دورُ المرأةِ في اختيارِ شريكِ حياتِها

دورُ المرأةِ في اختيارِ شريكِ حياتِها

الملخص

تعرَّض الكاتبُ في هذه المقالة إلى مسألة اختيار الزوج من قبل المرأة، فبعد ذكر أربعة أمور في مقدمة الحديث ذكر صفات الرجل التي ينبغي توفُّرها في الرجل وهي أربعة صفات رئيسة، ثمَّ تعرَّض لمسألة عاطفة المرأة وتأثيره في الاختيار وما عالج به الإسلام هذه المسألة دون إعفاء المرأة في الاختيار، وفي النقطة الأخيرة ذكر حرمة العضل في الإسلام.  

مقدّمة: 

كلّ عملٍ إذا أردتُ النجاح فيه فلا بدَّ أن أخطّطَ له بشكلٍ مسبق، فالتخطيط والتدبير قبل العمل يجنّب الإنسان -غالباً- الوقوع في الندامة، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين g في قوله: >التدبيرُ قبل العمل يؤمِّنك من الندم<([1]).

وتكمن أهمية التدبير والتخطيط في الأمور التالية:

الأمر الأوَّل: الاستفادة من الوقت

فإذا كان عمل الإنسان عشوائياً، وبلا تخطيط وتدبير، فإنّ الكثير من الوقت يضيع عليه، بينما لو كان عنده تخطيطٌ مسبق لأمكنه الاستفادة من الوقت في أمور أهمّ وأنفع؛ لأنَّه حرص على تنظيم عمله ووقته، وحريٌّ بالإنسان أن يحرص على وقته أكثر من أيّ شيء آخر؛ لأنّ العمر إذا مضى لا يعود، يقول النبيe لأبي ذر N: >يا أبا ذر، كُن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك<([2]).

الأمر الثَّاني: تحديد الأهداف بوضوح

من الأمور المهمّة في حياة الإنسان معرفة الهدف بوضوح؛ إذ كثيرة هي أعمالنا التي نقوم بها، والتي لا نعرف الهدف منها بوضوح، فيضيع جهدنا ووقتنا بلا فائدة، أمّا لو كنت قد خطّطت للعمل بشكل مسبق فإنّ الهدف يكون أوضح، وبالتالي تتحدّد لنا واقعية هذا الهدف من عدم واقعيّته، وتتّضح لنا الفائدة المرجوّة منه من عدمها.

الأمر الثالث: السير نحو الهدف بشكلٍ صحيح

لا يكفي مجرّد تحديد الهدف من العمل بشكل واضح، بل لا بدّ من معرفة الطريق الصحيح الموصل إلى الهدف أيضاً، وإلا لن أصل إلى الهدف، وسأقع في الندامة مستقبلاً، وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق g في قوله: >العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، لا تزيده سرعة السير إلا بُعداً<([3]).

ومعرفة الطريق الصحيح مرتبطة بالتخطيط الصحيح، والتدبير قبل العمل؛ حيث إنّ ذلك يجعلني على بصيرة من أمري.

الأمر الرابع: دفع المخاطر والاستفادة من الفرص

من خلال التخطيط والتدبير الصحيح قبل العمل يمكن للإنسان أن يدفع المخاطر والمشاكل التي قد تصيبه في المستقبل؛ حيث يمكنه تجنّب الكثير من الأخطاء والعقبات إذا خطّط للعمل بشكل سليم، وكذلك يمكنه أن يستفيد من الكثير من الفرص والفوائد التي قد تمرّ عليه مستقبلاً.

إذاً، هذه هي أهمّ الأمور التي تبيّن أهميّة التخطيط والتدبير قبل كلّ عمل، وتزداد المسألة أهمية كلّما ازدادت أهميّة العمل الذي أريد أن الإقدم عليه.

فإذا اتّضح ذلك، يتّضح لنا أهمية التخطيط والتدبير قبل الإقدام على الزواج، وتزداد أهميّته إذا عرفنا أهمية الرابطة الزوجية في الإسلام، حتى قال النبي e: >ما بُني بناءٌ في الإسلام أحبُّ إلى الله تعالى من التزويج<([4])، فالزواج أمر عظيم، ورابطة مقدّسة في الإسلام، لا ينبغي أن نتعامل معه معاملة اللامبالاة، وعدم الاكتراث، فليس من الصحيح أن يُقدِم المسلم على هذه الخطوة من دون التخطيط الصحيح؛ إذ إنّ ذلك قد يؤدّي إلى حصول الخلافات والنزاعات بين الزوجين في المستقبل، وبالتالي لا تستمرّ هذه العلاقة الزوجية، أو أنَّها تستمرّ بحالة من الفتور بحيث لا يتأدَّى الغرض المرجوّ منها.

وكثيرةٌ هي الشكاوى التي نسمع بها من قِبَل الزوجين والتي كانت ناتجة من عدم التخطيط الصحيح قبل الزواج، وعدم الفحص الدقيق عن مواصفات الشريك المناسب.

من هنا نريد أن نركّز على مسؤولية مهمّة تقع على عاتق الرجل والمرأة قبل الزواج، وهي مسؤولية الفحص الدقيق عن صفات الشريك المناسب، وعدم التسرّع في اتخاذ قرار الزواج، ولكن بما أنه قد يُتوهّم عدم مسؤولية المرأة تجاه المشاكل التي قد تعتريها من قِبَل الزوج مستقبلاً فلا بأس أن نقتصر في الحديث على مسؤولية المرأة تجاه هذا الموضوع؛ إذ إنّ قرار الموافقة على الزواج يبقى بيدها، فلا بدّ أن تستشعر هذه المسؤولية.

فالكلام يقع في عدّة نقاط:

النقطة الأولى: صفات الرجل المطلوبة في الزواج

من المهمّ قبل أن توافق المرأة على عقد النكاح أن يتمّ التحقّق من الرجل الذي يتقدّم للمرأة طالباً الزواج منها؛ لأنّ هذا التحقّق يساهم بشكل كبير في حفظ وصيانة المرأة والأسرة، فقد ورد عن الإمام الصَّادِقِ g عن آبَائه i قال: >قَالَ النَّبِيُّ e: إِنَّمَا النِّكَاحُ رِقٌّ، فَإِذَا أَنْكَحَ أَحَدُكُمْ وَلِيدَةً فَقَدْ أَرَقَّهَا، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ لِمَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ<([5]).

ومن هنا لا بأس أن نذكر أهمّ الصفات التي ينبغي التركيز عليها والتحقّق منها في الرجل قبل قبوله كزوج، مستفيدين في ذلك من كلام أهل البيت i، ثم نفرّع عليها بعض الأمور.

الصفة الأولى: أن يكون كُفْأً

الكُفءُ في اللغة يعني المثْل في الحسب والمال والحرب، وفي التزويج يقال: الرجل كُفءُ المرأة([6])، وهو أَن يكون الزوج مُساوياً للمرأَة في حَسَبِها ودِينِها ونَسَبِها وبَيْتِها وغير ذلك([7]).

فمن المهمّ جدّاً أن نتحقّق حول هذه الصفة، فهل هذا الرجل كفءٌ لهذه المرأة؟ فإنّ هذه الصفة إذا توفّرت فإنّها تذيّل العديد من العقبات والمشاكل الزوجية التي قد تحصل في حال عدم توفّر هذه الصفة، ولذا جاءت الروايات العديدة التي تحثّ على عدم التربّص والتأخير عند مجيء الرجل الكفوء.

فقد ورد عن رسول الله e: >أَنْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَانْكِحُوا فِيهِمْ وَاخْتَارُوا لِنُطَفِكُمْ<([8]).

وورد عنهe أنه قال: >إذا جاءكم الأكفاء فأنكحوهنّ ولا تربَّصوا بهنّ الحَدَثان<([9]).

ولهذه الكفاءة عدّة أنحاء، لا بأس أن نتطرّق إلى بعضها، ونرى ما الذي ركّز عليه الشارع المقدّس:

النحو الأول: الكفاءة في الإيمان

الإسلام جعل الإيمان أحد معايير الكفاءة بين الرجل والمرأة، والمقصود بالإيمان هو الاعتقاد القلبي بالله تعالى وصفاته، وبالنبوّة والإمامة والمعاد، وغيرها من الاعتقادات الحقّة، فالإيمان أعزّ ما يملك الإنسان المؤمن، فلذا جُعِل معياراً للكفاءة، حيث جاء في الروايات أنّ الرجل الكفوء هو الرجل المؤمن، فقد ورد أنّ رجلاً قام إلى رسول الله e فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ نُزَوِّجُ؟ فَقَالَ: >الأَكْفَاءَ<، فَقَالَ: وَمَنِ الأَكْفَاءُ؟ فَقَالَ: >الْمُؤْمِنُونَ‌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ، الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ<([10]).

وورد في قصة تزويج جويبر من الذلفاء بنت زياد بن لبيد أنّ النبي e قال لزياد: >يَا زِيَادُ، جُوَيْبِرٌ مُؤْمِنٌ، وَالْمُؤْمِنُ كُفْوُ الْمُؤْمِنَةِ، وَالْمُسْلِمُ كُفْوُ الْمُسْلِمَةِ، فَزَوِّجْهُ يَا زِيَادُ وَلا تَرْغَبْ عَنْهُ<([11]).

وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ عَنِ الصَّادِقِ e قَالَ: >وَلا يَتَزَوَّجُ الْمُسْتَضْعَفُ‌ مُؤْمِنَةً‌<([12]).

النحو الثاني: الكفاءة المالية

الإسلام لم يركّز في مسألة قبول الزوج على العامل المالي، بل حثّ على التزويج وإن كان الرجل فقيراً، فقد ورد عن الإمام الرضا g في شأن التزويج أنه قال: >إِنْ خَطَبَ إِلَيْكَ رَجُلٌ رَضِيتَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجْهُ، وَلا يَمْنَعْكَ فَقْرُهُ وَفَاقَتُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}، وَقَالَ: {إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ}<([13]).

فليس من الصحيح أن يتمّ التركيز من الناس على الجانب المالي عند الرجل، والجانب الوظيفي، وغير ذلك، ويهملون جانب التديّن الذي ركّز عليه الشارع المقدّس كثيراً.

نعم، هذا لا يعني أنّ الكفاءة المالية ليست عاملاً مهمّاً في جلب الاستقرار في الحياة الزوجية؛ إذ إنه قد ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ g أَنَّهُ قَالَ: >الْكُفْوُ أَنْ يَكُونَ عَفِيفاً وَعِنْدَهُ يَسَارٌ<([14])، أي أن يكون ميسور الحال بقدر ما يقوم بأمرها والإنفاق عليها([15])، لا أكثر من ذلك، فالعامل المالي مهم، ولكن لا بحيث يكون هو الدافع الأساسي للزواج.

بل بعض الفقهاء حرّموا ردّ الرجل وعدم قبوله لمجرّد فقره، قال الشيخ الطوسي N: "المؤمنون بعضهم أكفاء لبعض في عقد النّكاح، كما أنّهم متكافئون في الدّماء وإن اختلفوا في النّسب والشّرف، وإذا خطب المؤمن إلى غيره بنته، وكان عنده يسار بقدر ما يقوم بأمرها والإنفاق عليها، وكان ممّن يرضى دينه وأمانته، ولا يكون مرتكباً لشيء من الفجور، وإن كان حقيراً في نسبه، قليل المال، فلم يزوّجه إيّاها، كان عاصياً للّه مخالفاً لسنّة نبيّه e"([16]).

وقال ابن إدريس الحلي N في تفسير الحديث السابق: "ووجه الحديث في ذلك أنّه إنّما يكون عاصياً إذا ردّه، ولم يزوّجه، لما هو عليه من الفقر والأنفة منه لذلك، واعتقاده أنّ ذلك ليس بكف‌ء في الشرع، فأمَّا إن ردّه ولم يزوّجه لا لذلك، بل لأمر آخر وغرض غير ذلك من مصالح دنياه، فلا حرج عليه، ولا يكون عاصياً، فهذا فقه الحديث"([17]).

النحو الثالث: الكفاءة في النسب

الإسلام جعل المعيار في التفاضل هو التقوى، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات:13)، فليس المعيار في التفاضل هو النسب والمال وما شابه ذلك، بل هو أمر مرجوح، وهذا ما ورد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ بَشِيرٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ g أَنَا عُقْبَةُ بْنُ بَشِيرٍ الْأَسَدِيُّ، وَأَنَا فِي الْحَسَبِ الضَّخْمِ مِنْ قَوْمِي، قَالَ: فَقَالَ: >مَا تَمُنُّ عَلَيْنَا بِحَسَبِكَ، إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ بِالْإِيمَانِ مَنْ كَانَ النَّاسُ يُسَمُّونَهُ وَضِيعاً إِذَا كَانَ مُؤْمِناً، وَوَضَعَ بِالْكُفْرِ مَنْ كَانَ النَّاسُ يُسَمُّونَه‏ شَرِيفاً إِذَا كَانَ كَافِراً، فَلَيْسَ لأَحَدٍ فَضْلٌ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى‏<([19]).

وهكذا الأمر في التزويج، فالنبي e زوّج المقداد بن الأسود ضُباعةَ بن الزبير بن عبد المطلب، وإنما زوّجه لتتّضع المناكح، وليتأسّوا برسول الله e، وليعلموا أنّ أكرمهم عند الله أتقاهم([20])، وزوّج جُويبراً من الذلفاء، وزوّج زيداً من زينب بنت جحش.

وقد ورد عن أمير المؤمنين g أنَّه قال: >قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ دَنِيّاً فِي نَسَبِهِ، قَالَ: إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، {إِلّٰا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ}([21]).

الصفة الثانية: التديّن والخُلُق الحسن

الرجل المتديّن يخشى الله تعالى، ولا يظلم زوجته، وكذلك صاحب الأخلاق الحسنة لا تصدر منه الأفعال القبيحة، وبالتالي يساهم هذا بشكل كبير في صيانة المرأة ووقايتها من الوقوع في حالة التعليق.

فقد ورد عن النبي e أنه قال: >إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ يَخْطُبُ إِلَيْكُمْ فَزَوِّجُوهُ؛ {إِلّٰا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ}<([22]).

فهذا هو الذي ركّزت عليه الروايات الشريفة، لا المال ولا الحسب والنسب، وبالتالي لا ينبغي تزويج المرأة للرجل الفاسق؛ ففي ذلك فساد لها.

وعن الإمام الرضا g: >إِنْ خَطَبَ إِلَيْكَ رَجُلٌ رَضِيتَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجْهُ، .. وَلا يُتَزَوَّجْ شَارِبُ خَمْرٍ فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ فَكَأَنَّمَا قَادَهَا إِلَى الزِّنَا<([23]).

فالفسق وسوء الخلق من أعظم الآفات في الحياة الزوجية، بل قد تصبح الحياة الزوجية أشبه بالجحيم عند المرأة، وهو من أهم العوامل المؤدّية إلى انهيار الأسرة وتشتّتها، ومن هنا تبرز أهمية التحقّق من توفّر صفة حسن الخلق قبل القبول بالرجل.

وهذا ما أشار له الإمام الرضا g حينما كتب إليه الحسين بن بشار يسأله عن ذلك، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ بَشَّارٍ الْوَاسِطِيِّ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام): أَنَّ لِي قَرَابَةً قَدْ خَطَبَ إِلَيَّ وَفِي خُلُقِهِ شَيْ‌ءٌ. فَقَالَ: >لا تُزَوِّجْهُ إِنْ كَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ<([24]).

الصفة الثالثة: الرشد والأهلية

من المهم قبل الزواج أن نتحقّق من أهلية الرجل للزواج ورشده، بحيث لا يكون سفيهاً، أو انفعالياً، أو فاقداً للحكمة، أو كان صغيراً لا يحسن التصرّف؛ فإنّ الزواج بمثل هكذا رجل قد يؤدّي إلى وقوع الزوجة في المشاكل، ومن ثمّ الوقوع في حالة التعليق، بخلاف ما لو كان الرجل رشيداً ومؤهّلاً للزواج؛ فإنّ ذلك أدعى لعدم الوقوع في حالة تعليق الزوجة والوقاية منها.

ولذا صار مكروهاً تزويج الصغار والأطفال -قبل البلوغ- الذين لا يحسنون التصرّف ولا يستطيعون تحمّل المسؤولية، فقد ورد عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَوْ أَبِي الْحَسَنِ (عليهما السلام) قَالَ: قِيلَ لَهُ: إِنَّا نُزَوِّجُ صِبْيَانَنَا وهُمْ صِغَارٌ، قَالَ: فَقَالَ: >إِذَا زُوِّجُوا وَهُمْ صِغَارٌ لَمْ يَكَادُوا يَتَأَلَّفُون<([25])، وإن حمل صاحب الحدائق N الكراهة على الدخول لا مجرّد العقد([26]).

نعم، إذا كان رشيداً، ويمكنه تحمّل مسؤولية الزواج، فهذا يحسن تزويجه وإن كان صغيراً، وهذا ما ورد في الحثّ على التسريع في الزواج؛ للحفاظ على العفّة وعدم الوقوع في الحرام.

فقد ورد عن النبي e: >مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ ثَلَاثَةٌ: يُحَسِّنُ اسْمَهُ، وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَةَ، وَيُزَوِّجُهُ إِذَا بَلَغَ<([27]).

وعنه e: >مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ أَنْ يُحَسِّنَ اسْمَهُ إِذَا وُلِدَ، وَأَنْ يُعَلِّمَهُ الْكِتَابَةَ إِذَا كَبِرَ، وَأَنْ يُعِفَّ فَرْجَهُ إِذَا أَدْرَكَ‌<([28]).

الصفة الرابعة: حسّ المسؤولية وحُسن التدبير

تكوين الأسرة وتأسيسها له تبعات والتزامات، فهناك مسؤوليات كثيرة تقع على عاتق الزوجين عند تكوّن الأسرة؛ مسؤوليات دينية، مالية، اجتماعية، وغيرها، وإنّ مسؤولية إدارة الأسرة تقع على عاتق الرجل بشكل أساس، فلا بدّ أن يكون عند الزوج حسّ المسؤولية، وأن يكون مؤهّلاً لتحمّل تبعات الزواج، وأن يكون متوفّراً على أساسيات الإدارة اللازمة لا أقل، وأن يُحسن تدبير شؤون الأسرة ومعاشها.

يقول أمير المؤمنينg: >آفة المعاش سوء التّدبير<([29]).

وعنهg: >إذا أراد اللّه بعبد خيراً ألهمه الاقتصاد وحسن التّدبير، وجنّبه سوء التّدبير والإسراف‏<([30]).

هذه هي أهم الصفات الواردة في الروايات الشريفة، ومن هنا ينبغي التأكيد على أنّ المرأة لا ينبغي أن تُسيطر عواطفها ومشاعرها على عقلها، بحيث تتعلّق بذلك الرجل الفاقد للصفات المؤهّلة له للزواج، ومن ثم تضغط على وليّها من أجل أن يأذن لها بالزواج من هذا الرجل، وبالتالي تقع في مشاكل لا تحصى مع هذا الرجل فتندم وتتأسّف.

إذاً، المرأة تتحمّل المسؤولية الكبيرة في مسألة اختيار الزوج، وهي المالكة لقرارها، فينبغي أن تحمل هذه المسؤولية على محمل الجدّ، وأن لا تتهاون فيها؛ حتى تكون في طريق تحصيل الوقاية من المشاكل المستقبلية، ومن مشكلة تعليق الزوجة، فصحيح أنّ هذا الطريق ليس طريقاً حاسماً في الوقاية من محذور تعليق الزوجة إلا أنّ له أثراً كبيراً جدّاً في سبيل تحصيلها.

النقطة الثانية: عاطفة المرأة والتساهل في اختيار الزوج

المرأة كتلة من المشاعر والعواطف، فالله سبحانه وتعالى قد خلقها بهذا النحو رحمةً بها، حيث إنّ المرأة تحتاج إلى هذه العاطفة لتستفيد منها في تسيير مهامّها الأساسية في الحياة، والتي من خلالها يمكن الوصول إلى الحياة والنظام الأصلح في المجتمع، حيث تتكامل الأدوار بين المرأة والرجل.

لكنّ هذه العاطفة قد تطغى على عقل المرأة في بعض الأحيان، وخصوصاً فيما يتعلّق بالعلاقة الزوجية؛ لأنّ العلاقة الزوجية علاقة مليئة بالمشاعر والأحاسيس العاطفية، علاقة أساسها الحبّ والمودّة، بل حتى الرجل نجده قد يتأثّر بعض الأحيان، وتتهيّج عاطفته، وتغلب على عقله، فما بالك بالمرأة!

وهنا تكمن خطورة هذه المسألة؛ باعتبار أنّ العاطفة إذا كانت هي المُحكَّمة في مسألة اختيار الشريك المناسب فإنّ العقل يخفت دوره، ولا يقوم بمهمّته الملقاة على عاتقه من التشخيص الصحيح واختيار الرأي السليم.

وبما أنّ عاطفة المرأة -نوعاً- أكبر بكثير من عاطفة الرجل، فهي تكون أكثر عرضةً للتساهل في اختيار الزوج، وهذا بالطبع أمرٌ لا يُراد له أن يحصل.

فهل هذه العاطفة الكبيرة عن المرأة يعفيها عن مسؤوليّتها ودورها في الاختيار الصحيح للزوج المناسب؟

نقول: هذا لا يعفي المرأة عن مسؤوليّتها، ولكن مع ذلك ومن أجل ضمان تقليل احتمال غلبة عاطفة المرأة على عقلها، فقد قام الإسلام بخطوة مهمّة جدّاً لصالح المرأة، وهي أنه قد ضمّ إلى عقلها عقلَ وليّها، فاشترط في نكاح المرأة البِكْر إذنَ وليّها، فجعل حقّ الولاية للأب أو الجدّ للأب في زواج البنت البِكْر، بحيث إنه ليس للبنت البِكْر أن تتفرّد في أمر الزواج؛ وذلك لأنّ الولي يكون أبعدَ عن العاطفة، ويكون عقله حاضراً بشكل أكبر، وهذا من شأنه أن يختار الرأي الصائب، ولا يكون اختيار الزوج منفعلاً عن مجرّد العاطفة والأحاسيس، بل يكون الاختيار ناتجاً عن دراسة متّزنة ورصينة. 

وهذا الاشتراط -كما نلاحظ- هو في الحقيقة تشريعٌ لصالح المرأة، وليس ضدّها، فلا يُلتفَت إلى من يُشكِل على الإسلام بأنه يُقيّد حرية المرأة وما شابه ذلك من الإشكالات، وإلا فالإسلام لا يشترط إذن الولي على مطلق المرأة، بل يفصّل في المقام بين المرأة البِكْر والمرأة الثيّب؛ فالبنت إذا كانت بِكْراً فإنه يشترط إذن الأب أو الولي في زواجها، وأما إذا كانت ثيّباً فلا يُشترط ذلك. لماذا؟

لأنّ المرأة البِكْر وإن كان لها الحقّ في الاختيار، إلا أنه يُحتمَل احتمالاً قويّاً أن تغلب عواطفها على عقلها، فتختار الرجل غير المناسب لها متأثّرةً بعواطفها، فلذا منع الإسلام من أن تنفرد المرأة البِكْر في مثل هكذا قرار محوري مهمّ وحسّاس، وضمّ إليها عقل وليّها ليصوّب لها رأيها.

وأما المرأة الثيّب فلم يشترط الإسلام في نكاحها إذن وليّها؛ ولعلّ الحكمة من ذلك ترجع إلى أنّ المرأة الثيّب قد خاضت تجربة زواج سابقة، وعرفت السلبيات والإيجابيات، وعلمت أنّ الزواج ليس بالأمر الهيّن، فبالتالي حينما تريد خوض تجربة جديدة في الزواج فإنّ عقلها يكون حاضراً بقوّة، ويكون هو المتغلّب على العاطفة، ويكون قرارها متّزناً وأكثر عقلانية، لا العكس.

ثم إنّ الإسلام قد ضيّق دائرة الولاية على البنت البِكْر وحصرها في خصوص الأب والجدّ للأب، بعد أن كانت قبل الإسلام تشمل الأخ أيضاً، بل وابن العمّ؛ كلّ ذلك توسيعاً لنطاق حقّ الحرية للمرأة في الزواج.

النقطة الثالثة: حرمة العضل في الشريعة الإسلامية

قلنا بأنّه يشترط في زواج المرأة البكر إذن وليّها، إلا أنّ ذلك لا يعني ولايته المطلقة عليها، بل هي ولاية منصوبة لتكون في صالح المرأة، لا ضدّها، وبالتالي حرّم الإسلام مسألة عضل المرأة.

والعَضْل في اللغة هو المنع والشدّة([31])، وعَضْلُ المرأة هو منعها من التزويج ظلماً، يقال: "وعَضَلَ الرَّجُلُ أَيِّمَه يَعْضُلُها ويَعْضِلُها عَضْلاً وعضَّلها: مَنَعها الزَّوْجُ ظُلْماً"([32])، قال في مجمع البيان: "العضل التضييق بالمنع من التزويج، وأصله الامتناع، يقال: عضلت الدجاجة ببيضتها إذا عسرت عليها، وعضل الفضاء بالجيش الكثير إذا لم يمكن سلوكه لضيقه. ومنه الداء العضال الذي لا يبرأ"([33]).

وقد ورد التحريم للعضل في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ}(البقرة:232). 

وكذلك في قوله تعالى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(النساء:19)، فقد نهى القرآن الكريم عن عَضْل النساء ومنعهنّ من التزويج ظلماً ومن غير وجه حقّ.

وقد اختلفوا في أنّ الخطاب في الآية هل هو موجّه إلى الزوج أو إلى الأولياء، فهنا يوجد احتمالان:

الاحتمال الأول: أن يكون العضل من الزوج

بأن يتركها ويهجرها ويمنعها من الزواج بغيره، أو يمسكها إضراراً حتى تفتدي بمالها، أو كأن يطلّقها سرّاً ولا يبلّغها حتى لا تتزوّج بغيره، وغيرها من الأساليب للمنع.

الاحتمال الثاني: أن يكون العضل من غير الزوج

كأن يكون العاضل للمرأة هو الوليّ أو الوارث أو غيرهما، لا الزوج نفسه، وهذا الاحتمال هو محلّ كلامنا.

قال في مجمع البيان: "{وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي انقضت عدّتهنّ {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أي لا تمنعوهن ظلماً عن التزوج، وقيل: المراد به التخلية، وقيل: هو خطاب للأولياء ومنع لهم من عضلهنّ، وقيل: خطاب للأزواج، يعني أن تطلّقوهنّ في السرّ ولا تظهروا طلاقهنّ كيلا يتزوّجن غيرهم، فيبقين لا ممسكات إمساك الأزواج، ولا مخلّيات تخلية الطلاق، أو تطوّلوا العدّة عليهن"([36]).

وقال في تفسير الآية الأخرى: "واختلف في المعنيّ بهذا النهي على أربعة أقوال: 

(أحدها): أنه الزوج، أمره الله بتخلية سبيلها إذا لم يكن له فيها حاجة، وأن لا يمسكها إضراراً بها حتى تفتدي ببعض مالها، عن ابن عباس وقتادة والسدّي والضحاك، وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

 (وثانيها): أنه الوارث، نهي عن منع المرأة من التزويج كما كان يفعله أهل الجاهلية على ما بيّناه. عن الحسن. 

(وثالثها): أنه المطلّق، أي لا يمنع المطلّقة من التزويج كما كانت تفعله قريش في الجاهلية ينكح الرجل منه المرأة الشريفة، فإذا لم توافقه فارقها على أن لا تتزوّج إلا بإذنه، ويشهد عليها بذلك، ويكتب كتاباً، فإذا خطبها خاطب فإن أرضته أذن لها، وإن لم تعطه شيئاً عضلها، فنهى الله عن ذلك. عن ابن زيد. 

(ورابعها): أنه الوليّ، خوطب بأن لا يمنعها عن النكاح. عن مجاهد. والقول الأول أصح"([37]).

وعلى أيّ حال، فإنّ إذن الولي في زواج البنت البكر مشروط بأن يكون من دون عضل وظلم، وإلا لو كان الأب أو الولي يمنعها من الزواج ظلماً فهو أمر محرّم في الشريعة، فتأتي القاعدة الفقهية المعروفة: >لا ضرر ولا ضرار في الإسلام<، ويجوز لها حينئذٍ أن تستقلّ في الزواج إذا جاءها الرجل الكفء.

والحمد لله ربّ العالمين.


([1]) الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، ص447.

([2]) الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، ص527.

([3]) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص43.

([4]) الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص383.

([5]) المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار، ج‌100، ص371‌.

([6]) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج‌5، ص414‌.

([7]) ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، ج‌1، ص139‌.

([8]) الحر العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشيعة، ج‌20، ص48‌.

([9]) الريشهري، محمد، تعزيز الأسرة من منظار الكتاب والسنّة، ص72، نقلاً عن كنز العمال، ج16، ص317، ح44693.

([10]) الحر العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشيعة، ج‌20، ص61‌.

([11]) المصدر السابق، ص68‌.

([12]) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج‌10، ص638‌.

([13]) منسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، فقه الرضا، ص237‌.

([14]) المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار، ج‌100، ص372‌.

([15]) الطوسي، محمد بن الحسن، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، ص463‌.

([16]) المصدر السابق.

([17]) الحلي، ابن إدريس، محمد بن منصور، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى، ج‌2، ص558‌.

([18]) الحجرات: 13.

([19]) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج‌4، ص19‌.

([20]) المصدر السابق، ج‌10، ص620‌.

([21]) الحر العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشيعة، ج‌20، ص78‌.

([22]) المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار، ج‌100، ص372‌.

([23]) المصدر السابق.

([24]) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج‌11، ص300‌.

([25]) المصدر السابق، ج‌10، ص765‌.

([26]) البحراني، يوسف بن أحمد، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، ج‌23، ص150‌.

([27]) الطبرسي، الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، ص220. ‏

([28]) النوري، المحدث، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج‌15، ص169‌.

([29]) الآمدي، عبد الواحد بن محمد، غرر الحكم ودرر الكلم، ص280.

([30]) المصدر السابق، ص291.

([31]) الجزري، ابن أثير، مبارك بن محمد‌، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج‌3، ص254‌.

([32]) ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، ج‌11، ص451‌.

([33]) الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج‏3، ص39.

([34]) البقرة: 232.

([35]) النساء: 19.

([36]) الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج‏2، ص583.

([37]) المصدر السابق، ج‏3، ص40.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا