شرطيَّةُ الأعلميَّة في مرجعِ التَّقليد (دراسة في الأدلَّة)

شرطيَّةُ الأعلميَّة في مرجعِ التَّقليد  (دراسة في الأدلَّة)

الملخَّص:

تعرَّض الكاتب في مسألة شرطية الأعلمية في تقليد المجتهد بشكل مبسَّط إلى الأدلة التي يمكن أن يستدلَّ بها على ذلك، فبدأ بالدليل الروائي عارضاً خمس روايات، مع بعض المناقشات، ثمَّ ذكر الإجماع والتسالم، ثمَّ تعرَّض لدليل السيرة العقلائية والذي هو عمدة الأدلة عند الأكثر، وختم بالدليل العقلي الذي استدلَّ به بعض الفقهاء. 

المقدمة: 

لا يخفى على ذي عقل ما لمنصب المرجعية الشيعية من دورٍ مهمٍّ في حفظ مذهب التشيُّع وصونه من كلِّ مظاهر الزيغ والانحراف، وفي تثبيت العقيدة وبيان الأحكام الإلهية، وحيثُ إنَّ الحكمَ الشرعيَّ أمرٌ في غاية الأهميَّة والخطورة لذا لا يُتاح بحسب أدلَّة المذهب إعطائه بيدِ كلِّ واحدٍ من عامَّة الناس، بل اللازم لمن يتصدَّى لبيان الحكم الشَّرعي أن يكونَ فقيهاً عارفاً برواياتِ أهلِ البيتi مجتهداً لديه القدرة على استخراج الحكم الشرعي من مصادره المقرَّرة، بل ذهب مشهورُ الطائفة لأكثر من ذلك بأن اشترطوا فيه أن يكون الأعلم لا محض كونهِ عالماً، وهناك شرائط أخرى ذكروها في رسائلهم العملية. 

وهذا البحث جمعٌ لما ذكرَه الأعلامُ في مسألة اشتراط الأعلمية وبيان ما يُستفاد من تلك الأدلَّة، وقد كُتب سريعاً مختصراً بسبب ظروف ضيق الوقت لذا كان البحث في مرحلة المقتضي أي فقط بيان الأدلة دون التعرُّض لمقام المانع، وهو التعرض لما يمنع من الأخذ بتلك الأدلَّة فمن هذه الجهة هذا البحث بحاجة لبحث آخر يُتمَّم فيه ما انتهى له هذا البحث. 

المبحث الأوَّل: تمهيد

المطلب الأوَّل: بيان مفردات البحث

1.الشَّرط لغة واصطلاحاً 

الشرط لغة: ذكر الخليل في كتاب العين عدَّة معانٍ للشرط فقال: "الشَّرْط: معروف في البيع، والفعل: شارَطَه‏ فشَرَطَ له على كذا وكذا، يَشْرِط له. والشَّرْط: بَزْغ الحجَّام‏ بالمِشْرَط، والفعل: شَرَطَ يَشْرُط (يَشْرِط). والبزغ: الشَّرْط الضعيف. والشَّرِيط: شبه خيوط تفتل من الخوص، والجميع: الشُّرُط. فإذا كان مثلها من الليف فهي: دُسُر، والواحد: دِسَار. قال الله تعالى: وحَمَلْناهُ عَلى‏ ذاتِ أَلْواحٍ ودُسُرٍ، ودُسُرُها: شُرُطُها. والشَّرَطان‏: كوكبان. يقال: إنهما قرنا الحَمَل، وهو أول نجم من الربيع...".([1]

2. الشرط اصطلاحاً: 

أصل التقليد في اللغةً هو تعليق القلادة على العنق، قال الخليل: "القَلْدُ: إدارتك قلباً على قلب من الحلي، وتقول: هي‏ قِلَادَةُ الإنسان والبدنة والكلب ونحوه. وتَقْلِيدُ البدنة أن يعلَّق في عنقها عروة مزادة ونعل خَلِق فيعلم أنَّها هدي.. وتَقَلَّدْتُ‏ السيفَ والأمر ونحوه: ألزمته نفسي، وقَلَّدَنِيهِ‏ فلانٌ أي ألزمنيه وجعله في عنقي".([2])

وأمَّا التقليد اصطلاحاً فهو "العمل مطابقاً لفتوى الفقيه الجامع للشرائط وإن لم تستند إليها حين العمل، فتفعل ما انتهى رأيه الى فعله، وتترك ما انتهى رأيه الى تركه، من دون تمحيص منك، فكأنَّك وضعت عملك في رقبته كالقلادة، محمِّلاً إياه مسؤولية عملك أمام الله".([3])

