
الملخَّص
ذكر الكاتب سبع مسائل رجالية عند العلامة المجلسي الأوَّل(قده) تستحق أن تكون موردا للبحث في نظره معتمداً على كتاب (روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه) وهي: تضعيفات ابن الغضائريّ، ونقل الرواية بالمعنى، ووصف الراوي والرواية بالضعف، وأقوائيَّة المراسيل على الأسانيد، وعدم إضرار عقيدة الراوي بالرواية، ودلالة مصطلح الوجاهة في الراوي، ومعنى النوادر في الحديث، فقد عرض الكاتب هذه المسائل وحاول مناقشة بعضها.
المقدِّمة
يُعتبر المجلسيُّ الأوَّل واحداً من كبار المحدّثين والمهتمّين بالحديث وشؤونه، وهذا يظهر من خلال النّظر في كتابه روضة المتّقين ذي الخصائص الكثيرة والمهمَّة. وهو من أصحاب النظر والتتبّع الشديد في هذا الشأن وغيره. وكان يحرُص في طيّات كتابه على الاستدراك أحياناً وأخرى لتنقيح بعض المطالب الرجالية. وفي هذا المقال، انتخبنا منها سبعة من المسائل التي يحسن الحديث عنها وعدم إغفالها، لما لها من الآثار البالغة في التعاطي مع الرّوايات الشريفة.
المسألة الأوَّلى: تضعيفات ابن الغضائريّ
هو أحمد بن الحسين بن عبد الله بن إبراهيم الغضائريّ، واحدٌ علماء الشيعة الأفذاذ، وهو أحد من يُلحظ قولهم فيما يرتبط بتوثيق وتضعيف رواة الحديث، يصفه ابن داود الحليّ بأنّه: "كثير السماع، عالمٌ بالرجال.. روى عنه الشيخ سماعاً وأجازه وكذا النجاشيّ" ([1]).
ولعلَّ ما أسهم في اشتهاره على مرِّ السنين هو انتساب كتابٍ رجاليّ إليه عُرِف بكتاب (الضعفاء)، ويطلق عليه (رجال ابن الغضائريّ) و(رجال الغضائريّ) أيضاً. وقد احتوى هذا الكتاب على ترجمةِ وتضعيف ما يناهز مائة وستين رجلاً من رواة الحديث. وهذا العدد الكبير من التضعيفات ترك عند البعض عذراً لتوهين مؤلِّفه -ابن الغضائريّ- والطَّعن عليه أو التَّشكيك في انتساب الكتاب إليه!
فما هو نظر المجلسيِّ الأوَّل في ابن الغضائريّ وكتابه؟ وما هي مكانة ابن الغضائريّ نفسِه عند المجلسيّ الأوَّل؟ وهل الكتاب من تأليفه أم من تأليف غيره؟ ولماذا يُكثِر ابن الغضائريّ من التضعيف للرواة؟
في شأن ابن الغضائريّ وكتابه
للعلماء أقوال في شأنه تتفق على جلالة قدره وعلوّ شأنه([2]). أمَّا المجلسيُّ الأوَّل فهو ممَّن وقف موقفاً سلبيّاً من ابن الغضائريّ، فقد قال في ترجُمته:
"أحمد بن الحسين بن عبيد الله الغضائريّ، الظاهر أنَّه الذي كتب جزواً في ذكر الضعفاء، ولم يذكر أصحابنا فيه مدحاً ولا ذمّاً، ولكن لمَّا كان العلامة يدخل عليه الشكُّ من جَرحه، يُتوهّم أنّه ثقة، وليس كذلك؛ لأنَّ هذا المعنى من لوازم البشرية أنّه يدخل على النّفس بعض الشكِّ من قول الفاسق أيضاً، وظهر من كثير من الموارد، أنّه لم يكن له قوّة التمييز.. ولهذا يقدِّم العلامة توثيق الشيخ والنجاشيّ على جرحه، مع أنّه ذكر العلامة وغيره في الكتب الأصولية أنّ الجرح مقدّم على التعديل، ويعترض عليه من لا يُعبأ به بأنّه مخالف لقوله وقولهم" ([3]).
وستأتي بعض الموارد التي صرَّح فيها العلامة بذلك، منها: إبراهيم بن عمر اليماني الصنعانيّ. فبعد نقل تضعيف ابن الغضائريّ، قال العلامة: "والأرجح عندي قبول روايته، وإن حصل بعض الشكِّ بالطعن فيه" ([4]).
وينحلّ كلام المجلسيُّ الأوَّل إلى دعاوى ثلاث:
أوّلها: أنّ كتاب الضعفاء هو لابن الغضائريّ نفسِه لا غيره.
ثانيها: أنّه لا توجد عند ابن الغضائريّ قوّة التمييز؛ بمعنى عدم القدرة العلمية عنده لفهم الرّوايات.
ثالثها: أنَّ العلامة يدخل عليه الشكُّ من جَرح ابن الغضائريّ، فلا يعتمد جرحه لا سيَّما عند التعارض مع توثيق النجاشيّ والشيخ.
أقول: وهنا بعض التعليق على هذه الدعاوى الثلاث من كلامه -أعلى الله في الخلد مقامه-:
الدعوى الأولى: [كتاب الضُّعفاء لابن الغضائريّ نفسه]
هي صحيحةٌ. وقد أجاد آية الله السيد محمَّد رضا السيستانيّ-سلّمه الله- في إثباتها مستعرِضاً رأيَ المنكرين لانتساب الكتاب لابن الغضائريّ وأدلّتَهم ليردّها مع قرائنها. ثمَّ ذكر ثلاثَ قرائنَ تورث الاطمئنان -بتعبيره- بصحة انتساب نسخة الكتاب إلى ابن الغضائريّ([5])، وفيما ذكره غنى وكفاية، إلا أنّا نذكرها باختصار تتميماً للفائدة -ومن أراد التفصيل فليراجع ثمَّت-:
القرينة الأوَّلى: إنَّ السيد أحمد بن طاووس -هو أخو السيد علي بن طاووس- كان قد نسب نسخة كتاب الضعفاء إلى ابن الغضائريّ بصيغة جزميّة، ثم عوّل على ما ورد فيها في نقد أسانيد الرّوايات الواردة في كتاب (اختيار معرفة الرجال)، مع الوضع في عين الاعتبار كونَه أحد كبار العلماء والمحققين، وكان أورع فضلاء زمانه، وقد حقَّق في الرجال والرّواية ما لا مزيد عليه بشهادة ابن داود في رجاله([6]). ومن تكون هذه خصاله لم يكن ليَجزمَ لو لم تتوفَّر له من القرائن الواضحة والدلائل الكافية، وليقينِ مثلِه شأنٌ معتدٌّ به في حصول الاطمئنان بصحة النسخة.
القرينة الثانية: هي نظرُ النجاشيّ إلى كلام ابن الغضائريّ، وقد يُعبِّر بنفس التعبيرات الواردة في ذلك الكتاب من غير أن يصرّح باسمه ممَّا يؤيِّد وجود الكتاب لديه (ثمَّ ذكر أربعة عشر موضعاً كشاهد على ذلك). هذا مضافاً إلى وجود موارد عديدة كان النجاشيّ ينقل فيها عن ابن الغضائريّ بالاسم، وفي موردين منها كانت العبارات تفيد نقل النجاشيّ عن كتاب ابن الغضائريّ لا عن كتاب آخر.
القرينة الثَّالثة: هي أنّ ابن الغضائريّ هو من طبقة الشيخ والنجاشيّ مشاركاً لهما في عدد من الشيوخ؛ ذلك لأنّه ورد في كتاب الضعفاء وغيره موارد روى فيها ابن الغضائريّ عن عدد من الرجال الذين قد روى النجاشيّ عنهم أيضاً.
القرينة الرَّابعة: إنَّ النظر في محتويات الكتاب وملاحظة ما ورد فيه بشأن مختلف الرّواة المترجمين يورث الاطمئنان بأنّ مؤلفه كان خبيراً بأحوال الرجال، بصيراً بما قيل في حقّهم، دقيقاً في تقييمهم، وعلى اطِّلاع وافٍ برواياتهم وكتبهم. ولا يوجد في طبقة المؤلِّف من يشاركُه في الصَّفات المذكورة ممَّن يناسب أن يكون مؤلفاً لهذا الكتاب.
الدعوى الثَّانية: [لا توجد عند ابن الغضائريّ قوّة التّمييز]
للأسف، لم تبق كتب ابن الغضائريّ حتى تكون في معرِض التقييم ليُعرف بها جلالة قدره، فلا يبقى لنا سوى كلمات العلماء والمحقِّقين وشهاداتِهم، وهي حاكية عن جلالة قدره وغزارة علمه، ومن تلك الشهادات شهادة الوحيد البهبهانيّ في تعليقته على منهج المقال، والعلامة الحليّ كما سيتَّضح من بعض كلماته قريباً، فقد قال الوحيد: "أنَّ ساحة جلالة الرّجل، أرفع من أن يُسرِع إليها خيال الإنكار، وباحة وثاقته أمنع من أن يركُمَ عليها خيال الأنظار، بل هو في عالي درجة من العلم والدين وسامي مرتبة من مراتب المشايخ المعتمدين"([7]).
الدعوى الثَّالثة: [دخول الشّككّ على العلاّمة من جرح ابن الغضائري]
هي مناقشةٌ من خلال كلمات العلامة نفسه في خلاصته، فقد اعتمد العلامة على تضعيفات ابن الغضائريّ في عدد من الموارد. وعند تتبّع خلاصة العلامة -كما فعلتُ- والمواردِ التي فيها رأي لابن الغضائريّ نجد أنَّ العلامة يتعامل معه كما يتعامل مع النجاشيّ والشيخ، ويعتني بقولِه كما يعتني بقولهما. وإن كان ثمّت تعارض بين قول أحدهما مع قوله فإنّه يُعمِل المرجحات ويبحث عن القرائن، فقد يرجّح قوله أو قول أحدهما. ولذا ليس غريباً أن يصفه في بعض المواضع بالعظمة. ونذكر منها:
- ما ورد في يونس بن ظبيان: بعد أن ذكر تضعيف الكشيِّ والنجاشيّ وابن الغضائريّ قال: "فأنا لا أعتمد على روايته لقول هؤلاء المشايخ العظماء بضعفه"([8]).
- ما ورد في حسن بن حذيفة: بعد أن نقل تضعيف ابن الغضائريّ قال: "والأقوى عندي ردّ قوله، لطعن هذا الشيخ فيه، مع أنّي لم أقف على مدح من غيره"([9]).
