عمل المرأة خارج المنزل

عمل المرأة خارج المنزل

الملخص:

في هذه المقالة القصيرة تعرض الكاتب أولاً إلى كون أهل البيتi نعمة من الله تعالى تحت خمس عناوين مستفادة من الروايات الشريفة، ثم تحدث عن عمل المرأة خارج المنزل كمسألة يمارسها الكثير من نساء هذا العصر، فبين وصية الله تعالى لمرأة في هذا الشأن، وبين سبب جعل العمل خارج المنزل للزوج دون الزوجة، وأن عمل المرأة خارج المنزل وسيلة وليست غاية، وعظم وظيفة خدمة المرأة للزوج والعيال، من خلال سيرة الزهراءh والروايات الشريفة ([1]).

 

مقدمة

ثمّت عنوان بالغ الأهمية، ومن حيث الآثار له آثار مهمَّة يتعلق بعمل المرأة خارج المنزل، وقبله أقدّم أمراً:

[أهل البيتi هم النعمة الكبرى على المؤمنين]

وهو ما منّ اللهُ سبحانه به علينا، وهم أهل البيتi، فالله سبحانه -كما منّ علينا برسولهe بقوله تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ..}(البقرة: 164)- منَّ علينا بأهل البيت صلوات الله عليهم، ولذا نقرأ في الزيارة الجامعة: >طبتم وطاب منبتكم، منّ بكم علينا ديّان الدين<([2])، ولذا فهذه نعمة لا بدَّ أن ننظرَ فيها ولا نغفل عنها، ولمَّا كانت نعمةٌ عظيمةٌ فعلينا أن نحفظها ونتعاهدها، وأن نجني ثمارها ونستثمرها.

وحتى نعرف كيف أنَّهم نعمةٌ من النعم العظيمة عندنا، يمكن معرفة ذلك من خلال خمسة عناوين:

العنوان الأوَّل: أنّهمi منارات هدى

كما نقرأ في الزيارة الجامعة: >السلام على الأئمة الدّعاة والقادة الهداة<([3])، وهي سمة تلازم هؤلاء القادة صلوات الله عليهم، فما إن يُقتدَى بهم يهتدي من اقتدى بهم، وهذه واحدة من ثمار هذه المِنّة.

العنوان الثَّاني: أنّهمi سبيل موصلٌ إلى الله سبحانه

ففي زحمة هذه الدنيا، الكلّ يدّعي أنّه يوصل إلى الله من المذاهب والآراء والنِّحَل، ولعلّها تدّعي إلى جانب ذلك أنَّ ما سواها لا يوصل، ولكن من خلال هَدْي كتاب الله سبحانه وسنّة نبيهe عرفنا بأنَّ أهل البيت صلوات الله عليهم سبيلٌ يوصل إلى الله سبحانه، وأنَّ ما سواه لا يوصل، لذا نقرأ قوله سبحانه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتّخِذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيْلاً}(الفرقان:57)، وإذا ما تعقَّب بها ما ورد في دعاء الندبة يتضح أنَّهم -وليس غيرهم- هم السبيل إلى الله: >فكانوا هم السبيل إليك، والمسلك إلى رضوانك<([4]).

العنوان الثَّالث: أنَّهم وسيلة إلى الله سبحانه

فمن ابتغى ما عند الله تعالى يمكن أن يتوفَّر له ويحصل له عن طريق هذه الوسيلة وهم أهل البيتq، نقرأ في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة}(المائدة:35) فهم الوسيلة، فما لا يمكن أن تبلغه بجِدّك وقواك فإنّه يمكنك أن تبلغه بأهل البيتi.

من خلال الدعاء -وهو عبادة من العبادات- يحصل الدّاعي على طلباته وحوائجه حتى لو كانت هذه الطلبات عظيمة وخطيرة، فإنّه يمكن أن يطلبها من الله تعالى وتتوفّر له، ولكن يتأكّد له حصولها حينما يوسّط الوسائل إلى الله تعالى وهم أهل البيتi، وأؤكّد أنّ ثمّت طلبات ومراتب لا يمكن للإنسان أن يحرزها بجِدّه وطلبه، ولكن يمكنه أن يحرزها بالتوسل بأهل البيتi، وقد ورد في زيارة عاشوراء: >فأسأل الله الذي أكرمني بمعرفتكم، ومعرفة أوليائكم، ورزقني البراءة من أعدائكم<([5])، وهذه بحدِّ ذاتها نِعَمٌ ثلاثٌ كبيرة، وكأنَّ لسان الدَّاعي هنا يقول بأنَّك يا ربَّ أعطيتني هذه النعم العظمى، فيمكن أن تعطيني ما هو أقلّ منها، بل ما هو أعلى منها، >أن يجعلني معكم في الدنيا والآخرة<، تصوّر هذه المرتبة وهي الكون معهم في هذه الدار وفي الدار الآخرة، ويمكن بلوغ هذه المرتبة العظيمة بالتوسّل بهم >أن يجعلني معكم في الدنيا والآخرة، وأن يثبّت لي قدم صدق عندكم في الدنيا والآخرة، وأسأله أن يبلّغني المقام المحمود لكم عند الله، وأن يرزقني طلب ثاري [أو ثاركم] مع إمام هدى [أو إمامٍ مهدي] ظاهر ناطق بالحقّ منكم<، وهذه أربع طلبات مهمّة جدّاً تستطرق أهل البيتi للحصول عليها.

وفي هذا السياق أيضاً يسع المؤمنَ أن يطلب بعض المقامات والمراتب بنحو النتيجة، والذي يتكفّل المقدّمات هو الله تعالى، فمثلاً نقرأ في دعاء الافتتاح: >اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك<([6])، وهذا مقام كبير أن تكون قائداً في دولة الحقّ، وهمّةٌ للمؤمن أن يكون كذلك، فإذا ما أراد الله تعالى أن يستجيب لك هذه الطلبة، فإنّه لا يعيّنك قائداً مباشرة من دون التحلّي بالملكات والحصول على الامتيازات، فما عليك إلا أن تطلب هذه الطلبة وتقدّم تقدمة وهي أن تدعو، والله تعالى يعرف كيف ييسّر لك ذلك، ويقدّم المقدّمات التي تجعل منك قائداً في دولة الحقّ. فالطريق هو الدعاء، والوسيلة للحصول على ذلك هم أهل البيتi.

العنوان الرابع: أنّهمi سفن نجاة

وهذه المفردة (السفينة المُنْجِية) أصبحت من أدبيّات أهل البيت صلوات الله عليهم من بعد النبيe، فالإنسان كلّ الإنسان في معرض أن يغرق، وينتظر سفينة النجاة، وليست أيّ سفينة هي، بل هي السفينة التي توصل إلى ساحل النجاة، نقرأ في الصلوات الشعبانية: >اللهمَّ صلّ على محمَّد وآل محمَّد الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها، ويغرق من تركها<([7]) وهذه حقيقة، فنحن في هذه الدار غرقى -أي على وشك الغرق- نتطلّب النجاة على مستوى الآخرة، وإذا ما وُجِدت سفن يُدّعَى أنّها تنجي فليست كذلك إلا سفينة واحدة، في ذلك البحر ذي اللّجج التي أمواجه تغمر وتغطّي وتُهلِك، فإذا ما ركبت غير سفينتهم باعتقاد أنّها توصل وتنجي غمرتها تلك اللجج، وغرق كلِّ من في تلك السفينة.

العنوان الخامس: حبّهمi

وهذا الحبُّ الذي يُرَاد أن يكون حبّ غيرهم دون حبّ أهل البيتi من حيث المرتبة كائناً من كان غيرهم.