3. الأعلمية لغة واصطلاحاً 

الأعلمية لغةً: أعلم صيغة أفضل تفضيل من علِم، والعلم في اللغة هو: "نقيض جهل. ورجل‏ عَلَّامة، وعَلَّام‏، وعَلِيم‏، فإن أنكروا العَلِيم‏ فإنَّ الله يحكي عن يوسف‏ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏، وأدخلت الهاء في‏ عَلَّامة للتوكيد، وما عَلِمْتُ‏ بخبرك، أي: ما شعرت به. وأَعْلَمْتُهُ‏ بكذا، أي: أشعرته وعَلَّمْته‏ تَعْلِيما. والله‏ العالِم‏ العَلِيم‏ العَلَّام‏. والأَعْلَم‏: الذي انشقت شفته العليا. وقوم‏ عُلْمٌ‏ وقد عَلِمَ‏ عَلَماً".([4])

الأعلمية اصطلاحاً: 

الأعلم هو: الأقدر على استنباط الأحكام، وذلك بأنْ يكون أكثرُ إحاطةً بالمدارك وبتطبيقاتها من غيره بحيث يوجب صرف الريبة الحاصلة من العلم بالمخالفة إلى فتوى غيره([5]).

4. المرجع لغةً واصطلاحاً

المرجع لغة: بمعنى المآب([6]).

في الاصطلاح: هو من يرجع إليه في الأحكام الشرعية ويُستندُ إليه فيها. 

المطلب الثَّاني: أهمية البحث في المسألة

إنَّ مسألة اشتراط الأعلمية في مرجع التقليد لها أهمية خاصَّة حيث إنَّ لها بعداً حيوياً؛ فإنَّه في الآونة الأخيرة ظهر أشخاص يشكِّكون في هذا الشرط، ويحثُّون الناس على عدم الاستماع لما يقرِّره الفقيه في رسالته العملية من لزوم تقليد الفقيه الأعلم، وأنَّ الأعلمية قيدٌ في مرجع التقليد، بل المهم أن يكون عالماً، بل ربَّما ادعى بعضهم كفاية أن يكون صاحبَ شهادةٍ علميةٍ ولو في تخصُّص آخر كالطبِّ مثلاً، فهذا كافٍ ومصحِّح لكي يتدخل في أمور الفقه والفتيا!! 

ولا يخفى أنَّ هذا الأمر في غاية الخطورة، من هنا فإنَّ طرح أدلَّة التقليد على النَّاس له أثر كبير في ربط الناس بالمرجعية. 

المطلب الثَّالث: محلّ البحث 

يذهب مشهورُ علماء الطائفة (أعزَّهم الله تعالى ) إلى اشتراط الأعلمية في مرجع التقليد إمَّا مطلقاً؛ أي سواء علم المكلَّف بوجود اختلاف في الفتاوى بينه وبين المجتهدين الآخرين أم لا، وإمَّا اشتراط الأعلمية مع علم المكلَّف بالاختلاف في الفتاوى بين المجتهد وغيره من المجتهدين. 

وبحثنا بالدِّقة يتركَّز في أدلَّة مسألة: اشتراط الأعلمية في مرجع التقليد مع الإمكان عند العلم بالاختلاف. 

المبحث الثَّاني: أدلة شرطية الأعلمية في مرجع التقليد

الدليل الأوَّل: الأدلَّة الروائية

وقد استُدلَّ بعدَّة روايات نذكرُ أبرزها: 

الخبر الأوَّل: مقبولة عمر بن حنظلة

الرواية: عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد اللهg عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث -إلى أن قال- فإنْ كان كلُّ واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا النَّاظرين في حقِّهما، واختلف فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم‌؟ فقالg: >الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر<، قال: فقلت: فإنَّهما عدلان مرضيَّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه...([7]).

وهذه الرواية تُعرفُ بمقبولة عمر بن حنظلة، وذلك لتلقي عموم الفقهاء لها بالقبول والعمل مع عدم وجود توثيق صريح للرَّواي المباشر([8])، وقد استدلُّوا بها في مواضع متعدِّدة خصوصاً في باب القضاء والتَّعارض، نعم رفضها السيد الخوئي لضعف سندها كما سيأتي.

تقريب الإستدلال:

أنَّ مورد الرواية هو (الحكم)، والمراد من الحكم ليس الاصطلاحي (القضاء) وإنَّما المراد هو الفتوى بدليل أنَّ الإمامg أرجع إلى الأفقه في المسائل الشرعية باعتبار مورد السؤال كان حول الدِّية والميراث وهي مسائل فقهية، والسائل يصرِّح بوجود الاختلاف بين الأصحاب في الحكم الشرعي فعيَّن الإمامg لهم وظيفتهم الشرعية، وهي الرجوع إلى الأعدل والأفقه مع وجود الاختلاف. 

وأشكل بعضُهم على هذا التقريب بأنَّ فيه:

 أولا: أنَّ المقبولة وردت في فصل الخصومة والترافع، فإسراء الحكم منه إلى باب الفتوى قياس مع الفارق؛ إذ الخصومة لا ترتفع بالحكم بالتخيير فيها، لأنَّ كلَّاً من الخصمين يختار ما يوافقه، فتبقى الخصومة كما كانت، بخلاف باب الفتوى، فإنَّ الحكمَ فيه بالتخيير رافع للحيرة ومثبت للتَّكليف.([9])

نعم، السيد الخوئي ردَّ الرواية لضعف سندها عنده، قالS: "إنَّ المقبولة ضعيفة السند، لعدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة على ما مرَّ غير مرَّة"([10]).

الخبر الثَّاني:موثقة داود بن الحصين 

روى داود بن الحصين -واقفي من أصحاب الصَّادق والكاظم- عن أبي عبد اللهg في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم، وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيّهما يمضي الحكم‌؟ قال:>ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما، فينفذ حكمه، ولا يلتفت إلى الآخر<([11]).

تقريب الاستدلال:

 تدلُّ الرِّواية على أنَّه مع وقوع الاختلاف بين الحكمين في القضاء يتعيَّن الرجوع إلى الأفقه والأعلم بفقه أهل البيتiوأحاديثهم. 

 هذه الرِّواية تامَّة سنداً عند السيد الخوئيS وإن لم يستدلَّ بها على المطلب؛ لقصورها الدلالي حيث قد يرد عليها ما ورد على الأولى ما اختصاصها بباب القضاء والتخاصم. 

الخبر الثالث: خبر موسى بن إكليل 

الرواية: ونصُّه كما في التهذيب: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ ذُبْيَانَ بْنِ حَكِيمٍ الْأَوْدِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ أُكَيْلٍ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِo قَالَ: سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنَ أَخٍ مُنَازَعَةٌ فِي حَقٍّ فَيَتَّفِقَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ يَكُونَانِ بَيْنَهُمَا، فَحَكَمَا فَاخْتَلفَا فِيمَا حَكَمَا؟ قَالَ: >وكَيْفَ يَخْتَلِفَانِ؟<، قُلْتُ: حَكَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلَّذِي اخْتَارَهُ الْخَصْمَانِ، فَقَالَ: >يُنْظَرُ إِلَى أَعْدَلِهِمَا، وأَفْقَهِهِمَا فِي دِينِ اللَّهِ! فَيُمْضَى‏ حُكْمُهُ<‏.([12])

ونوقش هذا الخبر بأنَّه من متفرِّدات الشيخ الطوسي¤، كما أنَّ سندَه ضعيف بذبيان بن حكيم وهو غير موثَّق([13]).

الخبر الرابع: مرسلة عيون المعجزات:

الرواية: >لَمَّا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ مَا كَانَ ومِنَ الْجَوَابِ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ فَفُتِحَ عَلَيْهِمْ[مجموعة من أصحاب الرضا(ع) بعد شهادته] بَابٌ مِنْ صَدْرِ الْمَجْلِسِ ودَخَلَ مُوَفَّقٌ وقَالَ: هَذَا أَبُو جَعْفَرٍ، فَقَامُوا إِلَيْهِ بِأَجْمَعِهِمْ، واسْتَقْبَلُوهُ، وسَلَّمُوا عَلَيْهِ، فَدَخَلَ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وعَلَيْهِ قَمِيصَانِ وعِمَامَةٌ بِذُؤَابَتَيْنِ، وفِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ، وجَلَسَ وأَمْسَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَقَامَ صَاحِبُ الْمَسْأَلَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَسَائِلِهِ فَأَجَابَ عَنْهَا بِالْحَقِّ فَفَرِحُوا ودَعَوْا لَهُ وأَثْنَوْا عَلَيْهِ، وقَالُوا لَهُ: إِنَّ عَمَّكَ عَبْدَ اللَّهِ أَفْتَى بِكَيْتَ وكَيْتَ! فَقَالَ: >لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَا عَمِّ، إِنَّهُ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقِفَ غَداً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولَ لَكَ: لِمَ‏ تُفْتِي‏ عِبَادِي‏ بِمَا لَمْ تَعْلَمْ وفِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ<([14]).

التقريب:

إنَّ المراد من الإمامة ليست الإمامة في صلاة الجماعة، وإنَّما الإمامة والزعامة الدينية، وأنَّ موردها الفتوى، فالفقيه لا يحقُّ له الفتوى مع وجود من هو أعلم منه في الفقه. 

وقد ذهب إلى اعتبارها دلالةً بعضُ الفقهاء كالسيد الخوئيS([15])، وكذلك سلَّم بدلالتها الشيخ حسين الحلِّي كما هو المحكي عنه من تلميذه السيد محمَّد سعيد الحكيم S([16]).

ولكن نوقشت هذه الرِّواية بأنَّها ضعيفة بالإرسال، وكذا دلالةً بأنَّ الاستدلال يعتمد على أنَّ المراد من الإمامة هي القيادة الدينية لا أنَّها الخلافة الإلهية، فتكون الرواية مجملة من هذه الجهة، بالإضافة إلى أنَّ هذه الرواية نفسها موجودة في كتاب الاختصاص للشيخ المفيدS بدون الفقرة محلِّ الشاهد، والأخذ بهذه النسخة على الأحرى ترجيحٌ بلا مرجح([17]).

الخبر الخامس: روايات الإرجاع 

هناك طائفة من الروايات مفادها إرجاع الإمام الشيعة إلى بعض الفضلاء من أمثال محمَّد بن مسلم وزرارة وغيرهما من الفقهاء، وحيث إنَّ أصحاب الإمام كُثُر فإرجاعه إلى خصوص محمَّد بن مسلم دون غيره لا لشيء سوى أنَّه أفضل وأعلم.([18]

من هذه الروايات: 

1. صحيحة عبد الله بن يعفور قال: قلت لأبي عبد الله g: إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني، فقال: >ما يمنعك من محمَّد بن مسلم الثقفي؛ فإنَّه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً<([19]).

 2. صحيحة يونس بن يعقوب قال: كنَّا عند أبي عبد اللهg فقال: >أما لكم من مفزع؟ أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري؟< ([20]).

الدليل الثَّاني: الإجماع

يقول السيد محسن الحكيم في مستمسكه حول وجوب تقليد الأعلم: "كما هو المشهور بين الأصحاب، بل عن المحقِّق الثَّاني الإجماع عليه، وعن ظاهر السيد في الذريعة كونه من المسلمات عند الشيعة..".([21])

و الإجماع هو: اتفاق عدد كبير من أهل النظر والفتوى في الحكم بدرجة توجب إحراز الحكم الشرعي.([22])

وحجية الإجماع تعتمد على حساب الاحتمالات بحسب رأي الشهيد الصدر (قدس) فإذا تعددت الإخبارات الحسية من أهل النظر أدَّى ذلك إلى نمو احتمال المطابقة وضآلة احتمال المخالفة حتى تصل إلى درجة توجب زوال هذا الإحتمال عمليَّاً.

وقد نوقش هذا الإجماع بأنه منقول غير ثابت، بل الخلاف في المسألة يدلُّ على خلافه.

وأمَّا التَّسالم الذي هو: درجة أعلى من الإجماع، ويدل على الاتفاق بين علماء الطائفة على هذه المسألة وتلقيهم هذا الحكم يداً بيد الكاشف عن صدوره من الشارع.

ودليل التسالم تامٌ كبروياً عند الأعلام أي أنَّه حجَّة شرعاً، ولكن الكلام في الإثبات الصغروي في المقام حيث وقوع الاختلاف في المسألة واضح لذا فالتسالم غير ثابت.

كلام السيِّد السبزواري في ردِّ الإجماع: 

قال(ره): "وفيه: إنّه يمكن المناقشة في مثل هذه الإجماعات كما ثبت في علم الأصول، قال صاحبُ الجواهر في كتاب القضاء: "لم نتحقّق الإجماع من المحقِّق الثَّاني، وإجماع المرتضى مبني على مسألة تقليد المفضول في الإمامة العظمى مع وجود الأفضل وهو غير ما نحن فيه". ([23])

الدليل  الثَّالث: السيرة العقلائية

السيرة العقلائية: وهي ميلٌ عام عند العقلاء نحو سلوك معيَّن دون أن يكون للشرع دورٌ إيجابيٌ في تكوين هذا الميل، ومثال ذلك: الميل العام لدى العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلِّم أو خبر الثقة ([24])

ويشترط للاستدلال بالسيرة العقلائية أن يكونَ هناك تقريرٌ من المعصوم؛ أي إمضاء لهذا الميل العقلائي، من هنا فالسيرة العقلائية ليست دليلاً بذاتها، بل تكتسب الدليلية بشرط التقرير.([25])

أما تقريب الاستدلال بالسيرة العقلائية على شرطية الأعلمية في المقلَّد نقول: إنَّ العقلاء جرت سيرتُهم بالأخذ بقول الأعلم سواء في الفقه أو غيره، وكمنبهٍ على ذلك تجد أنَّه إذا أًصاب أحدُهم مرضٌ خطير لا يجازف بالعلاج عند أي طبيب كان، بل يعالج نفسَه عند أكثر الأطباء حذاقةً وتمرساً، فكيف الحال في أمر الدين الذي يحتاج إلى تثبت واحتياط أكثر فلا يمكن الأخذ بالفتوى والعمل بها من غير الأعلم مع وجود الأعلم هذا ما يميل إليه العقلاء. 

قال في المستمسك في الاستدلال بهذه السيرة: "وبالجملة: فلا يتضح دليلٌ على جواز تقليد المفضول مع تيُّسر الرجوع إلى الأفضل، ومقتضى بناء العقلاء تعيُّن الرُّجوع إلى الأفضل، والتشكيك في ثبوت بناءِ العقلاء على ذلك يندفع بأقل تأمُّل.([26])

الدليل  الرَّابع: الدَّليل العقلي

ممَّا استُدلَّ به على شرطية تقليد الأعلم حكم العقل، وإليك تقريب الاستدلال من كلمات الأعلام: 

قال المحقِّق الحائريS مبيِّناً لذلك: "حكمُ العقلِ المستقلّ‌ِ المتحقِّق في باب التقليد المقتضي لوجوب رجوع الجاهل إلى العالم يقتضي في مقام الاختلاف بين الأعلم وغيره الرجوع إليه". ([27])

وقال السيد الخوئيS: "فلا ينبغي التوقُّف في أنَّ العامّي يستقلُّ عقلُه بلزوم الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى، وذلك لدوران الأمر بين أن تكون فتوى كلٍّ من الأعلم وغيره حجَّة تخييرية، وبين أن تكون فتوى الأعلم حجَّة تعيينية؛ للعلم بجواز تقليد الأعلم على كلِّ حال، سواء استند في أصل مشروعيته إلى الارتكاز وبناء العقلاء أم استند إلى دليل الانسداد، ففتوى الأعلم إمَّا أنَّها في عرض فتوى غير الأعلم، فالمكلَّف يتخيَّر في الرجوع إلى هذا وذاك، أو أنَّها متقدِّمة على غيرها، وحيثُ إنَّ فتواه متيقنة الحجية، وفتوى غير الأعلم مشكوكة الاعتبار، فيستقلُّ عقلُ العامّي بوجوب تقليد الأعلم، وعدم جواز الرجوع إلى غيره، للشكِّ في حجيَّة فتواه.. إذاً النتيجة وجوب تقليد الأعلم حسبما يدركه عقل العامّي واجتهاده"([28])

 وقال صاحب المستمسك: "مضافاً إلى الأصل العقلي عند دوران الأمرِ في الحجيَّة بين التعيين والتخيير الذي عرفته فيما سبق، فإنَّ رأيَ الأفضلِ معلومُ الحجيَّة، ورأي المفضول مشكوك الحجية"([29]). 

الخاتمة ونتائج البحث: 

اتضح من البحث وجود أربعة أدلَّة في المسألة:

1. منها ما هو لفظيٌ كالرِّوايات وهي على طائفتين الأولى: ما دلَّ على تعيُّن الرجوع إلى الأفقه عند التنازع، وهذه الروايات وإن قبِل البعضُ دلالةَ بعضها إلاَّ أنَّ بعضهم توقَّف فيها لوجود إيرادات عليها، والطائفة الثَّانية: روايات الإرجاع إلى بعض الفضلاء دون غيرهم وما ذاك إلا لكونهم الأفقه بين الأصحاب.

2. ومنها غير لفظي كالإجماع والتسالم، ولم يقبل عدَّة من الأعلام الاستدلال بهذا الوجه بعد وضوح وجود الاختلاف بين أعلام الطائفة في هذه المسألة، وكالدليل العقلي أي أن العقلَّ يحكم بلزوم الرجوع إلى الفاضل عند الاختلاف بينه وبين المفضول وهو ما تمسك به بعض الأعلام وإن ردَّه بعضهم وكالسيرة العقلائية وهي عمدة ما استُدلَّ به على شرطية تقليد الأعلم فهذا الدليل تامٌ عند الأكثر. 

والحمد لله ربَّ العالمين.


([1]) كتاب العين، الخليل الفراهيدي، ج‏6، ص234.

([2]) كتاب العين، الخليل الفراهيدي، ج‏5، مادة(قلد) ص116.

([3]) الفقه للمغتربين، السيد السيستاني، ص10.

([4]) كتاب العين، الخليل الفراهيدي، ج2، (مادة:علم)، ص152.

([5]) الاستفتاءات، التقليد، السيد السيستتاني، ص49.

([6]) كتاب العين، الخليل الفراهيدي، ج‏8، ص417.

([7]) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج٢٧، أبواب صفات القاضي، ب٩، ص١٠٦-١٠٧.

([8]) نعم عبَّر عنها الشيخ محمَّد سند أنَّها مصححة فقال: "أمَّا كونها صحيحة أو مصحَّحة فلوقوفنا على قرائن مسندة دالَّة على أنَّه من أتراب محمَّد بن مسلم وزرارة، بل في رواية صحيحة مسندة أن استفتاءات البيوت الكبيرة من الشيعة كانوا يرجعون إليه ويقدموه على محمد بن مسلم، وليس هذا بالغريب إذا ما لاحظنا جملة ما يرويه عمر ابن حنظلة فالرواية صحيحة أو مصححة عندنا وقد حرَّرنا رسالة -قد طبعت- في جلالته وعدالته". سند العروة الوثقی(الاجتهاد والتقليد)، ج1، ص301.

([9]) رسالة في الاجتهاد والتقليد، مرتضى الأردكاني، ص 28.

([10]) التنقيح في شرح العروة الوثقى، السيد الخوئي، ج1، التقليد، ص، 364.

([11]) وسائل الشيعة، ج٢٧، أبواب صفات القاضي، ب٩، ص١١٣. 

([12]) تهذيب الأحكام (تحقيق خرسان)، الشيخ الطوسي، ج‏6، ص301. 

([13]) نعم عبَّر عنها المجلسي الأوَّل في روضة المتقين بالقوي، قال: "وروى الشيخ في القوي، عن موسى بن أكيل النميري (الثقة)" روضة المتقين، ج6، ص29.

([14]) عيون المعجزات، حسين عبد الوهاب(ق5)، ص108، ونقلها عنه المجلسي، في بحار الأنوار (ط - بيروت) ؛ ج‏50، ص100.

([15]) التنقيح في شرح العروة الوثقى، السيد الخوئي، ج1، التقليد، ص141.

([16]) مصباح المنهاج، السيِّد محمَّد سعيد الحكيم، ج1، ص80.

([17]) كلمات توضيحية في شرح دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي، الشيخ محمَّد العبيدان، ج1، ص106.

([18]) نفس المصدر ص98.

([19]) وسائل الشيعة، الحر العاملي، باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة فيما رووه عن الأئمة ع من أحكام الشريعة لا فيما يقولونه برأيهم.....ج27، ص136.

([20]) المصدر السابق.

([21]) مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الحكيم، ج1، ص2٦.

([22]) دروس في أصول الفقه، محمَّد أشكناني، ص320. 

([23]) مهذب الأحكام، السيد عبد الأعلى السبزواري، ج1، ص26.

([24]) دروس في علم الأصول الحلقة الأولى، الشهيد الصدر، ص115.

([25]) نفس المصدر. 

([26]) مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الحكيم، ج1، ص28.

([27]) شرح العروة الوثقی، الشيخ مرتضى الحائري، ج1، ص69.

([28]) التنقيح في شرح العروة الوثقى، السيد الخوئي، ج1، التقليد، ص107.

([29]) مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الحكيم، ج1، ص28.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا