الملخّص:
تضمّن المقال عرضاً وتحليلاً للمشهد الذي رسمه القرآن الكريم حول التفاعل السلبيّ لبني إسرائيل مع مشاريع السماء المتجلّية في نبوّة موسىg وتعاليمه، والأنبياء من بعده. وبرّر الكاتب ضرورةَ البحث بكثافة استدعاء بني إسرائيل في القرآن الكريم، وتأكيد الأحاديث على تشابههم مع أمّة النبيّ الخاتمe. وقد جزّء الكاتب مقاله إلى ثلاث نقاط؛ احتوت النّقطة الأولى على إيضاح المقصود من (بني إسرائيل)، والمراحل التاريخيّة التي مرّوا بها. وفي النّقطة الثانية، تناول أوصاف مجتمع بني إسرائيل المتعلّقة بالانقياد للتعاليم الإلهيّة. وفي النّقطة الأخيرة، خَلُص إلى جملة من الفوائد الناتجة عن التأمّل والاعتبار بحال بني إسرائيل المتّصل بالانقياد، وقد اشتملت على: التحذير من التحريف، ومساوقة النجاح للانقياد، وتصاحب التضحية للانقياد، وعدم كفاية التفاعل الشعوريّ، وعدم اليأس، وامتحان ما بعد النّصر، وإشكاليّة النّخب.
المقدّمة:
ورد اسم موسىg 136 مرّة في القرآن الكريم، وذكر القرآن قصّته أكثر من قصص غيره من الأنبياءi، وفي أكثر من ثلاثين سورة، وقد ذُكرَت في ذلك أسبابٌ متعدّدة خارجة عن موضع البحث، إلا أنَّه لا شكّ في أنّ كثرة تعداد وتكرار قصة نبي الله موسىg -مع طاغية زمانه من جهة، ومع قومه من جهة أخرى- له هدف أصيل في بيان ما ينبغي أن تكون عليه أمّة الإسلام في هذين الموردين؛ أعني في تحديد علاقتها مع نبيهاe ومع من ينوب عنه، وفي تحديد علاقتها مع المستكبرين، وكيفيّة التّصرف في هذا الأمر المتكرّر مع تقادم الأزمان، خصوصاً أنَّه قد ورد في الأخبار عن رسول اللهe: >يَكُونُ فِي هَذِهِ اَلْأُمَّةِ كُلُّ مَا كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ اَلنَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَحَذْوَ اَلْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ<([1])، وعن سلمانJ عن النبيe: >لَتَرْكَبَنَّ أُمَّتِي سُنَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ اَلْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ وَحَذْوَ اَلنَّعْلِ بِالنَّعْلِ شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ وَبَاعاً بِبَاعٍ<([2]).
ومع ملاحظة هذا الأمر الخطير، فإن النّجاة إنَّما تكون بالتدبّر في حال بني إسرائيل كما ذكر القرآن الكريم في تفاصيل عديدة، ويمكن إجمال هذا الحال من خلال ملاحظته من زاوية العلاقة التي تربط هذه الأمّة بنبيّها وقائدها موسىg؛ حيث إنَّ كلَّ ما نزل عليها من عذاب أو ثواب، من توفيق أو خسران، إنَّما جاء في سياق ما اختارته هذه الأمّة لنفسها في طريقة التعامل مع النبي موسى× كقائد وإمام، ومن زاوية الانقياد هذه نعقد البحث في ثلاث نقاط:
الأولى: في التعريف بالمقصود من بني إسرائيل، وذكر المراحل التي ذكرها القرآن حول أمّتهم.
الثانية: في بيان الخصال الثابتة التي من الممكن أن تستخلص من كتاب الله في هؤلاء من جهة الانقياد.
الثالثة: في ذكر بعض النتائج الهامّة.
النّقطة الأولى: توصيفٌ عامٌّ لمجتمع بني إسرائيل ومراحل وجودهم
- نسأل أولاً: من هم بنو إسرائيل؟ ثمَّ ما هي المراحل التي عاشوها بحسب القرآن الكريم؟
أولاً: من هم بنو إسرائيل؟
من المعلوم أنَّ "إسرائيل" هو النبيُّ يعقوبg بن النبيِّ إسحاقg، بن النبيِّ إبراهيمg، وفي معنى كلمة "إسرائيل" قال المصطفويّ في (التحقيق): "إسرائيل: قم- إسرائيل: المظفّر على الله. فع- [آسير] الأسير. [أسر] التوقيف. [ال] الله. والتحقيق: أنّ معنى هذه الكلمة في اللغة العبريّة يطابق ما قلنا في مادّة أسر من العربيّة، فمعنى إسرائيل: من يكون تحت النظر، والتوقيف، والتدبير، والأسر من الله تعالى، وهذا المعنى قريب من كلمة عبد الله"([3]).
و"بنو إسرائيل" هم أبناء يعقوبg، ومن انحدر عنهم من الأسباط الاثني عشر، قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا}(الأعراف:160)، ومعنى الأسباط كما في (التبيان) للشيخ الطوسي: "والسبط: الجماعة التي تجري في الأمر بسهولة؛ لاتفاقهم في الكلمة على أنَّه مأخوذ من السبوط. وقيل أنَّه مأخوذ من السبط ضرب من الشجر، فجعل الأب الذي يجمعهم كالشجرة التي تتفرع عنها الأغصان الكثيرة"([4])، وفي (مجمع البيان) للشيخ الطبرسي: "والسبط في كلام العرب خاصة: الأولاد. قال الزجاج: قال بعضهم السبط: القرن الذي يجئ بعد قرن، والصحيح أن الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل، فولد كل ولد من أولاد يعقوب: سبط، وولد كل ولد من أولاد إسماعيل: قبيلة، وإنَّما سموا هؤلاء بالقبائل، وهؤلاء بالأسباط، ليفصل بين ولد إسماعيل، وولد إسحاقg. ومعنى القبيلة: الجماعة، ويقال للشجرة: لها قبائل، وكذلك الأسباط من السبط، كأنَّه جعل إسحاق بمنزلة شجرة، وجعل إسماعيل بمنزلة شجرة"([5]).
وقال العلامة الطباطبائيN في (تفسير الميزان): "السبط بحسب اللغة: ولد الولد، أو ولد البنت. والجمع أسباط، وهو في بني إسرائيل بمعنى قوم خاص، فالسبط عندهم بالمنزلة: القبيلة عند العرب"، وقال: "والأسباط تطلق على جميع الشعوب من بني إسرائيل الذين ينتهى نسبهم إلى يعقوبg"([6]).
وفي (التحقيق) للمصطفوي: "والسبط: ولد الولد، كأنَّه امتداد الفروع. سفر خروج: وهذه أسماء بني إسرائيل الَّذين جاؤوا إلى مصر مع يعقوب كلّ إنسان وبيته، رأوبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويسّاكر وزبولون وبنيامين ودان ونفتالي وجاد وأشير، وكانت جميع نفوس الخارجين من صلب يعقوب سبعين نفسا، ولكن يوسف كان في مصر.
والتحقيق: أنّ السبط بمعنى البسط المخصوص، وبينهما اشتقاق أكبر، وبلحاظ هذا المفهوم يطلق على النسل بعد ولد الولد، ولمّا كثرت ذرّيّة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم × من أولاده الاثني عشر: انتشروا في أراضي فلسطين بشرقيّ بحر الروم.
وصاروا قبائل وسمّوا بالأسباط وبني إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق، وكانوا إلى مدّة مديدة متّفقين ثمّ اختلفوا اختلافاً شديداً، وظهرت الحروب الكثيرة بينهم، فمنهم من آمن وبقي على التوحيد، ولكنّ كثيراً منهم كفروا بل وعبدوا الأصنام.
وبعث الله فيهم أنبياء ورسلاً، واشتهروا بأنبياء بني إسرائيل، قال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا}، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ}"([7]).
وفيه أيضاً: "تقطيع بني إسرائيل على اثنتي عشرة أسباطاً وتفرّقهم على هذه الفرق المحدودة إنَّما تحقّق في زمان موسىg، وهو موسى بن عمران بن قاهاث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق، وكان إقامة بني إسرائيل بين وفاة يوسف ومولد موسىg أربعاً وستّين سنة"([8]).
ثانياً: المراحل الزمنيّة لبني إسرائيل قرآنياً
أولاً: مرحلة البدو ثمّ الانتقال: من الواضح ممّا تقدّم أنَّ شعب بني إسرائيل ينحدرون عن أب واحد وهو يعقوب النبيّg، فكلهم في الأصل إخوة، ثمَّ بنو عمومة، ممّا يعني أنَّ بينهم -في الأصل- قرابة الدم الوثيقة تجمعهم، وتقارب بين خصالهم، وهؤلاء ما قبل عهد موسىg عاصروا أباهم يعقوبg، وأخاهم يوسفg، وهم ما بينهما قد انتقلوا من البدو إلى الحضر، قال تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ... وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}(يوسف:99-100).
فدخل من بني إسرائيل مصرَ سبعون نفساً كما تقدّم في (التّحقيق) عن "سفر الخروج"، وبقوا فيها في بادئ الأمر معزّزين مكرّمين بكرامة يوسفg.
ثانياً: الاستضعاف: تحوّل الأمر بعدها إلى النّقيض من العزة والكرامة تماماً؛ حيث استُعبد بنو إسرائيل من فرعون مصر، وحصل التفريق الفاحش بين الأقباط والأسباط، ووصل الأمر إلى ذروته في عهد موسىg بعد قرابة الستين سنة -على ما تقدّم أيضاً في "التحقيق" من قوله: "وكان إقامة بني إسرائيل بين وفاة يوسف ومولد موسىg أربعاً وستّين سنة"-، حيث جرت سنّة قتل المواليد الجدد من الذكور، واستحياء النساء لخدمة المترفين من الأقباط، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ أنَّه كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(القصص:4).
ثالثاً: القيام والمواجهة: حيث نُبّئ موسىg في هذه الفترة، وجرت الأحداث المعروفة بينه وبين فرعون بعد عودته من مَدين، وكان مطلبه يتلخّص في أمرين: إيمان فرعون، وإرسال بني إسرائيل معه، قال سبحانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(طه:44)، وقال عزّ من قائل: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}(الأعراف:104-105)، وقال: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}(طه:47).
وكان دور بني إسرائيل في هذه الأحداث تأييد نبيّهمg -في الجملة- بمقتضى استضعافهم، والصبر بصبره، والتسليم له، والترقّب، وعقد الآمال عليه للخلاص؛ حيث لا يملكون غير ذلك، وليس بيدهم حيلة في الأمر، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا}(الأعراف:137)، إلا أنّ الأمر في نفسه لم يخلُ من شكوى وتذمّر، واستعجال لأمر الخلاص، لاحظ قوله تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ للهِ يورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(الأعراف:128-129).
رابعاً: الخروج من مصر: وفي هذه المرحلة جرت أحداث كثيرة، ابتداءً من انفلاق البحر، وغرق فرعون وجنده، ومرورهم بقوم يعكفون على عبادة الأصنام، وذهاب موسىg إلى ميقات ربّه، وعبادتهم العجل، وإنزال المنّ والسلوى، ورحلة بني إسرائيل نحو الأرض المقدَّسة، وامتناعهم من الاستجابة لأوامر الله تعالى في ذلك كلّه رغم كلّ ما رأوه من معاجز وآيات في مصر مع فرعون وما بعدها، حيث أخطأوا إلى حدّ الكفر، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}(الأعراف:138).
خامساً: مرحلة التّيه: ولما امتنع بنو إسرائيل من دخول الأرض المقدَّسة، وبدَّلوا قولاً غير الذي قيل لهم، نزل عليهم حكم الله تعالى بالتّيه أربعين سنة في صحراء سيناء لا يخرجون منه مهما حاولوا، كما أنزل عليهم رجزاً من السماء -وهو الطاعون بحسب بعض الروايات، كما في التفسير المنسوب للإمام العسكريّg-، قال تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ المقدَّسة الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}(المائدة:22-26)، وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}(البقرة:58-59).
سادساً: دخول فلسطين: وكان ذلك مع يوشع وصي موسىg، حيث تبدَّل الجيل الذي كان مع موسى وهارونh بعد أربعين سنة من التّيه، وقد مضيا إلى ربّهما في هذه الفترة، واستأهل –بعد هذا العقاب- الجيل الجديد للدخول إلى الأرض المقدَّسة، والاستقرار فيها، والبدء في بناء الدولة اليهوديَّة.
سابعاً: الملك والدّولة والحروب: ويبدو من الآيات الشريفة أنّ بني إسرائيل لم يلبثوا أنْ أُخرجوا مرّة أخرى من الأرض المقدَّسة على يد الفلسطينيّين من الكفّار، وكان استمرار وضع تشريدهم عن ديارهم في الأرض المقدَّسة على يد ملك يسمّى (جالوت)، فاحتاجوا إلى جهاد جديد يدخلهم لها مرّة أخرى، وكان ذلك في زمن نبيٌّ اسمه -كما في الرّوايات- (أشموئيل) ("إسماعيل" بالعربية) أو (شمعون)، وفي زمن داوود النبيg وقد كان صغيراً في السنّ، وهذه المرحلة هي المرة الثانية لبناء الدولة اليهوديّة على هيئة الملك المستحكم القوي على يد داوودg، ومن بعده ابنه سليمانg، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ والله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نبيّهم إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نبيّهم إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَأنَّه مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهمْ مُلَاقُو الله كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}(البقرة:246-251).
وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّه أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}(ص:30-38).
وفي مرحلة ما بين دخول فلسطين وبين عيسىg مئات السنين -أكثر من ستّة قرون- التي تتالت فيها الأحداث على بني إسرائيل وإليهم، خصوصاً ما يتعلّق بما جاءت به الآيات المباركة: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}(الإسراء:4-8)، وهي تشير -كما عن مفسّرين- إلى ابتلائهم بنبوخذ نصّر -أحد ملوك بابل- الذي كانوا تحت حمايته فعصوه فدمّرهم وأخرجهم من فلسطين، ثم أعادهم إليها كسرى الفرس (كورش) بعد ما هزم ملك بابل آنذاك -بعد ما يزيد على 150 عاماً تقريباً-، أو سبعين سنة بقي فيها بيت المقدّس خراباً، والمرّة الثانية على يد قيصر الروم (أسبيانوس)، وكان ذلك قبل الميلاد بقرن تقريباً، راجع في ذلك كلّه ما ذكره العلامة الطباطبائيN في تفسير الميزان([9]).
وقد جاء في تفسير هذه الآيات ما يشير إلى أنَّ الحادثتين في دمار القوم إنَّما تكونان في آخر الزمان، جاء في (الكافي) بسنده عن الصادقg في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}، قال: >قَتْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍg وَطَعْنُ اَلْحَسَنِg: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً}< قَالَ: >قَتْلُ اَلْحُسَيْنِg {فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ أُولاٰهُمٰا} فَإِذَا جَاءَ نَصْرُ دَمِ اَلْحُسَيْنِg {بَعَثْنٰا عَلَيْكُمْ عِبٰاداً لَنٰا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجٰاسُوا خِلاٰلَ اَلدِّيٰارِ} قَوْمٌ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ قَبْلَ خُرُوجِ اَلْقَائِمِl فَلاَ يَدَعُونَ وَتْراً لآِلِ مُحَمَّدٍ إِلاَّ قَتَلُوهُ {وَكٰانَ وَعْداً مَفْعُولاً} خُرُوجُ اَلْقَائِمِl {ثُمَّ رَدَدْنٰا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} خُرُوجُ اَلْحُسَيْنِg فِي سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِمُ اَلْبَيْضُ اَلْمُذَهَّبُ لِكُلِّ بَيْضَةٍ وَجْهَانِ اَلْمُؤَدُّونَ إِلَى اَلنَّاسِ أَنَّ هَذَا اَلْحُسَيْنَ قَدْ خَرَجَ حَتَّى لاَ يَشُكَّ اَلْمُؤْمِنُونَ فِيهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِدَجَّالٍ وَلاَ شَيْطَانٍ وَاَلْحُجَّةُ اَلْقَائِمُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَإِذَا اِسْتَقَرَّتِ اَلْمَعْرِفَةُ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ اَلْحُسَيْنُg جَاءَ اَلْحُجَّةَ اَلْمَوْتُ فَيَكُونُ اَلَّذِي يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ وَيُحَنِّطُهُ وَيَلْحَدُهُ فِي حُفْرَتِهِ اَلْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّg وَلاَ يَلِي اَلْوَصِيَّ إِلاَّ اَلْوَصِيُّ<([10]).
ثامناً: الانتقال إلى الشريعة الجديدة: وفيها نسخ شريعة اليهود، وذلك في عهد نبي الله عيسىg، وتكذيب بني إسرائيل له ورغبتهم في قتله وقيامهم بقتل الكثير من الأنبياء قبله -كزكريّا ويحيى وغيرهما- مسألة لا تخفى، وبعد هذه المرحلة، أصيب اليهود بشتات في الأرض، واختلطوا بمختلف المجتمعات، وصاروا جماعات وأعراقاً عديدة في أقطار الأرض، وحال المنتسبين إلى اليهودية اليوم غير خافٍ، خصوصاً فيما يتعلّق بمشروع الصهيونيّة الكبير الذي يحكم العالم، ويتحكّم في مفاتيح السلطة عليه، من اقتصاد، وسلاح، وإعلام، وأمن، وقوانين.
ونكتفي بهذا المقدار لننتقل إلى النّقطة الثانية.
النّقطة الثانية: صفات المجتمع اليهوديّ من زاوية الانقياد
بملاحظة المراحل المتقدّمة لوجود المجتمع اليهوديّ من بني إسرائيل، نلحظ بوضوح أنَّ هذه الأمَّة كانت تعاني من خلل كبير في مسألة الانقياد، لا مع موسىg فحسب، بل حتّى مع بقية الأنبياء، كما اتّضح في تعاملهم مع هارون، وشموئيل، وداوود، وزكريّا، وعيسىi، ويمكن أنْ نلخّص مشكلة الانقياد عند هؤلاء بتركيز الحديث حول الخصائص الثابتة لديهم رغم تمادي الزّمان بهم من نبيّ إلى نبيّ! وهذا ما نريد أنْ نقف عليه في هذه النّقطة، ولكنْ فلْنستعرض -قبل ذلك- صوراً من فشل الانقياد لدى هؤلاء مع نبّي الله موسىg لتتّضح الصورة أكثر، فهنا ثلاثة أمور:
الأمر الأول: صور فشل الانقياد إلى موسىg
لقد فشل بنو إسرائيل في تحقيق الانقياد التامّ لقائدهم -ونبيّهم وإمامهم- موسىg على كلّ المستويات، ويمكن اختصار ذلك على أربع مستويات كالتالي:
1) الانقياد العقائديّ: وقد بدأ بروز هذا الخلل مبكّراً من بعد مجاوزتهم للبحر مباشرة، قال سبحانه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}(الأعراف:138)، ثم وصل إلى ذروته في قضية العجل، قال تعالى:{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ... * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}(البقرة:55،51)، واستمرّ ذلك في أمور أخرى كثيرة، منها ما ذكره القرآن: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}(المائدة:64).
2) الانقياد التشريعيّ: وبرز الخلل في الانقياد على مستوى التشريع بعدما جاء موسىg بالألواح، وتجاوز فتنة العجل والسامريّ، وتاب عليهم الله تعالى بقتل أنفسهم، فوقعت فتنة رفض التشريع الذي جاء بها موسى في التوراة! فرفضوا الأخذ به، فاقتطع جبرئيل بأمر من الله تعالى قطعة من جبل الطور، وصار فوق رؤوسهم كالغمامة على نحو التهديد والتحذير، وأمرهم بأخذ ما في الكتاب بقوة وإلا أوقع الجبل عليهم! قال سبحانه: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأنَّه ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أنَّه وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأعراف:171)، وقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}(البقرة:63-65)، وقال عزّ مِن قائل في بيان ما رفض هؤلاء الالتزام به من تعاليم التوراة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا الله وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}(البقرة:83)، وقال: {وَلَوْ أنَّهمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أمّة مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}(المائدة:66)، وقال: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(المائدة:62).
3) الانقياد التنفيذيّ: وأعني به الطاعة والاتّباع في الأوامر التي تتعلّق بإدارة المجتمع تتبّعاً للمصالح، واجتناباً للمفاسد، وقد جاء في ذلك ما يبعث على العجب، خصوصاً بعد ملاحظة النّعم الكثيرة، والمعاجز المتتالية التي كان الكثير منها في تأييدهم ونصرهم على عدوّهم الذي استضعفهم لسنوات، قال سبحانه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي}(المائدة:25-24)، وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ}(البقرة:62).
4) الانقياد القضائيّ: وهو ما يتعلّق بشأن فضّ المنازعات، والاحتكام إلى الله تعالى، وإقامة الحدود، ويكفي في ذلك ما ذكره القرآن في توصيف حالهم في قضية البقرة التي أمرهم الله تعالى بذبحها، وضرب المقتول ببعضها ليحيى فيكشف عن قاتله ليُقتصَّ منه، فقد وصفهم تعالى بقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ... فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}(البقرة:67-71)، وإنّ أدب هؤلاء مع نبيّهمg -فوق التقصير في اتباع أوامره- يكاد يكون معدوماً!
الأمر الثاني: سرُّ تكرار الفشل الانقياديّ عند بني إسرائيل
إنّ هذا التكرار في التقصير الانقياديّ لدى هؤلاء -وفي كلُّ المواقف، حتى حالة استضعافهم إذ شكوا متذمّرين قائلين: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}(الأعراف:129)- يدعو إلى العجب الكبير! وقد اعترض عليه نفس موسىg مستاءً من هذا النمط الضعيف من الانقياد، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ والله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(الصفّ:5)، ثمّ تُبيّن الآية أنَّ هذا الإيذاء استمرّ كمنهج عند هؤلاء -رغم اختلاف الظرف والوقت بمئات السنين-، والذي أصرَّ معه القرآن أنْ يخاطب هؤلاء -رغم تبدّل الأجيال- بخطاب واحد، حيث قال سبحانه مباشرة بعد الآية المزبورة: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}(الصفّ:6)، وتواصل الآيات ذكر هذه الحقيقة عند هؤلاء، والتي امتدّت إلى زمن النبيe: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ والله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(الصفّ:7-8).
فالملحوظ أنّ مصطلح (بني إسرائيل) لم يخاطَب به خصوص أولئك الذين كانوا ينتسبون إلى إسرائيل النبيّg من ناحية الدم، بل كلّ من اتخذ عين هذا المنهج والنمط المذكور في طريقة التعامل مع نبي الله موسى× مشمول بهذا الخطاب، ممّا يعني أنّ المجتمع اليهوديّ لم يكن أمّة نَسبيّة بقدر ما كان أمّة فكريّة، تجتمع حول نمط واحد من التفكير، يُفرز سلوكيّات متشابهة ومتناسخة ومكرّرة.
إذاً، الخصائص الروحيّة المتدنيّة -والسلوكيّة الحقيرة- هي التي تجمع أمّة بني إسرائيل رغم اختلافهم حتى في الأعراق كما هو الحال في زماننا، والدليل على ذلك أنّ الموجودين حالياً من اليهود لا ينتهون إلى عرق واحد -وهذه حقيقة معلومة-، وليس من سبيلٍ لِأَنْ يؤكّد أيٌّ منهم أنَّه من نسل يعقوب فعلاً، فهم شذّاذ قد اجتمعوا من كلّ حدب وصوب بعد اختلاطهم في المجتمعات المتباينة، ثم ادّعوا دولتهم الموعودة في أرض فلسطين، فرجعوا إليها، واستلبوها من أهلها المسلمين عنوة، وبالقتل والنهب والدمار والسرقة والاغتصاب، فمع اختلاف أعراقهم نجد منهم نفس الأخلاق والتصرّفات، بل انحدارهم في هذه الأخلاق جاء بنحو أشدّ، وهذا يدعونا للتساؤل: ما الذي يميّز هذه الأمّة اليهودية بحيث يخاطبون في لسان تعريفهم العامّ ببني إسرائيل، رغم عدم انتمائهم العرقيّ لإسرائيل النبيّ فعلاً؟!
إنَّها الخصائص التي اجتمع حولها هؤلاء، بحيث كرّرت نمط العقيدة، والعلاقات الاجتماعيّة، والبعد الروحيّ، وهي التي تبتدئ بالفكر اليهوديّ المتديّن الراجع إلى التحريف والتزييف للتوراة، وإلا فإنّ اليهوديّة الصافية لا يمكن إلا أنْ تكون منسجمة مع دعوات الأنبياء ككلّ، وهذا ما أكّده القرآن مراراً في ربط دعوة وجهد موسىg بدعوات وجهود من قبله ومن بعده من الأنبياء، ولعلّ التكرار الوارد في القرآن الكريم لقصّة هذه الأمّة يلحظ هذه المسألة؛ إذ إنَّها مسألة باقية التأثير إلى يومنا هذا، وإلى نهاية الزمان -كما اتّضح- لا في الأبناء بالدمّ، ولا بالنسب، بل بالفكر، والمشروع، وهم يُعتبرون النّقطة الفاصلة في التحوّل، والمكمّلة في الاستمرار مع المسيح، ولذا لا تجد اليوم مستكبراً طاغياً إلا وهو يؤمن بالمشروع اليهوديّ الممثّل في الصهيونيّة العالميّة، التي تبتني على أساس التمييز العرقيّ الدينيّ، والمسوّغ للكثير من الكوارث الإنسانيّة على مستوى التعامل مع غير المنتمين إلى هذا الفكر، لا إلى هذه الديانة، وإلا فهناك من اليهود من يخطّئ هذا المشروع الصهيوني -الدينيّ حقيقةً، الليبرالي العلماني شكلاً- في أصل فكرة نشأته كما لا يخفى.
إذاً، المهمّ في الطرح القرآني هو التعرّف على هذا الفكر كفكر مضادّ، له جذوره العقديّة، ونمطه وطريقته في التعاطي مع دعوة الأنبياءi، أي: مع الحقّ دينياً وتكويناً وتشريعاً، وأنَّهم يمثّلون الجانب الآخر في الاستكبار والاستعلاء المتزيّي بلباس الدين، فلا بدّ من التعرّف على أساس ما راكم أفعالهم وجعلها تتكرّر إلى يومنا هذا بنفس النمط والأسلوب.
الأمر الثالث: أبعاد الفكر اليهوديّ
نذكر هنا أهمَّ أبعاد الفكر اليهوديّ التي أدّت إلى تكرار الفشل الانقياديّ، ويتلخّص ذلك في ثلاثة أبعاد أساسيّة، يترتّب بعضها على بعض:
1) البعد العقديّ: وقد تمثّل في نزعة الوثنيّة الماديّة والتجسيم، وهذا هو أساس كلّ انحراف عمليّ لاحق، ومنطلق كلّ معاناة عاناها اليهود، وهو أساس ثبات نمط الفشل في الانقياد لدى هذه الأمّة على كلّ مستوياته، وهذه النزعة واضحة ممّا تقدّم بيانه والاستشهاد به من قضيّة مرورهم على القوم العاكفين على آلهتهم، ومن عبادة العجل، ومن طلبهم رؤية الله تعالى جهرة، {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}(النساء:153)، ويذكر جملة من المؤرّخين في تاريخ اليهود إصرارهم المتتالي في عبادة العجول والبقر وتقديس الأفعى، وتأثّرهم بالبيئات المحيطة ابتداءً من مصر، وانتهاءً بالجبابرة الكنعانيين وغيرهم، أنّ تاريخهم لم يخل من هذه الشركيّات، ويرشد إلى ذلك كثرة أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد بكلّ مستوياته، وهو فرع تجدّد الكفر والشرك بكلّ أصنافه في أمّة اليهود المعروفين ببني إسرائيل.
والخلاصة أنَّ الضعف العقائديّ لدى بني إسرائيل، واهتزازه كان يبرز فيهم نزعة الوثنيّة والتجسيم والماديّة والكفر والشرك أمام أوّل امتحان يواجهونه، بل حتى في حال الرخاء، كما نجد في طلبهم بعد مجاوزة البحر، وطلبهم رؤية الله تعالى، فإنّ ذلك جاء على أعقاب الانتصار، ووراثة الأرض، وإهلاك العدوّ، فهذه النزعة الاعتقاديّة الانحرافيّة كانت السبب الأساس في فشل الانقياد العقائديّ؛ لأنَّها كانت تمثّل تياراً مضادّاً للتوحيد انغرس في نفوسهم، فجعلوه يقاوم دعوات التوحيد المتتالية كلّما سنحت الفرصة.
2) البعد التشريعيّ: وقد انعكس كفرهم ورفضهم لدين الله تعالى عملياً -رغم المعاجز والآيات الباهرات- رفضاً للتشريع، وتوافقوا على ذلك منذ بادئ الأمر كما اتضح سابقاً في قضية نتق الجبل، ثمّ اعتمدوا التحريف الدلالي، وأخيراً: وصلوا إلى التحريف اللفظي بكلّ جرأة، وقد اعتمدوا الرفض والتحريف هذا كمنهج انطلق من الرفض العقائديّ القِيَمي المتصادم مع مصالحهم، وذلك بنحو ثابت ومستمرّ، ممّا أدّى إلى الفشل الذريع والمنحدر بشكل متسارع في الانقياد التشريعيّ، لاحظ الآيات المباركة التالية: قال سبحانه: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.. فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(النساء:153-161)، فلاحظ الترابط بين انطلاقهم من الكفر والماديّة والتجسيم وعبادة العجل، ثمّ انتقالهم من ذلك إلى رفض تشريع التوراة وقضية نتق الجبل، ورفض أمر دخول الأرض المقدَّسة، ورفض احترام وتقديس السبت، وصولاً إلى التحريف والتزييف، واستحلال الحرام (الرّبا)، ثمّ وصل بهم الأمر إلى رفض التشريع بممارسات عمليّة كبيرة ناقضة للعهد والميثاق الإلهيّ، تمثّلت في البهتان والكذب على الله وقتل النبيّين ومحاربة أولياء الله تعالى.
فبنقضهم ميثاق الله عقيدةً، كفروا بالتشريع، فأدّى ذلك إلى الفشل الكبير جدّاً في اتّباع الأوامر والأحكام الإلهيّة، فتحقّق الفشل في الانقياد التشريعيّ.
3) البعد الاجتماعيّ: إنّ الفشل في الانقياد التشريعيّ كان مقدّمة مباشرة للفشل في الانقياد الاجتماعيّ والنظميّ للمجتمع، وقد نبّهت الآيات المتقدّمة على ذلك؛ حيث ربطت الاعتداء في السبت -ورفض تعاليم التوراة، وأكلهم أموال الناس بالباطل باستحلال الربا، وكلُّ ذلك يعبّر عن رفض الانقياد التشريعيّ- برفضهم دخول الأرض المقدَّسة الذي هو أمر إجرائيّ مولويّ تنظيميّ.
وفي الحقيقة عاش بنو إسرائيل الخلافات الاجتماعيّة بينهم منذ بذرة أسباطهم ممثّلةً في إخوة يوسف الذين حسدوه، ورفضوا ولاية الله بتقديس واتّباع من اختاره الله تعالى ولو كان أصغرهم، وآذوا أباهم يعقوبg، وتآمروا على قتل أخيهم يوسفg بغضاً وحقداً وحسداً، ثمّ استمرّوا على الكذب والإضرار بأولياء الله، وورث منهم هذه الخصلة -في الشقاق والافتتان والتخالف والإضرار والإيذاء والتفرّق- من أعقبهم من أبنائهم، واستمرّت فيهم كخصلة ثابتة، كان أساسها هو الخلل الاعتقاديّ كما ذكرنا، لاحظ هنا قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(البقرة:64)، حيث بدأت الآية بتثبيت انحراف عقائديّ كبير لدى اليهود، أدّى بطبعه إلى رفض التشريع الحقّ على يد النبي الأكرمe، كما رفضوه سابقاً على يد موسىg {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، ثمّ أدّى ذلك إلى وقوع العداوة والبغضاء بينهم، فعاشوا ويعيشون -وفقاً لمنظومتهم المعرفيّة المحرّفة- فتناً اجتماعيّة كبيرة لا تمكّنهم من الاستقرار والقرار أبداً {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة}.
النّقطة الثالثة: نتائج واستفادات
وبعد اتّضاح ضعف الانقياد لدى بني إسرائيل، والسرّ الكامن وراءه، وبعد استعراض المراحل التي مرَّ بها هؤلاء في الصور والمشاهد التي نقلها إلينا القصص القرآنيّ بنحو من التكرار والتركيز والتحذير، نأتي لاستخلاص مجموعة من العبر والاستفادات الهامة:
أولاً: الحذر من التحريف والانخداع به بكلّ صوره
لا بدّ من تنقيح وتصحيح القراءة الدينيّة للنصوص الإسلاميّة بنحو موضوعيّ وأصيل، وإلا أنتجت بتحريفها الدلاليّ أمّة بصفات موجّهة من قوى الاستكبار، تصبّ في مصالحهم باسم الدين، خصوصاً أنَّهم اتّخذوا هذه اللعبة في حربهم على الإسلام، ممّا أنتج حركات فكريّة وقوانين دوليّة تخدم هذا التوجّه، ولهذا ركّز القرآن على التحذير من تحريف الكلم عن مواضعه، حيث ينقلب الإسلام نفسُه بهذا التحريف إلى سيف مسلّط على الدين الحقّ وأهله، فكما أنّ الشريعة اليهوديّة منزّلة من الله تعالى، وقد وصف التوراة بقوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}(الأعراف:145)، وقوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}(الأعراف:154)، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ}(المائدة:44)، فهي بطبعها تنتج شعباً إلهياً نورانياً مهتدياً، ذا خصال وسمات عقائديّة وسلوكيّة نبيلة وإنسانيّة وحسنة وفطريّة، إلا أنَّ تحريف هذا النور جعل هذا المجتمع متماسكاً على أساس خصال دنيئة جدّاً، جعلته كذلك يتمحور حول هذا الفهم الدينيّ العنصريّ العنيف الظالم غير المنطقيّ ولا العقلائيّ، فلا يُسأل بعد هذا عن العنصر النسبيّ والعرقيّ لهذا اليهوديّ أو ذاك، بل يُسأل عن نوع العقيدة التي يحملها، والتي تنتج هذا النوع من السلوكيّات الباطلة.
فكذلك هو الإسلام والقرآن، هو كتاب هدى وإنارة وإبانة وذكر، وغير ذلك ممّا وصف به القرآن نفسه، وهو بهذا لا يمكن أنْ ينتج أمّة تجتمع حول هَديه إلا بنمط الهداية التي يدعو إليها، إلا أنَّ حرف هذا الهدى عن وجهته بتحريف الكلم عن مواضعه، ينتج إسلاماً مزيّفاً هجيناً مشوّشاً يخدم قوى الاستكبار التي تعبث في نصوصه.
قال السيد محمد باقر الحكيمN في (علوم القرآن): "الجانب التحريفي في العبادة: من الموضوعات المهمة التي تعرّضت لها القصة هو الجانب التحريفي في العبادة، فإنّ بني إسرائيل وغيرهم -كما يبدو من انقيادهم لموسى- آمنوا به وبدعوته، ولكن هذا الإيمان بالشعارات العامّة التي كان يرفعها موسى لا يعني أنَّهم كانوا يعرفون محتواها الأصيل بأدقّ معانيه، الأمر الذي لو حصل كان من الممكن أن يصدّهم عن الانسياق وراء أفكار وثنيّة أخرى، لذلك نجدهم وهم قد خلصوا من عذاب فرعون ومطاردته تطفو على أفكارهم ومشاعرهم الكثير من الرواسب الوثنيّة ذات المدلول المنحرف، هذه الرواسب التي كانوا قد تأثّروا بها في المجتمع الفرعوني الذي كانوا يعيشون فيه.
وهي حين تطفو على السطح لا يعني أنَّهم كانوا قد تنازلوا عن شعاراتهم السابقة ومدلولاتها أو تخلّوا عن عقيدة التوحيد، وإنَّما يعني ذلك أنَّهم كانوا يفهمون مدلول الشعارات بالشكل الذي ينسجم مع هذا العمل المنحرف، فالعجل في نظرهم هو تجسيد للإله الذي دعا إليه موسى، والأصنام هي الوسائط المادية للتعبير عن العبادة للإله الذي دعا إليه موسى، وهكذا.
ولعلّ القرآن الكريم يهدف في هذه الإشارة إلى ناحيتين:
الأولى: مناقشة أفكار الجاهليين المعاصرين لنزول القرآن، حين كانوا يقولون في أصنامهم ويعلّلون عبادتهم لها: بأنَّهم اتخذوها واسطة وزلفى إلى الله.
الثانية: أن الإنسان حين يؤمن بالرسول ويحظى بصحبته ويستمع إليه لا يعني أنَّه قد تجرّد دفعة واحدة عن جميع محتوياته الداخلية، وقضى على كلّ الرواسب التي لا تلتقي في واقعها مع أصالة الرسالة والدعوة التي يدعو إليها الرسول، وإنَّما غاية ما يدل عليه ذلك هو الإيمان بالمدلول الحرفي للشعار ممّا أشار إليه القرآن في بعض الموارد حين ميّز بين ادّعاء الإسلام والإيمان: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..}، وهذه المظاهر من أخطر الظواهر التي واجهت الأديان الإلهية حيث تعرّضت للتحريف في العبادة والعلاقة مع الله تعالى مع الاحتفاظ بنفس المفاهيم والشعارات الأصلية، ووجد المحرّفون دائماً المسوّغات والذرائع والعناوين التي يوجّهون فيها هذه الانحرافات"([11]).
ثانياً: سرّ النجاح هو الانقياد والطاعة للقيادة الربانيّة
اتّضح ممّا تقدّم ضرورة التسليم التامّ والانقياد المخلَص للقيادة الربانيّة على اختلاف صورها ورتبها (رسالة موسى الذي هو من أولي العزم/ هارون الذي كان نبياً وليس إماماً مع وجود موسى/ يوشع الذي كان وصياً/ عيسى كصاحب شريعة جديدة..) فهذه صور متعدّدة تمركزت حول حجيّتها على الأمّة اليهوديّة آنذاك، إلا أنَّ تلك الأمّة لم تكن تحترم هذه القيادة، فكانت النتائج مضنية جدّاً فوق الفشل العام، فمن الصاعقة على النخب الذين طلبوا أنْ يروا الله جهرة، وإيقاف التوبة على قتل النفس للذين اتخذوا العجل ربّاً، والتّيه بمعصية الأوامر الإلهيّة بدخول الأرض المقدَّسة، والمسخ إلى القردة، وغير ذلك الكثير ممّا أنبأ به القرآن الكريم، ممّا يسجّل في نتيجته فشل أمّة في كينونتها العامة، ومصالحها النوعيّة، وتلكّؤها، وفوق هذا عذاب وخزي في الآخرة.
ثالثاً: الانقياد رديف التضحية والبذل
يصاحب الانقياد للقيادة الربانيّة ظروف صعبة تستدعي البذل والتضحية والنهوض وتقديم التنازل عن المصالح الشخصية لصالح المصالح الإلهية النوعية، فلا يكون هذا الانقياد منتجاً عادةً إلا بأداء تكليف الوقوف في وجه مشاريع الاستئثار، والضلال، والطغيان، والاستعلاء، والفرعنة، وما يترتّب على ذلك من آثار، كما وقف موسىg وهارونg ومن معهما من المخلصين، هذا مع ضرورة الإذعان والثقة بالوعود الإلهية بأنّ الخط الاستعلائي مآله الحتميّ إلى الاستئصال والهلاك على يد الله تعالى، قال تعالى على لسان موسى×: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأعراف:139)، وقال: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}(الأنفال:52-54).
غاية الأمر أنَّ الله تعالى يبتلي عباده ليرى من يصمد، ومن يثق، ومن يواجه، ومن يضحّي، ومن يميّز بين الحقّ والباطل، ومن يُسهم في التبيين، ومن يسهم بماله، وبنفسه، ومن ومن..، نصرةً لدينه، وإعلاءً لكلمته، والنفع بعد ذلك يعود على العبد، والله تعالى غنيّ عن العالمين، وهذا كلّه مقرون بوعد إلهي بإيراث الأرض للمستضعفين الذين هم أصحاب سمات معيّنة، وهذه الوراثة سنّة إلهيّة كونيّة لا تتبدّل، قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(الأنبياء:105)، هذا الإيمان على المستوى العقديّ، وهذا العمل والثقة على المستوى التطبيقيّ، هو المنجي الوحيد لأيّ أمّة بشرط الالتزام بالدين الصحيح غير المزيف، ويكون ذلك باتباع من نصبه الله تعالى لحفظ هذا الدين عن التحريف والتزييف، باتباع أوامره الدينيّة، والإداريّة القياديّة ممثّلة في المعصومينi ومن ينوب عنهم ممّن له الحقّ في فهم خطهم واستنباط نهجهم بكلّ أمانة وتخصصيّة.
لقد حاول بنو إسرائيل الاعتماد على عنصر الإعجاز إلى حدّ التواكل، إلا أنّ موسى× بيّن لهم أنّ طريق النصر على العدوّ يعتمد على الاختبار العمليّ من الله تعالى، وأنّ الناجح فيه هو من بذل وضحّى وقدّم وسعى، لا المتفرّج الذي ينتظر نزول النصر بلا عطاء وجهد، لاحظ قوله تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ للهِ يورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(الأعراف:128-129).
رابعاً: التعاطف القلبيّ لا يكفي
بيّنت الآيات أنَّ الوقوف القلبيّ مع الحقّ لم يكن كافياً، وأنَّه لا بدّ من ممارسة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والوقوف العمليّ، وإلا كانت النتيجة نزول العذاب على المجرمين المقترفين للذنوب، العاصين لله تعالى، وعلى الساكتين عنهم، المعاشرين لهم، المخالطين إياهم، ولو كانوا قلبياً غير مرتاحين لفعلهم، ولا ينجو في النتيجة إلا من اعتزل وتكلّم واعترض ووعظ، لاحظ قوله تعالى في قصة أصحاب السبت: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانَّهمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أمّة مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَأنَّه لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(الأعراف:163-168).
الآيات تبيّن أنّ الأمّة الإسرائيلية فيما يتعلّق بأمر السبت والصيد والامتحان الإلهيّ فيه، قد انقسمت إلى ثلاثة أقسام، لا قسمين، قسم اعتدى، وقسم نهى، وقسم لم يحرّك ساكناً رغم كراهته القلبيّة لفعل المعتدين، مع أنَّهم كانوا يرجون تأثّر ولو البعض منهم، لاحظ: {وَإِذْ قَالَتْ أمّة مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، فهذه محاورة بين الناهين والساكتين في شأن المعتدين، كيف كانت النتيجة؟! قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، حيث يظهر من الآيات أنّ القسم الناجي الوحيد من بين الأقسام الثلاثة هم الذين ينهون عن السوء! إذن: الكراهة القلبيّة -مع إمكان التغيير وتسجيل شرف المحاولة على الأقلّ معذرة إلى الله تعالى، وبرجاء التغيير- لا تكفي.
خامساً: عدم اليأس
مع ملاحظة كثرة التقصير عند بني إسرائيل، نلحظ كيف أنَّ الله تعالى أبقى ما بينه وبينهم من صلة، ولم يستأصلهم بضعف انقيادهم ما داموا معترفين في الجملة بحقانيّة هذه القيادة، ولو قصّروا في أداء المسؤولية تجاهها، وفي ذلك درس عظيم بعدم اليأس من النصرة الإلهيّة مهما كثرت الأخطاء، وأنّ هناك فسحة للرجوع دائماً ما دامت الصلة باقية بالاتباع والالتفاف -ولو الإجمالي- حول القيادة الربانيّة الحقّة، إلا أنَّ ذلك لا يعني أن يكون المؤمنون واثقين من أنفسهم إلى هذا الحدّ، فقد يكون ذلك استدراجاً إلى ما يوصل إلى الاستئصال والاستبدال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(المائدة:54).
سادساً: ما بعد النّصر
نستفيد ممّا تقدّم ضرورة الحذر الشديد من التحوّل مع حصول النصر والتغيّر الجذريّ بالغلبة، خصوصاً من جهة وقوع الخلاف والفتن المؤدّية إلى الكفر والاقتتال والتراشق. لاحظ ما قاله موسىg بعد أنْ أمر قومه بالصبر والبذل والوقوف والجهاد في وجه فرعون، حيث حذّرهم ممّا بعد النصر وهم في ذروة الاستضعاف والمواجهة قائلاً: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(الأعراف:129)، فامتحان ما بعد النصر يكون أصعب بكثير ممّا قبله؛ حيث إنّ ما قبله يكون الاستضعاف فيه هو سيّد الموقف، واللَّجأ إلى الله تعالى مستشعَر من عمق الحاجة، فإن وقعت أخطاء، فإنَّها تقع عادة بالنحو الذي لا يمحق النهضة من أساسها، إلا أنَّ الأخطاء التي تقع ما بعد النصر، ترادف نشوة الظفر، واستشعار القوة والغلبة والخصوصيّة، فإذا أسلم المنتصر نفسه حينئذٍ إلى شهوات النصر، انحرف عن القاعدة، وزاغ اتجاه البوصلة، فوقع في عين الظلم الذي هرب منه بنفس صوره، أو بصورة مختلفة قد تكون أسوأ بكثير، خصوصا عندما تتلبّس بصفة الدّين، وتُنسب إلى الله سبحانه، ومن ثمّة قال تعالى لرسوله الكريمe: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ أنَّه كَانَ تَوَّابًا}(النصر:1-6)، الجأْ يا رسول الله بعد النصر إلى التسبيح والتحميد والاستغفار، وأْمر قومك بذلك هرباً من شرور أنفسهم ما بعد النصر.
قال السيد الشهيد محمد باقر الحكيمN في (علوم القرآن): "وتمثّل المرحلة الثالثة: جانب استقلال الجماعة والحكم وما يستتبعه من مضاعفات وخلافات، ذلك لأنّ الدعوة في مرحلتها الأولى تعمل من أجل تحقيق أهداف عامّة وترفع شعارات معيّنة، وفي هذه الأهداف والشعارات قد تلتقي آمال الشعب كلّه وتتجمع تدريجاً، وأما حين يأتي دور تحديد هذه الأهداف في صيغ معيّنة وطريقة خاصة، وتطبيق هذه الشعارات في نهج وأسلوب خاص وتجسيدها عملياً فقد نجد بعض الأعضاء في المجموعة لا يلتقي مع هذا التحديد والتطبيق في مصالحه الخاصة أو أفكاره وعقليته الاجتماعية، بل قد تتعارض المصالح الخاصة أو المنافع التي يحصل عليها الإنسان في مسيرة عمله أو المواقع التي ينتهي إليها مع هذه الأهداف والشعارات، حيث إنّ الأهداف والشعارات الإلهية الرسالية تنطلق من المبادئ ومتبنّيات الفطرة الإنسانية التي أودعها الله تعالى في الإنسان وهي في البداية لا تبدو أنَّها متناقضة مع رغبات الإنسان وميوله، بل هي محبوبة وحسنة في نظر الإنسان خصوصاً المظلومين من الناس. وأما في دور التطبيق والتجسيد حيث تتحوّل هذه المبادئ إلى واقع خارجي وحدود وقيود لهذه الحركة أو ذلك الموقف أو لتلك المصلحة، فعندئذٍ تتناقض مع الهوى والشهوات والطموحات الذاتية للإنسان.
ولذلك نجد في هذه المرحلة بوادر الخلاف تبدو في الشعب الإسرائيلي، وتطفو على السطح اتجاهات شتى: فكرية ومصلحية ونفسية و... حتى أنَّها تتحوّل أحياناً إلى المروق عن الدين أو إلى التمرّد على الجماعة والنظام"([12]).
سابعاً: مشكلة النّخب
نفهم ممّا تقدّم مشكلة الوسائط والنخب في الاتّباع، وعدم التفريق بين الصالح والطالح منها، حيث إنّ ما تقدّم من الفشل الانقياديّ في المجتمع الإسرائيليّ من الواضح أنَّه لم يكن يصدر مباشرة عن كلّ فردٍ فردٍ من بني إسرائيل، إلا أنَّه اعتمد على التواضع الاجتماعيّ القائل بتقدّم النخب الذين أسماهم القرآن بالـ(ملأ)، والملأ هم: "الأشراف من الناس؛ لأنَّهم مُلئوا كرماً"([13]) كما في (المقاييس) لابن فارس، وهم: "أشراف القوم، سمّوا بذلك لملامتهم بما يُلتمس عندهم من المعروف وجودة الرأي، أو لأنَّهم يملئون العيون أبّهةً، والصدور هيبةً"([14]) كما في (مصباح اللغة) للفيّوميّ، فمن الواضح أنّ الذي كان يجادل موسىg -ويقرّر، ويمتنع، ويوافق، ويتّخذ المواقف- هم هؤلاء الملأ، ويؤخَذ الناس بالخير أو الشرّ تبعاً لهم بمقتضى موافقتهم لهم، وإنّ المشكلة الحقيقية التي كان يعاني منها بنو إسرائيل هي: ارتفاع صوت النخب الفاسدة، وقدرتها على التأثير السلبيّ في الانقياد الفاشل بوجاهاتها المتبلّدة الخائفة على مصالحها الخاصة، فالذي يحرّكها ليس هو الإيمان، بل المصلحة الذاتيّة، وإلا فقد كانت هناك نخب إيمانيّة تقف مع قائدها النبيّ، ولكنَّ الغريب أنَّها لم تكن تُسمع حتّى! لاحظ قوله تعالى في قضية أمرهم بالدخول إلى الأرض المقدَّسة: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}(المائدة:22-24)، لاحظ أنَّهم لم يعلّقوا حتى على قول هذين الرجلين الصالحين الذَين كانا من النخب أيضاً، ومارسا دورهما الإيجابيّ في التأثير للانقياد الصحيح.
ولاحظ أيضاً قوله في قصة طالوت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ والله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}(البقرة:246)، فمن الملأ من ثبت، إلا أنَّهم كانوا قلّة، وقد مُحّصوا مرّات، أولاً باختيار طالوت الذي لم يكن يتمتّع بوجاهة النسب والمال، فنكث أكثرهم، {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}(البقرة:247)، ثمّ من الثابتين أيضاً من تراجع لما ابتلوا بالنهر والشرب منه قبيل ملاقاة جند جالوت، {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَأنَّه مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهمْ مُلَاقُو الله كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصَّابِرِينَ}(البقرة:249).
الخاتمة:
ولا بأس في مرافئ النهاية، التّطواف بخلاصة ما وصل إليه المقال. أمّا في النّقطة الأولى، فقد تبيّن أنّ المقصود من بني إسرائيل هم الذراري المنتسبة إلى يعقوب النّبيg. وهؤلاء قد مرّوا بمحطات محوريّة في تاريخهم، بدأت بتحولهم إلى مصر في كنف يوسفg، ثمّ مرحلة الاستضعاف على يدّ الأقباط والفراعنة، ثمّ ثورتهم تحت قيادة موسىg، ثمّ خروجهم من مصر والتّيه، إلى أن دخلوا الأرض المقدّسة، التي تلتها تتابع الملوك والأنبياء والحروب المختلفة، قبل أن يأتي النبي عيسىg برسالته الجديدة.
وقد اتّضحت ملامح الفشل في انقياد مجتمعات بني إسرائيل من خلال ذكر صفاتهم المبيّنة في القرآن الكريم. وذلك إذ نجد القرآن الكريم يسلّط الضوء على تخلّفهم عن الانقياد العقائديّ، والتشريعيّ، والطاعة، والتسليم بالقضاء الإلهيّ. ويمكن استفادة أسباب هذا الإشكاليّة عند بني إسرائيل في آيات متعدّدة، كما يجدر الالتفات إلى أهميّة الوحدة الفكريّة والنفسيّة في مصطلح بني إسرائيل التي تفوق أهمّيتها الوحدة النسبيّة. ثمّ عرض المقال إلى أبعاد الفكر اليهوديّ العقديّة والتشريعيّة والاجتماعيّة.
وفي وقفة أخيرة، تناول المقال أهمّ الدروس والعبر المستفادة من هذا العرض القرآنيّ المركّز لمواقف اليهود السلبيّة إزاء المشاريع الإلهيّة. أوّلها خطورة التحريف للمعارف الدينيّة الذي كان واحداً من أهمّ موانع نموّ اليهود الروحيّ وانقيادهم. وثانيها، أنّ الفلاح الحقيقيّ منحصر في التسليم للقيادات الربانيّة. وثالثها، أنّ الانقياد يساوق خارجاً التّضحيّة والبذل. ورابعها، أنّ الميل القلبيّ للقيم والمبادئ ورجالات السماء لا يكفي في اجتياز الامتحانات الإلهيّة. وخامسها، أنّ اليأس لا ينبغي أنْ يكون موجوداً في حياة الأمّة المؤمنة المنقادة. وسادسها، أنّ النّصر ليس ختاماً للامتحانات الإلهيّة. وسابعها، أنّ صفوة المجتمع والفئات المؤثّرة ليست على مستوى واحد من الصلاح والطلاح.
إنّ هذه العبر وغيرها المستلّة ممّا يقصّه القرآن الكريم عن اليهود في القرآن الكريم، لهي من أحوج ما تحتاج الأمّة إلى الالتفات إليه وترجمته عملاً، ولولا ذلك لما احتضت بهذا الحضور في النّص القرآنيّ. والتغافل عن التحذيرات النبويّة المشتملة على تشبيه الأمّة الإسلامية بأقوام بني إسرائيل، ينتهي بالمطاف إلى نهايات شبيهة ومحطّات مؤلمة كما وقعت عند بني إسرائيل.
والحمد لله ربّ العالمين.
([1]) من لا يحضره الفقيه، ج1، ص203.
([2]) الاحتجاج، الطبرسي، ج1، ص80.
([3]) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، الشيخ حسن المصطفوي، ج١، ص٨٤.
([4]) التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، ج٥، ص٨.
([5]) تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج٤، ص٣٧٦.
([6]) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج٨، ص٢٨٥.
([7]) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، الشيخ حسن المصطفوي، ج٥، ص٣٣.
([8]) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، الشيخ حسن المصطفوي، ج٥، ص34.
([9]) تفسير الميزان، الطباطبائي، ج13، ص44.
([10]) الكافي، الكليني، ج8، ص206.
([11]) علوم القرآن، السيد محمد باقر الحكيم، ص٤٣٣.
([12]) علوم القرآن، السيد محمد باقر الحكيم، ص٤٢٥.
([13]) معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)، ج ٥، ص٣٤٦.
([14]) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمد المقري الفيومي، ج٢، ص٢٢٦.

0 التعليق
ارسال التعليق