ونذكر روايتين في هذا السياق:

الأولى: تتكلَّم عن حبّهم بصورة عامَّة، فقد روى الشيخ الصدوق في الخصال والأمالي بسنده عن جابر عن أبي جعفر عن علي بن الحسينi قال: >قال رسول اللهe: حبّي وحبّ أهل بيتي نافع في سبعة مواطن، أهوالهنّ عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط<([8]). ونظيرها توجد في شأن فاطمةh، فقد قال رسول اللهe: >يا سلمان، من أحبّ فاطمة ابنتي فهو في الجنة معي، ومن أبغضها فهو في النار، يا سلمان، حبّ فاطمة ينفع في مائة موطن، أيسر تلك المواطن الموت، والقبر، والميزان، والمحشر، والصراط، والمحاسبة، فمن رضيَتْ عنه ابنتي فاطمة رضيتُ عنه، ومن رضيتُ عنه رضي الله عنه، ومن غضبَتْ عليه فاطمة غضبتُ عليه، ومن غضبتُ عليه غضب الله عليه، يا سلمان، ويلٌ لمن يظلمها ويظلم ذريتها وشيعتها<([9]).

الثَّانية: يرويها الشيخ الصدوق في معاني الأخبار بسند معتبر عن سدير الصيرفي، عن الصادقg: عن أبيه عن جدّهg، قال: >قال رسول اللهe: خلق الله نور فاطمة قبل أن تُخلَق الأرض والسماء، فقال بعض الناس: يا نبيّ الله فليست هي إنسية؟ فقالe: فاطمة حوراء إنسيّة، فقال: وكيف هي حوراء إنسيّة؟ فقالe: خلقها الله! من نوره قبل أن يخلق آدم؛ إذ كانت الأرواح فلمّا خلق الله a آدم عرضت على آدم، قيل: يا نبيّ الله وأين كانت فاطمة؟ فقالe: كانت في حقّة تحت ساق العرش، فقالوا: يا نبي الله فما كان طعامها؟ فقالe: التسبيح والتحميد والتهليل، فلمّا خلق الله a آدم وأخرجني من صلبه أحبّ الله عزّ وجلّ أن يخرجها من صلبي، جعلها تفاحة في الجنّة وأتاني بها جبرائيلg فقال لي: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا محمَّد! قلت: وعليك السلام ورحمة الله حبيبي جبرائيل، فقال: يا محمَّد إنّ ربّك يقرئك السلام، قلت: منه السلام، وإليه يعود السلام، قال: يا محمَّد، إنّ هذه تفاحة أهداها الله a إليك من الجنَّة، فأخذتها وضممتها إلى صدري، قال: يا محمَّد، يقول الله c: كُلْها، ففلقتها فرأيت نوراً ساطعاً ففزعت منه، فقال يا محمَّد! ما لك لا تأكل؟ كُلْها ولا تخف، فإنّ ذلك النورَ المنصورةُ في السماء، وهي في الأرض فاطمة، قلت: حبيبي جبرائيل، فلِمَ سُمِّيَت في السماء بالمنصورة، وفي الأرض فاطمة؟ قال: سُمِّيَت في الأرض فاطمة؛ لأنّها فطمت شيعتها من النار، وفُطِم أعداؤها عن حبّها [وهذه علامة وهي أنّك حيث تحبّ فاطمة فإنّك بعيد كلّ البعد عن أعداء فاطمة] وهي في السماء المنصورة، وذلك قول الله a: {يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ}(الروم:405) يعني نصر فاطمة لمحبّيها<([10]).

عمل المرأة خارج المنزل

تروَّج اليوم فكرة أنَّه لا بدَّ للمرأة أن تعمل، ويحلو للكثير إذا ما أراد أن يتزوَّج أن تكون زوجتُه عاملة، ويحلو للكثيرات أنَّه إذا ما أرادت أن تتزوّج أن تشترط على زوجها أن لا يمنعها من العمل أيضاً، حتى عاد شرطاً متعارفاً، ومن هنا نسأل: ما هو الأصل في عمل المرأة؟ وهل يوجد ثمَّت محذورٌ شرعي؟ والجواب عن الثَّاني بالنَّفي، فلا يوجد محذور شرعي.

[وصيَّة اللهِ تعالى للمرأة]

 ولكن هنا وصيَّة من الله تعالى على الحدِّ الأدنى -والحال أنَّ الإنسان يقبل النصيحة والوصية ممن يكبرُه سنّاً لما للوصية من تمثيل لعصارة تجارب، فما بالك بوصايا الله تعالى فهي أحرى بأنّ تقبل- ولا ينبغي لأحدنا أن يترك امتثال هذه الوصايا والعمل على طبقها ما لم تكن إلزامية.

وفيما يرجع إلى تكوين هذه الأسرة وما يحافظ على تماسكها، أراد الله سبحانه -فيما أراد- أن يعمل الرجل خارج المنزل، وتعمل المرأة داخل المنزل -فكلٌّ منهما مطلوب منه ذات التكليف وهو العمل، إلا أنَّ موقعه مختلف- وهذا هو الأمر المتوافق مع الطبيعة بحيث تكون للزوج قيمومة على زوجتِه، قائمة على خلفية هذا الإنفاق، فهو يجني وينفق، ولكن إذا كان الإنفاق مشتركاً كيف يمكن أن يكون لهذا الرَّجل هذا المقام.

وكونُ أحدهما قيّماً هو أمرٌ عقلائي قبل أن يكون شرعياً؛ لأنَّه تشكيل تسير به عجلة الحياة، على غرار ما ورد في النصوص أنّه في السفر على تقدير أن تكون مع صاحبك، فلا بدَّ من أن يكون أحدهما له الكلمة، والآخر يسمع ويتابع. وهذا التشكيل الأسري ليس أيّ تشكيل، فلا بدَّ من أن يُراعَى فيه هذا الأمر، فإذا كان كلٌّ من الزوج والزوجة ينفقان، فمن المسؤول منهما؟ ومن له الكلمة الفصل منهما؟! لا يمكن أن يكونا معاً لهما نفس الدور، وإلا فسد هذا التشكيل واضطرب.

[لماذا القيمومة للرجل؟]

إنَّ اللهَ سبحانه وضع خلفيتين للقيمومة في قوله سبحانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}(النساء:34):

الأولى: ثمّت ملكات في نوع الرجل لا تتوفّر في نوع المرأة بموجبها عادت القيمومة للرجل على أهله، -وهذه حقيقة غير قابلة للإنكار-.

 والثانية: هي الإنفاق من أمواله عليها وعلى عياله. 

وهذا هو الذي يُرَاد، حتى ورد عن رسول اللهe بسند صحيح كما في الكافي الشريف: >من سعادة المرء أنْ يكون القيّم على عياله<([11])، أي: أنّه هو حصراً يكون قيّماً، لا أن تكون الزوجة لوحدها هي القيّم على العيال، ولا هما معاً، وهذا لا يعطي أنّه لا يجوز للمرأة أن تعمل، ولكن بلحاظ ما هو واقع بين عموم الناس فعلاً من جعْل العمل وظيفة أوليّة للمرأة؛ فإنَّ بعض الأعمال لا يمكن أن تقوم بها إلا المرأة كالقِبالة مثلاً وما هو على شاكلتها، ولكن ثمّت أعمال يمكن أن يضطلع بها الرجل، ولكن المرأة آثرت أيضاً أن تخرج إلى ميادين العمل، والذي ينبغي أن لا تخرج المرأة للعمل إلا للضرورة.

[العمل خارج المنزل وسيلة وليس غاية]

المشكلة كلُّ المشكلة في أنَّ المرأة قد جعلت من العمل غايةً وليس وسيلة، فمرَّة أحتاج إلى أن أعمل، ومرَّة لا حاجة إلى أن أعمل، فلماذا العمل؟ وكأنّها جعلت من عمل المنزل وخدمة الزوج أو خدمة العيال وظيفة لا ترقى إلى الوظيفة التي هي في خارج المنزل، والذي رسمه لنا الدِّين أنّ أشرف وظيفة للمرأة هو خدمة زوجها وعيالها.

وإذا أردنا النَّظر في سيرة أمير المؤمنين وفاطمةh وهم القدوة، وقد وردت مجموعة من الروايات كما في الوسائل ومستدركه، وقد عَنْوَنَه الحرّ العاملي بباب استحباب خدمة المرأة زوجها في البيت([12])، وبحسب المستدرك عَنْوَنَه بباب استحباب العمل في البيت للرجل والمرأة([13]).

والروايات عديدة: 

منها: عن قرب الإسناد للحميري بسنده عن مولانا الإمام الصادقg يروي ذلك عن أبيه الإمام الباقرg، قال: >تقاضى عليّg وفاطمةj إلى رسول اللهe في الخدمة< في خدمة المنزل، ولنا قبل أن نسمع قضاء رسول الله ما الذي اختلف فيه عليّ مع فاطمة فيما يرجع إلى الخدمة، بحيث انتهيا إلى أن يرفعا الأمر إلى رسول اللهe، ما الذي في البين؟ الذي يُتصوّر أنّ علياًg كان يريد أن يعين فاطمة صلوات الله عليها في بعض شؤون المنزل، وهي تأبى عليه.

لمّا تقاضيا إلى رسول اللهe يقول الباقرg: >فقضى([14]) على فاطمةj بخدمة ما دون الباب، وقضى على عليّ ما خلفه< يقول الباقرg: >فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا رسول اللهe<، لمَ كلّ هذا السرور الذي لا يعلم حجمُه -إن صحّ لنا أن نعبّر- قالت: >بإكفائي رسول اللهe ما تحملُ إرقاب الرّجال<([15])، العمل الذي يُنتظَر من عليg فيما يرجع إلى خدمة المنزل أو شؤون المنزل هو أن يستقي الماء، هذا أمر، والأمر الثاني أن يحتطب فهذه شؤون، وأن يجيء بالطعام وهو عبارة عن مواد أوليّة كالحنطة وما شاكل هو يجلبها من السوق.

رسول اللهe لما خطَّ لها وقضى عليها بما دون الباب فرحت كثيراً؛ لأنَّها كُفِيتْ أن تخرج، سيَّما إذا كان خروجها لأعمال هي من شأن الرجل بدرجة أولى كالاستقاء والاحتطاب، ولعلَّ هذه النسخة في هذه الرواية >بإكفائي رسول اللهe ما تحمل ارقاب الرجال< وحينئذٍ يأتي معنى ثانٍ، وهو الإرقاب: من رقب النجم بمعنى رصده، هي تعلم أنّها إذا ما خرجت هي أو غيرها من النساء توجد أنظار ضائعة تتوجّه إلى المرأة وترصدها من رأسها إلى قدمها، فلذا هي إذا ما اُكتفيَ منها بعملٍ ما دون الباب ففي هذه الحالة كُفِيَتْ هذا الرّصد من قِبَل الرجال لها، ولذلك داخلها من السرور ما داخلها، وهذا ما تطلبه المرأة المسلمة، فما بالك بالزهراءj! 

ومنها: ما ورد بسند صحيح في الكافي الشريف عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهg قال: >كان أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه يحتطب ويستقي ويكنس([16]) وكانت فاطمة سلام الله عليها تطحن وتعجن وتخبز<([17] ومن الواضح بأنَّ الأعمال التي أُنيطت بالزهراء صلوات الله عليها من الطَّحن والعجن والخبز هي أعمال في داخل المنزل ودون الباب، والأعمال التي كان يضطلع بها الأمير بحسب هذه الرواية -بعبارة كان أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه- هي عبارة عن الحِطابة والاستقاء والكنس، وهذا الكنس لم يُجعَل وظيفةً، وإنّما الأمير كان يمارسه من باب الإعانة لفاطمة صلوات الله وسلامه عليها.

ومنها: ما ورد في الكافي، والسند صحيح إلى زيد بن الحسن قال: سمعت أبا عبد اللهg يقول: >وكان عليّg يستقي ويحتطب، وكانت فاطمةj تطحن وتعجن وتخبز وترقّع<([18]).

ومنها: ما ورد في تفسير العياشي عن نجم عن أبي جعفرg قال: >إنّ فاطمةj ضمنت لعليّ عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت، وضمن لها عليّg ما كان خلف الباب من نقل الحطب وأن يجيء بالطعام [الحبوبات]<([19]) وهذه الرواية تفيد أنّ فاطمةj من وظيفتها قَمّ البيت كوظيفة موكلة إليها في رواية أنّ فاطمةj ضمن لعليّg عمل البيت والعجن والخبز وقَمَّ البيت فهذا الذي ضمنته، وهذه وظيفة إليها، لكنّها لا تمنع علياً من أن يعينها على ذلك، وأيضاً يوجد في حقّها مضافاً إلى أنّها تطحن وتعجن وتخبز، أنّها كانت ترقّع الثياب إذا ما انفتقت أو ما شاكل ذلك.

هذا حال علي وفاطمة صلوات الله عليهما، وكانت فاطمة لا تبارح البيت، ولم يكن في خدمة زوجها أيّ منقصة عليها، ولذا كانت فاطمةُ خادمةَ عليّh، وكان يريد رسول اللهe لفاطمة أن تكون كذلك، وأن تخدم علياًg([20])، وأن لا ينال أحدٌ غيرَ الزهراء خدمةَ عليّh، والروايات الواردة في ثواب عمل المرأة في البيت ممَّا يفوق الخيار والتصوّر، -وأشير قريباً إلى إحداها-.

[فضيلة وثواب خدمة المنزل]

فمن الواضح جدّاً أنَّ وظيفة خدمة الزوج، أو خدمة المنزل، أو خدمة العيال، وظيفةٌ شريفة أناطها الدين بالمرأة أو بالزوج، وهذا فيما يرجع إلى الدنيا، وثوابها على الله تبارك وتعالى جزيل؛ إذ إنّ بعض الأخوات أو البنات قد يُراهِنَّ على الثواب الجزيل في العمل في خارج المنزل، ولكنّ هذا الأمر لم تهمله الروايات عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، ففي الرواية كما في أمالي الصدوق عليه الرحمة وتوجد في أمالي الطوسي ففيه الرواية عن أبي عبداللهg: >سألتْ أمُّ سلمة رسولَ اللهe عن فضل النساء في خدمة أزواجهنّ؟< ماذا لهنّ من الفضل، بينما الصدوق في أماليه لا توجد هذه المقدّمة، الرواية كالتالي: أنّ رسول اللهe قال: >أيّما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضعٍ إلى موضعٍ تريد به صلاحاً< يعني أخذت ترتب وضع البيت فترفع هذا الكرسي وتضعه، >نظر الله a إليها< وهذا النظر ليس نظر اطّلاع، وإلا فالله تبارك وتعالى ينظر إلى عبده في كلّ شؤونه، وهو محيط به، بل هذا النظر نظر رحمة، ونظر لطف وعناية، ثمّ يقول الرسولe: >ومن نظر الله إليه لم يعذّبه<([21])، وكفى مثل هذا الأجر بحيث لا تطلب المرأة أكثر من ذلك.  

إضافةً إلى أنّه هو الذي أنيط بالمرأة، فهذا هو ثوابه، فلذا ينبغي أن تتقرّب المرأة المؤمنة إلى الله بهذا العمل الذي ليس فيه أدنى منقصة لها.

وحتى فيما يتصل بشكاية الزهراء صلوات الله وسلامه عليها صعوبة عملها في البيت، وأنّها تريد من يعينها، وتريد خادماً بمعنى من يخدمها، فالخادم يطلق على المرأة، فلمَّا رفعت الأمر إلى رسول اللهe تذكر بعض الروايات جواب رسول اللهe بصورة مفصّلة كما في مناقب ابن شهر آشوب› كما في نقل البحار عن هذا الكتاب: >أنّها(أي الزهراءj) لمّا ذكرت حالها وسألت جارية< سألت من رسول اللهe أن يعطيها جارية >بكى رسول اللهe فقال: يا فاطمة، والذي بعثني بالحق إنّ في المسجد أربع مائة رجل ما لهم طعام ولا ثياب<، هذا أمر، والأمر الآخر >ولولا خشية خصلة لأعطيتكِ ما سألت< هنا أمر يمنعني من أن أجيبك، ما هو؟ >يا فاطمة، إنّي لا أريد أن ينفكّ عنك أجرك إلى الجارية<، لو أخدمتكِ جاريةً لكان لها أجر، وليس الأجر المادّي، وإنّما أجر خدمة علي وأجر خدمة الزوج، فعلى تقدير أن يقوم به غيرك سينصرف الأجر وينفكّ الأجر إلى هذا العامل، ولا يريد النبيe أن يفوّت على ابنته مثل هذا الأجر، والأمر الآخر قالe: >وإنّي أخاف أن يخصمك علي بن أبي طالب يوم القيامة بين يدي الله عزّ وجلّ إذا طلب حقّه منكِ<([22]) يقول الزوج أين حقّي؟ فإذا ما فرّطت المرأة في خدمة زوجها فيكون له الحقّ أمام الله تبارك وتعالى على زوجته.

ولو نظرت المرأة بعين البصيرة لرأت أنّ هذه الخدمة هي أجلّ وظيفة أُسْنِدَت إليها، وهي الأمومة وتربية وتنشئة الأولاد، وإذا نظرتَ إلى العلماء العظام فإنّهم لم يكونوا كذلك لولا حجورٌ ربّتهم، فإذا كان ما أخذوه من ثواب فهو راجع إلى تلك الأمهات اللاتي كان لهنّ عظيم الأثر في التنشئة.

والمقايسة تكون غير عادلة فيما إذا قايسنا امرأة خرجت لتعمل فجاءت بألف دينار، وامرأة أخرى أنتجت مثل الشيخ الأنصاري، فتلك نتاجها ألف دينار، وهذه نتاجها عظيم من العظماء.

والغريب جدّاً أنّه كيف يقنع أحد أن يتولّى الغير تربية أولاده -لا على مستوى حاجات اليد كالأكل والشرب- بل على مستوى الروح وتلقينه المفاهيم والقيم.

هذا الذي ذكرناه من سيرة فاطمة مع زوجها أمير المؤمنين(صلوات الله وسلامه عليهما) يعطينا بوضوح أنّ الخروج من المنزل للعمل إنّما هو استثناء، فلا ينبغي أن يُجعَل أصلاً، ولا بدَّ أن يكون هناك توجيه في هذا الأمر، ولا بدَّ من أن يكون هذا التوجيه مقروناً بمثل هذا الذي رسمه لنا الدين وأهله (صلوات الله عليهم).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الأطيبين.


([1]) البحث ضمن كلمة ألقاها سماحة الشيخ علي الصدديB في حسينية الإمام الرضاg البحرانية، في مدينة قم المقدسة، في ذكرى مولد الصديقة الزهراءj 1445هـ.

([2]) مصباح المتهجد، الطوسي، ص713.

([3]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج2، ص610.

([4]) مقطع من الزيارة الجامعة، المزار، المشهدي، ص576.

([5]) مقطع من زيارة عاشوراء، المزار، المشهدي، ص482.

([6]) مصباح المتهجد، الطوسي، ص581.

([7]) مصباح المتهجد، الطوسي، ص828.

([8]) الخصال، ص360، الأمالي، ص60.

([9]) إرشاد القلوب، الديلمي، ج2، ص294، وبحار الأنوار، المجلسي، ج27، ص116-117.

([10]) معاني الأخبار، الصدوق، ص396.

([11]) الكافي، الشيخ الكليني، ج3، ص13.

([12]) وهو الباب 89 من كتاب النكاح، وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج20، ص172، وذكره المحدث النوري أيضا في المستدرك، ج14، في كتاب النكاح، الباب 69، ج14، ص253.

([13]) وهو الباب 17 من كتاب التجارة، مستدرك الوسائل، ج13، ص48.

([14]) يعني رسول اللهe.

([15]) قرب الإسناد، ص52.

([16]) ومن هذا يتضح سر تعبير المحدّث النوري باب استحباب عمل الرجل والمرأة في المنزل.

([17]) الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص86.

([18]) الكافي، الكليني، ج8، ص165.

([19]) جامع أحاديث الشيعة، ج20، ص234.

([20]) ستأتي الإشارة إلى هذه الرواية قريباً.

([21]) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص496. ومثله ما في الأمالي للشيخ الطوسي، ص618.

([22]) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص120.

بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج43، ص85.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا