شيئا، أي يخلقه مستقلا، ونقوله نحن أي تتحرك جوارحنا لتنتج الصوت كعلل طولية غير مستقلة.  

وقد يرد على الإشكال أنَّ النكتة في دلالة الفعل على الرجحان أو الإباحة هو العصمة وامتناع صدور القبيح من الفاعل (امتناعا بالغير). ولا شكَّ ولا ريب أنَّ الفعل القرآني ليس إلَّا الحسن. صحيح أنَّ الفعل الإلهي ليس موضوعا للحكم الشرعي لأنَّه خاصٌّ بالفعل الإنساني الاختياري، ولكن، حيث كان الحسن والقبح واقعيان، أو لهما ملاكات واقعية، فهما وصفان واقعان على كل فعل اختياري، سواء كان إنسانيا أم لا. والإرادة الإلهيّة لا تتعلق إلا بإيجاد الفعل الحسن، وهذا كاف في الدلالة على الرجحان.

الإشكال الثَّاني: إدراك الخصوصيّة

لا شكَّ ولا ريب أنَّ الإرادة الإلهيّة لا تتعلق إلَّا بالحسن، ولا شكَّ أنَّ كلَّ فعل منه تعالى خير، ولكن انتسابه إليه تعالى قيد في حسنه لسبب ما. وبعبارة أخرى إنَّ هناك خصوصيَّة تجعل من الفعل منه تعالى حسنا، وإذ نحن نفتقد تلك الخصوصية، فيرتفع حسن الفعل منا. وهذه الخصوصية في المقام هي اجتماع كمال الشروط في عملية النَّقل بالمعنى والترجمة المعنويَّة.

 إنَّ شرط الأمانة التامَّة في النَّقل بالمعنى والتّرجمة هو الإحاطة بمراد المتكلِّم واللُّغة فهما وتحدُّثا، وهذا الشرط متوافر بأعلى ما يمكن في القرآن الكريم، وأمَّا في غيره فلا. فنحن لا ندرك تمام مراد القرآن أو كلام الإمام×، كما أنَّ هناك درجة من القصور اللُّغوي عندنا بالمقارنة مع صاحب النص. واحتمال الخصوصيّة للمعصوم (القرآن هنا) يجعل من فعله مجملا على أقلِّ تقدير، فلا يمكن استفادة حكم شرعي منه. فكيف بإدراك الخصوصيّة؟!

وهذا الاستدلال نظير من يقول: إن القرآن الكريم قد تناول قصص الأولين، وهذا يدلُّ على رجحان ذلك. ثم يقدم على ذات الفعل، وهو غير محيط بتاريخ الأولين؟!

وقد يرد على الإشكال ما يلي:

أولا: لا نسلِّم بأنَّ الإحاطة التامَّة بجميع مراد المتكلم شرط في أمانة النَّقل وصحّته، وهو مصادرة على المطلوب. بل قد يقال يكفي الإحاطة ببعض مراد المتكلم، فتصحُّ نسبته إليه.

ثانيا: إنَّ النَّقل بالمعنى الواقع في القرآن الكريم ليس مغايرا لما يقع من أهل اللغة أنفسهم، كما اتضح من بعض الأمثلة التي مرت. فليس السلوك القرآني جديدا على سيرة العقلاء. غاية ما في الأمر أنَّ درجة تحقُّق شروط النَّقل بالمعنى متفاوتة، وهي كاملة في حق القرآن الكريم.

الإشكال الثَّالث: احتمال الخصوصيّة:

إنَّ هناك كثيرا من التعبيرات القرآنيَّة الخاصَّة بالذات الإلهيَّة المقدَّسة. فقد يكون هذا النوع من السلوك اللُّغوي (أي النَّقل بالمعنى والتّرجمة) حصريّا وخاصّا بالقرآن الكريم، خصوصا حين يكون النَّص الأوَّل صادرا عن المعصوم. 

فهل يقال مثلا أنَّ القسم بالمخلوقات راجح كما أنَّ القرآن الكريم أكثر من القسم بالشمس والتِّين ومواقع النّجوم وغيرها؟! وهل يقال إنَّ استعمال المفردات القرآنيَّة راجحة بدعوى استعمال القرآن إياها؟! أي ما دام عندك كلمتين مترادفتين فالأرجح استعمال ما استعملها القرآن لا ما تركها؟! 

إلى غير ذلك من الإشكالات النقضية على الاستدلال.

واحتمال الخصوصيَّة في فعل المعصوم ملغيٌّ بعموم أدلة التأسي مثل قوله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}([61])، وهي قاصرة عن شمول الفعل القرآني -إن صحَّ التّعبير-. نعم التّوسل بالعصمة لإثبات حسن الفعل ورجحانه دليل عام، ولكنَّه في نفسه ليس دليلا رافعا للشكِّ في الخصوصيّة، ولا بدَّ من التَّوسل بدليل آخر، كالآية.

وقد يرد على الإشكال، إضافة لبعض ما ورد على الإشكال السابق، ما يلي:

أولا: نسلِّم أنَّ الفعل القرآني راجح إلَّا مع ورود قرينة ما تدلُّ على الخصوصيّة. فلو لم يرد ما يدلُّ على عدم رجحان القسم بالمخلوقات، لكانت آيات القسم دليلا على الرجحان.

ثانيا: إنَّ احتمال الخصوصيَّة منفي بالسلوك العام للنبي’ بالتزامه أدب القرآن في عمله وقوله. وقد يقال إنَّ هذا يعد قرينة على عموم رجحان التخلُّق بخلق القرآن وأدبه القولي، ومنه أدبه النَّقلي.

وعلى أي حال هذه محاولات لمعالجة الإشكالات التي مرَّت، فإن تمَّت، كان سلوك القرآن حجَّة على جواز النَّقل بالمعنى للحديث، وإلَّا لزم أن نرجع إلى النّصوص الروائيَّة، والسيرة العقلائيَّة لإثبات ذلك.

نقل القرآن بالمعنى:

وبعد إثبات جواز النَّقل بالمعنى، يرد التّساؤل حول جواز نقل القرآن بالمعنى. خصوصا، إذا أجزنا ترجمة النّص القرآني فلم لا يجوز أن ننقله بالمعنى؟

إضافة إلى أنَّ النَّقل بالمعنى لا يقلُّ عن التّرجمة الحرفيَّة والمعنويَّة قربا من النّص.

وللجواب لا بدَّ من التفريق بين أمرين بين مُصَحِّحِ الإسناد، ومُصَحِّحِ القرآنيَّة. ونعني بالأوَّل المبرِّرات والشروط التي تصحِّح نسبة القول إلى القائل. وليس من تلك الشروط النَّقل الحرفي، وهو ما تثبته أدلَّة جواز النَّقل بالمعنى. ونعني بالثاني الشروط التي يصحُّ بها إطلاق وصف القرآنيَّة على الكلام. وحيث إنَّ الجهة البلاغيَّة والبيانيَّة، والقالبيَّة، مقوِّمة للنّص القرآني، فالاحتفاظ بالمعنى دون اللّفظ يرفع هذا الوصف. وهذا شبيه إلى حدٍّ ما بمقوميَّة الوزن والقافية للقصيدة، فلا يطلق على ما أدى معناها عنوان القصيدة، ولا نقول عن معاني قصيدة المتنبي لو أديت بلفظ آخر أنها قصيدة المتنبي.

والحاصل أنَّه يمكن ثبوتا القول بصحّة إسناد المنقول بالمعنى من النّص القرآني، إلى الذات المقدَّسة. ولكنه لا ينال وصف القرآنيّة بلا شك. "لأنَّ المراد بالقرآن هو الذي أنزله اللَّه سبحانه على النبي(صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) وهو عربي اللُّغة كما في قوله عزّ من قائل‌ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}"([62]).

غير أنَّ هنالك عائقا آخر، وهو الافتقار إلى أحد شروط النَّقل بالمعنى، وهو معرفة المعنى المراد. وأنَّى لنا بالجزم بمرادات القرآن جميعها والإحاطة بها؟!

وينضاف إلى ذلك أنَّ نقل القرآن بالمعنى خارج تخصُّصا عن أدلّة جواز النَّقل بالمعنى أو الترجمة. أما أدلّة جواز النَّقل بالمعنى فموضوعها نقل الحديث الذي لا طريق لحفظ كلماته بحسب القدرة البشريّة مع عدم إمكانيّة التدوين. كما أنَّ الحديث لم تكن فيه الجهة اللفظيَّة ذات خصوصيَّة يراد أن يكون بها الكلام. وهذا بخلاف القرآن الكريم الذي انحفظ لفظه في الصدور بالتواتر، ولا حاجة للصيرورة إلى المنقول ما دام اللفظ موجودا.

إضافة إلى أنَّ القرآن نصٌّ جهاته اللفظيَّة مرادة لخصوصيَّة ما زائدة على إرادة ألفاظ الكلام العادي، فالحفاظ عليها مهم كالحفاظ على المعنى. وأما أدلَّة جواز التَّرجمة فالنكتة فيها انحصار إيصال الدعوة بها عمليّا بالنِّسبة لغير العربي، وهذا غير متحقِّق في مورد النَّقل بالمعنى، حيث يمكن النَّقل الحرفي ما دام المخاطب عربيّا.

خاتمة

تعرَّض البحث للإسناد القولي في القرآن الكريم. وحاول أولا تبيان حجم حضوره من خلال تتبع الفعل "قال"، واتّضح أنَّه أكثر فعل تكرَّر في القرآن الكريم، كما أنَّ الجذر "ق و ل" أكثرها تكرارا فيه، بعد الجذر "أله". وكثرة الورود يكشف عن ضرورة التعرُّض إليه كمقدِّمة تدبُّريّة.

ثمَّ حدَّد الإسناد القولي الذي يرام التركيز عليه، وهو الإسناد الحقيقي دون المجازي منه. ثم عرض لنماذج من الآيات وصنفها في أشكال عدّة: نقل حرفي، ونقل بالمعنى، وترجمة، ومجاز أو لسان حال. مبرِّرا تصنيفه من خلال الرجوع إلى المصادر التفسيريَّة والتحليل.

وقف البحث للإجابة عن أسباب تجنُّب النّص القرآني النَّقل الحرفي، الذي تتبادر أولويَّته حيث هو الأوفق بالأمانة. فعرض خمسة عوامل، وهي: إشكاليَّات التّرجمة الحرفية، وتعقيد عمليَّة التّواصل، وإعجاز القرآن الكريم، والفواصل القرآنيَّة، وتنوُّع الغرض القرآني. وحاول بعدها أن يحلِّل ظاهرة نقل المعنى كرافد آخر يبرِّر حجم حضور النَّقل بالمعنى والتّرجمة المعنويّة في القرآن الكريم.

واستعرض البحث دلالات حضور النَّقل بالمعنى والتّرجمة في القرآن الكريم، وتحديدا إمكان الاستدلال على جواز نقل الحديث بالمعنى، وترجمة النّص القرآني. وحاول معالجة ثلاث إشكاليات تواجه هذا النوع من الاستدلال، على أنَّها ليست معالجات تامَّة. وتوقَّف عند مسألة نقل القرآن بالمعنى وسرّ اختلاف الحكم فيه عن حكم ترجمته.

وجدير بالقول أنَّ ما قُدِّم في البحث لا يعدو كونه محاولة غير جازمة وقاطعة. وما ذكر من آراء واستنتاجات لا يخرج عن دائرة الظن في أغلبه. ولا زالت هنالك مساحات فارغة وتساؤلات تُحوج إلى مزيد بحث وتناول، من أهمها إمكان استفادة الشرعيَّة التي مرَّت. وممَّا يكمِّل لوحة البحث تناول الإسناد القولي في السنَّة الشريفة، خصوصا وأنَّ استفادة الشرعيّة من سلوك المعصوم لا تواجهها الإشكاليّات التي قد مرَّت في الجملة.

وإنَّه من نافل القول امتلاء البحث بالقصور والنواقص، وقصور العلَّة يسري إلى المعلول. والملاحظات والإشكالات أيّا كان نوعها، هي محلُّ تقدير من كاتب البحث.

وختاما كلُّ الرجاء من المولى عزَّ وجلَّ أن يتقبَّل هذه المحاولة ويعدُّها امتثالا لأمره بتدبُّر كتابه وتقصِّي معانيه، طلبا لامتثالها، والتقرُّب إليه، إنُّه سميع مجيب..
 


([1])اعتمدت لغة برمجية (Python) لاحتساب عدد ورود الكلمات في القرآن الكريم. كما يمكن مراجعة Quran Word Frequency على الرابط:

https://www.qurananalysis.com/analysis/word-frequency.php

([2])تمَّ أخذ الإحصائيات للرسم من: معجم كلمات القرآن الكريم، أ.د. محمد زكي محمد خضر، ج1، الطبعة الثانية، 2012م. متوفر على الرابط:

https://www.al-mishkat.com/words/

([3])النقل بالمعنى في القرآن الكريم، محمد نقيب زاده، مجلة المعرفة، ج180، ص2، معهد الإمام الخميني للبحوث التربوية. ويمكن الحصول عليه عبر الرابط:

http://www.marifat.nashriyat.ir/node/2586

([4])مختصر المعاني، سعد الدين التفتازاني، ص37، ط1، 1411هـ، منشورات دار الفكر قم. راجع أيضا: علوم البلاغة (البديع والبيان والمعني)، محمد أحمد قاسم، ود. محيي الدين ديب، ص233، ط1، 2003، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس لبنان.

([5])يوسف: 31. هذه الآية كانت سببا في ورود فكرة البحث إذ أُثير سؤال عن الداعي لذكرهم لفظ الجلالة بينما لم يكنّ مؤمنات.

([6])فصلت: 41.

([7])الميزان، العلامة الطباطبائي، ج17، ص366، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة. وأيضا: الكشاف، الزمخشري، ج3، ص445.

([8])مريم: 47.

([9])الزلزلة: 4.

([10])الميزان، العلامة الطباطبائي، ج11، ص197. وأيضا: الكشاف، الزمخشري، ج2، ص327.

([11])المنافقون: 8.

([12])مفاتيح الغيب، الرازي، ج30، ص17.

([13])البقرة: 104.

([14])الميزان، العلامة الطباطبائي، ج1، ص248. وأيضا: الكشاف، الزمخشري، ج1، ص302. 

([15])النساء: 4.

([16])الأنعام: 68.

([17])الميزان، العلامة الطباطبائي، ج5، 115. وأيضا: مفاتيح الغيب، الرازي، ج11، ص80.

([18])يس: 78.

([19])البرهان في تفسير القرآن، سيد هاشم البحراني، ج4، ص582، مؤسسة البعثة، قم.

([20])المنافقون: 7.

([21])مفاتيح الغيب، الرازي، ج30، ص16.

([22])الأعراف: 65.

([23])النحل: 36.

([24])البقرة: 30.

([25])البقرة: 124.

([26])آل عمران: 55.

([27])طه: 14.

([28])الأعراف: 38.

([29])المؤمنون: 108.

([30])المائدة: 28.

([31])يوسف: 4.

([32])طه: 10.

([33])النمل: 7.

([34])القصص: 29.

([35])البقرة: 32.

([36])الجن: 1.

([37])النمل: 23.

([38])فصلت: 33.

([39])الميزان، العلامة الطباطبائي، ج17، ص391.

([40])المصدر نفسه: ج17، ص23.

([41])التحرير والتنوير، ابن عاشور، ج25، ص55، مؤسسة التاريخ، بيروت.

([42])الكافي، الكليني، ج1، ص110، ط5، 1363ش، دار الكتب الإسلامية، طهران.

([43])فصلت: 11.

([44])الميزان، الطباطبائي، ج17، ص365. وأيضا: مفاتيح الغيب، الرازي، ج27، ص104.

([45])البقرة: 60.

([46])تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي، ج2، ص212.

([47])أصول الفقه، الشيخ حسين الحلي، ج6، ص445، ط1، 1432هـ، مكتبة الفقه والأصول المختصة، قم.

([48])الميزان، العلامة الطباطبائي، ج7، ص110.

([49])الأسس الحديثية والرجالية عند العلامة الشيخ محمد تقي المجلسي، محمد رضا جديدي نجاد، وعبدالهادي مسعودي، ص210.

([50])بحوث في علم الأصول، الشاهرودي، ج7، ص32، ط2، 1417هـ، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، قم.

([51])معالم الدين وملاذ المجتهدين، الشيخ حسن بن زين الدين العاملي، تحقيق السيد منذر الحكيم، ج1، ص105، مؤسسة الفقه للطباعة والنشر، قم.

([52])المحصول، الرازي، تحقيق د. طه العلواني، ج4، ص466، مؤسسة الرسالة. راجع أيضا: أصول السرخسي، السرخسي، ج1، ص355، ط1، 1993م، دار الكتب العلمية، بيروت.

([53])أسباب اختلاف الحديث، محمد إحساني فر لنكرودي، ص51.

([54])ترجمة القرآن الكريم، أحمد علي عبدالله، ص91، 1403هـ، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

([55])التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، ج1، ص152، ط1، الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، مشهد.

([56])البيان في تفسير القرآن، السيد الخوئي، ص505، دار الزهراء. راجع أيضا: التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، ج6، ص409.

([57])المصدر نفسه.

([58])الحيوان، الجاحظ، ج1، ص54، دار الكتب العلمية.

([59])التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، ج1، ص161.

([60])الأحزاب: 21.

([61])دروس في علم الأصول، محمد باقر الصدر، ج1، ص231، ط2، 1986م، دار الكتاب اللبناني، بيروت.

([62])التنقيح في شرح العروة الوثقى، تقرير الشيخ الغروي، ج4، ص489، مؤسسة الخوئي الإسلامية.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا