الحديث حول العاطفة حديث ممتع وجذّاب؛ ويمتاز بالحيويّة والطراوة؛ حيث يتناول واحدة من مفردات الفطرة الإنسانيّة التي لها الأثر العظيم في السلوك والتربية، ولها الدور الفاعل في تقويم العلاقات المتنوّعة في المجتمع وإرساء قواعدها، وفي هذه المحاولة -إن شاء الله- سيتم التطرّق إلى أثر وبُعد العاطفة في علاقة واحدة فقط من هذه العلاقات والوشائج، وهي علقة الصداقة، بغية التوصّل إلى المعيار الصحيـح والأمثل لاستعمال العاطفة بين الأصدقاء، والتعرّف على أهم العواقب والنتائج التي تفرز من الإفراط والتفريط فيها، وقبل التفاصيل يحسن البدء بمفهوم العاطفة وبعض النقاط الدائرة حوله من باب التمهيد والتوطئة.
مفهوم العاطفة
العاطفة كلمة مشتقّة من (عطف) ومحصّل معناها لغوياً: الإنصراف أو الإنحناء أو الميل بشكل مطلق ولو لغير العاقل كميل الإنسان إلى الطبيعة(1).
أمّا من حيث الإصطلاح: فهو ميلٌ أيضاً، ولكن لا على نحو الإطلاق، بل بين الإنسان وخصوص نوعه، أي ميلٌ بين إنسان وإنسان آخر، وبتعبير أجلى: انجذاب شعوري من إنسان اتجاه إنسان آخر، أشبه ما يكون بالعلاقة التجاذبية بين المغناطيس والحديد، غاية الأمر أنه انجذابٌ أرقى وقابل للتوجيه، بخلاف المغناطيس والحديد كما هو واضح.
وترتبط العاطفة بشكل وثيق جداً بأصل وجود الإنسان ونشوء خلقته، إذ تعد إحدى الروافد التي تنبع من الفطرة وتؤول إليها، وقد اعتبرها بعضهم(2) أنها قناة من قنوات اللذّة الإنسانيّة -التي هي إحدى الأبعاد الفطريّة في وجود الإنسان- بمعنى أن درجة تدفّق المشاعر والأحاسيس العاطفية من الإنسان اتجاه الآخرين تتناسب مع درجة إدراكه ومعرفته باللذائذ الموصلة له للسعادة والكمال، فكلّما أدرك أن زيداً مثلاً يكسبه لذّةً وسعادةً -بحسب المعنى الذي يراه(3)- أكثر من أقرانه كان هذا مولّداً لعاطفة اتجاهه أشدّ منهم، وهكذا.
أنواع العاطفة
ليست العاطفة على نسقٍ واحد، فلها عدّة صور وأنواع، يمكن تقسيمها إلى ثلاث(4):
أ- العاطفة الطبيعيّة:
وهي ميلٌ طبيعي ومباشر من إنسان نحو ذات إنسان آخر من دون ترقّب مصلحة ومنفعة يجنيها من انجذابه إليه، بل قد يعود عليه بالضرر والألم، كعلاقة الأم بأبنائها، فهي تعطف عليهم لا من أجل منفعة ترومها وراء ذلك، حتى الفاسد منهم، وتسمّى عاطفةً أوليّة أيضاً.
ب- العاطفة الثانويّة:
وهي ميلٌ نحو إنسان آخر بشكلٍ ثانوي غير مباشر، أي أن الأساس هو ميل الإنسان لنفسه ومصلحته، وأمّا ميله للآخر فلكونه واسطةً وطريقاً لنيل هذه المصلحة، كانجذاب الطالب نحو مدرّسه لانتفاعه بعلمه، أو راحة أحدهم لجمال روح آخر أو جمال هيئته.
ج- العاطفة المزجيّة (التركيبيّة):
وهي اتحاد واجتماع العاطفتين الأولى والثانية اتجاه شخصٍ واحد، كما لو أحب الوالد ابنه البار الصالح لعاطفته الطبيعيّة له كأب، ولإحساسه بجمال روحه وطهارة قلبه، وهي عاطفة ثانويّة.
العاطفة بين الأصدقاء
بالاستعانة ممّا مضى وبالنظر الميداني الإجمالي نجد أن القسم الغالب من العواطف بين الأصدقاء هو من النوع الثاني، وتعضده الروايات أيضاً، وسنذكر بعضها -إن شاء الله- لاحقاً، وعليه يمكن -ولو من باب التغليب- عدّ العاطفة بين الأصدقاء أنها ميلٌ غير مباشر يحمله الصديق لصديقه بوصفه واسطةً لنيل لذّة وسعادة يؤمن بكمالها، ولها جذورها الضاربة في أصل الفطرة والوجود الإنساني.
وهذا التعريف الموجز لما تقدّم يوحينا بطيّاته إلى مجموعة من النقاط المهمّة، منها:
1- ليست العاطفة وإرسال المشاعر نحو الأصدقاء بل والصداقة بشكل عام هدف ومقصد يطلب لذاته، وإنما هي معبَرٌ وقنطرةٌ بواسطتها يصل الفرد لمقصوده، فإن كان هدفه ومقصده نبيلاً وعالياً اتسمت العاطفة بالمدح والإطراء، وإن كان قصده خسيساً وهابطاً خصّت بالذم والتعريض، ولهذا نشاهد النصوص الإسلاميّة لم تكتف بالحث على الصداقة وتبادل العواطف وحسب، بل ركّزت بشكلٍ واضح على نوع وطبيعة المقصد والهدف من هذه العلاقة، مثلاً ما روي عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «قَالَتِ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى يَا رُوحَ اللَّهِ مَنْ نُجَالِسُ قَالَ مَنْ يُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ وَ يَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ وَ يُرَغِّبُكُمْ فِي الآخِرَةِ عَمَلُه»(5)، ففيه دلالةً وافيةً لما أسلف.
2- إن هذه المقاصد والمصالح التي يستعين الفرد بعاطفته نحو الأصدقاء للوصول إليها كلّها نابعة من إحساسه بالحاجة للّذّة والسعادة، وهي حاجة ملحّة وفطريّة موجودة عند كافّة الناس بدون استثناء، فالذي يلتذ برؤية إنسان جميل الوجه -مثلاً- ويرتاح لمحيّاه لا شك أنه ينجذب إليه ويتمنّى قضاء أكثر الأوقات معه ليشبع نهمه منه، وذاك الذي يلتذ بحب الله (عزّ وجلّ) وعبادته وكسب رضاه تتفتّح أساريره وتطيب نفسه بمجرّد لقاءه بمؤمنٍ يذكّره بربّه، فيميل إليه بشوق، والذي يعيش ضيقاً وكآبةً ولا يجد من يفضي إليه همومه ينشدّ سريعاً لكلّ من يقترب منه ويحاول تلمّس آهاته ويتحسّسها، لأنّه يشعر أن لذّته وسعادته في التخلّص من واقعه المرير، وغيرها من الأمثلة التي نلمسها بالوجدان.
3- قد يلتذّ الإنسان بشيء ويقتنع أنه موصلٌ للسعادة، ويجعله محوراً لإنشاء صداقاته ولكنّ الحقيقة في الواقع خلاف ذلك، فتكون هذه اللذّة الموهومة مصدراً لنصبه وعناءه فلا تنفعه، أو يكون نفعها عارضاً سريع الزوال، فمقدار إدراك الإنسان لحقيقة اللذّة والسعادة يلعب دوراً مهمّاً في توجيه عواطفه نحو الآخرين، ولو لاحظنا طبيعة الإنسان نجد أنّه يسير ويتطلّع للتكامل دائماً، حتى ولو أخطأ الطريق، لأنّه في الأخير يكون بحسب تصوّره أنّه أصابه، فيصبح تفسير الإنسان وإدراكه للذّة والسعادة -وإن شئت عبّرت بالكمال بشكلٍ عام- هو العامل الأساس في اختلاف العواطف بين الأصدقاء.
يقول الإمام الراحل الخميني (رحمه الله): "فأنت إن تجوّلت في جميع الأدوار التي مرّ بها الإنسان، واستنطقت كلّ فرد من الأفراد..... فتجد قلبه متوجّهاً نحو الكمال. بل إن ما يحدّد الإنسان ويدفعه في سكناته وتحركاته، وكل العناء والجهود المضنيّة التي يبذلها كل فرد في مجال عمله وتخصّصه، إنّما هو نابعٌ من حب الكمال، على الرغم من وجود منتهى الخلاف بين الناس فيما يرونه من الكمال؟ وبأيّ شيء يتحقّق الكمال ويشاهد الحبيب والمعشوق؟"(6).
4- إن الميل نحو إنشاء الصداقة ينحدر من أصل الفطرة، والأمور الفطريّة لا غنى عنها ولا سبيل لبترها، فالمشاعر العاطفيّة في الصداقات لا يمكن رفع اليد عنها، وهي ضروريّة لاستقامة وصحّة نفسيّة الإنسان، والقرآن وأحاديث العترة الطاهرة (عليهم السلام) تزخر بالإشارة إلى ذلك، فعن الأمير (عليه السلام): «من لاصديق له لا ذخر له»(7)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) لعمر بن يزيد: «لِكُلِّ شَيْءٍ شَيْءٌ يَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَرِيحُ إِلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَمَا يَسْتَرِيحُ الطَّائِرُ إِلَى شَكْلِهِ أَوَمَا رَأَيْتَ ذَلِكَ؟»(8).
أسباب التخبّط في إدراك الالتذاذ الحقيقي
اتضح ممّا تقدّم أن العواطف تخضع في شدّتها وضعفها لنوع المصلحة المكتسبة من الصداقة، وأن هذه المصلحة تحدّد على ضوء الشعور باللذّة سواءً كانت ماديّة أو معنويّة، حقيقيّة أو وهميّة، وأن هذا الشعور يتكيّف بحسب درجة المعرفة، إلا أن هذه المعرفة الإنسانيّة مهما بلغت لا ترقى للوصول إلى معاني الالتذاذ الحقيقي فيما لو عزلت عن هداية السماء والوحي، ولذا نجد أن الله (عزّ وجلّ) أرسل كتبه ورسله لإرشاد الناس إلى التعاليم العالية وبيان الكمال الحقيقي من الكمال الموهوم، وبالرغم من وجود هذه التعليمات والهدايات لا يزال الغالب من الناس يتخبّطون في تمييز الطريق، وينساقون وراء اللذّات العابرة والهابطة، ويبذّرون عواطفهم بغير استحقاق، ويفرّغونها في غير موضعها المناسب، فما هي الأسباب وراء ذلك؟
السبب الأوّل: احتواء خلقة الإنسان على مجموعة من الغرائز الفطريّة التي لها الدور الفعّال في السلوك، وهذه الغرائز لها إلحاحٌ شديد جداً، بحيث لو أطلق لها العنان تطغى على عقل الإنسان وتعطّل بعض أدواره، وهي ممكن أن توجّه فيما لو أراد صاحبها ذلك، ولكن الغفلة والتساهل وتسويف العلاج يؤدّي إلى غلبة هذه الغرائز، وبالتالي يحرم الإنسان نفسه من نعمة الهداية الإلهيّة.
السبب الثاني: وجود الكم الهائل من الغرائز المحيطة به والتي لا يستطيع الجمع بينها، إمّا لكثرتها وإمّا لاستحالة الجمع بينها في بعض الأمثلة، كما لو دار الأمر بين لذّتين متناقضتين أحدهما دنيويّة مثلاً والثانية أخرويّة، فيختار الدنيويّة العابرة لأنسه بها، ويترك الأخرويّة الدائمة، فهذا التعدّد من اللذائذ إذا لم يعد له ضابطة في التعامل معه يؤدي به إلى سوء الاختيار.
السبب الثالث: ميل الإنسان إلى الاسترخاء والراحة، وتصوّره أن معنى اللذّة هو هذا، غافلاً عن أن طبيعة الوصول إلى السعادات واللذائذ مقرونة دائماً بالسعي والجهد وبذل الطاقة، بل إن أعلى اللذّات لا تنال إلا بأشقّ الآلام والمتاعب، يقول الله (عزّ وجلّ): {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}(9).
السبب الرابع: توقف بعض اللذات وخاصّة العالية منها على سلسلة طويلة من المجاهدة والعمل الدؤوب في السير والسلوك، وقبل ذلك لا يمكن إدراكها وتذوّق حلاوتها، فالذي يجهل هذا الأمر يلجأ إلى إنكارها من رأس، فيوصِد الباب عليه للتعرّف عليها.
هذه تقريباً أهم الأسباب، وربما يمكن اختزالها أكثر بإرجاع بعضها ضمن بعض.
نظر الإسلام حول الالتذاذ
يظهر من بعض الآيات والروايات عدم الزجر والمنع عن التلذّذ بالنعم الإلهيّة الدنيويّة ومطلوبيّة ذلك وإن كان الترجيح للنعم الأخرويّة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ... لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(10)، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ... حُسْنُ الْمَآبِ}(11).
نعم كل هذا في حال عدم تزاحم اللذات الدنيويّة مع الأخرويّة، وإلا فالترجيح للأخرويّة لكونها دائمة ولذّتها أكبر، وبهذا الصدد أجاد الشيخ مصباح اليزدي (حفظه الله) بقوله: "... استناداً إلى الرؤية الإسلاميّة التي تعد الحياة الخالدة والأبديّة هي الأصيلة والحياة الدنيويّة مقدّمةً لها فإن كل ما يمنع من اللذّة ويستوجب العذاب الأخروي يكون ذا قيمة سلبيّة قطعاً، ولا يسمح به أبداً،... إلا أنّ بعضاً آخر من اللذّات الدنيويّة يقتصر تأثيرها على حرمان الإنسان من المزيد من اللذّات الأخروية ولا يستوجب العذاب، فإن الإنسان رغم وجود هذه اللذّات يدخل الجنّة أيضاً ويصل إلى دار السعادة ولكن بسبب هذه اللذّات الدنيئة يحرم من الدرجات العالية منها..."(12).
المعيار الصحيح لاستعمال العاطفة بين الأصدقاء
بالجمع بين النتائج السابقة، وبملاحظة نوع اللذّة والسعادة المكتسبة وراء العلاقة العاطفيّة المنشودة نتوصّل إلى الآتي:
إن كانت هذه اللذّة ممّا تزيد في رصيد الإنسان أخروياً وتورثه كمالاً لا شكّ ولا ريب في حسنها ورجحانها. وإن كانت ممّا تنقص من رصيده الأخروي ولكن لا تحرمه منه بالكامل بحيث لا تصدّه عن أداء الواجبات والفرائض وتمنعه من استحقاق الثواب عليها والدخول إلى الجنّة تكون جائزة ولكن تركها أفضل.
أمّا لو كانت حائلاً عن النعيم الأخروي وسدّاً مانعاً من نيل الفضائل وأداء الواجبات فهي من الكبائر والموبقات المستوجبة للعقاب.
والخلاصة: أن النوع الأوّل هو الأمثل لبناء العلاقات والعواطف بين الأصدقاء، وهو الهدف الذي يجعل من شعلة العاطفة وقّادة دائماً وتزداد يوماً بعد يوم، من دون أيّة آثار سلبيّة، والنصوص الواردة حول المحبّة والعاطفة بين الإخوان والأصدقاء تدعم هذا المعنى، نلاحظ من جملتها:
عن الأمير (عليه السلام): «الإخوان في الله تعالى تدوم مودّتهم؛ لدوام سببها»(13)، وعنه أيضاً (عليه السلام): «وُدُّ أبناء الدنيا ينقطع؛ لانقطاع أسبابه. ودّ أبناء الآخرة يدوم؛ لدوام سببه»(14)، وعنه (عليه السلام): «المودّة في الله أكثر من وشيج الرحم»(15)، وعنه كذلك (عليه السلام): «من دعاك إلى الدار الباقية وأعانك على العمل لها فهو الصديق الشفيق»(16)، فهذه الروايات وغيرها كثير تشير إلى نوع الغاية التي إذا رامها الفرد وجعلها عنوان سعادته ومال بسببها إلى صديقه حصد الخير والفلاح الدائم، وعاش الهناء والاطمئنان، وذلك لتوفّرها على سرّ عظيم، وعظيم جداً، وهو أن الذي يتّصل بالدائم يدوم بدوامه، والذي يتّصل بالعرض الزائل ينتهي بانتهاءه، فمن أحب صديقاً لا للذّاته ولكن لأجل الله، ومن أجل الزلفى منه والتودّد إليه سبحانه، فالطريق إليه لا ينتهي ولا يضمحل ولا يعرض عليه الزوال، فكلّما استفاد من صديقه ليرقى نحو الله (عزّ وجلّ) يبقى السبيل أمامه مفتوحاً مطلقاً، فيكرّر الاستفادة منه وهكذا، وبكل تكرار يحصل تتضاعف معه وشائج الميل والانجذاب وتتأكّد العاطفة، وليس من الغريب قول الأمير (عليه السلام) في حقّ هذا الصنف من الأصدقاء: «خير الإخوان من إذا فقدته لم تحبّ البقاء بعده»(17).
يقول أحد الباحثين المعاصرين: "إن الشخصيّة الإسلامية بما أنها (تحب) الآخرين، فإنها تحس بالاغتراب حينما تفتقدهم؛ لأن طاقة الحب الذي تحمله الشخصيّة تظلّ خبيئة لا تجد من تجسدها في التعامل معها. نعم تتحسس الشخصيّة بالاغتراب الحقيقي عندما يكون الفقيد منتسباً بدوره إلى السماء. وعندها يكون الاغتراب مرتبطاً بالسماء وليس بالفقيد: بصفة أن الفقيد يجسّد الصلة بالسماء التي تتحسّس الحاجة إليها فحسب. من هنا، فإن الأب (نوحاً (عليه السلام)) لم يتحسّس بالاغتراب عن ابنه عندما جرفه الطوفان بعد أن نبّهته السماء إلى أنه ليس من أهله... وتبعاً لذلك نجد أن المؤمنين بحق، يتزاورون: يحنّ بعضهم إلى الآخر، يتحسّس بالوحشة والاغتراب من فقدانهم. وهذا التبادل القائم بين طرفي التعامل، ناجم -في ضوء ما تقدم- من الحب لله، وليس من الحاجة إلى (آخرين) يخلعون الحب عليهم، إلا إذا كان الآخرون مرتبطين (بالله) أيضاً. وحينئذ يتم التبادل بين الأطراف، أحدهما يحب الآخر، وكلاهما يحسّ بالحاجة إلى أن (يحبه) الآخر أيضاً، لأن الحاجة إلى (الآخر) في مثل هذه الحالة - حاجة إلى (السماء) ما دام الآخر منتسباً إليها، وعندها تظل الأطراف ينتظمها حب واحد هو (الله)"(18).
التفريط والإفراط في العاطفة
الالتزام بالنصاب والحدّ المقرّر المناسب لشيء ما هو أكبر ضامن لتحقيق أعلى النتائج المرجوّة منه، والابتعاد عن هذا الحدّ يؤدي إلى مردودات ومضاعفات معاكسة، بحيث كلما كان الانحراف فاحشاً كانت العواقب أشدّ فداحةً، كوصفة الدواء المقيّدة بكميّة وكيفيّة معيّنة للوصول إلى العلاج ومقدار التزام المريض بهذه القيود في تسريع وإنجاز مطلوبه، ويسمّى التقصير في القيام بالنصاب المعيّن (تفريطاً)، والزيادة المخلّة الخارجة عن المقرّر (إفراطاً).
وفي الفقرة المتقدّمة تعرّفنا على المعيار الصحيح والنصاب الأمثل في استخدام العاطفة في الصداقة، وظفرنا ببعض الثمار والفوائد العظيمة المقتطفة من بركة الالتزام به، وبقى علينا استعراض بعض نتائج التفريط والإفراط في هذا المعيار.
أولاً: الآثار الناجمة من التفريط:
إن أجمل ما يمكن ذكره هنا أن العاطفة أشبه بالمحرّك والوقود الفعّال الذي يبعث الحيويّة والحركة في الحياة، وهي الوتر الحسّاس الذي متى ما ضرب اتّقدت الروح انطلاقاً نحو العلّة التي أولدت فيها الاتّقاد وأضرمت نار الشوق في أعماقها، فالمؤمن العاشق لله سبحانه لولا عاطفته الكبيرة التي تخلق الحنين والتوق له في قلبه للانشداد إلى الله تبارك وتعالى لما استطاع الهيام في محبّته، والعقل لوحده جافّ لا يوصل بدون اتّحاده بالعاطفة، وما اقتضاء خلقة الإنسان للعاطفة إلا لدورها العميق في هذه المسائل الضروريّة، ونفس الكلام يجري في المقام، فحين يقصّر الصديق في استخدام العاطفة اتجاه صديقه سيؤول الأمر به إلى الجفاء، وشحّ العلاقة والميل، وقد يصل الأمر إلى القطيعة وبالتالي نقض الغرض الذي نشأت الصداقة من أجله، وهذا يعني أن الفوائد الجمّة والكبيرة المحصّلة من الصداقة لا يمكن حصدها، وتصبح العلاقة الحميميّة للصداقة مجرّد اسم فارغ عن المحتوى.
وجاء عن مولانا الإمام الصادق (عليه السلام): «ما التقى مؤمنان قط إلا كان أفضلهما أشدّهما حبّاً لأخيه»(19). ولا حب بلا عاطفة.
وكحلّ يساهم في الخروج من التفريط ينبغي التركيز على الأخلاق والسلوكيّات المورّثة للمحبّة والعاطفة التي وضعتها أحاديث العصمة والطهارة، والتي فيها حسن الخلق والعشرة، وحسن الظن، والبشاشة والتودّد، والتواضع والوفاء والصدق، و...الخ(20).
وللتبرّك نذكر رواية واحدة بهذا الصدد: عن رسول الإنسانيّة الأعظم (صلّى الله عليه وآله): «الهديّة تورث المودّة، وتجدّد الأخوّة، وتذهب الضغينة»(21).
ثانياً: الآثار الناجمة عن الإفراط:
توجد بعض المقدّمات الضروريّة في مسألة العاطفة يجب مراعاتها وإلا فالتخلف عنها إلقاء بالنفس لواد سحيق ومظلم يصعب الخروج منه. ويمكن إيجازها بمقدّمتين:
الأولى -وهي الأساس- أن المحبوب والمعشوق بالذات هو الله (سبحانه وتعالى) فقط وفقط وكل ما عداه بالعرض، فهو القِبلة التي يتوجّه إليها في كلّ حب وعاطفة، والانعطاف عن هذه القِبلة يمنةً أو شمالاً أو استدباراً مبطل لهذه المقدّمة كما تبطل الصلاة بالاستدبار عن القِبلة مثلاً، وبالتالي لا بد من وضوح أننا نحب الآخرين من أجل حب الله، حتى حبّنا للرسول (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، فهو من أجل حبّ الله (عزّ وجلّ)، وفي الوقت الذي يكون حبنا للصديق فرضاً مغايراً لحب المولى ولا يصبّ في جدوله، حينئذ يكون حبنا هذا وعاطفتنا هذه هي من النوع الثالث حسب الترتيب السابق، وتكون غير مستحقّة، وهذا هو معنى الإفراط في العاطفة.
المقدّمة الثانية هي أن العاطفة قناة من قنوات اللذّة الفطريّة كما تقدم، إلا أن بإزائها تكمن الغريزة، وعلى الخصوص غريزة الفرْج (الجنس)، حيث تُعدّ من أقوى الغرائز، وهذه الغرائز بشكل عام يمكن توجيهها بالعقل، ولكن كثيراً من الأحيان يصعب الحال فتكون النتائج عكسية، لا أقلّ عند غير المؤمنين بحق، وحينئذ يصبح المتعطّش لإرواء غريزته المضرمة بحاجة ماسّة لما يسكّن ضماه، فيستخدم العاطفة وسيلة لنيل غاياته، فيصادق من أجل التلذّذ الغريزي كالتلذّذ بجمال هيأة الصديق، أو تقبيله أو الاحتكاك بجسده وما شاكل ذلك، وفي هذه الحالة تتحوّل العاطفة عن مضمونها الحقيقي وتتّجه نحو الغريزة، وتكون التسمية بالحب والعاطفة من باب المسامحة.
الخلاصة: أن تصوّر الإفراط في العاطفة يمر عبر هتين المقدّمتين، ويترشّح منه العديد من الآثار السيئة:
1- عدم رضا الله (سبحانه وتعالى)، والابتعاد التدريجي عن قِبلة حبّه (عزّ وجلّ) بإشراك الآخرين معه، وربما تقديم الآخرين عليه سبحانه.
2- عدم التقدّم والتكامل في الحياة وقتل المواهب الاستعداديّة في النفس، ولربّما نلمح ذلك بوضوح للمبتلى بالعشق المجازي، أو الذي يصادق لأجل إرواء نزوته الجنسيّة، حيث تظهر عليه عدّة سلوكيّات تصْرفه عن الالتفات لسلّم تكامله، وترضخه لأغلال الشهوة وسقطاتها، من بينها:
أ- انشغال قلبه وفكره وكيانه بالولع بصديقه وتخيّل صورته، بحيث لا يستطيع التفكير بغيرها، فيتخيّلها عند النوم وعند الاستيقاظ، وهو يسير، وهو يأكل، وهو يدرس، حتى في العبادة، فينصرف عن التوجّه الصحيح.
ب- الغيرة المفرطة على صديقة، وكأنه ملك له وحده، فلا يحتمل أن يراه مع أحد سواه، ولو صادف ذلك تبدأ الظنون والشكوك والمشاكل بالانطلاق بدون حدّ، ويصاحبها حدّة في المزاج والحساسيّة الشديدة للأمور.
ج- التكلّف في التعامل معه، ومحاولة ارضائه بشتى السبل ولو على حساب إخفاء النصح إليه وتغييب الحقيقة عنه.
د- الرغبة الدائمة في الجلوس معه صباحاً ومساءً، فتضيع ساعاتهما اليوميّة في قضاء فارغ بلا تحصيل، وقد يستاء الأمر إلى الوصول إلى المعاشرة الجسديّة المحرّمة والانغماس بالفاحشة.
3- السقوط الاجتماعي بالتدريج، وتغيّر نظرة الآخرين إليه لما يشهده من تغيّر في سلوكه، سواءً شعر بهذا التغيّر في نفسه أو لا، ولربما تنشأ لديه حالات نفسيّة مَرَضيّة بسبب ذلك.
هذه الآثار تصلح كمنبّهات لنا على طول الطريق ألا نلجأ إلى أسبابها فنقع في منزلقاتها، وإن شاء الله تكون لنا واعظاً وزاجراً يجنّبنا التورّط في شرّها وشراكها، وتأخذ بأيدينا إلى مدارج الهدى ودرب الفلاح.
ونجد في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) التركيز الكثير على هذه الموقضات، فعن الأمير (عليه السلام): «من لم تكن مودّته في الله فاحذره؛ فإن مودّته لئيمة، وصحبته مشومة»(22)، وعنه (عليه السلام): «شرّ إخوانك من أرضاك بالباطل»(23)، وعنه (عليه السلام): «إيّاكم وغلبة الشهوات على قلوبكم؛ فإن بدايتها ملكة ونهايتها هلكة»(24)، وأيضاً: «أوّل الشهوة طرب، وآخرها عطب»(25). وبالنسبة عن النظر ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله): «إيّاكم وفضول النظر؛ فإنه يبذُر الهوى، ويولّد الغفلة»(26)، وعن الأمير (عليه السلام): «العيون مصائد الشيطان»(27)، وعنه (عليه السلام): «إذا أبصرت العين الشهوة عمي القلب عن العاقبة»(28).
الخـــاتمة
إن العاطفة بين الأصدقاء أمر نابع من أعماق الفطرة الإنسانيّة، ولا يمكن إغفاله بحال، وأنها لها الدور الفاعل والمفيد في التكامل في الحياة شريطة اتّباع المعيار الصحيح في استخدامها بدون تفريط وإفراط، ونوعها يتحدّد وفق الغاية من إنشائها، وهذه الغاية تفسّر وتؤول إلى بعد اللذّة والسعادة الفطرية في الإنسان، وعليه فالتفسير الحقيقي لمفهوم اللذّة له الدور الأساس في توجيه العاطفة، وأن اللذائذ الأخرويّة مقدّمة على الدنيويّة، وأعظمها لذّة هي التي تصب في حب الله تعالى، جعلنا الله من الذين يهتدون لحبّه فيحبّونه ويحبّون كلّ من يحبّه، ويحبّون كلّ عمل يوصل إلى قربه. والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) ابن منظور، لسان العرب، ج9، ص249.
(2) اليزدي، الأخلاق في القرآن الكريم، ج2، ص303.
(3) يتباين الناس في تفسير اللذّة والسعادة بحسب إدراكهم، وأحياناً يصل التباعد بينهم إلى ما بين المشرقين، كما لو فسّر أحدهم اللذّة بالمعنى المادي الأرضي والشهواني، وفسّرها آخر بالمعنى الأخروي.
(4) اليزدي، الأخلاق في القرآن الكريم، ج2، ص304 - 309.
(5) الكليني، الكافي، ج1، ص 39.
(6) الخميني، الأربعون حديثاً، ح11، ص224 - 225.
(7) غرر الحكم (9460 ) ص 414.
(8) المفيد، الإختصاص، ص 30.
(9) سورة البلد المباركة: 4.
(10) سورة الأعراف المباركة: 32.
(11) سورة آل عمران المباركة: 14.
(12) اليزدي، الأخلاق في القرآن الكريم، ج2، ص200 - 201.
(13) غرر الحكم: (9695) ص422.
(14) غرر الحكم: (2405) ص137، و (9543) ص417.
(15) غرر الحكم: (9693) ص422.
(16) غرر الحكم: (9737) ص424.
(17) غرر الحكم: (9533) ص417.
(18) البستاني، الإسلام وعلم النفس، ص186.
(19) الكليني، الكافي، ج2، ص127.
(20) انظر دليل المحبّة للريشهري: ص 39 - 49.
(21) ابن أبي جمهور، عوالي اللآلي، ج1، ص294.
(22) غرر الحكم: (9705) ص423.
(23) غرر الحكم: (9577) ص418.
(24) غرر الحكم: (6974) ص305.
(25) غرر الحكم: (6946) ص304.
(26) ابن فهد الحلي، عدة الداعي، ص313.
(27) غرر الحكم: (5560) ص260.
(28) غرر الحكم: (6978) ص305.
0 التعليق
ارسال التعليق