وقريب من هذا القول في إسماعيل بن عليّ([10]) وظفر بن حمدون البادرائيِّ([11]). وغيرها كثير.
تقديم التَّعديل على الجرح
أمّا مسألة ترجيح العلامة لقول النجاشيّ والشيخ على تضعيفات ابن الغضائريّ فقد ورد في مثل:
- محمّد بن إسماعيل البرمكيِّ، فقال: "اختلف علماؤنا في شأنه، فقال النجاشيّ: إنّه ثقة مستقيم، وقال ابن الغضائريّ: إنّه ضعيف. وقول النجاشيّ عندي أرجح"([12]).
- وفي حمّاد بن عيسى قال العلامة: "والأرجح عندي قبول روايته وإن حصل بعض الشكِّ بالطعن فيه" ([13])... إشارة منه إلى طعن ابن الغضائريّ.
وذكر المجلسيُّ الأوَّل عبارة العلامة في حقِّ محمَّد بن إسماعيل البرمكيِّ وعقّب عليها بقوله: "وكأنّه لعدم توثيق ابن الغضائريّ" ([14])، مشيراً بهذا القول إلى أنَّ الوجه عند العلامة هو ضعف ابن الغضائريّ، وقد بان تعظيم العلامة لابن الغضائريّ فكيف يُحتمل حكمُ العلامة نفسِه بتضعيفه!
وبعد عبارة العلامة في شأن حمَّاد بن عيسى قال المجلسيُّ الأوَّل: "بل لا يحصل الشكُّ؛ لأنَّ أصوله معتمد الأصحاب بشهادة الصدوق والمفيد"([15]). ولسان حاله يقول بأنّ من كانت كتبه كذلك فهو أعظم من أن يشكّ فيه وفي روايته فلا ينبغي الطعن فيه. وإن طُعن فينبغي أن لا يؤخذ بذلك الطعن.
ولا يخفى ما للمجلسيِّ الأوَّل من موقف حازم تجاه ابن الغضائريّ فتعقُّبه له في موارد كثيرة ليس غريباً؛ فهو يصفه بأنّه مجهول حالُه وشخصُه في حديثه عن جابر بن يزيد الجعفيّ:
"ثقة جليل من أصحاب أسرار الأئمة وخواصّهم، والعامّة تضعّفه لهذا، كما يظهر من مقدّمة صحيح مسلم وتبعهم الخاصّة؛ لأنَّ أحاديثه تدلّ على جلالة الأئمة(صلوات الله عليهم)، ولمَّا لم يمكنه القدح فيه لجلالته قُدِح في روايته. وإذا تأمّلت أحاديثه يظهر لك أنّ القدح ليس فيهم، بل فيما قدحه باعتبار عدم معرفة الأئمة(صلوات الله عليهم) كما ينبغي، والذي يظهر لنا من التَّتبع التَّام أنَّ أكثر المجروحين سبب جرحهم علوّ حالهم.. ولذا ترى ثقة الإسلام، وعلي بن إبراهيم، وسعد بن عبدالله، وأضرابهم ينقلون أخبارهم ويعتمدون عليهم، وابن الغضائريّ المجهول حاله وشخصه يجرحهم، والمتأخِّرون(رحمهم الله تعالى) يعتمدون على قوله، وبسببه يضعف أكثرُ أخبار الأئمة(صلوات الله عليه)"([16]).
وكذا في ترجمة إبراهيم بن عمر: "ووثَّقه الثقتان، والجارح مجهول الحال"([17])، إشارةً منه إلى ابن الغضائريّ.
وكذا في ترجمة جعفر بن محمَّد بن مالك بعد أن أشار إلى جلالته قال: "والعجب من النجاشيّ أنَّه مع معرفته هؤلاء الأجلاء وروايتهم عنه كيف سمع قول جاهل مجهول فيه، والظاهر أنّ الجميع نشأ من قول ابن الغضائريّ"([18]).
فتحصَّل -بناء على ما تقدّم- أنَّ العلامة يعتمد على رأي ابن الغضائريّ، بل إنّ ابن الغضائريّ ليس مجهولاً حاله وشخصه، بل هو جليل القدر والشأن، والمجلسيُّ الأوَّل لا يراه ذلك.
اعتبار تضعيفات ابن الغضائريّ عند غير العلامة
واتضح أنَّ المجلسيُّ الأوَّل لا يعتدُّ بتضعيفات ابن الغضائريّ، بل يقف منها موقفاً سلبياً.
أمَّا بلحاظ كلمات العلماء فإنّا نجد استنكاراً على كثرة التضعيفات من ابن الغضائريّ إمَّا لعدم ثبوت وثاقته عندهم، وإمَّا لاعتماده منهجاً غير مرضيٍّ عند أهل الجرح مع الحفاظ على وثاقته وجلالته، وإمَّا لكون تضعيفاته حدسيّة.
وفي ختام هذا العنوان تجدر الإشارة إلى أنَّ الرّواة الذين ضعّفهم ابن الغضائريّ لا يزيد عددهم عن مائة وستين، وعدد من تفرّد بتضعيفهم من هذا العدد هم عشرة رواة فقط! أمَّا الباقين فإمّا أنّه يشترك معه النجاشيّ والشيخ في تضعيفهم أو أحدهما أو ممَّن لم يترجم لهم أصلاً([19])، ولذا لا ينبغي التهويل من تضعيف ابن الغضائريّ.
المسألة الثَّانية: نقل الرِّواية بالمعنى
لا ريب في أنَّ بعض نصوص المعصومينi قد نقلت إلينا بالنصّ كما صدرت عنهم، كنصوص الأدعية والزيارات وكتوحيد المفضّل الذي كان بإملاءٍ من الإمام الصادقg، وحديث الغدير، والسلسلة الذهبيّة.
ولا ريب في كون النّقل مع المحافظة على عين الألفاظ الصادرة من المعصومg أفضل وأرجح، كما ورد في الخبر عن النبيe: «نَصَرَ اَللَّهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ، يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ، لِيُبَلِّغِ اَلشَّاهِدُ اَلْغَائِبَ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، ورُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»([20]).
كما لا ريب في أنّ الرّوايات بعد التصنيف للكتب الرّوائية من الأصول الأربعمائة وغيرها من الأصول لا يمكن أن تغيّر بكلمات أخرى غير ما تمّ إثباته؛ فما نقل من روايات الأصول الأربعمائة قد نقلت بالألفاظ، وإن وقع اختلاف فمن النسّاخ يَستكشف ذلك أهل التتبع([21]).
فما في الكافي من روايات هي عين ألفاظ الرّوايات الموجودة في الكتب التي نقل الكليني S منها، وهكذا الحال مع باقي المجاميع الرّوائية التي تنقل من الكتب السابقة، فما ثبت في الكتب من روايات لا يمكن تغيير كلماتها لإمكان استكشافه عند مقارنة النسخ لاشتهار المصنّفات في ذلك الزّمان شهرة عظيمة، وكان الناقلون يكتبون عند السماع ممن يروي عن تلك المصنّفات، وإن لم يكتب مباشرة كتب عند أوَّل فرصة يتمكّن من الكتابة، ولو غلط في الكتابة يكون قد جنى على كتابه إن لم يكن قد جنى على نفسه كما يذكر ذلك المجلسيُّ الأوَّل في معرض حديثه عن فكرة النّقل بالمعنى وإمكان تعرّض المرويّات فيها إلى الغلط أو الترديد: "ولا يحصل ذلك الاختلاف من الناقلين عنهم؛ لأنَّ دأبهم كان أن يكتبوا حين السماع أو بعد الرجوع إلى منازلهم في كتبهم، ويمكن السهو والعمد في الغلط، بخلاف الناقلين فإنّ أكثر الكتب كان عند أكثرهم، فلو اطّلعوا على غلط لم يعتمدوا على الكتاب الذي وجد فيها وكانوا يسمّونه كذّاباً [وفي المخطوط كذباً]" ([22]).
ولا ريبَ في أرجحيّة النّقل باللفظ على النّقل بالمعنى حذراً من التَّوهم بالمرادف، بل في النّقل باللفظ يُكشف عن العناية والورع والمزيّة عند الرّاوي؛ "فإنّ صفة الأورعيّة والأعدليّة تقتضي أن يكون الرّاوي دقيقاً في حفظ كلمات الحديث والتورّع عن التغيير والتبديل، ولو بكلمات مرادفة بنظره وعن النّقل بالمعنى، فتكون روايته أقرب إلى الواقع نوعاً"([23]).
مركز البحث ومحلّ الكلام
إنّما الكلام فيما قبل التصنيف؛ فهل الرّوايات التي نقلت كان نقلها بالمعنى، أم كان الرّواة يلتزمون بالنّقل باللفظ؟ مع لزوم الاستثناء في البحث للرّوايات المعلوم نقلُها باللفظ، وهي:
١. بعض الرّوايات المعلوم نقلها بالألفاظ كتوحيد المفضّل الذي كان بإملاء من الإمام الصادقg.
٢. بعض الرّوايات التي ثبتت بالتواتر اللفظي([24]) كحديث الغدير، ولا ضرر وأمثالها.
3. روايات نُقِلت بألفاظها صادرة جزماً عن غير المعصوم(ع) كمقولة: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، وإنّما الأعمال بالنيّات" ([25]).
معنى النّقل بالمعنى
وقبل كلّ ذلك لا بدَّ من بيان معنى النّقل بالمعنى، فنقول: إنّ المراد من النّقل بالمعنى هو: كلّ نقل لا يحافَظ فيه على ألفاظ القائل مع مراعاة المعنى ولو بألفاظ قريبة كالمترادفة.
وبما أنّ الحديث عن كلام المعصومg والناقلين هم الرّواة فنضيّق دائرة النّقل بالمعنى لتكون مختصّة بالنصوص الرّوائية.
وعلى هذا فحدود النّقل بالمعنى صادقة على النّقل المحافِظ على الألفاظ مع التغيير لبعض المفردات لمرادفاتها، كاستبدال كلمة (يعيد) بالنسبة إلى الصلاة بـ (يستأنف)، فكلّ من الكلمتين تعبّران عن معنى واحد عرفاً.
وكذا صادقة على النّقل الذي لا يُحافَظ فيه على غالب أو كلّ الألفاظ مع تعهّد الناقل برعاية المعنى.
تنبيه أوَّل: فرقٌ بين النّقل بالمعنى والتصحيف
يختلف النّقل بالمعنى عن التصحيف في أنّ النّقل بالمعنى حاصل قبل التدوين عادة، ويكون فيه النّاقل ملتفتاً إلى المعنى حال النّقل، بينما في التصحيف لا يلتفت إلى ذلك؛ لأنّه خطأ من الرّاوي حال نسخ الرّواية، فإذا اتضح أنّ "التصحيف خطأ الرّاوي أو الناسخ في رواية الحديث، بخلاف النّقل بالمعنى، فإنَّ الرّاوي [النّاقل بالمعنى] ليس في مقام نقل الحديث بحدوده اللفظية كي يخطأ في نقلها، وإنّما هو في مقام نقل معناه؛ سواء كان بألفاظه التي سمعها من الإمام، أم بغيرها، فهو ملتفت لما يقوله وليس خاطئاً كالمصحِّف" ([26])، ولذا:
- إذا كانت الرّواية قد رواها أكثر من راوٍ مع اختلافٍ يسيرٍ بينهما فهو نقل بالمعنى وليس تصحيفاً، بينما لو كان الرّاوي واحداً واختلفت بعض الألفاظ في أكثر من نسخة كان هذا تصحيفاً.
- وكذا لو كان مصدر الرّواية واحداً والرّواية واحدةً أيضاً فهنا ليس نقلاً بالمعنى، بخلاف ما لو كان مصدر الرّواية متعدّداً فهنا يكون النّقل بالمعنى.
تنبيه ثانٍ: الرّواية على قدَر الراوي
لا مانع من أن يكون الرّاوي قادراً على درك المعاني التي يذكرها الإمامg وفهمها. كيف لا، وهم يقولون: «أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ اَلنَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ»([27])! فبحسب وعاء الشخص يُعطى الكلام ويتغاير كلام الإمام من راوٍ إلى آخر، كما في جواب الإمام الرضاg على سؤال رجل قد جاء إليه فقال: >هل يقدر ربك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ قالg: >نعم، وفي أصغر من البيضة، قد جعلها في عينك وهي أقل من البيضة؛ لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو شاء لأعماك عنها» ([28])، والآخر سأل أمير المؤمنينg السّؤال نفسه ولكنَّ الإمامg قد أجابه بإجابة أدقّ: >.. إِنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى لاَ يُنْسَبُ إِلَى اَلْعَجْزِ واَلَّذِي سَأَلْتَنِى لاَ يَكُونُ»([29])، فوعاء الأوَّل يختلف عن وعاء الثاني -كما لا يخفى من جواب الإمامg- كما أنّ المعلوم الأوَّل لا كلام في إمكان نقله بالمعنى حتى من ذلك الرّاوي؛ لوضوحه، ولعدم الخصوصيّة في الألفاظ، بخلاف الجواب الثاني فمعانيه دقيقة، وكذا ألفاظه، فلو أراد الرّواي النّقل بغير الألفاظ يلزمه المداقّة في اختيار الألفاظ البديلة، وعلى الفرض هو قادر على ذلك لوجود اللياقة العقلية عنده للتلقي والإبلاغ.. فليس الأمر معسوراً وتكليفاً بما لا يطاق كما قيل([30]).
شروط النَّقل بالمعنى
ولما كان النَّقل بالمعنى من الأمور التي قد تبانى عليها العقلاء في أحاديثهم، وإلا لما نَقل أحدٌ كلام أحد، فإنّهم يقبلون النّقل بالمعنى في غالب نقل الكلام، فعادةً ما يتحدَّث المتحدِّث بالكلام الذي سمعه فينقله مع رعاية المعنى من دون اهتمام بالألفاظ حتى لو كان الأمر خطيراً، اعتماداً على فطنة المتحدّث الناقل ومع عدمه لا يمكن قبوله ولا سماع نقله.
ومن هنا يمكن استعراض بعض الشروط اللازم تحقُّقها هنا في الناقل:
الشَّرط الأوَّل: المعرفة بأساليب الكلام
أن يكون عارفاً بأساليب الكلام([31]) ومعانيها، فمن لم يكن عارفاً بها -كمن لا يفهم أساليب اللغة العربية مثلاً- فإنَّه لا يصغى إلى نقله بالمعنى لعدم الاطمئنان من إدراكه للمعنى، وعلى فرض إدراكه للمعنى بمقدار معيَّن فلا يُطمئن أيضاً من قدرته على التعبير الدقيق عن المعنى الذي سمعه.
فمن كان عارفاً بأساليب الكلام وقد خاطبه الإمامg بهذه المعاني وحدّثه بها فإنّه لا بدَّ من أن يحدِّث بها بمستواها من الدّقة -كما أشرنا في التنبيه الثاني قريباً-،ـ فإذا كان الكلام سهلاً في ألفاظه ومعانيه سَهُل النّقلُ بعبارات سهلة تتناسب معه، وكذا لو كان الكلام دقيقاً في ألفاظه ومعانيه فلا بدَّ من أن يكون النّقل دقيقاً، ويبرز هذا في الرّوايات العقَدية ذات المعاني الدقيقة لا الرّوايات الفقهية والأخلاقية؛ فهي وإن دقّت معانيها إلا أنّه يمكن التعبير عنها ونقلها بالمعنى بصورة أيسر من الرّوايات العقَدية.
الشَّرط الثَّاني: النّقل بلا زيادة ولا نقصان
أن يكون النّقل بلا زيادة ولا نقصان، كما في الخبر عن أبي بصير: قلت لأبي عبد اللهg قول الله جلّ ثنائه: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}؟ قال: >هُوَ اَلرَّجُلُ يَسْمَعُ اَلْحَدِيثَ فَيُحَدِّثُ بِهِ كَمَا سَمِعَهُ لاَ يَزِيدُ فِيهِ ولاَ يَنْقُصُ مِنْهُ»([32]). فإذا حدّث الرجل الرّواية من دون أن يزيد أو ينقص في الألفاظ فضلاً عن المعاني فالحديث صادق عليه، وكذا هو صادق على من ينقل المعنى بتمامه من دون زيادة لمعانيه ولا نقصان فيها، كما لو حدّث أحدهم بقوله: إنّ النبي e قال: إنّ الإسلام لا يوجد فيه أي ضرر، ولا يقبل الإضرار مطلقاً. فهذا رواية لنفس مضامين حديث النبي eالمشهور: >لا ضرر ولا ضرار».
وليس ينبغي أن يُتصوّر بأنّ مسألة النّقل بالمعنى مآلها إلى النّقل العشوائيِّ كيف ما اتفق، كلا! فمن كان نقله لا يتوافق مع ما يذكره الإمامg فإنّه يصرَّح بذلك، ويُفتضح حتى من الإمامg، وتترك روايته، كما في أبي الخطاب W فقال عنه الإمام الصادقg: >كَانَ أَبُو اَلْخَطَّابِ أَحْمَقَ فَكُنْتُ أُحَدِّثُهُ فَكَانَ لاَ يَحْفَظُ، وكَانَ يَزِيدُ مِنْ عِنْدِهِ»([33]). ونحن نجزم بأنّ الرّواية بالمعنى كانت حاصلة وليس يكون الإنكار إلا على أمثال أبي الخطاب من الضعاف والمدلّسين لعدم محافظتهم على المعنى الدقيق.
أمّا غيرهم ممَّن لا يُنكَر عليهم فهم يحافظون على الألفاظ، بل يطرُقون أبواب المعصوم لأخذ شرعيَّةِ فِعلهم، كما في خبر محمَّد بن مسلم قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَللَّهِg أَسْمَعُ اَلْحَدِيثَ مِنْكَ فَأَزِيدُ وأَنْقُصُ، قَالَ: >إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَعَانِيَهُ فَلاَ بَأْسَ»([34])، وكما في خبر داود بن فرقد يقول: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَللَّهِ g: إِنِّي أَسْمَعُ اَلْكَلاَمَ مِنْكَ فَأُرِيدُ أَنْ أَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعْتُهُ مِنْكَ فَلَا يَجِيءُ، قَالَ: >فَتَتَعَمَّدُ ذَلِكَ؟<، قُلْتُ: لاَ، فَقَالَ: >تُرِيدُ اَلْمَعَانِيَ؟<، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: >فَلاَ بَأْسَ»([35])، ولذا فإنّ "الرّواي إذا سمع الرّواية من النبي (ص) وأدّاها بالمعنى بتمامه، فإنّه يوصف بأنّه قد أدّى ما سمع كما سمع من دون زيادة ولا نقصان، وإن اختلف اللفظ. ولذا فإنّ الشاهد لو أدّى الشهادة فإنّه يصدق عليه أنّه أدى الشهادة كما شاهدها مع أنّه لا توجد هناك ألفاظ، وهكذا الكلام بالنسبة للمترجم الذي ينقل الألفاظ بالمعنى مع كون الترجمة مساوية للأصل، فلا مانع منه، فلا يجوز الاقتصار على أحد أمرين إذا كان الأصل فيه أمران، كما لو كان كلام المعصومg مشتملاً على حكم تكليفيٍّ وحكم وضعيٍّ فلا بدَّ من ذكرهما معاً ولا يجوز الاقتصار على أحدهما فقط، كما أنّ الترجمة والنقل بالمعنى لا بد أن تكون بلا زيادة ولا نقصان"([36]).
الشَّرط الثَّالث: لا بدَّ أن يكون نقلاً لكلام المعصومg وليس إفتاء
العلم بكون النّقل هو نقل كلام المعصومg، وليس بيان الرأي الاجتهادي من الرّاوي، يقول الشيخ الأنصاري: "أما المنقولة معنى فهي وإن كانت مفاد اللفظ الصادر عن الإمامgلكنّه بشرط العلم أو الظن المعتبر بمساواة الألفاظ في الأصل والمنقول في الإفادة، ولا يجوز التعويل في النّقل على أمر قد اعتقده اجتهاداً"([37]).
وقد يتّفق تأثّر النّقل بسبب الفهم الناقص لكلام الإمامgوهو مشخّص عادة كما في بعض أخبار عمار بن موسى الساباطيِّ الفطحيِّ، فهو كان ينقل بالمعنى ويجتهد فيه، ولذا تُقدّم رواية غيره من الفطحيّة عليه، ولذا يقول المجلسيُّ الأوَّل حول عمار: "فطحيٌّ ثقة، وكذلك أحمد بن الحسن، وعمرو بن سعيد، ومصدق بن صدقة، ثقات فطحيّون، والذي يظهر من أخبار عمّار أنّه كان ينقل بالمعنى مجتهداً في معناه، بخلاف الحسن بن عليٍّ، بل عليّ بن الحسن وإن كان فطحياً لكنّه يحتاط في النّقل باللفظ، بل الثلاثة الذين ينقلون نقلهم عنه صحيح، وكلّما وقع في خبره فمن فهمه الناقص، بخلاف غيره فإنّهم ينقلون مما نقله في كتابه، وفي هذا النوع لا يمكن الكذب عادة، فإنّ الكتاب كان موجوداً عندهم وكانوا يلاحظونه، وإنّما كان يقع منهم ترتيب كتب القدماء. ولهذا كانوا يعتمدون على كتب الحسين بن سعيد وعليّ بن مهزيار، وحماد، وصفوان، وعلي بن الحسن غاية الاعتماد فيما ينقلونه في كتبهم، عن زرارة ومحمد بن مسلم وبريد وأمثالهم"([38]).
فتحصَّل:
إذا ما تحقَّقت هذه الشروط فإنّه بلحاظ الرّواة الناقلين للروايات وأحوالهم، من الوثاقة، والورع، واعتماد الأصحاب على رواياتهم، والمحاكمة لهم من قبل الأصحاب والأئمة أيضاً وما إلى ذلك من اللحاظات الدقيقة المعمول بها قبل العمل بالرواية.. نخلص إلى أنّ الرّوايات المنقولة بالمعنى هي روايات واردة على وفق الشروط؛ فهي صادرة عن المعصوم بأقسامها الثلاثة: سواء المنقولة بألفاظها، أو بغالب ألفاظها، أو أنَّ معناها صادر مع كون المعنى في الجميع ليس فيه زيادة ولا نقصان.
ومن هذه الرّوايات من الأقسام الثلاثة كلّها تشكّلت الأصول الأربعمائة وغيرها من الأصول، التي نقل المشايخ الثلاثة منها وتشكّلت منها كتبهم الأربعة. يقول المجلسيُّ الأوَّل: "فإنّ الظاهر أنّ الشيخين نقلا جميع ما في الكتابين من الأصول الأربعمائة التي كان اعتماد الطائفة المحقّة عليها، كما ذكر الصدوق صريحاً، ويفهم من كلام ثقة الإسلام أيضاً"([39]). وقال أيضاً: "العمدة عندي أنّه يظهر من التتبّع التامّ أنّ الكليني يروي عن الكتب، كالصدوق والشيخ، بل هو أقوى؛ لتقدّمه ووجود الأصول عنده.. فإنّه ينقل عن كتاب حمّاد بن عيسى، أو كتاب صفوان بن يحيى، أو كتاب محمّد بن أبي عمير، ولذلك تراه بعدما ينقل السند أولاً يقول: حمّاد أو صفوان أو ابن أبي عمير وينقل عنهم"([40]).
وعلى هذا، فلا ثمرة من البحث عن كون النّقل بالمعنى جائزاً أم لا، بعد وقوعه من الرّواة، وإمضائه من المعصومينi وعمل الأصحاب بما وصل عن طريقه، بل ادعي الإجماع على جوازه كما في مصابيح الظلام قوله: "لأنّ الشيعة مجمعون على جواز النّقل بالمعنى في الرّواية"([41])، وفي مطارح الأنظار: "لعلَّ النّقل بالمعنى ممَّا لم يقل بالمنع منه أحد من أصحابنا فإنّ المخالف في هذه المسألة أبو بكر الرّازي وأتباعه"([42])، اللهم إلا أن يكون بحث الجواز من عدمه هو لما بعد التصنيف.
ومن خلال ما اتضح فإنّه لا مانع من النّقل بالمعنى مع الشروط لا سيّما في المحاورات وغيرها، ولكن لا ينبغي النّقل بالمعنى في الكتب بل ينبغي مراعاة نصوص الرّوايات كما وردت.
المسألة الثَّالثة: الوصف بالضعف للرّواية والرّاوي
لمّا كانت الرّوايات عموماً في كتب المسلمين ممّا تروى عن النبيe أو واحد من المعصومين g أو واحد من الصحابة، فإنَّ نقلها عبر هذا الزّمان يكون على أنحاء، منها:
1. التناقل الشفهي: من راوٍ إلى راوٍ آخر ومنه تتشكّل السلسلة السنديَّة التي تتصل بالمعصومg. ويرجّحون النّقل باللفظ الذي صدر من الإمامg، فإن كان ثمّت مانع من النّقل اللفظي ولو لنسيان الألفاظ نقلوا بالمعنى الدقيق الذي يحافظ فيه على جودة المعنى وكانوا يصحِّحون أيَّ نقص من أحدهم، ومن يخطئ في النّقل أو يتساهل فيه وصفوه بالضعف في الرّواية.
2. التناقل المكتوب: بحيث يجمع الرّاوي الرّوايات عن المعصومgفي كتاب ومن ثمَّ ينقل هذا الكتاب إلى تلميذه -مثلاً- فيروي الآخر نفس الكتاب، وعادة ما ينسخ هذا الكتاب ويعرضه الطالب على شيخه للاطمئنان من دقَّة النقل، وكان عندهم حرص شديد جداً على إعمال الدقَّة في النسخ والرواية بحيث يحاذرون محاذرة شديدة أن لا يختلف المنسوخ عن المنسوخ منه ولو بحرف واحد فلا يغايرون حتى بين الفاء والواو، ومن يتساهل في ذلك -ولو لتساهله أو أنّه يغاير لظنّه بعدم الفرق في المعنى- يصفونه بأنّه ضعيف في روايته، ذلك لورعهم وشدّة مداقّتهم في ذلك.
3. الإملاء: بأن يجلس الأستاذ (الرّاوي الأوَّل) في مجلس ويروي ما عنده من روايات على طلابه فيملي عليهم ويدوّنون ما يمليه عليهم فينقلونه عنه. ومنه تشكّلت عدد من الكتب الرّوائيَّة المعروفة بالأمالي كأمالي الطوسيّ، وأمالي الصدوق وأمثالها.
الضَّعف لا يعني الكذب:
أ. وصف الرّواية بالضعف
تارةً توصف الرّواية بالضَّعف وتارةً بالاعتبار، وفرق كبير بين وصف الرّواية بأنّها غير معتبرة، أو ضعيفة، وبين القول بأنّ الرّواية خطأ أو مكذوبة وباطلة؛ وذلك لأنّ الرّوايات لها تصنيف رباعيٌّ (صحيح وحسن وموثّق وضعيف)، والأصناف الثلاثة الأوَّلى هي أحاديث يمكن اعتمادها والاستدلال بها.. وأمَّا الضعيف فلا يراد منه أنّه مكذوب وباطل، كلا وألف كلا! بل المراد منه أنّه لم تتحقَّق فيه الشروط ليكون في أحد الأصناف الثلاثة الأوَّلى، ولذا يخضع الحديث الضعيف إلى دراسة أخرى -غير البحث السندي- ليرى الفقيه هل يمكن اعتماده أو الاستفادة منه في مجالات أخرى غير استنباط الحكم الشرعي أو أنَّه يبقى في قسم الضعيف، ومن هنا يقول المجلسيُّ الأوَّل: "وربّما يوصف [الخبر] بالضعف ومرادهم به أنّه ليس في مرتبة الصحاح المعمول عليها، فلا تغفل فإنّ ذلك يقع في كثير من إطلاقاتهم، وهذا مرادهم"([43]).
ب. وصف الرَّاوي بالضَّعف
وتارةً أخرى يوصف الرّاوي بالضعف، وهنا يمكن القول بما تقدَّم بأنَّ الضعيف لا يعني كونه كذّاباً، فإنَّ هناك من يوصفون بالوثاقة من الرّواة ويوصفون أيضاً بالضعف في ذات الوقت؛ ذلك لأنَّ معنى الضعف يحمل معنى لا يتعارض مع الوثاقة، وهو ما إذا كان يروي عن الضعيف، أو يُرسل الأخبار، أو أنّ روايته أضعف من رواية الثقة في الاعتبار عند النسبة إليها، ولذا يقول المجلسيُّ الأوَّل: "الحكم بالضعف ليس بجرح فإنّ العادل الذي لا يكون ضابطاً يقال له: إنّه ضعيف، أي: ليس قوّة حديثه كقوّة الثقة، بل تراهم يطلقون الضعيف على من يروي عن الضعفاء ويرسل الأخبار، مع أنَّ رئيس المحدّثين وثقة الإسلام وشيخ الطائفة دأبهم ذلك"([44]).
وفعلهم مبرّر مقبول، فهم يرْوُون عن الضعيف لأنّهم كثيراً ما يطمئنون من صدور الخبر إلا أنّه يعوزهم الطريق إليه ولا يوجد طريق عندهم إلا الطريق الذي فيه الضعيف، فيرْوُون عنه فتعاب عليهم الرّواية عن الضعاف، فيكون سبباً للتهمة فيقال: فلان يروي عن الضعفاء، والحال أنّ غرضهم كان هو إخراج الرّواية من المراسيل إلى المسانيد، ولو كان في السند ضعف فهو أحسن من الإرسال.
المسألة الرَّابعة: المراسيل أقوى من المسانيد
أطلق الشيخ الطوسيّ في كتابه العدَّة عبارة مفادها أنّا علمنا أنّ الرّواة كأمثال صفوان وابن أبي عمير والبزنطي لا يروُون ولا يرسلون إلا عن ثقَّة([45])، وترتّب على هذه الكلمة من الشيخ أنّ الأصحاب صاروا يتعاملون مع الرّوايات المرسلة من هؤلاء كالتعامل مع الأسانيد من حيث الاعتبار، وأكّد المجلسيُّ الأوَّل هذه الدعوى من الشيخ بل طبّقها في روضة المتّقين في مواطن كثيرة جداً، وصاحب الحدائق يشاطره في هذا الرأي أيضاً([46]) وغيرهما من المتأخرين، بل المتقدّمين كالشيخ نفسه في العدَّة.
ولا شكّ في أنَّ محض كون الخبر "المرسل لا يُستبعد صدوره من الإمام"([47]) غير كافٍ في اعتبار المراسيل، ناهيك عن مرجوحيّة الإرسال مع إمكان الإسناد، وعملهم كان على هذا، حيث كانوا يسندون عن الضعيف، وهو أحسن عندهم من أن تكون الرّواية في خانة المراسيل، مضافاً إلى وجود روايات تدلّ على ذلك، يقول المجلسيُّ الأوَّل:
"والذي يدلُّ على مرجوحيّة الإرسال ما رواه مرفوعاً قال: قال أبو عبد الله g: >إيّاكم والكذب المفترع<، قيل له: وما الكذب المفترع؟ قال: >أن يحدِّثك الرجل بالحديث فتتركه وترويه عن الذي حدَّثك عنه<. وبإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله g، قال: >قال أمير المؤمنين g: إذا حدّثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدّثكم به، فإن كان حقّاً فلكم، وإن كان كذباً فعلَيه"([48]).
مع ذلك نرى المجلسيُّ الأوَّل قد جعل الاعتبار إلى المراسيل من الثقاتِ، بل جعلها أقوى من الإرسال، فقال: "ظهر لك أنّ مراسيلهم أقوى من المسانيد وإنّما أرسلوا ليكون فقهاً يعمل به"([49])، وحجّته في ذلك أنَّ دأب الأجلاء من الأصحاب أنّهم لا ينقلون الخبر إلا من الثقات.
وقد ذَكر هذا في أكثر من موضع، منها، ما في طهارة طين المطر عند حديثه عن محمد بن إسماعيل: "وهو من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم، ورُوي في شأنه أخبار تدلّ على جلالة قدره وعلوّ منزلته، فلا يضر الإرسال؛ لأنّ الأجلاء من أصحاب الأئمة كان دأبهم أن لا ينقلوا الخبر إلا من الثقات خصوصاً هذا الجليل فإنّ أكثر روايته من الرضا gومن الفضلاء من أصحاب الصادق g، وأكثر رواية الفضل بن شاذان وأضرابه من الأجلاء منه"([50]).
وكذا في كتاب الصلاة في كراهتها حذاء النار والسراج: "الانقطاع، أي: الإرسال، والظاهر من أحوالهم أنّهم كانوا لا يرسلون إلا عن الثقات"([51])، وفي باب الرجل يموت وعليه دين: "روى ابن أبي نصر البزنطي في الصحيح كالشيخين، ولا يضرُّ الإرسال؛ لأنّ مراسيله في حكم المسانيد كما ذكره الشهيد وغيره"([52]). وغيرها من المواضع التي تناهز العشرة.
موقف السيد الخوئيS من المراسيل
وكان للسيد الخوئي S في موسوعته المباركة موقفٌ قاطعٌ بالنسبة إلى هذا الرأي، فكان يرفضه من رأس وقد صرّح بذلك في عدّة مواضع، فقال: "وأوّل من ادّعى ذلك فيما نعلم من هو الشيخ الطوسيّ في كتاب العدّة، حيث ذكر جماعة كصفوان وابن أبي عمير والبزنطي وقال: إنّا علمنا أنّهم لا يروون ولا يرسلون إلَّا عن ثقة([53])، ولأجله سوّى الأصحاب بين مراسيلهم ومسانيدهم". ثمَّ ردَّ السيد الخوئي على الشيخ في نفس الصفحة بقوله: "ولكنّه لم يتمّ ولم تثبت هذه الدعوى، إذ لم ينسبها إلى أحد، وإنّما هي اجتهاد من الشيخ نفسه، حيث يقول: علمنا من حالهم هكذا، فهو استنباط منه. وقد ذكرنا في المعجم ( المعجم 23 : 210 / 15151) أنّ الشيخ بنفسه لم يلتزم بذلك، حيث روى في التهذيب رواية عن ابن أبي عمير ثمّ قال: أوّل ما فيها أنّها مرسلة، ونحن بعد التتبّع عثرنا على روايات لابن أبي عمير يروي عن جمعٍ من الضعفاء، وهكذا صفوان والبزنطي، بل قد روَوْا عمّن لا شكّ في ضعفه بتضعيف الشيخ والنجاشيّ"([54]). وقال في موضع آخر: "وأمّا حجية مراسيلهم فغير ثابتة عندنا، فإنّهم يروون عن الضعفاء أيضاً، حتّى أنّ الشيخ لم يعمل بروايات ابن أبي عمير وصرح بأنّها مرسلة"([55]).
وما أفاده السيد الخوئي S يرجع إلى دعاوى:
الدّعوى الأوَّلى: أنّ الشيخ استنبط واجتهد فيما ذكر من كونهم لا يروُون ولا يرسلون إلا عن ثقة مستدلاً على ذلك بعبارة الشيخ نفسه حيث قال "عَلِمنا". ويؤكّد هذا أنّه لم ينسب ما علم به إلى أحد من القدماء، فلو كان هذا ثابتاً عند القدماء ومعروفاً بينهم لكان معروفاً ولنُقلت أقوالهم. فالدعوى من الشيخ غير ثابتة.
الدّعوى الثانية: أنّ الشيخ نفسه لم يلتزم بدعواه التي ادّعاها في العدة، فخالفها في التهذيب، ورمى رواية ابن أبي عمير بالإرسال مشعراً بتضعيفها.
الدّعوى الثالثة: أنّ من يُدّعى في حقّهم أنّهم لا يروُون ولا يرسلون إلا عن ثقة، قد ثبتت روايتهم عن من لا شكّ في ضعفهم بتضعيف الشيخ والنجاشيّ.
المناقشة للدعاوي الثلاث
مناقشة الدعوى الأوَّلى:
ما ذكره الشيخ ميرزا غلام عرفانيان اليزدي([56]) حيث أفاد -بعد أن نقل نصّ كلام الشيخ من العدة-: أنّ كلام الشيخ ينحلّ إلى شهادتين أُولاهما: أنّ الشيخ يشهد بقيام إجماع من الطائفة وهو أحد المجمعين، وثانيهما: شهادة هذا الإجماع على هؤلاء الثلاثة بأنّهم لا يروُون ولا يرسلون إلا عن ثقة.
أمَّا الشهادة الأوَّلى منه: فهي بمثابة حكاية الإجماع الذي يكون على أقل تقدير مفيداً لوجود عدد كبير من الطائفة ممَّن يقول بهذا القول.. وبما أنّ الشيخ مطلّع على الواقع الرّجالي والفتاوى والآراء العلمية للأصحاب اطّلاعاً حسّياً لتيسّره بالنسبة إليه فيُحمل نقله على الإجماع الحسّيّ المثبت لهذه المسألة الرّجالية كما يحمل على نقله الإجماع المثبت لأيّ مسألة فقهيّة.
ولا توجد حزازة في أن يكون اطّلاع الشيخ حسّيّاً بعد أن كانت مسألة القدح والذمّ والتوثيق والتفسيق أمراً شائعاً مشهوراً بين الأصحاب يتناقلونه فيما بينهم ويدوّنونه ويتحاكمون إليه، فيذمّون المذموم ويمدحون الممدوح، ويفرّقون بين من يُعتمد حديثه ومن لا يعتمد، ولا يقبلون قولاً لا سيّما الفتاوى بلا دليل، فإذا ما ذكر الدليل إليهم من روايةِ ثقة أو كتاب معروف أو أصل مشهور سكتوا وقبلوا قوله.
وقد تتبّع الشيخ عرفانيان فهرست الشيخ ليقف على اطّلاع الشيخ على كلمات الأصحاب وإحاطته بالفهارس ومصنّفات أصحاب الرجال ممَّا يعني كونه متعرّضاً للمصادر الحسّية، وذكر تسعة من الموارد التي تدلّ على ما ذكره وأحال على غيرها، ممَّا يشهد على اطّلاعه على كتب الرجال الواصلة إليه من أصحابها، كما يؤكِّد أنَّ الجوَّ العام العلمي والتصنيفي الذي عاشه الشيخ الطوسيّ لا يُستبعد معه إطلاقاً أن يكون إخباره باتفاق عدد كبير من الأصحاب على هذه المسألة الرجالية إخباراً حسّياً فيكون حجَّة.
أمّا الشهادة الثانية منه: بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة، فهي مستندة إلى قرينة إجماليّة عامَّة على وثاقة المشايخ الثلاثة -البزنطي وصفوان، وابن أبي عمير-، ولا يقصد الشيخS أنَّ هذه الشهادة عامَّةً لجميع الرّواة الذين يرسلون، بل هي مختصّة بهؤلاء الثلاثة الذين عرفوا بين الأصحاب بذلك، فهو يشهد على أساسٍ حسّي، فلا ينبغي حمل كلامهSعلى الحدس والاجتهاد.
مناقشة الدعوى الثانية:
من أنَّ الشيخ نفسه لم يلتزم بدعواه التي ادّعاها في العدَّة، فخالفها في التهذيب، ورمى رواية ابن أبي عمير بالإرسال مشعراً بتضعيفها، فقد أفادها السيد كاظم الحائري-سلّمه الله- بقوله: "ليس معارضاً لكلامه الذي جاء في العدَّة من أنّهم لا يروُون، ولا يرسلون إلا عن ثقة؛ وذلك لأنَّ من المحتمل أن يكون مقصوده بما في كتابيه أنّه لدى المعارضة يقدم المسند على المرسل، لا عدم حجية المرسل في ذاته، وهذا اجتهاد منه في مقام علاج التعارض"([57]). مضافاً إلى احتمال تغاير زمان التأليف للكتب، فإذا كان زمان تأليف التهذيب سابقاً على العدَّة فمن المحتمل تجدّد نظره في هذه المسألة فيصرّح بها في الكتاب المتأخر(العدة).
مناقشة الدعوى الثالثة:
من ثبوت روايتهم عن من لا شكّ في ضعفهم، ودعوى أنّ المقصود بـ(لا يروون إلا عن ثقة) تعني أنّهم لا يروون إلا عن من يعتقدون وثاقته، مدفوعة بأنّ المقصود من كلام الشيخ هي الوثاقة في الواقع لا في نظر هؤلاء. فذكر السيد كاظم الحائريF توجيهاً لذلك أيضاً بما مفاده: لا نسلّم بما ذكره السيد الخوئي S، بل المقصود هو أنّهم لا يروون إلا عمَّن هو ثقة بنحو القضية الخارجية وأمَّا أنّهم لا يروون إلا عن الثقة في الواقع فهو غير معقول، فقال: "من الواضح أنّ الشهادة بأنّهم لا يروون إلا عمَّن هو ثقة في الواقع غير معقولة إلا بنحو القضية الخارجية، وعلى أساس الاستقراء التام، ومن البديهي أنَّ الاستقراء بلحاظ المراسيل على الأقل غير معقول. وبهذه النكتة يصبح ظاهر قوله: "لا يروون، ولا يرسلون إلا عن ثقة" هو الوثاقة بنظر هؤلاء لا الوثاقة في الواقع"([58]).
وأضاف بما مفاده: وعلى هذا فإذا أرسل أحد هؤلاء فإنّه تحصل لنا شهادة بوثاقة الرّاوي الذي لم يذكر في السند فإذا احتملت وجود تضعيف احتملنا وجود المعارض له. مضافاً إلى هذا، لكي ننقض على الشهادة بالوثاقة للرّاوي المحذوف لا بدَّ أن نقول بأنّهم قد ثبتت روايتهم عمَّن يعتقدون هم أنفسهم -الرّواة الثلاثة- بضعفهم، لا أن يعتقد غيرهم بهذا الضعف وإن كان من كبار علماء الرجال كالنجاشيّ. هذا لا يعني عدم احتمال صدور الخطأ في تلك الشهادات منهم، ولكن لو رووا عمَّن يعتقدون هم أنفسهم بضعفه فإنَّ الشهادة تسقط بهذا المقدار والتعميم لكلّ الموارد فيه تأمُّل.
وفيما إذا كانت الحالة هي حالة الإرسال وعدم ذكر الرّاوي، فإنّه لا يقال: بأنّ المورد من التمسك بهذه الشهادة [لا يروون إلا عن ثقة] في هذا المورد [حالة الحذف والإرسال] تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لاحتمال أن يكون المحذوف هو الضعيف، لأنَّا نقول: إنّ المورد من موارد تعارض الشهادات؛ شهادة ابن أبي عمير -مثلاً- وشهادة من صدر منه التضعيف [الذي هو غير ابن أبي عمير] فالمورد هو مورد الشكّ في المعارض لا الشكّ في المصداقية لتخصيص ثابت، مضافاً إلى "أنّ ندرة مشاهدتنا لرواية ابن أبي عمير -مثلاً- عمَّن وصلنا تضعيفه تجعلنا نطمئن في كلِّ رواية مرسلة له بأنّها ليست عن أولئك الذين وصلنا تضعيفهم، فمثلاً حينما لم نر في مشايخه من وصلنا تضعيفه إلا بمقدار واحد من المائة أو اثنين من المائة أصبح احتمال كون هذه الرّواية المرسلة مرويّة عن ذاك عبارة عن واحد أو اثنين من المائة، بل سيكون أقل من ذاك.
ولا بدَّ من التنبّه إلى أنَّ ترك ذكر اسم الوسيط ليس ناشئاً من عدم الوثوق به، بل عادة ما ينشأ من نسيانه [ويحتمل أنّه لا يصرّح به لضعفه ولكن لاطمئنانه بصدور الرّواية، فحتى لا تسقط عن الاعتبار يحذف الضعيف، فتصحّ الرّواية]، إذ لو كان ذاكراً لكان الأنسب ذكره -ما لم يكن ثمّت محذور- ليحكم السامع بضعفه من عدمه.
وعلى مبنى الوثوق يكون -هنا- "تميز الأصحاب لهؤلاء الرّواة الثلاثة في عملهم بمراسيلهم شاهد باطّلاعهم على خصوصيّة في رواياتهم تقتضي الاعتماد عليها من دون اهتمام بتحقيق حال رجالها، ومثل هذا كاف في الوثوق المعتبر في حجية الرّواية"([59]).
فتحصَّل ممَّا تقدَّم:
أنّ من يروي عنه أحد الثلاثة إن صُرّح باسمه، الأصل فيه الوثاقة لشهادتهم، ما لم يثبت تضعيفه، وأمَّا إذا لم يصرّح باسمه فكذلك يحمل على أنَّ الرّواية عن ثقة.
المسألة الخامسة: فساد العقيدة لا يضرُّ بالرّواية
عند النظر في أحوال الرّواة نجد أنَّ منهم من يكون حاله حسناً في بدء أمره ومن ثمَّ ينحرف عن جادّة الصواب لانحراف عقيدته، فيتحتّم اتخاذ موقف سلبي تجاهه وتجاه مروياته، ولكنَّ هذا الموقف بأيِّ إطارٍ يتأطَّر؟ وإلى أيّ حدٍّ يكون؟ ويتفرَّع على هذا سؤالان أساسيّان:
ما هو الموقف منه بعد انحرافه وفساد عقيدته؟
وما هو الموقف من رواياته التي رواها قبل الانحراف وبعده؟
وبالنظر في كلمات الأعلام نستكشف أنّ الأصحاب يتعاملون مع هؤلاء بكلّ حزم وبلا مداهنة، فإنَّ أمر الدين أكبر من أن يتهاون فيه، ولذا جاز القدح في المقالات الباطلة وإن أدّى ذلك إلى نقصٍ في قائلها([60]).
والرواة كانوا يحدّثون عن من كان معروفاً بالوثاقة وصدق الحديث لا سيَّما إذا كان صاحب عقيدة سليمة، ولكن بمجرّد أن يثبت انحرافه نجد الرّواة يتجنَّبونه والرّوايةَ عنه، ولهذا التجنّب أسباب نذكر منها:
* وجود روايات تذمُّ الرّواية عنهم وتدعو إلى اجتنابهم فقد تصفهم بالكلاب الممطورة أو غيرها من الأوصاف.
* إنّ من يروي عن فاسد العقيدة يعرّض نفسه للنقد من قبل الرّواة الآخرين، فيوصف بالتخليط والضعف وغيرها؛ لكونه لا يبالي في الأخذ بالرّواية عن هؤلاء المنحرفين، فيتجنّبونه كما يتجنّبونهم.
* إنّ من يروي عنهم يتعرّض إلى التهمة؛ لاحتماليّة أن يكون هو الآخر منحرفاً بانحراف من يروي عنهم وإلا لما روى عنهم.
وغيرها من الأسباب.
ولذا فإنَّ الرّوايات التي هي موجودة عن هؤلاء الرّواة أصحاب العقيدة الفاسدة لم يعتمد عليها الأصحاب إلا لكونها روايات قد صدرت في طور الاستقامة لا الانحراف، ومنها الرّوايات الموجودة في الكتب المؤلَّفة منهم قبل انحرافهم.
فمعنى أنّ فساد العقيدة لا يمنع من الرّواية، أنّ الرّاوي الذي ثبت انحرافه الآن لا يمنع من الأخذ بروايته التي رواها أو دوّنها حال استقامته؛ لأنّ تثبّته في الرّواية وضبطها كان ثابتاً له إذ لو لم ينحرف لكنّا أخذنا بتلك الرّواية بلا شك، ومن هنا يأتي القول المعروف عن الإمام العسكريg في بني فضّال: >خُذُوا بِمَا رَوَوْا وذَرُوا مَا رَأَوْا<([61])الدالُّ صراحةً على جواز العمل بما رواه بنو فضال، وكذا لما سُئل الحسين بن روح S عن كتاب الشلمغاني فأجاب بذات الإجابة بعد أن نظر في كتابه بأنّ: "ما فيه شيء إلا وقد روي عن الأئمة i إلا موضعين أو ثلاثة، فإنّه كذب عليهم في روايتها". ([62]) وهذا يعني أنّ الأمر جارٍ لكلّ راوٍ حدَّث ثمَّ ثبت انحرافه.
ولكنَّ هذه القاعدة ليست جارية بإطلاقها كي يدخل الأغيار، فلذا لا بد من اشتراط شروط ثلاثة فيها وهي:
الشّرط الأوَّل: أن يحتمل احتمالاً معتدّاً به أن يكون مأموناً على الدين، فيخرج الكافر الذي لا يؤمَن على الدّين لاحتمال أن يُدخل فيه ما ليس فيه، ويخرج الكذّابون الثابت كذبُهم أيضاً.
وهذه الشروط يمكن استظهارها من عبارة السيد الخوئي S في حديثه عن أحمد بن هلال العبرتائيِّ من قوله: "لا ينبغي الإشكال في فساد الرجل من جهة عقيدته، بل لا يبعد استفادة أنّه لم يكن يتديّن بشيء، ومن ثَمَّ كان يظهر الغلوَّ مرة، والنصب أخرى، ومع ذلك لا يهمّنا إثبات ذلك، إذ لا أثر لفساد العقيدة، أو العمل في سقوط الرّواية عن الحجيّة، بعد وثاقة الرّاوي، والذي يظهر من كلام النجاشيّ: (صالح الرّواية) أنّه في نفسه ثقة"([63]).
كما يمكن استظهارها من كلام المجلسيُّ الأوَّل من عدَّة مواضع، منها:
قوله معلّقاً على بعض الأخبار: "وإن ضُعّف [الخبر] بعلي بن أبي حمزة، لكنَّ القدماء يعملون بخبره؛ لثقته وإن كان مذهبه فاسداً"([64]). وكذا في موضع آخر: "والأظهر أنّه كان دأب القدماء على صدق القول، ولمّا رأوه صادقاً لم يلتفتوا إلى فساد مذهبه كما يظهر من التتبّع"([65]).
الشّرط الثاني: أن لا يثبت كذبه في الحديث والرّواية فيخرج الرّواة النواصب الثابت كذبُهم في الرّوايات والوضّاعون للحديث من المغالين والمفوّضة وغيرهم.
الشّرط الثالث: أن يثبت له الوثاقة، فيخرج بذلك الكثير من الرّواة الذين لم يرد في حقّهم توثيقٌ خاص أو عام، ويخرج المجاهيل من رواة المسلمين وأمثالهم.
وهنا نطرح سؤالاً وهو أنّه هل إنّ عمل الطائفة يكون دائماً لوثاقة الرّاوي؟
يجيب على ذلك المجلسيُّ الأوَّل ويذكر عدداً من الأسباب في مواضع مختلفة، وهي:
قوله: "وتقدّم من العدَّة للشيخ أنّه عملت الطائفة بما رواه علي بن أبي حمزة وجماعة فيمكن أن يكون العمل: لموافقة أخباره أخبار الثقات، أو لكونه ثقة في غير ما يتعلّق بمذهبه الباطل، أو لكون الأخبار نُقلت عنه حال الاستقامة"([66]).
وقوله: "عليّ بن الحسن وإن كان فطحياً لكنّه يحتاط في النّقل باللفظ.. ولهذا كانوا يعتمدون على كتب الحسين بن سعيد وعلي بن مهزيار، وحمَّاد، وصفوان، وعليّ بن الحسن غاية الاعتماد فيما ينقلونه في كتبهم، عن زرارة ومحمّد بن مسلم وبريد وأمثالهم"([67]).
وقوله: "واعلم أنّه اعتمد عليه المشايخ وروَوا عنه أخباراً كثيرة واعتمدوا على كتبه؛ لأنَّها كانت منقولة من الأصول على الترتيب الحسن، ولما رأوا أنَّ كتبه وما رواه صحيحة بعد المقابلة مع الأصول اعتمدوا عليها، والظاهر أنَّ هذا هو الوجه في النَّقل من كتبِ أمثالهِم والله تعالى يعلم"([68]).
وقوله: "وذكر الشيخ في العدة أنّ الطائفة عملت بما رواه بنو فضال والطاطريّون، عبد الله بن بكير، وسماعة، وعلي بن أبي حمزة، وعثمان بن عيسى.
واعلم أنّ الأصحاب إنّما عملت بأخبارهم لكون أكثرهم نقلة الأخبار عن الأصول وكتبهم عين كتب القدماء لكنّها مرتبة، وكانوا يقابلون مع الأصول، فلمّا وجدوها بعد المقابلة صحيحة عملوا عليها مع فساد مذهبهم، وعليّ بن الحسن من هذا الباب ولهذا جعلنا أخباره في الموثّقات كالصحاح، ومثل عثمان بن عيسى من الجماعة الذين كانوا (تارةً) ينقلون من الكتب (وتارةً) ينقلون من المعصوم g عملوا بأخبارهم، (إمّا) بما رووه قبل الفساد (وإمّا) لموافقة أخبارهم لأخبار الأصول السابقة كأصول زرارة ومحمد بن مسلم، وبريد، وأبي بصير والفضيل وأمثالهم. والذي يظهر من التتبّع هذا المعنى. واضطراب بعض الأصحاب في العمل بأخبار أمثالهم (تارةً) والرد (أخرى) لعدم التدبّر في طرق القدماء والمتأخرين ويريد أن يطابق بينهما، وبينهما بون بعيد، والله تعالى يعلم"([69]).
فالسبب الأوَّل: هو أن يكون خبره موافقاً لأخبار الثقات؛ وهذا نتصوّره في صور ثلاث:
الصورة الأوَّلى: أن يكون الخبر موافقاً ومتطابقاً في الألفاظ والمعنى أو بالمعنى فقط مع أخبار من عُرفوا بالوثاقة، وعلى هذا المعنى يكون خبر فاسد العقيدة ليس له محصّل بعد أن كان خبر الثقة حاضراً فيغنينا عن خبر غيره، فلا معنى لأن نترك خبر الثقة لنأخذ بخبر غيره، فهذا المعنى ليس مراداً.
الصورة الثانيَّة: أن يكون الخبر كما في الصورة الأوَّلى ولكنَّ خبر الثقة لم يصل إلى الأصحاب أو لم يرووه ولو لكونه غير مسند وكان خبر فاسد العقيدة مسنداً -لأنّهم كانوا يتحاشون نقل الأخبار المرسلة- ونعرف ذلك بشهادة أهل الحديث المتتبّعين للأخبار العارفين بأحوال الرجال، وهذا معنى محتمل.
الصورة الثالثة: أن يكون المعنى للموافقة هو عدم المخالفة، أي أنّه لم يثبت أنّ خبر فاسد العقيدة يخالف خبراً لثقة فضلاً عن الكتاب العزيز.
السبب الثاني: كونه ثقة في غير ما يتعلَّق بمذهبِه الباطل، فإذا كان ثقة في روايته بحيث يكون ضبطاً فيها لا يزيد ولا ينقص ولا يكذب، وكون فساد عقيدته ناشئاً من شبهة طرأت عليه لالتباس في فهم بعض الرّوايات أو لتدليس غيره عليه.
السبب الثالث: كون الأخبار نُقلت عنه حال الاستقامة. ولعلّ قبول الغالب من روايات فاسدي العقيدة معتمد على هذا السبب، وما ذكرنا سابقاً من كون الرّواة يتنزهون عن الرّواية عن فاسد العقيدة، بل قد يهجرونهم ولا يخالطونهم لقطع مادَّة الفساد وإماتة الباطل.
السبب الرابع: كون الرّاوي حريصاً على رواية الأخبار لفظاً، وهذه مزيّة في إعطاء الاعتبار للرّوايات وتكون الرّوايات التي تروى باللفظ أكثر اعتباراً من الرّوايات التي تروى بالمعنى، وعند مقابلتها مع الأصول تكون متطابقة فلذا يعتمدونها.
المسألة السَّادسة: الوجاهة
عند ذكر الحسين بن أبي العلاء ونقل المجلسيُّ الأوَّل كلام الشيخ النجاشيّ فيه إلى أن قال: "وكان الحسين أوجههم"، ثُمَّ قال المجلسيُّ الأوَّل: "الوجاهة عند أرباب الحديث كثرة اختلاف الأصحاب إليه، وما لم يكن الاعتماد عليه كثيراً لا يتطرّق إليه؛ لأنّه لم يكن في ذلك الزّمان جاه دنيويّ، ولا تقرّب الملوك حتى يكون أحدٌ بسببه وجيهاً، كما في زماننا هذا، والله هو العالم بحقائق الأحوال"([70]).
فهل الوجاهة تعتبر توثيقاً للموصوف أم لا؟
بلحاظ كلام المجلسيُّ الأوَّل قد يستفاد التوثيق من هذه العبارة باعتبار أنّ الوجاهة لما كانت كاشفة عن كثرة اختلاف الأصحاب إلى الوجيه لأخذ الحديث عنه والتلمّذ على يديه فهو تعبير آخر عن توثيقهم العملي إليه، وإلا فلماذا يختلفون إليه ويعتمدون عليه!
إلا أنّ ابن الشهيد الثاني (الشيخ محمّد بن الحسن) يرى أنّ الوجاهة شيء، والوثاقة شيء آخر ولا تلازم بينهما مع التسليم منه أنّ الوجاهة تقتضي المدح([71])، فقال: "وقد استفاد بعضٌ توثيق الرجل من قول النجاشيّ: وكان الحسين أوجههم؛ لأنّ عبد الحميد ثقة، والأوجه من الثقة يكون ثقة، ولا يخلو من تأمّل؛ لأنَّ الوجاهة لا تلازم الثقة"([72]). وجهه في ذلك هو أنّه يحتمل أن تكون الوجاهة التي يوصف بها الرّاوي هي لوجه آخر لا يرجع إلى الوثاقة في الحديث، فقال: "وغير خفيّ أنّ الأوجَه لا يدلّ على التوثيق؛ لاحتماله الوجاهة في أمر آخر"([73]). وبهذا يكون حصرُ المجلسيِّ الأوَّل الوجاهةَ المعروفة آنذاك في الحديث مورداً للتأمُّل، فينبغي التوقف في الدّلالة على الوثاقة.
المسألة السَّابعة: النوادر
من المصطلحات التي يكثر ذكرُها في كلمات الرجاليين هو وصف بعض الرّواة بأنّ لهم كتاب النوادر([74]). فما هو المراد من النوادر؟ وهل هو تعبير آخر عن كلمة كتاب أو أصل؟
يقول المجلسيُّ الأوَّل في بيان المراد من النوادر: "الظاهر أنّ المراد من النوادر الأخبار التي لا يجمعها باب وتكون متفرِّقة وقد تطلق على الأخبار الشاذّة"([75]).
وقال في موضع آخر: "معنى النوادر أي الأخبار المتفرّقة التي يشكّل جعل كلّ خبر منها باباً على حدة، ويمكن أن يكون المراد بها الشواذّ؛ باعتبار عدم تكرّرها في الأصول المعتمدة، أو عدم عمل المشايخ بها وإن كان الكلّ صحاحاً يجوز العمل بها، والأوَّل أظهر هنا"([76]).
وقال في موضع ثالث: "وهي الأخبار الغريبة، أو المتفرّدات التي يشكل أن يجعل لكلّ خبر باب، أو التي لم تتكرّر في الكتب المعتمدة أو النفيسة"([77]).
من خلال النَّظر في كلمات المجلسيُّ الأوَّل يظهر أنَّ كتاب النوادر هو كتاب يجمع:
١. الأخبار المفرّقة التي لا يجمعها باب وعنوان خاص.
٢. الأخبار الشاذّة بغض النظر عن سبب شذوذها: سواء كان هو عدم تكرّرها في الأصول المعتمدة، أم كان لعدم عمل المشايخ بها.
ثمَّ إنّ النوادر قد يكون معدوداً من الأصول، وقد يعدّ شيئاً مغايراً له([78])، ولو باعتبار أنَّ الأصل يكون جامعاً للرّوايات التي رواها الرّاوي عن المعصومo. ولكنْ يمكن القول بأنَّ بين الأصل والنوادر نسبة العموم والخصوص من وجه([79]).
وكيفما كان، فإنَّ كان النوادر هو عبارة عن أصل أو كتاب فإن كان معتمداً فهو دليل على وثاقته كما تقدَّم.
والحمد لله أولاً وآخراً..
(1) رجال ابن داود، ابن داود الحليّ، ص80، باب الحاء المهملة برقم 482.
([2]( انظر: سماء المقال في علم الرجال، أبو الهدى الكلباسي، ج1، ص13-23.
(3)روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص461.
(4) خلاصة الأقوال، العلامة الحليّ، ص51.
([5]) انظر: وسائل الإنجاب الصناعية، للسيد محمد رضا السيستاني، ص589-612.
([6]) رجال ابن داود، ص45-46.
([7]) نقلاً عن: سماء المقال في علم الرجال، أبو الهدى الكلباسي، ج1، ص33.
([8]) خلاصة الأقوال، العلامة الحليّ، ص419.
([9]) خلاصة الأقوال، العلامة الحليّ، ص337.
([10]) خلاصة الأقوال، العلامة الحليّ، ص316. قال بعد نقل كلام ابن الغضائريّ عنه بالكذب والوضع للحديث: "وهذا لا اعتمد على روايته لشهادة المشايخ عليه بالضعف والاختلال في الرواية".
([11]) خلاصة الأقوال، العلامة الحليّ، ص173. قال بعد نقل كلام ابن الغضائريّ عنه بضعف المذهب: "والأقوى عندي التوقف في روايته، لطعن هذا الشيخ فيه".
([12]) خلاصة الأقوال، العلامة الحليّ، ص258.
([13])خلاصة الأقوال، العلامة الحليّ، ص15.
([14]) روضة المتّقين، العلامة المجلسيُّ، ج14، ص36.
([15]) روضة المتّقين، العلامة المجلسيُّ، ج20، ص42.
([16]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج1، ص208.
([17]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص42.
([18]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص472.
([19]) وسائل الإنجاب الصناعية، للسيد محمَّد رضا السيستاني، ص615-618.
([20]) الكافي، الكليني، ج1، ص403، باب ما أمر النبي (ص) بالنصيحة لأئمة المسلمين، ح1.
([21]) فهم يتتبّعون الرّوايات والرّواة والنسخ الصادرة ويطابقونها مطابقة دقيقة بغية الوصول إلى درجة اليقين فيما ينقلون، وانقل نموذجاً من التعاطي الدقيق مع تلك النسخ، وهو ما ورد عن المجلسيُّ الأوَّل في روضة المتّقين في مواضع عديدة منها ما في الجزء الثامن، الصفحة 284، حيث قال: "كما رواه الشيخ في الصحيح، عن البزنطي قال: سأل رجل أبا الحسنgعن الرجل يطوف الأسابيع (أو الأسباع) -كما في نسخة الشيخ التي هي بخطّه ونقل منها الحسين بن عبد الصمد أبو شيخنا بهاء الدين محمَّد رحمه الله، وقابلت نسختي معها ومع نسخة شيخنا التستري ومع نسخة شيخه الأردبيلي رضي الله عنهم أجمعين مع نسخ كثيرة معتمدة عليها: مثل نسخة المولى حاجي محمَّد، وكتبه أيضاً من النسخة التي بخطّ الشيخ، وقابلها مع نسخة جماعة من الفضلاء، ونحن بالغنا مثلهم في ملاحظة النسخة، ولو كان السهو معلوماً منه -رضي الله عنه-؛ فإنّ الشيخ باعتبار كثرة التصنيف حصل منه السهو الكثير، ونحن نشير إليها في ضمن إيرادنا النسخ الأخر من الكتب لكن قلّما يكون مغير المعنى وكان مساهلته -رضي الله عنه- باعتبار تجويزه النّقل بالمعنى [ثمَّ ذكر بقية خبر البزنطي] جميعاً فيقرن؟ فقال: >لا الأسبوع وركعتان وإنّما قرن أبو الحسنg؛ لأنّه كان يطوف مع محمد بن إبراهيم لحال التقية<" وهذا موضع من مواضع كثيرة في روضته.
([22]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص282.
([23]) الرسائل، الخمينيّ، ج2، ص86.
([24]) لا بدَّ من الالتفات إلى أنَّ التواتر في الأخبار يمكن حصوله بشكل مطلق -سواء عن ثلاثة رواة كما عليه الأخباريون أم أكثر-، ولكنَّ هل التواتر الحاصل هو عن المعصوم أم عن غيره؟ يرى المجلسيُّ الأوَّل إمكان التواتر بأنّ يكون الخبر موجوداً في الكتب الأربعة بذات الألفاظ، وعن راوٍ واحد مما يعني أنّ المشايخ الثلاثة (الكلينيّ، الصدوق، والطوسيّ) قد نقلوا نفس الخبر عن نفس الكتاب ويحصل العلم بذلك، ولكنّ هذا لا يلازم الجزم بأنّ الخبر صادر عن المعصومg، نعم لو حصل التواتر في كتبهم علم بأنّ الرّواية متواترة عن المعصومg، وفي هذا يقول المجلسيُّ الأوَّل في روضة المتّقين، ج20، ص283:
"فعلى هذا يندفع ما يتوهّم أنّه لا يمكن التواتر في مثل عصرنا فإنّ أكثر الأخبار المعمولة في الكتب الأربعة من المشايخ الثلاثة، والغالب عدم حصول العلم من ثلاثة بأن يقال: الحقّ معك في الصدور عن المعصوم لا في النّقل عن الكتب، فإنّه إذا نقلوا هذه الثلاثة خبراً من كتاب الحسين بن سعيد، أو الحسن بن محبوب وكان ألفاظه متفقة يحصل العلم بأنّه كان كذلك في كتابه، وكذا إذا نقل مثل: صفوان، وحماد، وابن أبي عمير خبراً من كتاب ليث المرادي، (أو) زرارة، (أو) محمد بن مسلم يحصل العلم بكونه في كتاب زرارة، وأما إذا وجد خبر متفق اللفظ والمعنى في كتب زرارة ومحمد بن مسلم وبريد مثلاً لا يحصل ذلك العلم الذي حصل من الناقلين عنهم.
نعم، إذا تواتر من كتبهم، ثمَّ روى جماعة كثيرة من المعصوم أمكن حصول العلم بصدوره من المعصوم، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فإذا روى خبراً مثل زرارة، ومحمد بن مسلم، وبريد، وليث، والفضيل بن يسار، وعبيد الله الحلبي بشرط العلم بصدوره عنهم فالغالب بالنّظر إلينا حصول العلم سيما إذا كان موافقاً للقرآن ولعمل الأصحاب. وفي بعض الأحوال يحصل العلم بأقلّ من ذلك ولهذا تراك تعلم من أخبار المخالفين ما لا يحصل لك ذلك العلم من أخبار أصحابك، فإنّه كثيراً ما يحصل العلم بصدور خبر عن أبي هريرة لكثرة الناقلين الضابطين، أو عمر بن الخطاب مثل حديث: (إنّما الأعمال بالنيات) و(إنّما لكلّ امرئ ما نوى)، فإنّ كثيراً من أصحابنا وأصحابهم يدّعون تواتره لكن من عمر، ونحن جازمون بصدوره عنه وشاكون في صدوره عن رسول الله e، بل كثيراً ما يحصل الجزم بخلافه كما في خبر: (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث) فإنّا نجزم بصدوره عن أبي بكر..
فتأمّل فيما ذكرناه فإنّه يشتبه على كثير ولا يفرّقون بينهما، بل الأصحاب على ضربين: فطائفة ينكرون حصول التواتر من مطلق الأخبار المتداولة في الكتب، وطائفة يجزمون بحصول العلم من ثلاثة كالأخباريين، ومنهم المصنف [أي: الشيخ الصدوق] وإن أمكن توجيه كلامه بالإمكان لكنّه خلاف عملهم".
([25]) الأولى صادرة عن أبي بكر، والأخرى عن عمر بن الخطّاب.
([26]) التصحيف في متن الحديث، حيدر عبد الكريم مسجدي، ص27.
([27]) الكافي، الكلينيّ، ج1، ص23، كتاب العقل والجهل، ح15.
([28]) التوحيد، الصدوق، ص130، ح11.
([29]) نفس المصدر، ح9.
([30]) انظر: الوافي، الفيض الكاشاني، ج8، هامش ص1174: "وذكرنا أوَّل الكتاب إنّ حفظ جميع خصوصيات الكلام في النّقل بالمعنى تكليف بما لا يطاق".
([31]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج1، ص109.
([32]) الكافي، الكليني، ج1، ص51، باب رواية الكتب والحديث، وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب، ح1.
([33]) اختيار معرفة الرجال، الشيخ الطوسيّ، ج2، ص584.
([34]) الكافي، الكليني، ج1، ص51، باب رواية الكتب والحديث، وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب، ح2.
([35]) الكافي، الكليني، ج1، ص51، باب رواية الكتب والحديث، وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب، ح3.
([36]) الأستاذ الشيخ حسن الجواهري، بحث الفقه بتاريخ 1433/12/25، الرابط: https://www.eshia.ir/feqh/archive/text/javaheri/feqh/33/331225/.
([37]) مطارح الأنظار، الشيخ الأنصاري، ص252.
([38]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص281-282.
([39]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج1، ص110.
([40]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج1، ص264.
([41]) مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع، محمد باقر الوحيد البهبهاني، ج1، ص14.
([42]) مطارح الأنظار، الشيخ الأنصاري، ص252.
([43]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص311.
([44]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص557.
([45]) العدة، الشيخ الطوسي، ص57.
([46]) الحدائق الناظرة، المحقق البحرانيّ، ج12، ص186. حيث قال: "وأما طعنه [صاحب المدارك] بضعف السند [بالإرسال] فقد عرفت في غير مقام أنّه غير معتبر ولا معتمد سيما والمرسل لها هذا الثقة الجليل [الشيخ في المبسوط]، ومن المعلوم أنّ مراسيلهم ومسانيدهم أمر واحد، وأنّ هذا الإرسال إنّما يقع غالباً للاختصار كما لا يخفى على من أحاط خُبراً بطريقة الصدوق في الفقيه وتصريحه في غير موضع بعد ذكر الأحاديث المرسلة أنّي أخرجتها مسندة في كتاب كذا وكذا".
([47]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج2، ص23.
([48]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج1، ص108.
([49]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص557.
([50]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج1، ص378.
([51]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج3، ص200.
([52]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج17، ص523.
([53]) العدة، الشيخ الطوسيّ، ص57.
([54]) شرح العروة الوثقى، تقرير بحث السيد الخوئي للبروجردي، ج22، ص447.
([55]) شرح العروة الوثقى، تقرير بحث السيد الخوئي للبروجردي، ج27، ص333.
([56]) مشايخ الثقاة، ميرزا غلام عرفانيان اليزدي، ص14- 20 (بتصرف).
([57]) القضاء في الفقه الإسلامي، السيد كاظم الحائريّ، ص32.
([58]) القضاء في الفقه الإسلامي، السيد كاظم الحائريّ، ص34.
([59]) مصباح المنهاج، السيد محمد سعيد الحكيم، ج1، ص271.
([60]) هذا من موارد جواز الغيبة في الكتب الفقهية.
([61]) فقه الرضا (ع)، علي بن بابويه القمي، ص49.
([62]) الغيبة، الشيخ الطوسيّ، ص409.
([63]) معجم رجال الحديث، السيد الخوئي، ج3، ص152.
([64]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج16، ص198.
([65]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص27.
([66]) ورضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص255.
([67]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص281-282.
([68]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص492.
([69]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج20، ص554.
([70]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج1، ص315.
([71]) استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار، الشيخ محمد بن الحسن، ج4، ص463. وكذا في ج5، ص113.
([72]) استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار، الشيخ محمد بن الحسن، ج3، ص109.
([73]) استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار، الشيخ محمد بن الحسن، ج4، ص463.
([74]) انظر في ترجمة الحسين بن عبيد الله السعدي، والحسن بن الحسين اللؤلؤي، والحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائريّ وغيرهم كثير جداً.
([75]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج5، ص186.
([76]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج6، ص386.
([77]) روضة المتّقين، المجلسيُّ الأوَّل، ج9، ص108.
([78]) الفوائد الرجالية، الوحيد البهبهاني، ص33 حيث قال: "وأما النّسبة بين الأصل والنوادر فالأصل أنّ النوادر غير الأصل، وربما يعد من الأصول كما يظهر في أحمد بن الحسن بن سعيد وأحمد ابن سلمة وحريز بن عبد الله".
([79]) كليات في علم الرجال، السبحاني، ج497.
0 التعليق
ارسال التعليق