الأداء الخطابي بين متطلِّبات الفنِّ ومحذور الكذب

الأداء الخطابي بين متطلِّبات الفنِّ ومحذور الكذب

ورد عن سيِّدنا ومولانا الصَّادقg أنَّه قال: «يا أبا هارون، من أنشد في الحسين‌g شعراً فبكى وأبكى عشرة كتبت لهم الجنّة، ومن أنشد في الحسينg شعراً فبكى وأبكى خمسة كتبت لهم الجنّة، ومن أنشد في الحسينg شعراً فبكى وأبكى واحداً كتبت لهما الجنّة»[1].

مقدّمة:

مع بداية كلِّ موسم جديد لعاشوراء الحسينg، تكثر الجدليَّات التي تثير النُّقاش على نطاق واسع يطال جميع الجزئيات الأساسية والفرعيَّة المتعلِّقة بهذا الموسم، وهذه الظَّاهرة وإن كانت -في الجملة- معبِّرة عن مقدار الاهتمام الذي يحمله الجميع تجاه هذا الموسم المقدَّس، وعن مقدار كبير من الحرص على تنقيته من كلِّ شائبة فكرية أو سلوكية تعدُّ غريبة على فكر الحسينg، وعن حالة ثقافيِّة دافعة نحو التَّعديل والتَّطوير، إلا أنَّها تبقى ظاهرة لا تخلو من كثيرٍ من السَّلبيات، ما لم ترشَّد وتوجَّه آلياتها لتكون مضبوطة بالضَّوابط العلمية العامَّة للنَّقد والمناقشة.

ومن جملة ما تعرض -ويتعرَّض دائماً- للنَّقد ومحاولات التَّطوير والعلاج، بل ممَّا يعدُّ أساساً ومنطلقاً لحركة هذه الظَّاهرة: المنبر الحسيني، وليس ذلك بغريب، ما دام المنبر الحسيني هو الرُّكن الأوَّل الذي تعتمد عليه مسألة الإحياء العاشورائي، وهو الواجهة في هذا العصر للمذهب الحقِّ، وهو بذلك يحتاج إلى اهتمامٍ مركَّز لضمان جودة أدائه من حيث المادَّة والأسلوب، ليكون في موقعه الصَّحيح دون انحرافٍ أو ميلٍ.

 

وما يعطيه المنبرُ الحسيني يتكوَّن من شقّين أساسيين:

الشِّق الأوَّل: هو ما يُعرف بالموضوع، أو البحث. 

الشِّق الثَّاني: ما يعرف بالنَّعي.

والكلام فعلاً حول الشِّق الثَّاني، وذلك بغرض محاولة تقديم رؤية علاجيَّة لأكثر الجدلَّيات التي تتحرَّك طيلة أيَّام السنة -فضلاً عن نفس الموسم- تجاه هذا الشِّق، ممَّا يوجب تشويشاً يصاحب الموسم، وربَّما -في كثيرٍ من الأحوال- إضعافاً، واستنقاصاً من حقِّ هذا الشِّق فيما هو عليه الآن، وما كان عليه، وما ينبغي أن يكون عليه في المستقبل، فليس الغرض هنا هو الانتصار لمدرسة فنيَّة على حساب مدرسة فنيّة أخرى، بل الغرض هو توسيع الرُّؤى تجاه هذا الاختلاف المدرسيّ، بما يخرجنا بنتيجة حاصلها: ضرورة تقبُّل هذا الاختلاف الطبيعيّ دونَ تحويله إلى مادَّة تغذِّي التَّضارب المشوِّش على صفاء العقول والقلوب بنحوٍ عام، وبالأخصِّ: أثناء هذا الموسم المبارك.

ولكي تتَّضحُ الفِكرة أكثر، دعوني أتناول ثلاثَ نقاطٍ أساسيةٍ في هذا البحث:

الأولى: في بيان ماهيَّة الشِّق الثَّاني -موضوع البحث-، وكونه فنّاً لا علماً.

الثَّانية: في تناول إشكاليَّة مهمَّة تُثار عادة في ساحة فنِّ النَّعي الحسيني والمنبريِّ.

الثَّالثة: في ذكر جملة من النَّتائج المهمَّة.

النُّقطة الأولى: النَّعي الحسيني، فنٌّ لا علمٌ

وهنا مجموعة من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة: ما هو الفرق بين الفنِّ والعلم؟ وهل هناك علاقة بينهما؟ أم أنَّهما أمران متباينان تماماً؟ وهل النَّعي فنٌّ أم علم؟ وإذا كان فنّاً، فما هي طبيعة هذا الفنِّ؟ وممَّ يتألَّف؟ وما هو وجه شرعيّته؟ وما هي ضوابطه؟ وأخيراً: ما الذي يترتَب على كونه فناً لا علماً؟

التعرُّف على إجابات هذه الأسئلة من شأنُه أن يوقفنا على رؤيةٍ عامَّة حول طبيعة هذا الشِّق، وكما يُقال: إنَّ الأحكام تتبع مواضيعها، فإنَّنا بإجابة أغلب الأسئلة السَّابقة، سنقومُ بتحديد ماهيَّة النَّعي -الموضوع-، وبالتَّالي سنتمكن من تحديد أحكامه، وما ينبغي أن يترتَّب عليه من محمولات، دون خلطها بمحمولات موضوع آخر، وهذا بعينه ما سيسهم في توسيع المدارك تجاه ما يحصل فعلاً في هذا الشِّق، وما يقدِّم فيه من أداء، وبالتَّالي سيخفِّف من حدَّةِ كثير من الانتقادات التي توجَّه إليه بعد إيجاد نحوٍ من التفهُّم العام لما يدار فيه، بل سيكشف ذلك عن أنَّ بعضَ ما يُثار يعاني من خلطٍ بين كثيرٍ من الأمور، وهو وإنْ أُبرز بلباسٍ علميّ نقديٍّ في بعض صورِه إلا أنَّه ليس كذلك حقيقةً في كثيرٍ من الأحيان، مع الالتفات إلى ما نريد أن نصل إليه من رؤية تتعلَّق بهذا الشِّق المنبريّ الرُّكنيّ، فدعونا نتعرَّض إلى إجابة الأسئلة السَّابقة تباعاً:

أوَّلا: ما هو الفرق بين العلم والفن؟

يطلق كلٌّ من العلم والفن تارة بمعنى واحد، والمقصود به: القواعد التي تُجمع في موضوع واحد من أجل الإيصال إلى هدف محدَّد يتحصَّل عليه متقنها، ومن ذلك قولهم: علم النَّحو. وفنّ النحو. وعلم الأصول. وفنّ الأصول. وعلم المنطق. وفنّ المنطق. وغير ذلك.

ويطلق العلم والفنُّ تارة أخرى بحيث يكونان متقابلين، وهنا لكلٍّ منهما معنيين:

الأوَّل: أن يكونَ العلمُ بمعنى: الجانب التَّنظيري المتمثِّل في القواعد، بينما الفنُّ يكون بمعنى: الجانب التَّطبيقي لتلك القواعد، والذي يختلف من شخصٍ لآخرٍ تبعاً لاختلاف المهارات، والقُدرات، ودرجاتها، وهو ما يعبِّرون عنه أيضاً بالصِّنعة، أو الصِّناعة، أو الحرفة في بعض الأحيان.

الثَّاني: أن يكون العلمُ بمعنى الأصول والقواعد والتَّنظير أيضاً، بينما الفنُّ يعني: لمسات وأساليب الإبداع الذَّوقي المتفرِّع على تلك الأصول والقواعد التَّنظيرية، فلو كلَّفت خمسة رسَّامين برسمِ لوحةٍ في موضوعٍ معيَّن، فستكون النَّتيجة خمسةُ أعمالٍ فنية، رغم أنَّهم سيتَّفقون في القواعد، ولكنَّهم سيختلفون في اللمسات الذوقية والإبداعية، وهذا هو المعبِّر عنه بالفنّ.

وهناك فوارق مهمَّة بين العلم والفنِّ:

فالأوَّل أداتُه: العقل. والثَّاني أداته: الوجدان، والشُّعور.

ومن حيث الغاية، فالأوَّل هدفه: التَّصديق، والمعرفة. والثَّاني هدفه: الإمتاع، والإثارة، والبحث عن الجمال.

ثانيا: ما هي العلاقة بين العلم والفنّ؟

ممَّا سبق اتَّضحت العلاقة بين العلم والفنّ، فكلُّ فنٍّ يبتني على مجموعة من القواعد الثَّابتة التي من الممكن أن نطلق عليها: علم. ولكنَّه يستقلُّ عن العلم بما وراء هذه القواعد من الذَّوقيات الإبداعية، بينما العلم ليس سوى مجموعة من القواعد النَّظرية الجافَّة. 

فالفنُّ في وجوده محتاج إلى العلم، متكئ عليه، ولكن العلم في وجوده غير محتاج إلى الفن.

ثالثاً: (النَّعي) علمٌ أم فنٌّ؟ وإذا كان فنّاً، فممَّ يتألَّف هذا الفنّ؟ وما هي خصوصياته؟

لا شكَّ أنَّ النَّعي المنبريّ يعدُّ فنّاً لا علماً، وهو في صورته الرَّاهنة يعدُّ فنّاً مستحدثاً ليس له نظير في الفنون البشرية المعروفة، كفنِّ الرَّسم، والتَّمثيل، والرِّواية، والشِّعر، والتَّصوير، والزَّخرفة، والتَّشكيل، والطَّبخ، وغير ذلك، إلا أنَّه في نفسِ الوقت، لا يعدُّ فنّاً أجنبياً بالكليَّة عن هذه الفنون المتعارفة، فهو من النَّاحية التَّحليلية: خليطٌ متجانس ومعقَّد من فنونٌ إنسانية مختلفة، الهدف منه نقل أصل الحادثة المفجعة، مع إضافات تقتضيها متطلَّبات تلك الفنون، لتلقى طريقها للتَّأثير الحقِّ على النُّفوس والقلوب.

ومن أركان هذا الفنِّ أربعة فنون: فنُّ الخطابة، وفنُّ الشِّعر، وفنُّ القصة، وفنُّ الإنشاد.

والمقصود من فنِّ الخطابة هنا: ليس هو تماماً المعنى المصطلح بينهم في علم المنطق، إلا أنَّه يأخذ منه أموراً مهمَّة وأساسية، ككون قضاياه تتألف (من المظنونات، أو المقبولات، أو المشهورات، أو المختلفة بينها)، وليس من الضَّرورة -بل من الخطأ- أن تكون جميع موادِّه من اليقينيات.

وممَّا يأخذه فنُّ الخطابة هنا من المعنى المصطلح ما يعرف بـ(الاستدراجات حسب القول)، وهو ما يتعلَّق باللهجة، والنَّبرة، والهيئة، وسرعة الدرْج في الكلام، أو بطئه حسب ما يقتضيه المقام. 

كذلك: (الاستدراجات بحسب المخاطَب)، (وشهادة القول)، و(شهادة الحال)، ولشرح ذلك كلِّه مقام آخر، وهي أمور تعدُّ من أركان فنِّ الخطابة.

وأما فنُّ الشِّعر: ففيه أركانٌ ثلاثة:

"الوزن، فإنَّ لكلِّ وزن شأناً في التَّعبير عن حالٍ من أحوال النَّفس ومحاكاته له، ولهذا السَّبب يوجب انفعالاً في النَّفس..، فالوزن -على كلِّ حال- بحسب ما له من إيقاعات موسيقيَّة يثير التخيُّل والّلذة في النُّفوس، وهذا أمر غريزي في الإنسان".

"المسموع من القول، يعني الألفاظ نفسها، فإنَّ لكلِّ حرفٍ أيضاً نغمةً وتعبيراً عن حال، كما أنَّ تراكيبها لها ذلك الاختلاف في التَّعبير عن أحوال النَّفس، والاختلاف في التَّأثير فيها، فهناك -مثلا- ألفاظ عذبة رقيقة، وألفاظ غليظة ثقيلة على السَّمع، وألفاظ متوسطة. ثمَّ إنَّ للفظ المسموع أيضاً تأثيراً في التَّخييل، إمَّا من جهة جوهره، كأن يكون فصيحاً جزلاً، أو من جهة حيلة بتركيبه، كما في أنواع البديع المذكورة في علمه، وكالتشبيه، والاستعارة، والتورية، ونحوها المذكورة في علم البيان"[2]

"القضايا المخيلات التي هي العمدة في قوام الشِّعر ومادته التي يتألف منها".

هكذا كما ذكر العلامة المظفر(قده)، ويقول أيضاً: "إنَّ الشِّعر قوامه التَّخييل، والتَّخييل -من البديهي- أنَّه من أهمِّ الأسباب المؤثِّرة على النُّفوس؛ لأنَّ التَّخييل أساسه التصوير، والمحاكاة، والتمثيل لما يراد من التعبير عن معنى، والتصوير له من الوقع في النفوس ما ليس لحكاية الواقع بأداء معناه مجرداً عن تصويره، فإنَّ الفرق عظيم بين مشاهدة الشيء في واقعه، وبين مشاهدة تمثيله بالصورة، أو بمحاكاته بشيء آخر يمثله؛ إذ التصوير والتمثيل يثير في النفس التعجب والتخييل، فتلتذ به، وترتاح له، وليس لواقع الحوادث المصورة والممثلة قبل تصويرها وتمثيلها ذلك الأثر من اللذة والارتياح لو شاهدها الإنسان، واعتبر ذلك فيمن يحاكون غيرهم في مشية، أو قول، أو إنشاد، أو حركة، أو نحو ذلك، فإنّه يثير إعجابنا ولذّتنا، أو ضحكنا، مع أنّه لا يحصل ذلك الأثر النفسيّ ولا بعضه لو شاهدنا نفس المحكيين في واقعهم، وما سر ذلك إلا التخييل والتصوير في المحاكاة، وعلى هذا: كلّما كان التصوير دقيقاً معبِّراً كان أبلغ أثراً في النفس، ومن هنا كانت السينما من أعظم المؤثرات على النفوس، وهو سرّ نجاحها، وإقبال الجمهور عليها؛ لدقّة تعبيرها، وبراعة تمثيلها عن دقائق الأشياء التي يراد حكايتها. 

والخلاصة: إنَّ تأثير الشِّعر في النُّفوس من هذا الباب؛ لأنَّه بتصويره يثير الإعجاب والاستغراب والتخييل، فتلتذُّ به النَّفس، وتتأثر به حسبما يقتضيه من التأثير، ولذا قالوا: إنَّ الشَّاعر كالمصوِّر الفنَّان الذي يرسم بريشته الصِّور المعبِّرة. وحق أن نقول حينئذٍ: إنَّ الشِّعر من الفنون الجميلة، الغرض منه تصوير المعاني المراد التعبير عنها، ليكون مؤثراً في مشاعر الناس، ولكنّه تصوير بالألفاظ"[3].

وأما فنُّ القصة: فهو أحد أشكال الأدب، وهو سردٌ لحدثٍ أو لمجموعةِ أحداثٍ واقعيّةٍ أو خياليّة، ولها أركان متعدِّدة، كالفكرة، والحدث، والعقدة -الحبكة-.

وهذا الفنُّ وإن اختلف عن الفنِّ المعروف بفنِّ الرِّواية، إلا أنَّنا هنا لسنا في صدد التدقيق للتفريق بين هذين الفنين، فإنَّ بينهما تداخل مزجيّ يخدم ويُوَظَّف في فنّ النَّعي المنبريّ كما لا يخفى، خصوصاً في الجانب النثري الأدبي الذي تتسم به الرواية أكثر من القصة، وكذلك ركن الحوار.

يقول العلامة المظفر في كتابه (المنطق): "وأصبحت القصة في العصور الأخيرة أدباً وفنّا قائماً برأسه، يستعين بها دعاة الأفكار الحديثة لتلقين العامّة وإقناعهم، وإن كانت من صنع الخيال. والسرُّ: أنَّ في طبيعة الإنسان شهوة الاستماع إلى القصة، فيلتذّ بها، وذلك لإشباع غريزة حبّ الاطلاع، أو لغير ذلك من غرائزه، وقد يعتبرها شاهداً ودليلاً باعتبارها تجربة ناجحة"[4].

وأخيراً: فنُّ الإنشاد 

هو استعمال الصوت رفعاً وخفضاً بالترنّم، والترجيع، والتنغيم، وفقاً لإيقاعاتٍ موسيقيّة مضبوطة ومتجانسة، بما يترك أثره على النفس والشعور تحزيناً، أو إفراحاً، أو غير ذلك، ولا شكَّ أنَّ ما يُعرف بالأطوار الحسينية التي تستعمل على المنبر الحسيني، هي شق من هذا الفنّ الإنساني المعروف.

 

رابعاً: ما هو مستند هذا الفنّ؟ ومن أين نشأ؟

من الواضح أنَّ شرعيّة هذا الفنّ قد نشأت ممَّا دعا إليه أئمتناi، فإنَّ لهم طلبات واضحة ومتكرِّرة للشِّعر، والإنشاد، وقصُّ وسردُ ما جرىi من مصائب، وهذا يعني أنَّهم لم يطلبوا مجرَّد صفِّ الرِّوايات بنحو جافٍّ بعيد عن التأثير في النفس، واستجلاب انفعالاتها، بل إنَّهم طلبوا بذلك حفظ قضية الحسينg مع هذا التَّرطيب الفنيّ الإبداعيّ، فهو ممَّا أرشدوا إليه، دون الاكتفاء بتعداد الأحداث من دون إعمالٍ لأداة الفنون، ولذلك ورد عن أبي هارون المكفوف قال: قال لي أبو عبد اللهg: «يا أبا هارون، أنشدني في الحسينg. قال: فأنشدته. قال: فقال لي: أنشدني كما تنشدون. -يعني بالرَّقة-. قال: فأنشدته شعراً. قال: فبكى. ثم قال: زدني. فأنشدته القصيدة الأخرى، قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر. قال: فلمّا فرغت، قال: يا أبا هارون، من أنشد في الحسينg شعراً فبكى وأبكى عشرة كتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسينg شعراً فبكى وأبكى خمسة كتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسينg شعراً فبكى وأبكى واحداً كتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسينg عنده فخرج من عينيه من الدمع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على اللهa، ولم يرضَ له بدون الجنَّة»[5].

و(الرّقة) هنا إما بالفتح، فيكون معناها: بلدة على الفرات. فيُفهم أنَّ الإمامg قد طلب طريقة خاصة في الإنشاد مختصة بأهل الرّقة، وإما أنّها بالكسر، فيكون معناها: الحزن والتأثير. كما احتمله صاحب العوالم[6].

خامساً: ما هي ضوابط فنِّ النَّعي الحسيني؟

يصعب إحصاء ضوابط فنّ النَّعي؛ ذلك أنَّه يتشكَّل من مزيج متعدِّد من الفنون من جهة؛ ولأنَّه ليس فنّاً أجنبياً عن مادّة التبليغ الديني من جهة أخرى، فإنّه معدود من أهم الشعائر الدينية المقدّسة، فإضافةً إلى ضرورة ضبط قواعد الفنون المتقدّمة ليخرج فنّ النَّعي بما يليق باسم الحسينg -كلٌّ بحسبه-، فهناك ضوابط أساسية لا بد من مراعاتها أيضاً من جانب آخر، فباعتبار أنَّ من دعى لممارسة هذا الفنِّ في الأصل هم أئمة أهل البيتg من جهة، وباعتبار أنَّ هذا الفنِّ منسوب إلى الحسينg من جهة أخرى، فلا بدَّ من ضبط هذا الفنّ بجميع الضوابط الشرعية التي تحافظ على كون هذا الفنّ حسينياً في الواقع:

كضرورة الابتعاد عن الكذب، وهو: أن يكون المتكلِّم في مقام الإخبار، فيحدِّث بما لم يقع، فمن الضَّرورة بمكان حفظ أصل الحدث، وعدم حرف المسار التاريخي الواقعي له؛ لأنَّه ليس حدثاً عادياً قد صدر من شخص عادي، بل هو حدث عظيم، صدر من المعصوم، ويُراد أن يُبنى عليه، وهو يترك تأثيره الفكري والسلوكي في عقول النَّاس ونفوسها، فليس لأحدٍ ممن يمارس فنّ النَّعي أن يخترع الأحداث والحال هذه.

وكضرورة الابتعاد عن الغناء، وما يناسب مجالس أهل اللهو واللعب.

وكضرورة ألا يلزم من مادة الطرح تضليلاً عقائدياً، أو أخلاقياً، أو فقهياً، أو تأريخياً، وما شاكل.

وكضرورة أن يُحفظ مقام المعصوم ومقامات الأولياء؛ بما لا يلزم منه توهيناً واستخفافاً بهمi ولو من غير قصد.

وغير ذلك من ضوابط.

سادساً: ما الذي يترتَّب على كون النَّعي فناً لا علماً؟

بعد اتِّضاح كلِّ ما سبق، نستطيع أن نفهم النَّعي الحسيني على أنَّه فنٌّ لا علم، فلا تجري عليه أحكام العلم، ولكنَّه بالرغم من ذلك مضبوط بجملة من القواعد الشرعية والفنية، وما وراء ذلك، فإنَّ مجال الإبداع فيه مفتوح؛ لإشباع الهدف الأساس من الفنّ، وهو التَّأثير على النّفس، واستجلاب انفعالها، وتجاوبها، بما يحقِّق لنا ارتباطا إيجابياً مبنياً على أسس شرعية وفنيّة رصينة، فيكون الارتباط حينئذ ارتباطاً حقاً، لا باطلا.

وفي الجملة يمكن أن يُقال: إنَّ فنَّ النَّعي الحسيني يعدُّ مزيجاً من فنون متعدِّدة، وكلُّ واحدٍ من هذه الفنون له خصوصيته التَّطبيقية، وجذوره التَّاريخية، وتراكماته النَّضجية التَّطورية، وهو مع ذلك يُقدَّم ممزوجاً بالفنون الأخرى التي جعلت فنّ النَّعي الحسيني بحدّ ذاته فنّاً أشبه بالمستقل، له منطلقاته الخاصة، وأساليبه المتعدّدة، وفقاً لمدارس كثيرة، والضَّابط العام لهذا الفن: (التَّأثير المتوازن المحقِّق لغرض الرَّبط بأهل البيتi من بوابة العاطفة والحزن).

النَّقطة الثَّانية: فنّ النَّعي الحسيني وإشكالية الكذب

بعد اتضاح ماهيَّة النَّعي، وأنّه من الفنون بالتفصيل المتقدّم، نجد أنَّ هناك جملة من الإشكاليات المتداولة التي توجه لهذا الفنّ عادة بمسمى النَّقد دون ضوابط ترشيدية، وبعضها ذوقيّ، ممَّا تكون نتيجته الإضعاف دون حقّ، ومن أهمّ هذه الإشكاليات: إشكالية لزوم الكذب من ممارسة فنِّ النَّعي. حتى رتَّب عليها بعضهم أنَّه لا ينعى في نهار شهر رمضان هرباً من هذا المحذور! وقد نُقلت بعض القصص عن بعض العلماء، كيف أنَّهم ينفعلون من ناعٍ نعى الحسين وذكر على لسانهg جملة كرَّرها مرّتين، فانبرى له قائلاً: لا تكذب على المعصوم؛ لأنّ الخبر يذكر أنَّه قالها مرّة واحدة فقط! والحال أنَّنا شهدنا ونشهد هذه المجالس تُلقى على مسامع المراجع والعلماء على مرِّ العصور، مع ما يُذكر في النَّعي من مبالغات وتكرارات، دون أن يعترض أحدٌ منهم على ذلك كلِّه! فما هو الحقُّ في المسألة؟!

أولاً: ما هو حاصل الإشكال؟ 

قالوا: يلزم من الكثير من الممارسات التي يمارسها الخطباء على المنبر في شِقِّ النَّعي: محذور الكذب، بمعنى: عدم الالتزام بنصوص ما ورد في الرِّوايات، وذلك إمَّا بإضافة، أو نقيصة، فكثيراً ما يُوَجَّه إلى الخطباء هذا الاتهام، فيُقال: إنَّكم لا تتورَّعون عن الكذب في سبيل استدرار الدَّمعة، وإنجاح المجلس الحسيني من هذه الجهة.

ثانياً: المناقشة

 يقع في كثيرٍ من الأحيان خلطٌ بين الاستجابة لمتطلَّبات الفن، وبين الكذب، فقد اتَّضح ممَّا سبق -في النُّقطة الأولى- أنَّ ميزان التَّحقيق بدقَّته لا ينسجم في كلِّ تفاصيله مع ميزان الفنّ، ولكنَّه لا يتعارض معه في نفس الوقت؛ لأنَّ الفنَّ قد يستقلّ بضوابط لا تتضارب في أصلها مع مبادئ التحقيق، ولكنَّنا لو أعملنا تفاصيل التحقيق، لكانت النتيجة هي رفض تفاصيل الفنّ، فالفنّ والتحقيق، يمكن التوفيق بينهما مبادئاً، إلا أنّهما في التفاصيل يتنافران في كثير من الجزئيات، وعلينا أن ندَع لكلِّ منهما مجاله لنضمن عدم التداخل بينهما بما يوجب التشويش، فالمطلوب هو: حفظ الضوابط العامة المذكورة سابقاً، والتي منها: عدم الكذب، ولكن: هذا إذا كان المحدِّث في مقام الإخبار بالحدث، لا في مقام التأثير المعروف بالخطابة، أو بفنّ النَّعي، فهو هنا وإن لم يخلُ عن إخبارٍ في الجملة، إلا أنّه ليس في تمام مقام الإخبار دون إعمال لمسات الفنّ التي تقتضي شيئاً من الإضافات للوصول إلى التأثير دون لزوم محذور الكذب؛ إذ إنَّ الخطيب ليس في مقام تحقيق تاريخي، بل هو في مقام الإخبار بأصل الحادثة، مع الإضافات التي يقتضيها مقام الخطابة، والذي يعتمد على المخيلات، والمظنونات، والمقبولات، والمشهورات، وغير ذلك، دون ضرورة الاعتماد الكلي على اليقينيات، ومن أمثلة ذلك:

تكرار الكلمة أو الجملة.

إضافة التَّعليقات العامِّية المستوحاة من نفس ثقافة -ولهجات- محيط المستمع والخطيب.

الاستفادة من توقعات قاعدة طبيعة الأشياء، ولوازم الحدث.

إضافة الرَّوابط التي تحفظ وحدة سياق الحدث، مثل: (فالتفتَ، تحادرت دموعه على الخدين، اعتصر قلبها من الألم).

ضم التصورات واللفتات والخيالات المعقولة -مع بيان كونها كذلك- كإضافات ولمسات أدائية.

الاستفادة من التعبيرات الأدبية والبلاغية.

كلُّ ما تقدَّم كتفاصيل فنية، إذا طبَّقنا عليها حدّ التفصيل الدقيق من وجهة نظر التحقيق، فإنّ صناعة التحقيق لن تقبل به، إلا أنّها حينئذ ستكون قد أخلّت بشروط نجاح الفنّ المضبوط حين تدخلّت فيما لا يعنيها من وجهة نظر فنية، ففي الفنّ نحن نحتاج إلى مسرَحَة الحدث، ومنْتَجته بما ينسجم مع الضوابط العامة للرؤية التحقيقية حتى لا يفلت الفنّ باسم الفن، ولكنّنا في نفس الوقت بحاجة إلى احترام هذا الفن، وإعطائه المساحة التي يُسمح له بالتحرك فيها إبداعاً وتطويراً مرشَّداً بما تمليه الضوابط العامة للتحقيق.

وفي الجملة: في شِقّ النَّعي، أنا لا أروي حديثاً، بل أروي قصّة، والفرق بينهما أن الأوَّل تابع لصناعة التحقيق، والثَّاني منهما تابع لفنِّ القصة والرِّواية، وذلك يفرض تبايناً وتمايزاً بين الاثنين مادةً وهيئةً، ومحاكمةُ أحدهما بضوابط الآخر يعتبر خلطاً وخبطاً.

قال العلامة المظفر في كتابه (المنطق): "من المشهورات عند شعراء اللغة العربية قولهم: (الشعر أكذبه أعذبه)، وقد استخفّ بعض الأدباء المحدثين بهذا القول، ذهاباً إلى أنّ الكذب من أقبح الأشياء، فكيف يكون مستمْلَحاً؟! مضافاً إلى أنّ القيمة للشعر إنّما هي بالتصوير المؤثّر، فإذا كان كاذباً فليس في الكذب تصوير لواقع الشيء. وهذا النقد حق لو كان المراد من الشعر الكاذب مجرّد الإخبار عن الواقع كذباً، غير أنّ مثل هذا الإخبار -كما تقدّم- ليس من الشعر في شيء، وإن كان صادقاً، وإنّما الشعر بالتصوير والتخييل، ولكن يجب أن نفهم أنّ تصوير الواقع تارة يكون بما له من الحقيقة الواقعة بلا تحوير، ولا إضافة شيء على صورته، ولا مبالغة فيه، أو حيلة في تمثيله، ومثل هذا يكون ضعيف التأثير على النفس، ولا يوجب الالتذاذ المطلوب، وتارة أخرى يكون بصورة تخييلية -على ما نوضحه فيما بعد-، بأن تكون كالرتوش التي تصنع للصورة الفوتوغرافية، إما بتحسين، أو بتقبيح، مع أنّ الواقع من ملامح ذي الصورة محفوظ فيها، أو كالصورة الكاريكاتورية التي تحكي صورة الشخص بملامحه المميزة له، مع ما يفيض عليها المصور من خياله من تحريفات للتعبير عن بعض أخلاقه، أو حالاته، أو أفكاره، أو نحو ذلك، فهذا التعبير أو التصوير من جهة صادق، ومن جهة أخرى كاذب، ولكنّه في عين كونه كاذباً هو صادق، وهذا من العجيب! ولكن معناه: أنّ المراد الجديّ -أي: المقصود بيانه واقعاً وجداً- من هذا التخييل صادق، في حين أنَّ نفس التخييل الذي ينبغي أن نسميه المراد الاستعمالي كاذب، وليتضح لك هذا المعنى تأمل نظيره في تصوير الصورة الكاريكاتورية، فإنَّ المصور قد يضفي على الصورة ما يدلّ على الغضب، أو الكبرياء من ملامح تخيلها المصور، وليست هي حقيقيّة لصاحب الصورة بالشكل الذي تخيله المصور، وهي مراد استعمالي كاذب، أما المراد الجديّ -وهو بيان أنّ الشخص غضوب، أو متكبّر- فإنّ التعبير عنه يكون صادقاً لو كان الشخص واقعاً كذلك، أي: غضوباً، أو متكبراً، فإذن إنّما التخييل الكاذب وقع في المراد الاستعمالي لا الجدي، وكذلك نقول في الشِّعر، ولا سيما أنّ أكثر ما يأتي فيه التخييل بالمبالغات -كالمبالغة بالمدح، أو الذم، أو التحسين، أو التقبيح- والمبالغة ليست كذباً في المراد الجدي إذا كان واقعه كذلك، ولكنَّها كاذبة في المراد الاستعمالي، وليس هذا من الكذب القبيح المذموم ما دام هو ليس مراداً جدياً يراد الإخبار عنه حقيقة. مثلاً: قد يشبّه الشعراء الخصر الدقيق بالشعرة الدقيقة، فهذا تصوير لدقة الخصر، فإن أريد به الإخبار حقيقة وجداً عن أنّ الخصر دقيق كالشعرة، أي: أنّ المراد الجدي هو ذلك، فهو كذب باطل وسخيف، وليس فيه أي تأثير على النفس ولا تخييل، فلا يعدّ شعراً، ولكن في الحقيقة أنّ المراد الجدي منه إعطاء صورة للخصر الدقيق لبيان أنّ حسنه في دقته يتجاوز الحد المألوف في الناس، وإنّما يكون هذا كاذباً إذا كان الخصر غير دقيق؛ لأنَّ الواقع يخالف المراد الجدي، أما المراد الاستعمالي وهو التشبيه بالشعرة فهو كاذب، ولا ضير فيه، ولا قبح، ما دام المراد به التوصل إلى التعبير عن ذلك المراد الجدي بهذه الصورة الخيالية. وبمثل هذا يكون التعبير تخييلاً مستغرباً وصورة خيالية قد تشبه المحال، فتجلب الانتباه وتثير الانفعال لغرابتها، وكلّما كانت الصورة الخيالية غريبة بعيدة، تكون أكثر أثراً في التذاذ النفس وإعجابها، ولذا نقول: إنّ الشعر كلّما كان مغرقاً في الكذب في المراد الاستعمالي بذلك المعنى من الكذب كان أكثر عذوبة. وهذا معنى "أكذبه أعذبه"، لا كما ظنّه بعض من لا قدم له ثابتة في المعرفة، على أن التخييل وإن كان كاذباً حقيقة -أي: في مراده الجدي أيضاً- فإنّه يأخذ أثره من النفس"[7].

وقال: "إنّ المخيلات ليس تأثيرها في النفس من أجل أنّها تتضمن حقيقة يعتقد بها، بل حتى لو علم بكذبها فإنّ لها ذلك التأثير المنتظر منها؛ لأنّه ما دام أن القصد منها هو التأثير على النفوس في إحساساتها وانفعالاتها فلا يهم ألا تكون صادقه، إذ ليس الغرض منها الاعتقاد والتصديق بها"[8].

وقال: "إنّ التصوير والتخييل مؤثر في النفس وإن كان كاذباً، بل -وقد سبق- كلما كانت الصورة أبعد وأغرب كانت أبلغ أثراً في إعجاب النفس والتذاذها، وأحسن مثال لذلك: قصص ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والقصص في الأدب الحديث، والسبب الحقيقي لانفعال النفس بالقضايا المخيلات الاستغراب الذي يحصل لها بتخييلها، على ما أشرنا إليه فيما تقدم، ألا ترى أنّ المضحكات والنوادر عند أول سماعها تأخذ أثرها في النفس من ناحية اللذة والانبساط أكثر مما لو تكررت وألفت الآذان سماعها؟! بل قد تفقد مزيتها وتصبح تافهة باهتة لا تهتز النفس لها، بل قد يؤثر تكرارها الملل والاشمئزاز، وإذا قيل في بعض الشعر: إنّه (هو المسك ما كررته يتضوع) فهو من مبالغات الشعراء، وإذا صح ذلك فيمكن ذلك لأحد وجهين: الأول: أن يكون فيه من المزايا والنكات ما لا يتضح لأول مرة، أولا يتمثل للنفس جيداً، فإذا تكررت قراءته استمرئ أكثر، وانكشفت مزاياه بصورة أجلى، فتتجدد قيمته بنظر المستمع. الثاني: أنّ عذوبة اللفظ وجزالته لا تفقد مزيتها بالتكرار، وليست كالتخييل"[9].

ومنه يُعرف فساد ما قد يقال: إنّ الخطباء مخطئون بابتعادهم عن عنصر التحقيق، وباعتمادهم على غير المشهور من الروايات، أو الضعيف منها -حسب الميزان الرجالي الفقهي-، أو على ما لم يرد في الكتب القديمة، وغير ذلك.

فجوابه ما تقدم ذكره من ضرورة التفريق بين فنّ الرواية والقصة، وبين فنّ الحديث والأخبار، فأنا كخطيب لست في وارد نقل الحدث فقط، بل أنا في وارد مسرَحته وإعادة منتجته بما يترك أثره المطلوب انطلاقاً من الضوابط التي تجعله فنّاً متزناً تحكمه القواعد والموازين، ولا أقل من الالتزام بوجود منهجين وقناعتين في ذلك.

وبعبارة أوضح: هناك فرق بين أن أقيّم شق النَّعي وأحاكمه بعنصر التحقيق، وبين أن أقيّمه بما يؤول إلى عنصر التحقيق.

فالأول: هو طريق التعامل مع البرهانيات، والأبحاث العلمية. 

والثاني: هو طريق التعامل مع الفنون، فالفن لا يخلو من مناقشة قواعدية، إلا أن قواعده هذه تؤول في جذرها البعيد إلى القواعد العلمية، وتبقى هي في نفسها قواعد فنية، لا علمية، فالمحاكمة الموضوعية لتفاصيل الفنون وجزئيات ما يُطرح فيها، يمكن أن يكون بطريقين فقط، لا ثالث لهما:

الأول: أن أناقش هذه التفاصيل حسب ما قرر من أصول الفنّ المتفق عليها كمبادئ وثوابت، مع ضرورة احترام ما وراء ذلك مما يتبع الذوقيات، واللمسات الإبداعية التي تنطلق من تلك الأصول.

والثاني: أن أناقش تلك التفاصيل في أَوْلها إلى القواعد العلمية التنظيرية التي يتكئ عليها الفن، ويعتمد عليها في كونه فنّاً مقبولاً، مؤدّياً إلى غرضه، كمناقشة شيء من تفاصيل الترجيع الذي يقوم به بعض المنشدين، هل أنّه من الغناء المحرّم ليتضارب مع مسلمات الفقه الإسلامي؟ أم لا؟ 

ومناقشة أسلوب أو مادة ما يأتي به بعض الخطباء، هل أنّه يلزم منه الكذب الصريح حتى يتعارض مع الضوابط الشرعية؟ أم لا؟ هذا النوع من النقاش هو المطلوب، أما مناقشة تلك التفاصيل بموازين الأبحاث العلمية مباشرة، فهو خلط مستغرب جداً، كمناقشة التصوير الإبداعي الذي قد يأتي به الخطيب استجابة لمتطلّبات فنّ القصة، والشعر، والخطابة، بميزان التحقيق، فهذه ليست رؤية علمية ولا موضوعية، وهي بذلك ليست ملزمة، وكثيراً ما يقع الخلط بين هذين الأمرين لدقة الموضوع في جانبه التطبيقي، بل حتى في جانبه التنظيري، عندما يكون النقاش من عوام الناس التي لا تضبط القواعد العلمية، بل ولا حتى الفنية في كثير من الأحيان.

وبالجملة: شق النَّعي فنّ مزيج من نثر وشعر، وكلاهما يتكون من مادتين:

الأولى: الحقائق والوقائع.

الثانية: الإبداع والتصوير. وهو في الأول يُصطلح عليه: لسان الحال، وفي الثاني يصطلح عليه: الخيال.

وهما مادتان تضافان إلى مادة الحقائق لإضفاء روح الفنّ المؤثّر المضبوط بضوابط قد تقدم ذكرها، فإذا التزمنا بها لا إشكال، وإن أخللنا بها فالإشكال وارد، ينبغي تصحيحه وعلاجه، هذا مع لزوم الإشكال من المنظور الفني حين نحاول أن نلوي عنق الفنّ بإعمالات تحقيقية تقتل روح الفن، وتقطع الطريق عن الوصول إلى هدفه الحقّ الذي أرشد إليه الشارع المقدس، فنحن بين إفراط وتفريط، ينبغي أن نلتزم طريق الوسط بينهما.

من هنا أنتقل إلى النقطة الثالثة والأخيرة، في الحديث عن بعض النتائج المهمة التي اتضحت مما سبق.

النُّقطة الثَّالثة: بعض النَّتائج المهمَّة

أولاً: هذا الفنُّ فنٌّ دينيّ إنساني تنطبق عليه ضوابط المنطلقين، واستهجانه من قبل العامة واعتباره بدعةً ناتجٌ عن عدم إدراكه كممارسات مرتبطة برؤية دينية وإنسانية محكمة، لا أقل من احترامها وتقبّلها حتى لو لم تشكِّل قناعة بالنِّسبة إلى الأطراف الأخرى.

ثانياً: نقد هذا الفنّ من الأطراف المختلفة، ومحاولةَ فرض الوصاية عليه لا بدَّ أن تكون منطلقة من قراءة شاملة لجميع ما في السلة، لا الاقتصار على التَّقييم والوصاية من زاوية محدَّدة فقط، كتوظيف الزَّاوية العلمية مع إغفال كون المحاكَم فنّاً لا علماً. لا شكَّ أنَّ هذا الفنّ لا بدَّ من ضبطه وفق مجموعة من الضَّوابط العلمية، ولكن هذا التَّوظيف فيما لو تجاوز صلاحيات هذه الزَّاوية ليتدخَّل في ترشيد الفنِّ بما هو فنٌّ، فهنا سيحصل عندنا تداخل غير موضوعي يفسد هذا الفنّ، ويظلم أسسه كصناعة مستقلَّة لها ضوابطها الخاصَّة، كما أنَّه ليس من الصَّحيح الاقتصار على الوصاية من خلال تقديم ذوقٍ خاص فقط، سواء كان علمياً، أو فنياً.

ثالثاً: محاولة تفهُّم التَّباينات المنهجية العلمية والفنية في تطبيقات هذا الفنِّ بمدارسه المختلفة من مختلف الأطراف، ستحلُّ لنا إشكاليات ومناوشات عديدة تستنزف طاقة المشاركين في هذا الموسم المبارك حين إثارتها بأهداف مختلفة، بعضها تحامليّ، لا تحكمه الضَّوابط الأخلاقية والموضوعية، وبعضها علميّ، وبعضها ذوقيّ، ينبغي أن ننظر إلى هذه الاختلافات المدرسية على طريقة اللوحة التي تختلف فيها الألوان والزوايا بنحو تكاملي لا تنافري، لا بدَّ من الوصول إلى هذه المرحلة، وإلا كنَّا ندور في نفس المساحة دون تقدُّم وإبداع، فمن أراد أن يتمسَّك بذوقه الخاص فليفعل، هناك منابر تحافظ على الأصالة، وتتعبَّد بالفنيات القديمة دون أيِّ محاولة لتطويرها؛ لأنَّ فكرتها هي هذه، ومن أراد التجديد المطلق، والإبداع المستمر، فليتمسك بذلك، هناك من المنابر ما يغطي هذه الحاجة، ومن يرى الموازنة فكذلك، لا داعي لأن يسير كلُّ صاحب رؤية في اتجاه تخطئة أصحاب الرؤى المقابلة؛ لأنَّ ذلك سيكون دون طائل.

رابعاً: كلّ ما ذُكر لا يعني أنّه لا توجد أخطاء تحتاج إلى تصحيح وعلاج، ولكن السؤال: كيف هي محاولة العلاج الأنجح؟ هل يكون ذلك بمحاولات فرض وصايات من نوع خاص؟ كلا، فإنّ الذوق في قباله ذوق آخر، والرأي العلمي في قباله رأي علمي آخر، وكما لهذا جمهوره، فلذاك جمهوره أيضاً، وبهذا لن نصل إلى نتيجة أمام هذه القناعات المختلفة التي تنتمي للموازين العلمية.

وهل يكون ذلك بنسف جهود الآخرين، واتهامهم بتخريب الموروث؟! أو بالتخلُّف والجمود لمن يتمسك بالأصيل؟! هل يكون ذلك بفتح باب الكلام القاسي الموجّه على المنابر، وبكتابة المقالات الإعلامية بالعناوين الملفتة، ونشر المقاطع المقتطعة بطرق مونتاجية موجَّهة؟! نحتاج لإعادة نظر في كلِّ ذلك؛ لأنَّه ممَّا يوجب التشويش على جهود المخلصين دون أن يكون مرشَّداً..

ولقد أراد لنا أهل البيتg أن نعيش موسماً ربانياً صافياً من كلّ كدَر، يتوجه فيه المؤمن بكلّ حواسه إلى مصيبة الحسينg، لينفعل بها، فتطهر بها نفسه، وتسمو بها روحه، ويستنير بها عقله، ليطَّلع بعين القلب عليها، فيرى مصيبة ما أعظمها، وأعظم رزيتها في الإسلام، مصيبة أبكت عين رسول الله، مصيبة أبكت عين علي وفاطمة، مصيبة أبكت أئمة أهل البيتg أجمع، وأبكت السماوات والأرض، وما يُرى، وما لا يُرى.

وآخر دعونا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على محمَّدٍ وآلِه الطَّيبين الطَّاهرين.


 


[1]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، باب104 من أبواب المزار وما يناسبه، ح3.

 

[2]  االمنطق، الشيخ المظفر، ص465.

 

[3]  المنطق، الشيخ المظفر، ص464.

 

[4]  االمنطق، الشيخ المظفر، ص456.

 

[5]  كامل الزيارات، القمي، باب32، ح3.

 

[6]  االعوالم، الشيخ عبد الله البحراني، ص542

 

[7]  االمنطق، الشيخ المظفر، ص466.

 

[8]  االمنطق، الشيخ المظفر، ص468.

 

[9]  االمنطق، الشيخ المظفر، ص470.

 

 


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا