سيرة بين إسرائيل في القرآن الكريم (القسم الثاني)

سيرة بين إسرائيل في القرآن الكريم (القسم الثاني)

الملخّص:

ذكر الكاتب في القسم الأوَّل -من خلال ثلاثة فصول- فيما يتعلّق بسيرة بني إسرائيل والتعريف بهم، وكثرة ذكرهم في القرآن الكريم، ثم ذكر بعض ما يتعلّق بتاريخهم الأسود طوال التاريخ، خصوصاً في زمن نبي الله موسىg، وكذلك بعض عقائدهم الفاسدة التي تعرّض لها القرآن الكريم، وفي هذا القسم يستكمل الحديث عنهم في فصلين: أحدهما عن بعض الملامح التفصيلية لهذا المجتمع الغريب، والذي تميّز عن غيره من المجتمعات والقوميات بأشياء كثيرة،  وثانيهما ما ذكره النبيe كتحذير لهذه الأمَّة من المجتمع الإسرائيلي واليهودي، وما وقعت فيه الأمّة من شَبَهٍ بينها وبين ذلك المجتمع.

 

الفصل الرَّابع: ملامح المجتمع الإسرائيلي في القرآن الكريم

يتَّضِحُ ممَّا تقدَّم بعضُ ملامح شخصية الفرد الإسرائيلي، فهو شخصٌ لجوجٌ معاند، يُحبُّ الدِّعةَ والرَّاحة والحياة، منغمسٌ في المادة، جاهلٌ ساذج، تتقاذفه الأوهام حتى يصدِّقَ بكلِّ شيءٍ، ونتعرَّضُ هنا لبعضٍ آخرَ من ملامح هذه الشخصية الغريبة ممَّا ذكره القرآن الكريم في طيِّ آياته المباركة.

1ـ القومية اليهودية:

تتجلَّى هذه القوميَّة بوضوح في سيرتهم، ورفضهم بقية الشعوب، والنظر إليهم كخدم لهم لا أكثر، وهذا ما نلحظه في زماننا المعاصر أيضاً، وقد اشتهر عنهم دعواهم بأنَّهم: (شعب الله المختار)، وتحدَّث القرآنُ عن مضمون هذه المقولة في بعض الآيات، منها قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}(المائدة: 18)، قال الطبرسي في معنى الآية: "{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ} أي: أشياع ابنَيْ الله عزير والمسيح كما يقول أقرباء الملك: نحن الملوك"([1])، ونَقَلَ عن ابن عباس: "أنَّ جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وزيد بن التابوه، وغيرهم، قالوا لنبي الله حين حذَّرهم بنقمات الله وعقوباته: لا تخوفنا فإنَّا أبناءُ الله وأحباؤه، فإن غضب علينا، فإنَّما يغضب كغضب الرجل على ولده، يعني أنَّه يزول عن قريب"([2]). 

وقال العلامة الطباطبائيS: "وغرضهم من دعوى هذا الاختصاص والمحبوبية إثبات لازمه؛ وهو أنَّه لا سبيل إلى تعذيبهم وعقوبتهم، فلن يصيروا إلا إلى النعمة والكرامة؛ لأنَّ تعذيبه تعالى إياهم يناقض ما خصَّهم به من المزيَّة، وحباهم به من الكرامة"([3]).

فهم إذن من بين كلِّ الأمم والشعوب، يفعلون ما يشاءون، ويفسدون في الأرض وليس عليهم حرج، ولا لأحدٍ الاعتراض عليهم، وأمَّا الآخرون فلا يستحقون شيئاً في الحياة، بل يكفيهم أن يكونوا خدماً لهم، وفوق كلِّ هذا فإنَّ الجنَّة محرَّمةٌ على غير اليهود والنصارى كما يدَّعون، يقول تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، ويجيبهم القرآن: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(البقرة: 111)، فما هذه الدّعوى إلا ليخدعوا بها أنفسهم، ويطيّبوا بها خواطرهم، لما أصابهم من خزي وعذاب في الدنيا قبل الآخرة، وتقدَّمت دعواهم بأنَّ الآخرة خالصة لهم، وأنَّهم أولياء لله من دون الناس.

وقالوا أيضاً: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}(البقرة:80)، فالمفسد منهم والطالح إذا ما أُدخل النَّار، فإنَّه سريعاً ما سيلحق بالجنَّة؛ لأنَّهم -كما يدَّعون- أبناء الله وأحباؤه. 

2ـ تكذيب الأنبياءi:

ومن آثار هذه العصبية والقومية، أنَّهم كذَّبوا الأنبياء الذين جاؤوا بعد موسىg مع أنَّ هؤلاء الأنبياء من بني إسرائيل، فلم يقبلوا بأيِّ دينٍ جديدٍ بعد دين موسىg الذي حرَّفوه([4])، ولأجل هذه العصبية يذهبون إلى عدم إمكان النسخ في الأحكام، فدينهم لا ينسخه أيُّ دينٍ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}(البقرة: 91)، ولهذا لم يكن من المستغرَب عليهم أن يكفروا برسول اللهe ويكذبِّوه، مع أنَّهم كانوا ينتظرون بعثته، والسبب أنَّه ليس من بني إسرائيل، بل من بني إسماعيلg، ولا يمكن لليهود أن يسلِّموا بأنَّ النبوَّةَ انتقلت من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل.

وإيغالاً في العناد وإنكار الحقّ، ادَّعوا دعوى ونسبوها لله تعالى، وهي أنَّ من شروط النبوة هو أنَّ المدّعي للنبوة يجب عليه أن يأتي بقربان تأكله النار، والهدف من هذه الدعوى هو الهروب عن تصديق النبيe، يقولa: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(آل عمران: 183)، ولم يستجب لهم النبيe، لكي لا تثبت كذبتهم على الله تعالى، والأنبياء السابقون عندما جاؤوهم بذلك كان مصيرُهم القتل. 

3ـ نسبة الأنبياء إلى اليهودية:

ومن عصبيّتهم وقوميّتهم أنَّهم نسبوا النَّبي إبراهيمg إلى اليهودية، مع أنَّه متقدِّمٌ على موسىg بمئات السنين، ولذلك يؤكِّدُ القرآنُ في أكثر من مورد على أنَّ إبراهيم الخليلg لم يكن يهودياً ولا نصرانياً بل كان حنيفاً مسلماً([5])، ويردُّ على دعواهم فيقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(آل عمران: 65-67). 

والقرآن يضع ضابطةً ومقياساً للحقِّ وهو اتباع ملة إبراهيمg، وهذا يدلُّ على أنَّ ملة إبراهيمg لم تحرَّف، يقول تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}(آل عمران: 68)، ويخاطب النبيe فيقول له: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(المائدة: 161).

بينما اليهود يرون أنَّ المقياس هو دينهم المحرَّف، فمن اتبعه كان مهتدياً وإلا فلا، يقول تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(البقرة: 135).

واليهود لم يقتصروا على نسبة إبراهيمg لليهودية، بل نسبوا الأنبياء الذين جاءوا من بعده إليها أيضاً، قال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(البقرة: 140).

4ـ نقض المواثيق:

تميَّز بنو إسرائيل بنقض العهود والمواثيق في الماضي والحاضر، فقد قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(البقرة: 100)، والقرآن يتحدَّثُ عن نقضهم للمواثيق التي أخذها عليهم ربُّ العالمين، يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}(البقرة: 83). 

وكان هناك وعدٌ إلهيٌ كبير ومُغْرٍ بالنسبة لمن يلتزم بهذا الميثاق، يقول تعالى في سورة المائدة: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}(المائدة: 12)، ولكنَّ أصحابَ القلوب المريضة، والنفوس الملوَّثة، والعقيدة المتزلزلة، الذين تعوَّدوا على الجحود والعصيان، نقضوا هذا الميثاق الإلهي، فلحقتهم اللعنة الأبدية: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(المائدة: 13). 

وعلى هذا فيكون نقضُ مواثيقِ الناس بالنسبة إليهم أمراً طبيعياً جدّاً، وكم نقضوا من ميثاق مع المسلمين زمنَ النبيK، وتعاونوا مع المشركين ضدَّ المسلمين، حتى طردهم النبيK من المدينة؟! وها نحن نشهد في زماننا هذه الخصلة الخبيثة وكأنَّها جزءٌ من ذواتهم لا تنفكُّ عنهم.

5ـ الفساد في الأرض ومحاربة الأديان:

من كلِّ ما تقدَّم يُعلَمُ درجة الفساد التي أحدثها بنو إسرائيل في الأرض، وأعظمها محاربة الأنبياء وقتلهم، ونشير إجمالاً إلى بعض الآيات التي تتحدّث عن ذلك، قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(المائدة: 64)، ويظهر من الآية أنَّ الحروب والفساد في الأرض طبيعة مترسِّخة في أنفسهم، لذلك هم على الدوام {يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}، وفي آية أخرى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(الصف: 8)، فحربهم هو ضدَّ الأديان السماوية، وهدفهم هو منع النور والهدى الإلهي من الوصول إلى الناس، قال تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(آل عمران: 69).

وتجاوز حربهم وعداؤهم حتى وصل إلى عداء سيِّد الملائكة جبرئيلg، يقول تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}(البقرة: 97-98)، فقد ورد أنَّ الآية: >نزلت في اليهود الذين قالوا لرسول اللهe: إنَّ لنا في الملائكة أصدقاء وأعداء، فقال رسول اللهe: من صديقكم ومن عدوكم؟ فقالوا: جبرئيل عدونا لأنَّه يأتي بالعذاب، ولو كان الذي ينزل عليك القرآن ميكائيل لآمنّا بك فإنَّ ميكائيل صديقنا، وجبريل ملك الفضاضة والعذاب، وميكائيل ملك الرحمة<([6]). 

وفي إشارة إلى فسادَيْن كبيرَيْن يحصلان في حياة بني إسرائيل يقول تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}(الإسراء: 4)، وهناك اختلاف في مصداق هذَيْن الإفسادَيْن، يقول العلامة الطباطبائي: "وأمَّا أصل القصّة التي تتضمَّنها الآيات الكريمة فقد اختلفت الرِّوايات فيها اختلافا عجيباً يسلبُ عنها التعويل، ولذلك تركنا إيرادها ههنا، من أرادها فليراجع جوامع الحديث من العامَّة والخاصَّة"([7]).

6ـ التثاقل عن الجهاد في سبيل الله:

لا شكَّ أنَّ الجهادَ يحتاج إلى الشجاعة وإلى بذل النفس، والاستعداد للموت، وأمَّا من أحبَّ الحياة وتعلَّق بها، فلا يُرجَى منْه إلا التّخاذل والفرار واختلاق الأعذار، وهذا ما كان من بني إسرائيل، ويقول عنهم القرآن: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}(الحشر: 13-14)، فهم لا توجد فيهم مقوِّمات القتال، وغيرُ مستعدِّين للمواجهة، فإذا لم يكن لهم مكان يختبئون فيه فإنَّهم سريعاً ما ينهزمون ويستسلمون، والتاريخ حافلٌ بنماذج من ذلك.   

 وقد تقدَّم في الفصل الثَّاني أنَّ بني إسرائيل امتنعوا عن الجهاد لفتح الأرض المقدَّسة، وقالوا لموسىg: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}، {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}(المائدة: 22و24)، ونتيجة ذلك أنَّهم ابتلوا بالتّيه.

وفي حادثةٍ أخرى يفصِّل فيها القرآنُ، ويبيِّنُ النفسيةَ التي يمتلكها بنو إسرائيل في الجهاد، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(البقرة: 246)، وهذا النبيٌّ يعرف تاريخهم جيِّداً، وما اتَّصفوا به من الوهن والضعف، لذلك {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}(البقرة: 246)، وعن الصادقg: >قال لهم: إنَّه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد، فقالوا: إنَّا كنَّا نهاب الجهاد فإذا أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلا بدَّ لنا من الجهاد، ونطيع ربَّنا في جهاد عدونا<([8])، فجوابهم هذا بمثابة العهد والميثاق على أنَّهم سيمتثلون لأوامره في الجهاد {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}(البقرة: 246).

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(البقرة: 247)، وعن الباقرg: >وكانت النبوَّة في بني إسرائيل في بيت والملك والسلطان في بيت آخر لم يجمع الله لهم الملك والنبوة في بيت واحد، ..وكانت النبوَّة في ولد لاوي والملك في ولد يوسف، وكان طالوت من ولد بن يامين أخي يوسف لأمه لم يكن من بيت النبوة ولا من بيت المملكة<([9]). وعن الصادقg: >فقالت عظماء بني إسرائيل: وما شأن طالوت يُملَّك علينا وليس في بيت النبوة والمملكة، وقد عرفت أنَّ النبَّوة والمملكة في بيت آل لاوي ويهودا وطالوت من سبط ابن يامين بن يعقوب<([10]).

وكلًّ هذه الاعتراضات والأعذار لأجل التخاذل عن القتال، {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}(البقرة:249)([11])، عن الصادقg: >القليل الذين لم يشربوا ولم يغترفوا ثلاثمائة وثلاث عشر رجلا، فلمَّا جاوزوا النهر ونظروا إلى جنود جالوت قال الذين شربوا منه {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِوقال الذين لم يشربوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}<([12])، يقول العلامة الطباطبائيS: "أنَّه توجد ثلاث طوائف: الأولى وهم ليسوا من طالوت، وهم الذين شربوا من النهر، والثانية: هم الذين منه، وهم الذين لم يغترفوا ولم يطعموا شيئاً من النهر، والثالثة: وهم الذين اغترفوا"([13]).   

ويظهر من قوله تعالى بعد ذلك: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ}، أنَّ الذين ساروا مع طالوت هم فقط الذين لم يشربوا (وهم الذين لم يشربوا أصلاً، مع الذين اغترفوا قليلاً)، ويدلُّ عليه ما عن الباقرg: >فشربوا منه إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، منهم من اغترف ومنهم من لم يشرب فلمَّا برزوا قال الذين اغترفوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} وقال الذين لم يغترفوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}<([14])، فيكون الذين صبروا مع طالوت، هم بعضُ الثلاثمائة وثلاث عشر، وهم الذين: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}([15]).

7ـ داخل المجتمع الإسرائيلي الخاص: 

تعرَّض القرآنُ الكريمُ لمجموعةٍ من الأمور التي اتَّصف بها المجتمع اليهودي الداخلي نذكر بعضها سريعاً:

أوَّلاً: الاختلاف

يتَّصِفُ المجتمعُ الإسرائيلي بالتفكّك والتشاحن والاختلاف، وهو عقوبةٌ إلهيةٌ على الجرائم والمعاصي التي ارتكبوها، يقول تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}(المائدة: 64)، فهذه العداوة بينهم مستمرة لا تنتهي، وتاريخهم يشهد على ذلك، وقد يكونون من الناحية الظاهرية متَّفقين متآلفين ومجتمعين في وطن واحد، ولكنَّهم في الحقيقة مختلفون، كما يشهد القرآن ويقول: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}(الحشر: 14).

ثانياً: الظلم والجور

ينقل لنا القرآنُ مشهداً آخرَ من سيرة بني إسرائيل، يتحدَّثُ فيها عن ظلم الأقوياء للضعفاء منهم، فيقول: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(البقرة: 84-85).

وفي سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(المائدة: 41)، روى الطبرسي عن الإمام الباقرg في حديث طويل أنَّ ابن صوريا (وكان من أعلم علماء اليهود، وقد أسلم في هذه الحادثة) أنَّه قال للنبيe: "كنَّا إذا زنى الشريف تركناه، وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد، فكثر الزنا في أشرافنا، حتى زنى ابنُ عمِّ مَلِكٍ لنا، فلم نرجمه، ثمَّ زنى رجل آخر، فأراد المَلِكُ رجمَه، فقال له قومه: لا، حتى ترجم فلانا، يعنون ابن عمّه، فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرَّجم، يكون على الشريف والوضيع، فوضعنا الجلد والتحميم، وهو أن يُجلَد أربعين جلدة، ثمَّ يسود وجوههما، ثمَّ يحملان على حمارين، ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار، ويطاف بهما، فجعلوا هذا مكان الرجم"([16])، ثمَّ يضيف الباقرe أنَّه: >لمَّا أسلم ابنُ صوريا، وقعت فيه اليهود وشتموه، فلما أرادوا أن ينهضوا، تعلَّقتْ بنو قريضة ببني النضير، فقالوا: يا محمَّد إخواننا بنو النضير: أبونا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، إذا قتلوا منا قتيلا، لم يُقَدْ وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر، وإذا قتلنا منهم قتيلا، قتلوا القاتل، وأخذوا منَّا الضعفَ مائة وأربعين وسقا من تمر، وإن كان القتيل امرأة، قتلوا بها الرجل منَّا، وبالرجل منهم رجلين منَّا، وبالعبد الحر منَّا، وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم فأنزل الله في الرجم والقصاص الآيات<.

ثم تدلُّ هذه الحادثة أنَّ اليهود كانوا يلتجئون إلى النبيe عندما لا يعجبهم الحكم الذي في التوراة، فإن أعجبهم حكم الإسلام أخذوا به وإلا ردُّوه([17]).

ثالثاً: ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

تتحدَّثُ بعضُ الآيات أنَّ هذه الفريضة لم يكن يعمل بها مع وجود الفساد والمعاصي بين بني إسرائيل، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}(المائدة: 78-79)، وفي آية أخرى يعاتب القرآنُ فيها علماء اليهود والنصارى على ترك هذه الفريضة، فيقول: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(المائدة:62-63)، ويُروَى عن أمير المؤمنينg أنَّه قال: >اعتبروا أيَّها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار، إذ يقول، {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَوقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، وإنَّما عابَ اللهُ ذلك عليهم لأنَّهم كانوا يرون من الظلمة المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك، رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة ممَّا يحذرون، والله يقول: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}<([18]).

هذا هو الطابع العام في بني إسرائيل، ولا يعني أنَّه لم يوجدْ فيهم من يعملْ بهذه الفريضة، بل هم موجودون، ولكنَّهم أقلية، كما جاء في قصة أصحاب السبت، الذين حُرِّمَ عليهم الصيد يوم السبت فعصوا واصطادوها، فعن الإمام السجادg: >وكانوا في المدينة نيِّفاً وثمانين ألفا، فعل هذا منهم سبعون ألفا، وأنكر عليهم الباقون، كما قصَّ الله تعالى {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} الآية، وذلك أنَّ طائفة منهم وعظوهم وزجروهم، ومن عذاب الله خوفوهم، ومن انتقامه وشديد بأسه حذروهم، فأجابوهم عن وعظهم {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} بذنوبهم هلاك الاصطلام {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}. فأجابوا القائلين لهم هذا: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [هذا القول منا لهم معذرة إلى ربكم] إذ كلَّفَنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربُّنَا مخالفتَنا لهم، وكراهتَنا لفعلهم، قالوا: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَونعظهم أيضا لعلَّهم تنجع فيهم المواعظ، فيتقوا هذه الموبقة، ويحذروا عقوبتها. قال اللهa: {فَلَمَّا عَتَوْا} حادوا وأعرضوا وتكبروا عن قبولهم الزجر {عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَمبعدين عن الخير مُقْصيْن، قال: فلمَّا نظر العشرة الآلاف والنيِّف أنَّ السبعين ألفا لا يقبلون مواعظهم، ولا يَحْفلون بتخويفهم إياهم وتحذيرهم لهم، اعتزلوهم إلى قرية أخرى قريبة من قريتهم وقالوا: نكره أن ينزل بهم عذاب الله ونحن في خلالهم، فأمسوا ليلة، فمسخهم الله تعالى كلهم قردة..<([19]).

وروي أنَّهم كانوا ثلاثة أصناف، صنف ائتمروا وأمروا، وصنف اعتزلوا، وصنف عصوا، ولم ينجُ إلا الصّنف الأوَّل([20]).

 

الفصل الخامس: (أمَّة النبيe وبنو إسرائيل) 

اتباع الأمَّة لسنن بني إسرائيل:

ورد في طرق الفريقين عن النبيe أنَّ هذه الأمة ستتّبع سنّة من كان قبلها، وفي بعضها تصريح بأنَّها ستتّبع سنن اليهود والنصارى، سنن بني إسرائيل، فروى الصدوق عن الرضاg: >قال رسول اللهe: يكون في هذه الأمة كلّ ما كان في الأمم<([21])، وروى العياشي في تفسيره عن الباقرg قال: >قال رسول اللهe: والذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النّعل بالنّعل، والقذّة بالقذّة، حتى لا تخطؤون طريقهم، ولا يخطئكم (تخطئكم) سنّة بني إسرائيل<([22]). 

وفي البخاري عن أبي سعيد: >أن النبيe قال: لتتبعنّ سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟<([23]).

وهذا الحديث من النبيe مع ما ذكره القرآن من سيرة بني إسرائيل، يفيدنا كثيراً في مجال الاستدلال على كثير من الأمور التاريخية والعقائدية التي وقع الخلاف فيها، فمجموعة من الأمور التي وقعت زمن النبيe وبعد رحيله، وقد ثبتت في المصادر التاريخية، قد استبعدت لكونها أموراً غريبة، أو أنَّها لا تتناسب مع من عاش مع النبيe وصاحَبَهُ، ولكن بالنظر إلى هذا الحديث لا يوجد استبعاد لأيِّ شيءٍ قد وقع وهو مشابهٌ لما وقع لبني إسرائيل.

ولعلَّ هذا من أحد الأهداف التي جعلت القرآن الكريم يركِّز على سيرة بني إسرائيل من بين الأمم الماضية، خصوصاً أنَّ الحديث الشريف يؤكِّد على أنَّ سيرة هذه الأمة مطابقة تماماً لسيرة بني إسرائيل، >حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لا تخطئون طريقهم<.

ثم إنَّه ليس المراد من المشابهة هي المشابهة الحرفية، أي عندما يطلب بنو إسرائيل من موسىg رؤية الله مثلاً، فليس بالضروري أن يطلب المسلمون من النبيe الرؤية، بل المشابهة بالنتيجة التي يؤول لها هذا الطلب أو ذلك الموقف.

والنبيe قد بيَّن من خلال بعض أقواله وأفعاله بعض تلك السنن التي اتّبعت فيها أمتُه سنّةَ بني إسرائيل، وكذلك أمير المؤمنين وأولاده المعصومونi، فإليك بعضُ ذلك:

1ـ ربّنا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة:

ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد وغيره بأسناد وألفاظ مختلفة -واللفظ للهيثمي-عن عمرو بن عوف قال: غزونا مع رسول اللهe عام الفتح ونحن ألف ونيّف، ففتح الله مكة وحنيناً، حتى إذا كُنَّا بين حنين والطائف أبصر شجرة كان يناط بها السلاح فسُمِّيَت ذات أنواط، وكانت تُعبَد من دون الله!، فلمَّا رآها رسول اللهe انصرف عنها في يوم صائفٍ إلى ظلِّ هو أدنى منه، فقال رجل: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهؤلاء ذات أنواط، فقال له رسول اللهe: >إنَّها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}<([24]).

وعن صحيح الترمذي أنَّه زاد فيه: >لتركبنّ سنن من كان قبلكم، حذو النّعل بالنّعل، والقذّة بالقذّة، حتى أنَّه كان فيهم من أتى أمَّه يكون فيكم، فلا أدري أتعبدون العجل أم لا<([25]).

وحول هذه الشجرة نقل عن الواقدي: >فلمَّا أتى على رسول اللهe في بطن أمِّه ستة أشهر خرج أهل المدينة واليمن إلى العيد، وكان رسمهم أنَّهم كانوا يجعلون في كل سنة ستة أعياد، وكانوا يذهبون عند شجرة عظيمة يقال لها ذات أنواط، وهي التي سمّاها الله في كتابه (ومناة الثالثة الأخرى)، فذهبوا في ذلك العيد وأكلوا وشربوا وفرحوا وتقاربوا من الشجرة، وإذا بصيحة عظيمة من وسط الشجرة وهو هاتف يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ}<([26]).

2ـ اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون:

نقل ابن أبي الحديد عن الواقدي أنَّه قال: "ومضى رسول اللهe حتى إذا كان دوين بدر، أتاه الخبر بمسير قريش، فأخبر رسول اللهe بمسيرهم، واستشار الناس فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قال: يا رسول الله، إنَّها قريش وعزّها، والله ما ذلَّت منذ عزَّت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزّها أبدا، ولتقاتلنّك فاتّهب لذلك أهبته، وأعدّ عدّته، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله لأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدونولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا"([27]).

وفي مسند ابن حنبل: "قال عبد الله بن مسعود لقد شهدت من المقداد مشهداً لأنْ أكون أنا صاحبه أحبُّ إليَّ مما على الأرض من شيء، قال: أتى النبيe وكان رجلاً فارساً قال: فقال: أبشر يا نبي الله، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى صلى الله عليه وسلم: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}، ولكن والذي بعثك بالحق لنكوننّ بين يديك وعن يمينك وعن شمالك ومن خلفك حتى يفتح الله عليك"([28]).

وكلام المقداد هذا كأنَّه تعيير لمن ظهر عليه آثار الوهن والخوف، وأنَّ من يكون كذلك إنَّما يتّبع سنة بني إسرائيل مع نبيهم موسىg.

ومن المعروف والمشهور أنَّ كثيراً من الصحابة قد فرُّوا من كثير من المعارك، ففي معركة أحد فرَّ الجميع سوى شخصين أو ثلاثة، وذلك عندما أُشيع أنَّ النبيe قد قُتِل، ويصف القرآن حال مجموعة من المسلمين فيقول: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}(الأنفال: 5-7).   

3ـ قالوا يد الله مغلولة:

لقد طُبِّقتْ هذه المقولة في بعض الروايات أو أكثرها على من ينكر البداء، فقد جاء عن الرضاg -في مناظرته الطويلة مع سليمان المروزي، وكان ينكر القول البداء- أنَّه التفت إلى سليمان فقال: >أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب< قال: أعوذ بالله من ذلك، وما قالت اليهود؟ قال: >قالت: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} يعنون أنَّ اللهَ قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئاً، فقال اللهa: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}، ولقد سمعْتُ قوماً سألوا أبي موسى بن جعفرh، عن البداء فقال: وما ينكر الناس من البداء وأن يقف الله قوما يرجيهم لأمره؟<. وقالg أيضاً لسليمان: >وما الدليل على أن إرادته علمه. وقد يعلم ما لا يريده أبداً، وذلك قولهa: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}، فهو يعلم كيف يذهب به وهو لا يذهب به أبداً<، قال سليمان: لأنَّه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئاً، قال الرضاg: >هذا قول اليهود، فكيف قالa: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}<، قال سليمان: إنَّما عني بذلك أنَّه قادرٌ عليه، قالg: >أفيعد ما لا يفي به؟! فكيف قالa: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}، وقالa: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وقد فرغ من الأمر<، فلم يُحِرْ جواباً.([29]).

وطبَّق هذه المقولة أبو ذر x، على من لم ينفق مال الله على المسلمين، فقد جاء عن الواقدي: >أنَّه لمَّا دخل على عثمان قال له: لا أنعم الله بك عيشاً يا جندب، أنت الذي تزعم إنَّا نقول: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} و{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} فقال: لو كنتم لا تزعمون ذلك لأنفقتم مال الله على عباده، أشهد لقد سمعت رسول اللهe يقول: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثون رجلاً جعلوا مالَ الله دولاً، وعباد الله خولاً، ودين الله دخلا. فقال للجماعة: هل سمعتم هذا من النبيe؟ فقال علي والحاضرون: نعم سمعناه يقول: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر. فنفاه إلى ربذة، وقال لعليg: بفيك التراب، فقال علي: بل بفيك التراب وسيكون، قال جماعة: فلقد رأينا عثمان مقتولا وبفيه التراب<([30]).

4ـ أذية النبيe:

أُوذِيَ موسىg كثيراً من قبل بني إسرائيل وقد تقدّم، وأُوذِيَ النبيe أكثر من ذلك حتى قال: >ما أوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت<، وتحدَّث القرآنُ عن بعض ذلك، ففي سورة الأحزاب: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}(الأحزاب: 53)، وهي تدلُّ على ثبوت الأذية لهe من قبل بعض أصحابه. 

وفي آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}(الحجرات: 2)، ويكفي تخلّفهم عن جيش أسامة حتى قال فيهم -وهو صاحب الخلق العظيم-: >جهّزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة<، وهو في آخر أيام حياته، بل ردُّوا عليه عندما أراد كتابة كتابٍ لا يضلّون بعده أبداً، وقالوا: "إنَّ الرجل ليهجر"([31])، حتى أغمي عليهe، فهل هناك أذية أعظم من هذا؟!

وروى البخاري: >عن عائشة قالت: كان رسول اللهe إذا أمرهم، أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إنَّ الله قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، فيغضب حتى يُعرَف الغضب في وجهه، ثمَّ يقول: إنَّ أتقاكم وأعلمكم بالله أنا<([32]).

وقال صاحب الأمثلB في ذيل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}(الأحزاب: 69): "إنَّ اختيار موسىg من جميع الأنبياء الذين طالما أوذوا، بسبب أنَّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أيِّ نبيٍّ آخر، إضافةً إلى أنَّ بعض أنواع الأذى التي رآها كانت تشبه أذى المنافقين لنبي الإسلامe"([33]).

5ـ رجوع القوم بعد رحيل النبيe:

من الأمور التي يستدلُّ بها على عدم أحقّية أمير المؤمنينg بالخلافة، هو أنَّه لو كان الحقُّ مع أمير المؤمنينg للزم منه انقلاب الجميع بهذه السرعة سوى بضعة أشخاصٍ، وهو أمرٌ لا يعقل، ولكنْ عندما نتذكّر بني إسرائيل وانقلابهم على هارونg، وإطاعتهم لرجلٍ مثل السامري بمجرّد أن تأخَّرَ عنهم موسىg عشرة أيام، لا يكون ذلك مورداً للعجب والاستبعاد، فإذا ثبت بالدليل -وهو ثابت- أنّ علياًg هو الخليفة والوصي بلا فصل، فقد ثبت ارتداد القوم عمَّا أوصى به النبيe بع رحيله مباشرة، ولا عجب، ومن لطيف الروايات ما روي من أنه قال يهوديٌّ لأمير المؤمنينg: >ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه فقالg: إنما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنَّكم ما جفَّت أقدامُكم من البحر حتى قلتم لنبيكم: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةً، قال: إنَّكم قوم تجهلون<([34])، وإشكال اليهوديّ كان متوجّهاً للدّين والإسلام من خلال انقلاب القوم، لذلك ردَّ عليه عليٌg بذلك الجواب، ولم يكنg في مقام الدفاع عن المنقلبين، كما هو واضح.

6ـ هارون محمدe وهارون موسىh:

أهمُّ حديث ذكره النبيe في هذا الباب، والذي يمثَّل قاعدةً للشَّبَهِ بين هذه الأمّة وأمّة بني إسرائيل، هو الحديث المتّفق عليه بين الفريقين: >أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبيّ بعدي<([35])، وفي البخاري:  عن مصعب بن سعد عن أبيه >أنَّ رسول اللهe خرج إلى تبوك واستخلف علياً، فقال: أتخلّفني في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنَّه ليس نبيٌّ بعدي<([36]).

ولو تقصَّينا وجوهَ الشبه بين ما ثبت وحدث لعلي وهارونh، لوجدنا التشابه الكبير الذي يثير العجب والدهشة، ونذكر هنا بعض ذلك:

1ـ الأخوَّة: 

هناك تركيز على أخوة عليg لرسول اللهe، كما في قصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ففي تفسير القمي أنَّ علياًg قال: >يا رسول الله بأبي أنت وأمي لم تواخ بيني وبين أحد؟ فقالe: والله يا علي ما حبستك إلا لنفسي، أما ترضى أن تكون أخي وأنا أخوك، وأنت وصيي ووزيري وخليفتي في أمتي، تقضي ديني، وتنجز عداتي، وتتولّى غسلي، ولا يليه غيرك، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي؟<([37])، وروى الصدوقS: >أن رسول اللهe آخى بين المسلمين، ثم قال: يا علي، أنت أخي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنَّه لا نبيَّ بعدي<([38]).

2ـ انقلاب الأمة على أمير المؤمنينg:

في كتاب سليم بن قيس الهلاليx، عن أمير المؤمنينg -في جوابه على الأشعث بن قيسX- أنَّه قال: >أخبرني رسول اللهe بما الأمة صانعة بي بعده، فلم أكُ بما صنعوا -حين عاينته- بأعلم منِّي ولا أشدَّ يقينا منِّي به قبل ذلك، بل أنا بقول رسول اللهe أشدُّ يقيناً منِّي بما عاينت وشهدت. فقلت: يا رسول الله، فما تعهد إليّ إذا كان ذلك؟ قال: إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعوانا فاكفف يدك واحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً. وأخبرنيe أنَّ الأمة ستخذلني وتبايع غيري وتتبع غيري. وأخبرنيe أنِّي منه بمنزلة هارون من موسى، وأنَّ الأمة سيصيرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه، إذ قال له موسى: {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي}، و{قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}. وإنما يعني: إنَّ موسى أمر هارون -حين استخلفه عليهم- إنْ ضلُّوا فوجد أعواناً أنْ يجاهدهم، وإنْ لم يجد أعواناً أنْ يكفَّ يدَه ويحقنَ دمَه، ولا يفرِّق بينَهم. وإني خشيت أنْ يقول لي ذلك أخي رسول اللهe: (لِمَ فرَّقت بين الأمة ولم ترقب قولي وقد عهدت إليك إن لم تجد أعواناً أنْ تكفَّ يدَك، وتحقن دمك، ودم أهلِ بيتِك وشيعتِك)؟<([39]).

3ـ  دعاء موسىg:

  ورد من طرق الفريقين أنَّ النبيe دعا بدعاء موسىg المذكور في سورة طه، فقد جاء عن أسماء بني عميس أنَّها قالت: >رأيت رسول اللهe بمكة مستقبلاً "ثبيراً" مستدبراً "حراًفقال: اللهم إني أقول اليوم كما قال العبد الصالح (موسى بن عمران): اللهم اشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي، علياً أخي، اشدُد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبَّحك كثيراً، ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً<([40]).

4ـ  شكوى هارونg:

في مقابل دعاء النبيe بدعاء موسىg فقد شكى عليٌg لرسول اللهe ما شكاه هارون لموسىh عندما استضعفه بنو اسرائيل فقال: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(الأعراف: 150)، فقد روى الشيخ المفيدS وغيره: >ومرَّ عليٌّg على قبر النبيe فقال: يا ابن أمّ إنَّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني<([41]).

5ـ  أبناء علي وهارونh

ورد في قصة ولادة الحسنينh: >... أوحى الله تعالى ذكره إلى جبرئيلg أنَّه قد وُلِد لمحمدٍ ابنٌ فاهبط إليه فاقرأه السلام وهنّه مني ومنك، وقل له: إنَّ علياً منك بمنزلة هارون من موسى فسمِّه باسم ابن هارون، فهبط جبرئيل فهنّاه من الله تعالى، ثم قال: إنَّ اللهa يأمرك أنْ تسميَّه باسم ابن هارون قال: ما كان اسمه؟ قال: شبَّر، قال: لساني عربي، قال: سمِّه الحسن، فسماه الحسن، فلمَّا وُلد الحسينُ جاء إليهم النبيe، ففعل به كما فعل بالحسنg، وهبط جبرئيل على النبيe فقال: إنَّ الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك: إنَّ علياً منك بمنزلة هارون من موسى فسمّه باسم ابن هارون قال: وما كان اسمه؟ قال: شبيراً. قال: لساني عربي. قال: فسمِّه الحسين، فسمَّاهُ الحسين<([42]).

فنرى هنا التركيز من قِبَل اللهa على حديث المنزلة، وورد أنّ اسم الحسن والحسينh في التوراة شبّراً وشبيراً([43]).

6ـ  الأوصياء من ولد وعلي هارونg:

صحيحٌ أنَّ هارونg توفّي قبل موسىg، وكان الوصي لموسى هو يوشع بن نونh، إلا أنَّ الوصاية استمرّت في ولد هارونg، كما في الكافي عن الصادقg قال: >أوصى موسىg إلى يوشع ابن نون، وأوصى يوشع بن نون إلى ولد هارون، ولم يوصِ إلى ولده ولا إلى ولد موسى، إنَّ الله تعالى له الخيرة، يختار من يشاء ممّن يشاء، وبشَّر موسى ويوشع بالمسيحi، فلمَّا أن بعث اللهa المسيحg قال المسيح لهم: إنَّه سوف يأتي من بعدي نبيٌّ اسمه أحمد من ولد إسماعيلg، يجيء بتصديقي وتصديقكم، وعذري وعذركم<([44]).

وروى الصدوقS عن الربيع بن عبد الله قال: "وقع بيني وبين عبد الله بن الحسن كلام في الإمامة، فقال عبد الله بن الحسن: إنَّ الإمامةَ في ولد الحسن والحسينh، فقلت: بل هي في ولد الحسين إلى يوم القيامة دون ولد الحسن، فقال لي: وكيف صارت في ولد الحسين دون الحسن وهما سيدا شباب أهل الجنة، وهما في الفضل سواء، إلا أنَّ للحسن على الحسين فضلاً بالكبر، وكان الواجب أنْ تكون الإمامة إذن في الأفضل؟ فقلت له: إنَّ موسى وهارون كانا نبيين مرسلين، وكان موسى أفضل من هارونh، فجعل اللهa النبوة والخلافة في ولد هارون دون ولد موسى، وكذلك جعل الله الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن؛ ليجري في هذه الأمة سنن من قبلها من الأمم، حذو النّعل بالنّعل، فما أجبت في أمر موسى وهارونh بشيء فهو جوابي في أمر الحسن والحسينh فانقطع، ودخلت على الصادقg، فلما بصر بي، قال لي: >أحسنت يا ربيع فيما كلَّمتَ به عبد الله بن الحسن، ثبَّتك الله<"([45]).

 فكلُّ هذا البيان لأجل أنَّ علياً كهارونh، فمن أبغضه أو خالفه أو عصاه فكأنَّما عصى رسول اللهe وأنَّه بذلك يتَّبِعُ سنّةَ بني إسرائيل، وورد عن علي بن الحسينg: >والذي بعث محمداً بالحقّ بشيراً ونذيراً، إنَّ الأبرار منَّا أهل البيت، وشيعتهم، بمنزلة موسى وشيعته، وإنّ عدوَّنا وأشياعهم، بمنزلة فرعون وأشياعه<([46]).

7ـ ما حدث لوصي موسىg من بعده:

تقدّم أنَّ هارونg توفّي قبل موسىg، ولو كان حياً لكان هو الوصي، ولكن كانت الوصاية ليوشع بن نونg، وقد حصل ليوشعg ما حصل لأمير المؤمنينg، فقد روى الصدوقS عن الصادقg: >أنَّ يوشع بن نون قام بالأمر بعد موسى، صابراً من الطواغيت على اللأواء والضرّاء والجهد والبلاء، حتى مضى منهم ثلاثة طواغيت فقوي بعدهم أمرُه، فخرج عليه رجلان من منافقي قوم موسى بصفراء بنت شعيب امرأة موسىg في مائة ألف رجل، فقاتلوا يوشع بن نون فغلبهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وهزم الباقين بإذن الله تعالى ذكره، وأسر صفراء بنت شعيب، وقال لها: قد عفوتُ عنك في الدنيا إلى أن نلقى نبي الله موسى فأشكو ما لقيتُ منك ومن قومك، فقالت صفراء: وا ويلاه، والله لو أبيحت لي الجنَّة لاستحييتُ أنْ أرى فيها رسول الله وقد هتكت حجابه وخرجت على وصيّه بعده<([47]).

 وفي رواية أخرى عن عبد الله بن مسعود قال: >قلت للنبيe: يا رسول الله من يغسلّك إذا متَّ؟ قال: يغسّل كلَّ نبيٍ وصيُّه، قلت: فمن وصيّك يا رسول الله؟ قال: علي بن أبي طالب، قلت: كم يعيش بعدك يا رسول الله؟ قال: ثلاثين سنة، فإنّ يوشع بن نون وصيُّ موسى عاش بعد موسى ثلاثين سنة، وخرجت عليه صفراء بنت شعيب زوجة موسىg فقالت: أنا أحقُّ منك بالأمر، فقاتلها فقتل مقاتليها وأسرها فأحسن أسرها، وإن ابنة أبي بكر ستخرج على عليٍّ في كذا وكذا ألفا من أمتي، فيقاتلها فيقتل مقاتليها ويأسرها فيحسن أسرها، وفيها أنزل اللهa: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}<([48]).

وقد ورد أيضاً بأنَّ الشمس رُدَّتْ ليوشع بن نونg، كما رُدَّت لعليg، فقد روي عن ابن عباس بطرق كثيرة: >أنه لم تُرَدَّ الشمس إلا لسليمان وصي داود، وليوشع وصيّ موسى، ولعلي بن أبي طالب وصيّ محمد صلوات الله عليهم أجمعين<([49]).

وفي نفس اليوم الذي نُصِّب فيه أمير المؤمنينg للإمامة، نصِّبَ في يوشع بن نونg، قال الشيخ المفيدS عن اليوم الثامن عشر من ذي الحجة: "وفيه نصَّب موسى يوشع بن نون وصيَّه([50])، ونطق بفضله عل رؤوس الإشهاد. وفيه أظهر عيسى بن مريمg وصيَّه شمعون الصفا. وفيه أشهد سليمان بن داودg سائر رعيته على استخلاف آصف بن برخيا وصيه، ودلَّ على فضله بالآيات والبينات، وهو يوم عظيم كثير البركات"([51]).

وعن الحسن المجتبىg، أنَّه خطب الناس عند استشهاد أمير المؤمنينg، وقال: >والله لقد قُبِض في الليلة التي فيها قُبِض وصيّ موسى يوشع بن نون<([52])، وروى الصدوقS عن الباقرg: >وليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي مات فيها أوصياء النبيينi([53])<، وفي بعض المصادر أنَّ يوشع قُتِل أيضاً([54]).

7ـ تحريف الكتاب: 

لقد حرَّف بنو إسرائيل الكتب السماوية، وكتموا ما جاء فيها من الحقّ وصفات النبيe، وكذلك هذه الأمّة، ولكن حيث تعهَّد اللهُa بحفظ القرآن، حيث قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر: 9)، قامت هذه الأمّة بتحريف معاني الآيات وما نزل في أهل البيتi، وصرفت ما جاء في حقّهم إلى غيرهم، ولذلك أمر النبيe علياًg بقتالهم على تأويل القرآن، كما قاتل هوe المشركين على نزوله، فقد روي عنهe أنَّه قال: >أنا أقاتل على التنزيل، وعليٌّ يقاتل على التأويل<([55]).

8ـ قتل الأنبياءi:

خُتِمت النبوة بمحمدe، فلم يكن هناك أنبياء حتى تقتلهم هذه الأمة متابعةً لبني إسرائيل، فعمدوا إلى أبناء النبيe وإلى العلماء الذين هم كأنبياء بني إسرائيل، فطاردوهم وشرّدوهم وقتلوهم، والتاريخ شاهدٌ على ذلك، وهذا أمرٌ غير قابل للإنكار، وورد عن النبيg (عندما نزلت الآيات 84- 85 من سورة البقرة) أنَّه قال: >هؤلاء اليهود [الذين] نقضوا عهد الله، وكذّبوا رسل الله، وقتلوا أولياء الله: أفلا أنبئكم بمن يضاهيهم من يهود هذه الأمة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: قومٌ من أمتي ينتحلون بأنَّهم من أهل ملتي، يقتلون أفاضل ذريتي وأطائب أرومتي، ويبدّلون شريعتي وسنتي، ويقتلون ولدي الحسن والحسين كما قتل أسلاف هؤلاء اليهود زكريا ويحيى. ألا وإنَّ الله يلعنهم كما لعنهم، ويبعث على بقايا ذراريهم قبل يوم القيامة هادياً مهدياً من ولد الحسين المظلوم، يحرفهم [بسيوف أوليائه] إلى نار جهنم، ألا ولعن الله قتلة الحسين ومحبّيهم وناصريهم، والساكتين عن لعنهم من غير تقية تسكتهم، ألا وصلى الله على الباكين على الحسين بن عليh رحمة وشفقة، واللاعنين لأعدائهم والممتلئين عليهم غيظاً وحنقاً، ألا وإنّ الرّاضين بقتل الحسينg شركاء قتلته، ألا وإنَّ قتلتَه وأعوانَهم وأشياعَهم والمقتدين بهم براء من دين الله<([56]).

ثمَّ إنّنا نرى من يدَّعي أنَّه من محبّي الحسينg وأهل بيته، ولكنَّه لا يرضى عن يزيد ولا يتبرّأ منه ومن وزبانيته الذين شاركوا في قتل أهل البيتi، مع وضوح هذه الجريمة وكونها دليلاً على كفر مرتكبيها، وهؤلاء الراضون بذلك هم شركاء كما جاء في الرواية، فقد روي عن محمد بن الأرقط عن أبي عبد اللهg >قال لي: تنزل الكوفة؟ قلت: نعم، قال: فترون قتلة الحسين بين أظهركم؟ قلت: جعلت فداك ما بقي منهم أحد، قال: فإذن أنت لا ترى القاتل إلا من قتل أو من ولي القتل، ألم تسمع إلى قول الله: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(آل عمران: 183)، فأيُّ رسولٍ قبل الذي كان محمدe بين أظهركم، ولم يكن بينه وبين عيسى رسول، إنَّما رضوا قتل أولئك فسُمُّوا قاتلين<([57]).

وفي رواية أخرى عنهg أيضاً أنَّه قال: >لمَّا نزلت هذه الآية: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقد علم أنْ قالوا: والله ما قتلنا ولا شهدنا؟ قال: وإنَّما قيل لهم: ابرؤا من قتلتهم فأبوا<([58]).

9ـ باب حطّة:

أهل البيتi هم باب حطَّة الذي أُمرنا أنْ ندخل منه، عن الأميرg: >نحن باب الجنة إذا بعثوا وضاقت المذاهب، ونحن باب حطّة وهو السلم، من دخله نجا ومن تخلّف عنه هوى<([59]).

وعن الباقرg: >ولمَّا استوفى النبيe على عليg العلوم والحكمة قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها، وقد أوجب الله على خلقه الاستكانة لعليg بقوله: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}(الأعراف: 161)، أي الذين لا يرتابون في فضل الباب وعلوِّ قدرِه، وقال في موضع آخر: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}(البقرة: 189)، يعني الأئمةi الذين هم بيوت العلم ومعادنه، وهم أبواب الله ووسيلته، والدعاة إلى الجنة، والأدلاء عليها إلى يوم القيامة<([60]).   

10ـ العداء لجبرئيلg:

عن الحسن المجتبىg: >إنَّ الله تعالى ذمَّ اليهودَ في بغضهم لجبرئيل الذي كان ينفِّذ قضاء الله فيهم بما يكرهون، وذمَّهم أيضاً وذمَّ النواصب في بغضهم لجبرئيل وميكائيل وملائكة الله النازلين لتأييد علي بن أبي طالبg على الكافرين حتى أذلَّهم بسيفه الصارم<([61]).

الخلاصة:

* إنَّ القرآن الكريم قد أكثرَ من ذكر بني إسرائيل، وأهمُّ أسباب ذلك هو بيان خطرهم، وتحذير المسلمين منهم ومن اتّباع سيرتهم، وأنَّ من يتّبعهم فسوف يلقى نفس المصير الذي لقوه، وبنو إسرائيل هم من نسل يعقوبg، وأكثر اليهود أو كلّهم كانوا منهم، وطائفة من النصارى. 

* لقد أنصف القرآنُ بني إسرائيل عندما تعرَّض لبعض حسناتهم، ولم يُهمِلْ الصالحين منهم، بل أشار إليهم ومدحهم غاية المدح.

* إنَّ الغالب على بني إسرائيل هو الكفر والجحود والعصيان، وتكذيب الأنبياء وأذيتهم وقتلهم، وقد تجمَّعت فيهم الرذائل والسيئات، حتى وصفهم القرآن بالكفر والشّرك والفساد والفسق وغيرها من الصفات التي تدلُّ على سوء السريرة وخبث النفس. 

* أكثرُ المواقف التي ذكرها القرآن الكريم لبني إسرائيل كانت في فترة نبيهم موسىg، وقد عانى منهم موسىg أشدَّ المعاناة، وقد آذوه وكذَّبوه وعصوه، وقد تمسّكوا بشريعته ظاهرياً، ورفضوا بقية الأديان اللاحقة، وحرَّفوا التوراة وتلاعبوا بها، وأخفوا ما جاء فيها من الدلالة على بعثة النبي الخاتمe.

* عقائد بني إسرائيل عقائد فاسدة، فقد نسبوا لله تعالى ما لا يليق به سبحانه كالبنّوة، والجسمية، ونفوا عنه القدرة واتهموه بالفقر، وكذّبوا رسله ونسبوا إليهم ما لا يجوز نسبته للأنبياءi، واعتقادهم بالمعاد اعتقاد ضعيف، فهم من أشدِّ الناس حرصاً على الدنيا.

* تتَّسمُ الشخصيةُ الإسرائيلية بالعناد واللّجاج، وسوء الخلق، وحبِّ الدعة والراحة، والمجتمع الإسرائيلي مجتمع فاسد، وقوميٌّ بامتياز، وناقض للمواثيق السماوية والأرضية، وهو مجتمع مملوء بالظلم والجور على الضعفاء، مجتمع لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر مع كثرة ما فيه من المعاصي والذنوب ومخالفة الأحكام الشرعية.

* الأمة الإسلامية أغفلت التحذيرات الإلهية، فاتّبعت سنّةَ بني إسرائيل وسارت بسيرتها، حتى شابهتها في كلِّ صغيرة وكبيرة، إلا فئةً واحدة تمسّكت واتبعت هارون محمدe.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى اللهُ على خيرِ خلقِه محمدٍ وآلِه الطيبين الطاهرين. 


([1]) جوامع الجامع للطبرسي، ج1، ص486، وراجع تفسير الميزان، السيد محمد حسين الطباطبائي، ج5، ص249 في تفسير الآية.

([2]) مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ج3، ص304.

([3]) تفسير الميزان، الطباطبائي، ج5، ص249، ونقل صاحب الأمثلŽ عن كتاب القاموس المقدس: "أنّ عبارة (ابن الله) هي واحدة من ألقاب منجي ومخلص وفادي المسيحيين، وأنَّ هذا اللقب لا يطلق على أيّ شخص آخر إلا إذا وجدت قرائن تبيّن بأنَّ المقصود هو ليس الابن الحقيقي لله". الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3 ص560.

([4]) يقول العلامة الطباطبائيS عنهم: "وقد مكثوا تحت إسارة القبط سنين متطاولة، وهم يعبدون الأوثان فتأثرت من ذلك أرواحهم وإن كانت العصبية القومية تحفظ لهم دين آبائهم بوجه"، تفسير الميزان، ج8، ص234، فتمسّكهم الظاهري بدين موسىg، إنما هو للعصبية والقومية، وليس لأجل الحق. 

([5]) راجع سورة البقرة 135، وآل عمران67 و95، والنساء 125، والمائدة161، والأنعام79، والنحل120، ويونس105.

([6]) تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ج1، ص54، وراجع التبيان في تفسير القرآن، الطوسي، ج1، ص362. 

([7]) تفسير الميزان، الطباطبائي، ج13، ص44.

([8]) تفسير العياشي (م320)، ج1، ص132؛ البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، ج1، ص522.

([9]) تفسير القمي، ج1، ص81؛ تفسير البرهان، البحراني، ج1، ص518.

([10]) تفسير العياشي، ج1، ص132.

([11]) يقول صاحب الأمثلŽ: "ويتضح في هذه الموارد الامتحان الكبير الذي تعرّض له بنو إسرائيل وهو المقاومة الشديدة للعطش، وكان هذا الامتحان ضروريّاً لجيش طالوت وخاصة مع السّوابق السّيئة لهذا الجيش في بعض الحروب السابقة، لأنَّ الانتصار يتوقّف على مقدار الانضباط وقدرة الإيمان والاستقامة في مقابل الأعداء والطاعة لأوامر القيادة". الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج2، ص224. 

([12]) تفسير القمي، ج1، ص83.

([13]) تفسير الميزان، الطباطبائي، ج2، ص292- 293، نقلناه بتصرّف، وراجع الأمثل، مكارم الشيرازي، ج2، ص225.

([14]) الكافي، ج8، ص316.

([15]) الآيات الواردة في هذه الحادثة، من سورة البقرة 246- 250. 

([16]) مجمع البيان، الطبرسي، ج3، ص334 و335.

([17]) راجع تمام القصة من المصدر السابق؛ البرهان في تفسير القرآن، البحراني، ج2، ص458.

([18]) تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني، ص237؛ وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج16، ص130.

([19]) التفسير المنسوب للإمام العسكريg، ص269، وعنه في البرهان في تفسير القرآن، ج3، ص228.

([20]) الكافي، ج8، ص158؛ الخصال، الصدوق، ص100؛ تفسير البرهان، البحراني، ج3، ص230.

([21]) عيون أخبار الرضاg، الصدوق، ج1، ص218.

([22]) تفسير العياشي، ج1، ص303؛ بحار الأنوار، المجلسي، ج13، ص180. 

([23]) صحيح البخاري، ج4، ص144؛ واللفظ قريب منه في الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، الطوسي، ص213. 

([24]) مجمع الزوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، ج7، ص24؛ مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص218.

([25]) الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم، علي بن يونس العاملي، ج3،ص108؛ بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج28، ص30؛ روح المعاني، الآلوسي، ج1، ص355.

([26])الفضائل، أبو الفضل شاذان بن جبرئيل القمي، ص16؛ بحار الأنوار، المجلسي، ج15، ص285.

([27]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، ج14، ص112؛ وفي البخاري وغيره حذف أول الحديث وروي هكذا: >عن عبد الله(ابن مسعود) قال، قال المقداد يوم بدر: يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن امض ونحن معك فكأنه سرى عن رسول اللهe<، صحيح البخاري، ج5، ص187.

([28]) مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص458.

([29]) التوحيد، الصدوق، ص444، وص452.

([30]) الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم، علي بن يونس العاملي، ج3، ص33؛ وجاء قريب منه في الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ج2، ص374.

([31]) صحيح البخاري، ج1، ص37: عن ابن عباس قال لما اشتدَّ بالنبيe وجعه قال: ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، قال عمر: إنَّ النبيeغلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إنَّ الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول اللهe وبين كتابه. وفي رواية أخرى من البخاري أيضاً: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثمَّ بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتدَّ برسول اللهe وجعه يوم الخميس فقال: ائتوني بكتاب اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبداً فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول اللهe قال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه، وأوصى عند موته بثلاث؛ اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة، ج4، ص31، وفي ص64: (ما له أهجر استفهموه) وفي ج5، ص137 (ما له أهجر استفهموه فذهبوا يردون عليه).

([32]) صحيح البخاري، ج1، ص10.

([33]) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مكارم الشيرازي، ج13، ص361.

([34]) الأمالي، السيد المرتضى، ج1، ص198.

([35]) الكافي الشريف، الكليني، ج8، ص107.

([36]) صحيح البخاري‍، ج5، ص129، وراجع ج4، ص208.

([37]) تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ج2، ص190؛ بحار الأنوار، المجلسي، ج72، ص445.

([38]) الأمالي، الصدوق، ص402.

([39]) كتاب سليم، سليم بن قيس الهلالي، ص215؛ تفسير البرهان، السيد هاشم البحراني، ج5، ص183- 184.

([40]) مناقب الإمام أمير المؤمنينg، محمد بن سليمان الكوفي، ج1، ص303؛  تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج42، ص52؛ شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، عبيدالله بن أحمد الحسكاني ،ج1، ص230، باختلاف في العبارة، وتمويهاً للحقيقة علَّق عليه الآلوسي في تفسيره بعد أن نقله عن ابن عساكر قائلاً: "ولا يصحّ الاستدلال بذلك على خلافة علي كرم الله تعالى وجهه بعد النبيe بلا فصل"، روح المعاني، الآلوسي، ج16، ص186.   

([41]) الاختصاص، المفيد، ص186؛ وراجع كتاب سليم ص215؛ وتفسير البرهان، البحراني، ج5، ص184.

([42]) علل الشرائع، الصدوق، ج1، ص137.

([43]) الأمالي، الصدوق، ص259.

([44]) الكافي، ج1، ص293؛ وقريب منه في بصائر الدرجات، الصفار، ص489.

([45]) علل الشرائع، الصدوق، ج1، ص209.

([46]) مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ج7، ص414؛ بحار الأنوار، المجلسي، ج24، ص167.

([47]) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص154؛ بحار الأنوار، المجلسي، ج13، ص366.

([48] ) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص27، نعم ورد في دلائل الإمامة للطبري الشيعي ص78 ما يدلّ على إيمان صفراء بنت شعيب فقد روى في قصة ولادة الزهراءj: فبينما هي(خديجةj) في ذلك إذ دخل عليها أربع نسوة طوال كأنهن من نساء بني هاشم، ففزعت منهن، فقالت لها إحداهن: لا تحزني -يا خديجة- فإنا رسل ربك إليك، ونحن أخواتك، أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه صفوراء بنت شعيب، بعثنا الله إليك لنلي من أمرك ما تلي النساء من النساء. والله العالم.

([49]) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج2، 145؛ من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج1، ص203.

([50]) في المصدر (وصية).

([51]) مسار الشيعة، المفيد، ص41؛ السرائر، ابن إدريس، ج1، ص418.

([52]) الكافي، ج1، ص457؛ مسار الشيعة، المفيد، ص26؛ مناقب الإمام أمير المؤمنينg، محمد بن سليمان الكوفي، ص575. 

([53]) الخصال، الصدوق، ص508.

([54]) ففي أنَّه: >لمَّا قتل علي قام الحسن بن عليg فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: والله لقد قتلتم الليلة رجلاً في ليلة نزل فيها القرآن، وفيها قتل يوشع بن نون فتى موسى، وفيها رفع عيسى بن مريم، والله ما سبقه أحدٌ كان قبله ولا يلحقه<. راجع مناقب الإمام أمير المؤمنينg، محمد بن سليمان الكوفي، ص575؛ مسند أبى يعلى الموصلي، أحمد بن علي بن المثن، ج12، ص124؛ المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد الطبراني، ج8، ص224.

([55]) الخصال، الصدوق، ص650، وص276؛ الكافي، ج5، ص12.

([56]) التفسير المنسوب للإمام العسكريg، ص369.

([57]) تفسير العياشي، ج1، ص209؛ بحار الأنوار، المجلسي، ج97، ص95. 

([58]) المصدر نفسه.

([59]) تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني،  ص115.

([60]) بحار الأنوار، المجلسي، ج24، ص203.

([61]) التفسير المنسوب للإمام العسكريg، ص448؛ وعنه في البحار ولكن نسبه إلى الإمام الحسينg، راجع بحار الأنوار، المجلسي، ج9، ص284.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا