دلالةُ آيةِ (الخضوع في القول) على حرمة النَّظر بريبة

دلالةُ آيةِ (الخضوع في القول) على حرمة النَّظر بريبة

الملخَّص

تعرَّض الكاتبُ في مقالته -مستفيداً من درس الشيخ الأعرافي- إلى محاولة الاستدلال على حرمة النظر بريبة من خلال آية الخضوع {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في‏ قَلْبِهِ مَرَضٌ}، فبعد أن ذكر في المبحث الأوَّل ثلاثةَ معانٍ متصوَّرة للرِّيبة، وستّ تنبيهات، ذكر في المبحث الثاني ما يتعلَّق بعموم الآية لغير زوجات النبيe ومعنى الخضوع والطمع والمرض، ودلالة الآية والأقوال في كون الطمع هل هو محرم على الرجل فتثبت دلالة الآية على حرمة النظر بريبة أم لا؟

المقدِّمة:

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، اللهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد وعجِّل فرجهم..

مسألة حرمة النَّظر بريبة يمكن اعتبارها قاعدة من القواعد لتكرُّرها في أكثر من مسألة من مسائل النَّظر المذكورة في مقدِّمات باب النكاح، فحتى في موارد جواز النَّظر في حدِّ نفسِه كالنَّظر للمحارم لو كان بريبة فإنَّه يحرم لطروء هذا العنوان الثانوي، ولو كان النَّظر في نفسه غير جائز وصاحبته الرِّيبة أيضاً فقد اجتمعت فيه حرمتان: حرمة للعنوان الأوَّلي وحرمة للعنوان الثانوي وهو الرِّيبة.

فالرِّيبة هو الاستثناء الأوَّل من موارد جواز النَّظر، والاستثناء الثَّاني هو النَّظر بتلذُّذ، فقد تكرَّر هذان الاستثناءان في ضمن المسائل التي ذُكر فيها موارد جواز النَّظر، فالمناسب ذكرهما كقاعدتين مستقلَّتين. وهذا المقال معقودٌ للبحث عن دليل من أدلَّة القاعدة الأولى وهي حرمة النَّظر -وما شابه النَّظر([2])- إذا كان بريبة ومدى تمامية هذا الدليل لإفادة هذه القاعدة، والدليل هو آية الخضوع في القول، كلُّ ذلك بناء على آراء آية الله الشيخ علي رضا الأعرافيB اعتماداً على ما ذكره في درسِه وما هو المنقول في تقريرات درسِه.

والكلام في ضمن مبحثين:

المبحث الأوَّل: معنى الرِّيبة

المعنى اللغوي للريبة:

يمكن حصر المعاني - التي ذكرت في عدَّةٍ من المعاجم- اللغوية لمفردة الرِّيبة في خمسة معانٍ([3]):  التُّهمة، الظنّ، الشَّك، الخوف، الظنّة.

وقد ذُكر في معجم الفروق اللغوية فرقاً بين الرِّيبة والتُّهمة وفرقاً بين الرَّيب والشكِّ لا يهمُّ التعرُّض إليهما في المقام.([4])

المعنى الاصطلاحي للريبة:

قبل التطرُّق للمعنى الاصطلاحي للريبة ينبغي الإشارة إلى أنَّ هذه اللفظة لم تأتِ في الأدلة والروايات التي جاءت في باب النكاح والنظر والتي استدلَّ بها لحرمة النَّظر بريبة، فهو اصطلاح جاء على ألسنة الفقهاء فحسب.

فائدة:

 تجدر الإشارة إلى أنَّ اصطلاحات الفقهاء على قسمين:

القسم الأوَّل: اصطلاحات مأخوذة من نفس الأدلَّة والآيات والروايات.

القسم الثَّاني: اصطلاحات مصطادة وانتزاعية بحيث لم تأتِ عينُها في كلمات المعصومينi، والرِّيبة من هذا القسم.

ثمَّ إنَّه في موارد القسم الثَّاني لا يكون للكلمة التي جاءت في اصطلاح الفقهاء موضوعية، فقد نصل- بعد تحليل الروايات- إلى استبدال هذه الكلمة والاصطلاح إلى اصطلاح أنسب أو نتصرَّف في تفسير الاصطلاح بالزيادة أو النقصان، وعليه ففي الاصطلاحات من القسم الثَّاني نكون في سعة من أمرنا في التصرُّف في الاصطلاح؛ إذ لا تكون هناك أهميَّة للكلمة والاصطلاح المذكور في كلمات الفقهاء بل المهم الأدلَّة التي ذُكرت، بخلاف القسم الأوَّل فإنَّه باعتبار أنَّ الاصطلاح جاء في الروايات يلزم علينا أن نتقيَّد به. وعليه فلا يلزم التدقيق كثيراً في المعنى اللغوي أو العرفي فيما كان من القسم الثَّاني خلافاً لما كان من القسم الأوَّل.

ثم إنَّ ما كان من قبيل القسم الثَّاني يمكن تقسيمه تقسيماً ثانوياً لا يخلو من أهمية، وحاصله أن الاصطلاحات التي جاءت في ألسنة الفقهاء ولم ترد في الروايات على قسمين:

القسم الأوَّل: ما جاء في كلمات المتقدِّمين من الفقهاء.

القسم الثَّاني: ما جاء في كلمات المتأخِّرين منهم.

أمَّا ما جاء في كلمات المتقدِّمين من الفقهاء فينبغي التدقيق فيه؛ إذ أنَّه وإن لم يرد في الروايات ولكن يُحتمل أنه أُخذ من روايات لم تصلنا أو كان هذا الاصطلاح مستلّاً ومستخرجاً من الروايات من قِبلهم، واستخراجهم للاصطلاح أقرب للصواب؛ لذا يلزم الاعتناء بهذه الاصطلاحات أكثر من الاصطلاحات التي جاءت في ألسنة الفقهاء المتأخِّرين، نعم لا تصل أهمية الاصطلاح -حتى الذي جاء في كلمات الفقهاء المتقدِّمين- إلى أهميَّة الاصطلاح الذي جاء وورد في الروايات.

أمَّا المعاني الاصطلاحية للرِّيبة فهي ثلاثة:

المعنى الأوَّل: خطور تصورات وتخيُّلات المعصية بسبب النَّظر

النَّظر بريبة هو النَّظر الذي يوجب وجود خواطر وتصوُّرات وتخيُّلات المعصية والمشاهد الجنسية كتقبيل المنظور إليه والذي لا يجوز في حدِّ نفسه، أو ما هو أشدُّ من التقبيل. وقد ذكر هذا المعنى الفاضل الهندي في كشف اللثام، فقال -بعد نقلِه رأيَ الشيخين في مسألة النَّظر إلى نساء أهل الذِّمة وشعورهنَّ-: ".. وهي[أي الرِّيبة] ما يخطر بالبال من النَّظر دون التلذّذ به، أو خوف افتتان.."([5]).

فهو O- كما يظهر من عبارته هذه- يرى أنَّ عندنا ثلاثة أمور:  التلُّذذ والرِّيبة وخوف الافتتان، وعليه فإنَّ الرِّيبة – التي هي بحسب رأي الفاضل الهندي ما يخطر بالبال- غير خوف الافتتان الذي هو المعنى الثَّالث الآتي([6])-، نعم ذكر O تعالى في تتمَّة عبارته السابقة أنَّه "يمكن تعميم الرِّيبة للافتتان، لأنَّها من (راب) إذا أوقع في الاضطراب.." وبناء عليه تكون الرِّيبة شاملة للمعنى الأوَّل والثَّالث الذي يأتي.

وينبغي الإشارة إلى أنَّ الشيخ الأنصاري قد فسَّر مرادَ الفاضل الهندي من الخطور بأنَّه الميلُ أي المعنى الثَّاني الذي يأتي، وبناء على هذا التَّفسير من الشيخ الأنصاري يتَّحد المعنى الأوَّل مع الثَّاني، قال الشيخ الأنصاري: "ولا يبعد أن يكون المراد بها[أي الرِّيبة] - كما عن كشف اللثام -: ما يخطر بالبال عند النَّظر. ولعلَّ‌ المراد به: الميل إلى فعل الحرام مع المنظور إليه، من الزنا والتقبيل ونحوهما."([7]).

ولعلَّ ما دعا الشيخ الأنصاري لتفسير عبارة كاشف اللثام بالمعنى الثَّاني -أي الميل- هو استبعاد حرمة النَّظر الذي لا يوجب إلا حصول الخواطر.

إذن، فخلاصة ما تقدَّم حول عبارة الفاضل الهندي أنَّ:

١. معنى الرِّيبة بحسب صدر عبارته هو ما يخطر في البال من النَّظر.

٢. معنى الرِّيبة بحسب ذيل عبارته معنى يشمل المعنيين الأوَّل والثَّالث، ولكن ذكر ذلك على نحو الاحتمال بقوله “يمكن تعميم..”.

٣. بحسب تفسير الشيخ الانصاري لعبارة الفاضل الهندي يتَّحد المعنى الأوَّل مع الثَّاني، فما يخطر بالبال من النَّظر هو نفسه بمعنى حصول الميل.

وممَّن يُستفاد منه هذا المعنى الأوَّل للرِّيبة الشيخ الأراكيO حيث قال: ".. تصوُّر العمل القبيح الذي هو المعبَّر عنه في كلماتهم بالرِّيبة على ما هو الظاهر من كلماتهم.."([8]).

المعنى الثَّاني: الميل إلى المعصية بسبب النَّظر

النظر بريبة هو النَّظر الذي يوجد في النَّفس ما هو أزيد من مجرَّد التصوُّرات، فهو يوجد في النفس الميل للمحرَّم، بمعنى أنَّ النَّظر بريبة هو النَّظر الذي يوجد في نفس النَّاظر الميل لفعل الحرام سواء أكان مع المنظور إليه أم مع غيره، بينما المعنى السابق كان أضيق من ذلك؛ إذ النَّظر بريبة -بحسب المعنى السابق-هو النَّظر الذي يوجب ظهور التصوُّرات والتخيُّلات المتعلِّقة بالمعصية وإن لم يوجب حصول الميل في نفس النَّاظر. 

وقد ذكر هذا المعنى الشيخ الأنصاريO وبه فسَّر مراد الفاضل الهندي كما تقدَّمت الإشارة إلى ذلك في المعنى الأوَّل، نعم خصَّه الشيخ الأنصاري بالميل لفعل الحرام مع المنظور إليه خاصَّة لا مطلقاً كما هو ظاهر عبارته المتقدِّمة.

المعنى الثَّالث: خوف الوقوع في الحرام بسبب النَّظر

النَّظر الذي يوجد في النفس ما هو أزيد من مجرَّد تصوُّرات المعصية أو الميل إليها، فالنَّظر بريبة- بحسب هذا المعنى- ليس هو ما يوجب وجود التصوُّرات أو الميل فقط بل يوجب خوف الوقوع في الحرام؛ فإنَّه قد توجد في نفس الشَّخص ميول للمعصية، ولكنَّه متسلِّط على نفسه، ويطمئنُّ بأنَّه يكبح ميولَه ولا ينجرُّ للمعصية فلا تتحقَّق حينئذٍ الرِّيبة بهذا المعنى الثَّالث، ولكن في بعض الأحيان يتجاوز الفرد التصوُّرات والميول فيوجد عنده احتمال عقلائي أو اطمئنان بأنَّه يُقدم على الحرام بسبب هذا النَّظر، وعند ذلك يتحقَّق المعنى الثَّالث للريبة. ومن الواضح أنَّ الحرمة تتحقَّق عند الخوف في الوقوع فتحقُّقها في حالة الاطمئنان بالوقوع في الحرام من باب أولى. فالمراد بحسب هذا المعنى الخوف العملي الذي يرجع إلى الجوارح -بمعنى أنَّ تحقُّق مقتضى الخوف لا يقتصر على الجوانح- بخلاف التصوُّرات والميول التي ترجع إلى أمرٍ جوانحي، وهذا المعنى هو الذي يُذكر غالباً للريبة؛ إذ ذكر هذا المعنى صاحب العروة ولم يعلِّق كثيرٌ من الفقهاء على كلامه ممَّا يفهم ارتضاؤهم لهذا المعنى.([9]) وينبغي الإشارة إلى أنَّ الرِّيبة بهذا المعنى الثَّالث لا تتحقَّق في حالة وجود احتمال ضعيف وهمي غير عقلائي بالوقوع في الحرام، بل المراد هو الاحتمال العقلائي. هذه هي معاني النَّظر بريبة في كلمات الفقهاء.

وهنا تنبيهات:

التَّنبيه الأول: المعاني الثَّلاثة ذو مراتب تشكيكية

إنَّ كلَّ معنى من هذه المعاني الثلاثة للريبة تشكيكي وذو مراتب، وذلك من جهتين:

الجهة الأولى: التَّشكيك في نفس الخطور أو الميل أو الخوف

ففي المعنى الأوَّل للنَّظر بريبة -وهو ما يوجب حصول خواطر وتخيُّلات المعصية- توجد درجات لتلك الخواطر، فأحياناً تكون تلك الخاطرة التي يوجدها النَّظر خاطرةً عابرة غير مستقرَّة بحيث تزول بسرعة، وأحياناً تكون مستمرَّة وثابتة ولها رسوخ في الذهن.

وكذلك في المعنى الثَّاني -وهو ما يوجب حصول الميل للحرام-؛ فإنَّ الميل لفعل الحرام له درجات، فقد يكون ميلاً عادياً وقد يكون ميلاً شديداً وهو الذي قد يعبَّر عنه بالافتتان أو العشق؛ فإنَّ الافتتان كما يحتمل أنَّه مرتبة عالية من الميل؛ ولذا لم نذكره كمعنى مستقل من معاني الرِّيبة، فكذلك يحتمل أن يكون معنى رابعاً من معاني الرِّيبة -كما جعلهم بعضهم كذلك- فيكون النَّظر بريبة هو النَّظر الذي يوجب حصول حالة الافتتان والميل والشديد، كما سيأتي بيان ذلك في التنبيه الثاني.

وكذلك في المعنى الثَّالث -وهو خوف الوقوع في الحرام-؛ فإنَّ له درجات، فهناك درجات من احتمال الوقوع في الحرام بسبب النَّظر ضعيفة جداً، وفي هذه الحالة لا تسمَّى خوفاً، ولذا تكون خارجة عن النَّظر بريبة بحسب هذا المعنى، أمَّا الخوف الذي هو الاحتمال العقلائي فإنَّه له مراتب أيضاً؛ إذ تارة يكون شكّاً -أي تساوى فيه احتمال وقوع الناظر في المعصية وعدمه-، وتارة يكون ظناً -أي رجح عند الناظر احتمال وقوعه في المعصية بسبب نظره-، وتارة يكون اطمئناناً والذي يشمله الحكم بطريق أولى قطعاً.

الجهة الثَّانية: التَّشكيك في أنواع الحرام

فبحسب المعنى الأوَّل يكون النَّظر بريبة هو كلُّ ما أوجب تصوُّرات وخواطر أيِّ معصية من المعاصي سواء أكانت تلك المعصية هي الزِّنا، أم النَّظر، أم التقبيل، أم غير ذلك، وبحسب المعنى الثَّاني يكون النَّظر بريبة هو كلُّ ما أوجب الميل بفعل الحرام سواء أكان الحرام هو الزِّنا أم ما دونه كالتَّقبيل وغيره، وكذلك المعنى الثَّالث حيث يكون النَّظر بريبة هو ما أوجب خوف الوقوع في أيِّ محرَّم من المحرَّمات سواء أكان زنا أم غيره، بل يحتمل شمولُه لخوفِ الوقوع في قصد اللذة والشَّهوة بمعنى أنَّه يخافُ بسبب نظرِه أن يقعَ في نظرة شهويَّة؛ أيْ يتحوَّل نظَرُه إلى نظَرٍ بشهوة.

إذن فمقتضى إطلاق تعاريف الرِّيبة أنَّها تشملُ كلَّ المحرَّمات.

التَّنبيه الثاني: الرِّيبة والافتتان

جاء في بعضِ الرِّوايات التَّعبير بالافتتان، فقد جاء في بعض الأدعية : >وَافْتِتَانِهَا بِالْفَانِيَاتِ مِنْ فَوَاحِشِ زِينَتِهَا<([10])، وهذه الكلمة يمكن تفسيرها بأكثر من تفسير. إذا كان الافتتان بمعنى خوف الوقوع في الحرام فهو نفس المعنى الثَّالث المتقدِّم للرِّيبة، وإذا كان بمعنى الإعجاب أو الوله والولع وما شابه ذلك فيمكن أن يكون من مراتب الميل فيكون داخلاً في ضمن المعنى الثَّاني للريبة. وعليه فيمكن جعل الافتتان في ضمن الرِّيبة إمَّا في ضمن المعنى الثَّاني وإمَّا في ضمن المعنى الثَّالث.

نعم جاء في بعض كلمات الفقهاء جعل الافتتان قسيماً للريبة لا داخلاً في ضمنها فقيل: "ريبة أو افتتان"([11]) والخلاصة أنَّ في الافتتان احتمالات ثلاثة:

أن يكون من ضمن الرِّيبة وداخلاً في المعنى الثَّاني.

أن يكون من ضمن الرِّيبة وداخلاً في المعنى الثَّالث.

أن يكون قسيماً للرِّيبة.

التَّنبيه الثالث: اختصاص الريبة فيما تعلَّق بأمر محرَّم

إنَّ الخواطرَ أو الميولَ أو الخوفَ التي يوجدها النَّظر -بحسب المعاني الثَّلاثة المتقدِّمة- ويكون بذلك محرَّماً هو ما تعلَّق منها بأمر محرَّم، بمعنى أنَّ النَّظر يوجب حصول خواطر المعصية -حسب المعنى الأوَّل-، أو الميل نحوها -بحسب المعنى الثَّاني-، أو خوف الوقوع فيها – بحسب المعنى الثَّالث، أمَّا النَّظر الذي يوجب حصول تصوُّرات شهويَّة تجاه أمرٍ محلَّل أو ميول شهوية نحو أمرٍ محلَّل([12]) كما لو أوجب النَّظر لأجنبيةٍ حصولَ تصوُّرات شهوية أو ميول شهوية لا تجاه تلك الأجنبية ولا غيرها من الأجنبيات بل تجاه زوجته([13])، فالظاهر أنَّه خارج عن محلِّ البحث، ولا حرمة فيه.

التَّنبيه الرابع: النِّسبة بين المعاني الثَّلاثة للرِّيبة طولية

إنَّ النِّسبة بين هذه المعاني هي نسبة الطولية؛ فتبدأ من المعنى الأوَّل الذي هو أقلُّ المراتب؛ حيث يوجب النَّظر بحسب هذا المعنى حصول خطورات وتصورات المعصية، ثمَّ يأتي المعنى الثَّاني في المرتبة الثَّانية حيث يوجب النَّظر بحسب هذا المعنى إضافة لحصول الخواطر والتصوُّرات حصول الميل والاقتراب من إرادة الفعل، ثمَّ المرتبة الثَّالثة هي المعنى الثَّالث حيث يوجب النَّظر إضافة لتصوُّرات المعصية وإضافة للميول حصول خوف الوقوع في الحرام الخارجي.

ويترتَّب على هذه الطولية بين هذه المعاني الثَّلاثة أنَّ من قال بحرمة المرتبة الأقل يلزمه بالأوَّلوية أن يقول بحرمة المرتبة الأكثر، فمن قال بحرمة النَّظر بريبة بالمعنى الأوَّل الذي يفرض فيه حصول تصوُّرات الحرام فهو يرى حرمة المرتبة الثَّانية والمعنى الثَّاني، وهكذا، أمَّا من قال بحرمة المرتبة الأكثر فلا يلزمه القول بحرمة المراتب الأقل، فالمشهور -ومنهم صاحب العروة وغيره- الذين يرون أنَّ الرِّيبة هي المعنى الثَّالث لا يلزمهم أن يذهبوا لحرمة المراتب الأقل(المعنى الأوَّل والثَّاني) وذلك كما لو كان النَّظر بريبة يوجب حصول الميل للحرام عند الناظر ولكن لا يوجد عنده خوف الوقوع في الحرام؛ إذ هو يتحكَّم في نفسه، ويُبقي الأمر مقتصراً على الميول الجوانحية دون الوقوع في الحرام الخارجي، ففي مثل هذا المورد يمكن أن يقال بعدم الحرمة -بناء على رأي المشهور-.

وخلاصة ما مرَّ في هذا التنبيه:

* من قال بحرمة النَّظر بريبة بالمعنى الأوَّل يلزمه أن يقول بالحرمة للمعنى الثَّاني والثَّالث بالأوَّلوية.

* ومن قال بحرمة النَّظر بريبة بالمعنى الثَّاني يلزمه أن يقولَ بالحرمة بالمعنى الثَّالث بالأوَّلوية، ولا يلزمه الذَّهاب لحرمة النَّظر بريبة بالمعنى الأوَّل.

* من قال بالمعنى الثَّالث للرِّيبة لا يلزمه القول بالحرمة لا للمعنى الأوَّل ولا للثَّاني.

فائدة:

لو ثبتت حرمةُ جميع المراتب بالأوَّلوية؛ وذلك بناء على رأي من قال بحرمة المرتبة الأولى حيث تثبت حرمة المرتبتين الأخريين بالأوَّلوية يلزم -لمن حصلت عنده المرتبة الثَّالثة وهي خوف الوقوع في الحرام- بسبب النَّظر تعدُّد الحرام والذنب، فذنبٌ لحصول التصوُّر والخواطر وذنبٌ لحصول الميل وذنبٌ لحصول خوف الوقوع في الحرام. ومن حصلت عنده المرتبة الثَّانية وهي الميل للمعصية تثبت في حقِّه حرمتان ويكون قد ارتكب ذنبين؛ أحدهما للميل والآخر لتحقُّق الخواطر والتصوُّرات؛ وذلك لما تقدَّم من الطولية؛ حيث إنّ تحقُّقَ خوف الوقوع في الحرام يلزم أن يسبقه ميل، والميل يلزم أن يسبقه تصوُّر.

التَّنبيه الخامس: موضوع الحرمة هو الفعل الجوارحي المشتمل على الفعل الجوانحي:

ينبغي الالتفات إلى أنَّ الحرامَ بحسبِ المعاني الثَّلاثة المتقدِّمة للنَّظر بريبة هو الفعل الخارجي وهو النَّظر المصحوب بفعلٍ جوانحي، وهذا الفعلُ الجوانحي هو تارة تصوُّرات الحرام -كما هو المعنى الأوَّل-، وتارة أخرى هو الميل للحرام -بحسب المعنى الثَّاني-، وتارة ثالثة هو خوفُ الوقوع في الحرام -بحسب المعنى الثَّالث-، فهذه الثَّلاثة(التصوُّرات والميول والخوف) شروط للحرام، وعليه فموضوع الحرمة حسب أقوال الفقهاء ليس هو الفعل الجوانحي بما هو هو، بل موضوعها هو الفعل الجوارحي- وهو النَّظر- مشروطاً بمقارنته بفعل جوانحي؛ ولذا ليس البحث هنا حول حكم الأفعال الجوانحية وهي تصوُّرات المعصية أو الميل لها أو خوف الوقوع فيها؛ إذ إنَّ هذا بحث آخر.

التَّنبيه السَّادس: عدم اختصاص البحث بالنَّظر

إنَّ الحرمة التي يُبحث عنها لا تختصُّ بالنَّظر وإن كان الغالب هو طرح هذا المبحث في ضمن أحكام ومباحث النَّظر؛ ولذا اقتصر في عنوان البحث على ذكر النَّظر ، فيشمل البحث كلَّ لمسٍ أو ارتباط فيه ريبة، والشَّاهد على ذلك أنَّ بعض الأدلَّة التي استدلَّ بها على حرمة النَّظر بريبة هي في الأساس واردة في مورد غير النَّظر.([14])

المبحث الثَّاني: حول آية الخضوع في القول ومدى دلالتها على حرمة النَّظر بريبة

قال تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في‏ قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}([15]).

هذه الآية جاءت في سياق الآيات المرتبطة بنساء النبيe، وقد جاء في عددٍ من هذه الآيات الخطاب لهنَّ بأنهنَّ لسنَ كبقية النِّساء؛ فإنْ فعلوا سيِّئةً فعقابهنَّ مضاعف، وإن فعلوا حسنة فثوابهنَّ مضاعف. قال تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيراً * ومَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَريماً}([16])؛ فإنَّ هناك عناوين توجب تأكُّد العقاب والثَّواب، منها الانتساب للنبيe، ولا تختصُّ الآية بنساء النبيe من هذه الجهة، بل يتأكَّد العقاب والثواب في حقِّ كلِّ من له انتساب للشارع ويراه المجتمع ممثِّلاً للشارع.

والسِّرُّ في تضاعف الثَّواب والعقاب لنساء النبيe أمران: أحدهما معرفتهم بالأحكام أكثر من غيرهم لقربهم من منبع المعرفة الإلهية وهو النبي الأعظمe، والآخر: النَّظرة الخاصَّة من النَّاس لهم واقتداء الآخرين بهم.

الاستدلال الإجمالي بهذه الآية على حرمة النَّظر وغيره بريبة:

تنهى الآية النِّساء عن الخضوع في القول وذلك حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، ومن المعلوم أنَّ استماع الصوت مع طمع حرام، فالآية تنهى النساء عن فعل ما يوجب ذلك الاستماع، فالآية تحرِّمُ ما يوجب طمع الغير، وكذلك تحرِّم استماع الغير المصحوب بالطَّمع، ولا خصوصية للاستماع، بل الآية تحرِّم كلَّ فعلٍ فيه طمع وعلاقة وريبة ومنه النَّظر، ولا تختصُّ الآية بنساء النبيe فيثبت الحكم لغيرهم أيضاً.

ولتحقيق الحال في تمامية الاستدلال بالآية من عدمه لا بدَّ من ذكر نقاط:

النُّقطة الأولى: اختصاص الآية بنساء النَّبيe من عدمه

من الواضح أنَّ الأصل في الأحكام هو الاشتراك بين النَّبيe ونسائه وأهله وبين جميع المكلَّفين، فالاشتراك بين جميع المكلَّفين هي القاعدة الأوَّليّة في الأحكام، ولكن توجد موارد تكون فيها أحكام خاصَّة للنبيe أو من انتسب إليه. والسُّؤال هنا: هل يختصُّ الحكم المذكور في الآية الشريفة بنساء النَّبيe أم هو من الأحكام العامَّة الشاملة لغيرهنَّ أيضاً؟

هناك احتمالان:

الاحتمال الأوَّل: الاختصاص بنساء النبيe

والشَّاهد على هذا الاحتمال قوله تعالى في بداية الآية: {يا نِساءَ النَّبِيِّ..}.

الاحتمال الثَّاني: عدم الاختصاص.

والصحيح هو الاحتمال الثَّاني، والشَّاهد عليه أمران:

الشاهد الأوَّل: مناسبات الحكم والموضوع؛ فإنَّ نفس الحكم(وهو النَّهي عن الخضوع في القول كي لا يطمع الذي في قلبه مرض) والموضوع (وهو نساء النبيe) يقتضيان التعميم.

الشاهد الثَّاني: نفس سياق الآية المباركة؛ فإنَّ الآية قالت: {يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}، فالآية تذهب إلى أنَّ التَّقوى أمرٌ مشترك بين نساء النبيe وغيرهنَّ، غاية الأمر أنَّ تقوى نساء النبيe قيمتها أكبر، ثمَّ تفرِّع الآية المباركة على ذلك فتذكر مصداقاً من مصاديق التقوى بقوله تعالى: {فلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ..}، إذن فنفس الآية أرجعت الأمر للتَّقوى، وعدم الخضوع متفرَّع على ذلك، فهو من مصاديق التقوى، ومن الواضح أنَّ التقوى تكليف عام لا يختصُّ بنساء النبيe.

والنتيجة أنَّ مناسبات الحكم والموضوع وسياق الآية يقويِّان الاحتمال الثَّاني وهو عدم اختصاص الحكم المذكور بنساء النبيe.

النُّقطة الثَّانية: المراد من الخضوع

الخضوع إنْ نسب إلى الفعل فهو بمعنى التَّواضع، وإن نسب إلى القول وكان وصفاً للقول -كما هو مورد النَّهي في الآية المباركة- فهو بمعنى اللطافة واللين في القول.

ثمَّ إنَّ الخضوعَ في القول -في حدِّ نفسِه وبحسب معناه الأوَّلي- أعمُّ من أن يكون مصاحباً لحالة شهوية، فهو بمعنى الكيفية في القول التي فيها لين ولطف وجذب سواء أكان مثيراً للشَّهوة أم لا، هذا هو المعنى الأوَّلي للخضوع، ولكنَّ المقصود في الآية المباركة ليس هو المعنى الأعمّ، بل المراد هو القول بلين ولطف والذي يكون له ارتباط بالجانب الشهوي والقوى الشهوية، والذي يكون متصوَّراً في النِّساء في الأكثر، نعم يمكن أن يتصوَّر صدورُه من غيرهنَّ ولكنَّه في موارد أقلّ.

وعليه فخلاصة المراد من الخضوع في الآية المباركة:

أولاً: ليس المرادُ هو الخضوع في الفعل والذي معناه التَّواضع، بل المراد هو الخضوع في القول.

ثانياً: الخضوع في القول إنَّما هو في كيفية القول ولا ربط له بمحتوى القول، فليس المقصود -من الخضوع المنهي عنه- الخضوع في ماهية القول بل في كيفيته.

نعم لو كان هناك خضوع في محتوى القول فإنَّ له نفس الحكم.

ثالثاً: الخضوع الذي هو وصف لكيفية القول له معنيان:

المعنى الأوَّل: وهو معنى عام، والمراد به الكلام الليِّن، والكلام بكيفية فيها لطف، أعمُّ من أن يكون شهوياً، وذلك مقابل الكلام الخشن والغليظ.

المعنى الثَّاني: الكيفية التي فيها لطف ولين والتي تثير الشَّهوة ولها ارتباط بالقوى الشهوية.

والمراد بحسب القرائن الواضحة ومناسبات الحكم والموضوع هو المعنى الثَّاني لا الأوَّل، وإلا فإنَّ غالبَ كلامِ النساء بطبيعته فيه شيء من اللطف واللين مقارنة مع الرِّجال، ولكن ليس هذا (أي الكلام الطبيعي للنساء والذي فيه لطف ولين بطبيعته) هو المقصود؛ إذ أنَّ هذا الكلام الطبيعي للنساء لا يكون متعلَّقاً للحكم أصلاً أو أنَّه يمكن أن يتعلَّق به الحكم ولكن لا يتعلَّق به من باب التسهيل على المكلَّفين.

وبعبارة أخرى: اللين واللطف في الكلام على نحوين: النحو الأوَّل: طبيعي. النحو الثَّاني: عارضي وثانوي.

والمراد من الطبيعي هو ما يوجد في كيفية كلام النساء عادة مقارنة بالرجال، والعارضي الثانوي هو الذي يصدر عن علم واختيار ويكون مثيراً للشهوة وفيه لطف مضاعف أكثر من اللين الموجود بالأصل في الكلام، أي ما تصدره المرأة مثلاً بتعمُّد في تغيير لكيفية صوتها إبرازاً لجمال صوتها([17])، والمراد في الآية هو اللين واللطف العارضي الثانوي، وليس المراد اللين الطبيعي أي مطلق كلام المرأة الذي تكون الحالة الطبيعية فيه -مقارنة بالرِّجال- هي اللين واللطف، وعليه فالآية تنهى عن اللطف واللين العارضي الثانويين.

نعم، يحتمل أنَّ الآية تنهى عن اللطف واللين الطبيعي الموجود عادة في كلام النساء، وذلك بمعنى أن يكون المطلوب من المرأة -حتى تجتنب عن هذا الخضوع- تغيير صوتِها وتخشينه، ولكنَّ هذا الاحتمال خلاف ظاهر الآية؛ إذ ظاهرها النهي عن اللطف واللين العارضين.

النُّقطة الثَّالثة: المراد من الطَّمع

الطَّمع -الذي أُخذ في الآية كنتيجة للخضوع في القول- هو إحدى الكيفيات النفسانية والأحوال العارضة على النفس، وأمَّا من ناحية معناه اللغوي فالمنقول في الكتب اللغة عدَّة معانٍ، حاصلها:

المعنى الأوَّل: ما عن المصباح المنير: "(طَمِعَ في الشيء (طَمَعاً) و(طَماعة) و(طماعية) مخفّف فهو (طَمِعٌ) و(طامعٌ)، ويتعدَّی بالهمزة فيقال: (أطمعته)، وأکثر ما يستعمل فيما يقرب حصوله، وقد يستعمل بمعنى الأمل.."([18]). وقد أخذ في معنى الطمع حسب هذا النقل كون الشيء ممَّا يقربُ حصوله، وعليه فالطَّمع هو الميل لوقوع شيء يكون حصوله قريباً ومتناولاً، لا أنَّ الطمع هو الميل لوقوع شيء مماَّ يتمنَّى صاحبُه حصولَه تمنيّاً بعيداً. ثمَّ ذُكر في ذيل المعنى السابق أنَّ الطمع قد يستعمل بمعنى أعم ليشمل الأمل والأماني البعيدة.

والنتيجة أنَّ المعنى الأوَّل للطمع: "هو ما يقرب حصوله"، وهذا ما جاء في كلام المصباح المنير.

المعنى الثَّاني: وهو الذي ذكره صاحب مقاييس اللغة فقال: "الطاء والميم والعين أصل واحد صحيح يدلُّ على رجاءٍ في القلب قويّ للشيء"([19]).

ونلاحظ هنا أنَّه جيء بقيد (قويّ) يعني أنَّ الطمع ممَّا يكون معه رجاء قويُّ وليس من الأماني العادية والمتعارفة، بل هو من الأماني القويَّة المصاحبة لشوق مؤكَّد. وفرقُ هذا المعنى عن المعنى السابق الذي ذكر في المصباح المنير هو أنَّه في المعنى السابق كان هناك قيد (ما يقرب حصولُه) بينما جيء في هذا المعنى بقيد كون الرجاء قوياً، وحينئذٍ قد يقال: بأنَّ هذين القيدين(أي قيد ما يقرب حصوله وقيد كون الرجاء قوياً) منطبقان على بعضهما؛ فمعنى ما يقرب حصوله هو كونه قوياً، وقد يقال: بعدم الانطباق بينهما، بل العلاقة والنسبة بينهما هي العموم من وجه، ويكون قيد (قوي) إشارة للجانب الكيفي، وكونه ممَّا يقرب حصوله إشارة إلى الجانب الكمِّي.

المعنى الثَّالث: وهو ما جاء في الصِّحاح، قال: "طمع فيه طَمَعاً، وطَماعة وطَماعية -مخفَّف- فهو طَمِعٌ وطَمُعٌ، وأطمعه فيه غيره، ويقال في التعجُّب: طَمُعَ الرَّجلُ فلانٌ بضمِّ الميم أي صار كثير الطَمَع.."([20]).

المعنى الرَّابع: وهو ما ذكره  الراغب صاحب المفردات حيث قال: "الطَّمع نزوعُ النَّفس إلى الشَّيء شهوةً له"([21]).

فنتيجة النقطة الثانية حول معنى الخضوع، والنقطة الثَّالثة حول معنى الطمع: هو أنَّ معنى الآية النَّهي عن الخضوع في الكلام هو التَّرقيق في الكلام بحيثُ يكون مهيِّجاً للشَّهوة ومؤديّاً للطمع، والمراد من الطَّمع -كما تقدَّم- هو الميل القوي المتعيِّن فيما يرجع إلى الارتباطات الجنسية، وليس بالضرورة أن تكون هذه الارتباطات بحدِّ الزِّنا، بل تشمل الآية المراتب الأخرى الأقلَّ أيضاً.

النُّقطة الرَّابعة: المراد بالمرض في قوله تعالى: ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾

هناك ثلاثة احتمالات في معنى هذا المقطع من الآية:

الاحتمال الأوَّل: أنَّ المراد بالمرض هو نوعُ ميلٍ للمعصية يرجع للأمور الجنسية والانحرافية 

وعلى أساسه تمَّ تفسير المقاطع السَّابقة، وبعبارة أخرى: المراد من المرض هو مطلق المرض -لا المرض في الجانب الاعتقادي أو الاجتماعي كما هو الاحتمال الثَّاني الآتي- ولكن بتناسب الحكم والموضوع يحمل على المرض المربوط بالجانب الشَّهوي والجنسي.

الاحتمال الثَّاني: المرضِ العقدي أو الاجتماعي

فالمسألة ترجع إلى المسائل الاعتقادية أو الاجتماعية لا المسائل الفردية المرتبطة بالجانب الجنسي، فيكون المرادُ من المرض في الآية محلَّ البحثِ نفسَ المراد منه في قوله تعالى-في وصف المنافقين-: {في قلوبهم مرض}([22])، فيكون هذا المرض مرتبطاً بالنِّفاق أو ما يقرب منه، ويكون مرتبطاً بالأمور الاعتقادية أو الأمور الاجتماعية المرتبطة بالمجتمع، والمرض يستعملُ غالباً في هذا المعنى، وبناء عليه يتغيَّر معنى الآية كليّاً وتخرج الآية تماماً عن محلِّ البحث في حكم الرِّيبة؛ إذ يكون معنى قوله تعالى {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في‏ قَلْبِهِ مَرَضٌ} هو: لا تبدوا أفعالاً غير متعارفة أو كلاماً فيه نوعُ لينٍ في مقابل الكفَّار والمنحرفين حتى لا يطمع المنافقون والذين في قلوبهم مرض والذين لا اعتقاد صحيح عندهم بالإسلام، فإذا وُجد نوع انحراف في كلامكم أو فعلكم بالنسبة للقيم الإسلامية سيطمع الآخرون فيكم.

فالاحتمال الثَّاني يذهب إلى أنَّ هذا النَّهي إنَّما هو عن أمرٍ سياسي اجتماعي اعتقادي بمعنى أنَّ الانحراف الفكري الاعتقادي في الكلام أدَّى إلى الطَّمع السَّياسي الاجتماعي فيهم. وبناء على هذا الاحتمال لا تختصُّ الآيةَ أيضاً بنساء النبيe -كما هو كذلك بناء على الاحتمال الأوَّل- فالنهي يشمل غيرهم، نعم في نساء النبيe يتأكَّد النَّهي مراعاةً للمكانةِ الاجتماعية الخاصَّة لهم.

الاحتمال الثَّالث: ما يشمل الاحتمالين الأوّل والثانيّ

إمَّا على نحو الاشتراك اللفظي وإمَّا على نحو الاشتراك المعنوي.

شاهدان لتقوية الاحتمال الثَّاني:

وقد يذكر شاهدان لتقوية الاحتمال الثَّاني، نتعرض لها مع نقدهما ومناقشتهما.

الشَّاهد الأوَّل: الاستعمالات القرآنية لكلمة (مرض)

ممَّا يقوّي الاحتمال الثَّاني هو أنَّه قد جاء في القرآن الكريم في حدود عشر آيات مثل هذا التعبير(في قلبه مرض، أو في قلوبهم مرض، وما شابه)، وفي كلِّ هذه الموارد كان الأمرُ مرتبطاً بالنِّفاق أو ما يقرب من النفاق. هذا مع الالتفات والتدقيق بأنَّ لفظةَ المنافق لم تأتِ في هذه الموارد من الآيات، وإنَّما جاء التَّعبير بمثل (في قلوبهم مرض) بحيث تشمل المنافقين، نعم جاء في بعض الآيات كلا اللفظين والتعبيرين بجنب بعضهما؛ أي التعبير بالمنافق والتعبير بالذين في قلوبهم مرض.

وبناء على هذا الاستعمال القرآني قد يقوَّى الاحتمال الثَّاني في الآية محلَّ البحث.

الشَّاهد الثَّاني: الرِّوايات الواردة في تفسير هذه الآيات

قد جاء في الآية اللاحقة قوله تعالى {وقَرن في بيوتكن..}، وقد طبقّته الرِّوايات على الخطأ الذي قامت به عائشة في حرب الجمل، فالأفعال الخاطئة التي أظهرتها عائشة من نفسها أطمعت أمثال طلحة والزبير ومعاوية وغيرهم وانجرّ ذلك لحرب الجمل، فهذه الآية متفرِّعة على الآية السَّابقة ومبتنية عليها فتكون -بضميمة الروايات المشار إليها- ذاكرة لمصداق من مصاديق مخالفة النهي عن الخضوع في القول، بمعنى أنَّه قد ظهر هذا الطمع الناتج من الخضوع في القول في حرب الجمل.

مناقشة الاحتمال الثَّاني:

نقول: إنَّه على رغم تلك الشَّواهد المقويّة للاحتمال الثَّاني، لكن يبدو أنَّ الظهور في كون الآية مرتبطة بالعلاقات بين الجنسين -كما يقتضيه الاحتمال الأوَّل أو الثَّالث- أقوى، وهذا هو الاحتمال الأوَّلي الذي على أساسه أيضاً حمل عليه الفقهاء هذه الآية، وجاء في كلماتهم حملها على العلاقات بين الرَّجل والمرأة؛ وعليه فيمكن تقوية الاحتمال الأوَّل وردِّ شواهد الاحتمال الثَّاني وذلك لنكتتين:

النكتة الأولى: توجد قرائن وشواهد في نفس الآيات بحيث يمكن حمل الآية محلَّ البحث على ما يرتبط بالعلاقات بين الجنسين(أي الاحتمال الأوَّل)، فتفيد هذه القرائن أنَّ الآيةَ إذا لم تختص بالعلاقات بين الرَّجل والمرأة فلا أقلَّ من شمولِ الآية لها:

ومن هذه القرائن قوله تعالى -في آية سابقة(آية 28)-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾، فإنَّ القولَ بأنَّ هذه الآية تتكلَّم عن خصوص الأمور الاجتماعية (الاحتمال الثَّاني) بعيدٌ جداً، بل إنَّ الآية محلَّ البحث وهذه الآيات ناظرة أيضاً للميول النفسية والشخصية لنساء النبيe (أي بما يشمل الاحتمال الأوَّل) فيكون معنى هذه الآية {يا أيَّها النَّبي قل...} مخاطبة نساء النبيe بأنَّهنَّ إذا أردن الترَفَ والأمور الدنيوية والميولَ والأهواء -ولو كانت فردية وشخصية- ولا يمكنكنَّ الانسجام مع ما يقتضيه الزواج من النبيe والارتباط به فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً.

ومن القرائن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، فإنَّ هذه الآية أيضاً لا يمكن القول بأنَّها تختصُّ بالجانب السياسي والاجتماعي والاعتقادي لنساء النبيe، بل -لا أقل- إنَّ إطلاقها يشمل رعاية الضوابط الفردية في الحياة الفردية لنساء النبيe (بما يتلائم مع الاحتمال الأوَّل)، فهذه الجوانب الفردية أيضاً مقصودة في الآية المباركة.

ومن القرائن قوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾؛ حيث إنَّ هذه الآية المباركة -إن لم نقل بأنَّ الفاحشة المذكورة فيها لها ظهور في المسائل المرتبطة بالجنسين والمسائل الجنسية وما يرتبط بها- لا أقل أنها تشمل المسائل الجنسية. نعم ورد في ضمن تفسير هذه الآية روايةٌ تشير إلى أنَّ المراد بالفاحشة هو الخروج بالسَّيف([23])، ممَّا يؤيِّد الاحتمال الثَّاني من كون الآيات مرتبطة بالجانب السياسي والاجتماعي لا الفردي، ولكن هذه الرِّواية لا تحصر الآية بهذا الجانب؛ فإنَّ لفظة (الفاحشة) في القرآن الكريم استعملت في المسائل الجنسية، وعليه فسياق الآية لا يساعد على اختصاصها بالمسائل السياسية والاجتماعية.

ومن القرائن قوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى﴾ فالآية تنهى عن التبرُّج تبرُّجَ الجاهلية؛ فتنهى عن الاختلاط والارتباط بين الرِّجال والنساء، إنَّ هذا المفهوم المذكور له معنىً فيما يرجع للمسائل الجنسية، وكذلك يمكن أن يكون شاملاً للمسائل السياسية.

النكتة الثَّانية: إنَّ الخضوع في القول ليس له استعمال في المسائل الاجتماعية والسياسية في القرآن؛ فإنَّه بمعنى اللين في القول فيما يرجع -في الأكثر- للمسائل الفردية والمرتبطة بالجانب الشهوي(الاحتمال الأوَّل)، أمَّا حمل الخضوع في القول على أنَّه النَّهي عن التحدُّث بطريقة تؤدِّي لطمع الكفار والأعداء (الاحتمال الثَّاني) فإنَّه لا وجود لمثل هذا الاستعمال في القرآن الكريم ولا في الكلام العربي.

والخلاصة هنا: أنَّ النكتة الأولى هي أنَّه إن لم نقل بأنَّ الآية لها ظهور في المسائل الفردية(الاحتمال الأوَّل) فلا أقلَّ من شمول الآية لها، والنكتة الثَّانية هي أنَّ الخضوع في القول لا استعمال له فيما يرجع إلى المسائل الاجتماعية والسياسية.

مناقشة دلالة شواهد الاحتمال الثَّاني: 

لأجل تمامية الاحتمال الأوَّل أو الثَّالث لا بدَّ من مناقشة وردّ الشواهد التي ذكرت للاحتمال الثَّاني:

أمَّا الشاهد الأوَّل- وهو كون الاستعمالات القرآنية الأخرى لتعبير (في قلبه مرض) وما يقرب منه ترتبط بالجانب السياسي والاجتماعي وترتبط بالنفاق- فيمكن مناقشته بالقول: بأنَّه صحيحٌ بأنَّ كشفَ معنى الآية في موارد كثيرة يكون من خلال مراجعة الآيات الأخرى التي لها نفس التركيب والتعبير، وأنَّ هذا من مصاديق كون القرآن يفسِّر بعضَه بعضاً، ولكن نرى في كثير من الموارد الأخرى أنَّه قد تكون هناك كلمةٌ لها معنى في آية ولها معنى آخر في آية أخرى، وعليه فلا مانع من حمل (المرض) في الآية محلَّ البحث على معنى مختلف عن معنى (المرض) في آيات أخرى؛ فإنَّ هذا له أمثلة كثيرة من القرآن الكريم.

أمَّا الشَّاهد الثَّاني -وهو الروايات الواردة في تفسير قوله تعالى في الآية اللاحقة {وقرن في بيوتكن..} والتي طبّقته على ما قامت به عائشة في حرب الجمل- فيمكن مناقشته بالقول: إنَّ تطبيق الرِّوايات لآية من الآيات على حادثة معيَّنة كثير حتى وإن لم يكن هذا هو الظهور الأوَّلي للآية؛ فإنَّ كثيراً من الآيات المرتبطة بالولاية مثلاً عندما نقرأها ابتداء لا نفهم منها المعنى الذي ذكرته وطبّقته الروايات الواردة في تفسيرها، ولكن بالتأمّل وبمساعدة نفس هذه الروايات نصل إلى هذا المعنى.

وهذه الروايات -المبيّنة لمعنى لا يستفاد ابتداء وظاهراً من الآية- بشكلٍ عام تكون على إحدى أنحاء أربعة:

النحو الأوَّل: من باب الجري والتَّطبيق.

النحو الثَّاني: من باب أنَّ الرواية بيَّنت أبرز مصاديق الآية.

النحو الثَّالث: من باب التأويل وبيان بطون الآية، بحيث يكون المعنى الاستظهاري للآية شيء، والمعنى الذي بيَّنته الروايات شيءٌ آخرَ يرجع لباطنها.

النحو الرابع: من باب أنَّ الآية لها معنى عام بحيث يشمل المعنى الذي ذكرته الرواية، ويكون هذا المعنى خفياً، وببركة هذه الرِّوايات نوسِّع المعنى الظاهري للآية ويكون عاماً بما يشمل هذا المعنى الخفي.

وعليه فلا مانع من أن نقول بأنَّ المراد من {وقرن في بيوتكن} ما يرجع للمسائل الفردية للنساء وتعني النهي عن التبرٌّج، وفي نفس الوقت يكون المعنى التأويلي أو التطبيقي معنىً آخرَ ناظر للمسائل الاجتماعية والسياسية.

فائدة كليَّة حول أنحاء تأثير الرواية في التفسير:

في كثير من الآيات لو توجَّهنا لمعنى الآية على أساس القواعد اللغوية والعرفية والاستظهارات لتبادر لذهننا معنى معيَّن ومحدَّد للآية، ولكن لو رجعنا إلى الروايات لاستفدنا أموراً ومعانٍ أخرى فوق المعنى والظهور الأوَّلي للآية. مثلاً قوله تعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} الظهور الأوَّلي لها هو الأمر بالتأمّل والنَّظر إلى هذا الطعام الذي نأكلُه، ولكنَّ الروايات قد تقودنا لمعنى فوق هذا المعنى كما في الأمر بالتأمّل في العلم الذي نأخذه عمَّن نأخذه([24]).

وبشكلٍ عامٍّ فإنَّ هذه الروايات التي تقودنا لمعانٍ وراء الظهور الأوَّلي للآيات على قسمين:

القسم الأوَّل: بعدَ النَّظر للرِّواية والرُّجوع للتَّأمل في ظهور الآية لا نرى إمكانية تغيير الظهور، بحيث إنَّ المعنى الذي في الرِّواية لا يمكن نسبتُه لظهور الآية بوجهٍ لا بنحو الاشتراك اللفظي ولا المعنوي ولا غيره -ممَّا يأتي بيانه-، وهذا القسم من الروايات يكون من باب التأويلات والبطون الخفيَّة للآية، والتي يمكن للمعصومg أن يصل إليها دوننا، ففي هذه الموارد حتى بعدَ ورود الرِّواية فإنَّنا نقبل دخول هذا المعنى -الذي بيَّنته الرواية للآية- في الآية تعبُّداً دون أن يكون لنا طريق لفهمه من ظهور الآية. هذا القسم وإن كان قليلاً في الروايات لكنَّه موجود.

القسم الثَّاني: بعد ورود الرواية المبيِّنة لمعنى من المعاني فوق ووراء الظهور الأوَّلي للآية لو رجعنا للاستظهار من الآية لرأينا أنَّ الآية تتحمَّل مثل هذا المعنى من ناحية القواعد اللغوية والظهورات، غاية الأمر أنَّ هذا المعنى -الذي بيَّنته الرواية- ابتداءً لم يأتِ للذِّهن، والرواية ساعدت في الوصول إليه، فالمعنى الذي بيّنته الرواية وكان مستغرباً ابتداء يدخل في ضمن ضوابط الاستظهارات، ولكن نبقى على رغم ورود الرواية محافظين على الظهور الأوَّلي للآية.

هذا القسم له حالات:

الحالة الأولى: أن يكون على نحو المجاز بمعنى أنَّ الرِّواية شكَّلت لنا قرينة على أنَّ المراد من الآية هو المعنى المجازي ولكنَّه مجاز معقول ومتصوَّر.

الحالة الثَّانية: أن يكونَ على نحو المشترك اللفظي، بمعنى أنَّ الرواية ساعدت على القول بأنَّ الآية قد استعمل فيها المشترك اللفظي في معنييه في وقت واحد([25]). إنَّ مثل استعمال المشترك اللفظي في معنييه يحتاج إلى قرينة والرواية شكّلت لنا قرينة على ذلك.

الحالة الثَّالثة: أن يكون على نحو المشترك المعنوي، فمثلاً في قوله تعالى: {في السماء رزقكم…} يكون للسماء معنى مشترك؛ بحيث يشمل السماء المعنوية لكن لا بنحو المشترك اللفظي بل المعنوي.

الحالة الرابعة: أن تكون قرينية الرواية بنحو تؤدِّي إلى إلفاتنا لوجود قرينة في نفس الآية، بمعنى أنَّ الرِّواية دعتنا للتأمُّل أكثر في الآية، وإيجاد القرينة في نفس الآية على المعنى الذي أشارت إليه الرِّواية.

وخلاصة الكلام إنْ تعيَّنَ الاحتمال الثَّاني -وهو أنْ يكونَ المرادَ بالآية ما يرتبط بالجانب السياسي والاجتماعي- فسوف تكون الآية خارجة عن محلِّ كلامنا في النَّظر بريبة، وإنْ تمَّ الاحتمال الأوَّل -وهو أن يكون المراد بالآية ما يرتبط بجانب العلاقات بين الجنسين- أو الاحتمال الثَّالث -وهو أن يكون المراد كلا المعنيين- فسوف تكون الآية من أدلَّة حرمة النَّظر بريبة. 

والاحتمال الثَّالث غير بعيد؛ وذلك للحفاظ على ظاهر الآية من جهة؛ حيث إنَّ ظاهرها هو الاحتمال الأوَّل، وأخذاً بالروايات الواردة في ذيل الآية {قرن في بيوتكن..} حيث تتناسب مع الاحتمال الثَّاني، ومن جهة أنَّ صدر الآية -وهو الآية محلَّ البحث{فلا تخضعن..}- لا بدَّ أنْ يتناسب مع ذيلها فيكون المراد من صدر الآية هو نفس المراد من ذيلها. وعليه فالاحتمال الثَّالث غير بعيد.

وهنا تنبيهان:

التَّنبيه الأوَّل: كيفية جمع المعنيين في الآية

بعد ترجيح الاحتمال الثَّالث الذي يرى أنَّ المراد من الآية ما يشمل المعنيين؛ أي ما يتعلَّق بالعلاقة بين الجنسين وما يتعلَّق بالجانب السياسي والاجتماعي، ما هي طريقة الجمع بين هذين المعنيين؟

هناك احتمالات:

الاحتمال الأوَّل: الجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي بأن يكون أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً.

الاحتمال الثَّاني: الجمع بين معنيين حقيقين على نحو الاشتراك اللفظي.

الاحتمال الثَّالث: أنْ يكون المعنى الحقيقي واحداً جامعاً بين المعنيين على نحو الاشتراك المعنوي.

وليس من السهل الأخذ بالاحتمال الثَّالث، فالأقرب هو أحد الاحتمالين الأوَّلين.

التنبيه الثَّاني: درجات الإثارة والتهييج الجنسي

بعد البناء على أنَّ المرض المذكور في الآية المباركة يرجع إلى الارتباطات بين الجنسين أو ما يشمل هذا المعنى، فإنَّ لهذا المرض درجات ومراتب؛ فإنَّ الناس بلحاظ قبولهم للإثارة والتهييج الجنسي على درجات:

الدرجة الأولى: وهي المرتبة الأدنى منه، والمراد بها الحالة الطبيعية من حصول الإثارة والتهييج الموجودة في الإنسان المتعارف والمشترك بين جميع الناس ما عدا الخواص الطاهرون أو الذين هم بعيدون عن هذه الأمور، بمعنى أنَّ المراد ممَّن {في قلبه مرض} هو الذي يكون في سنٍّ يقتضي بطبيعته حصول إثارة للشهوة عنده، وليس هو من أولئك الذين طهّروا أنفسهم بحيث أمكنهم أن يسيطروا على شهواتهم.

الدرجة الثَّانية: وهي الدرجة المتوسطة، والمراد بها حالة أولئك الأشخاص الذين ليس عندهم حالة من التحفُّظ الديني والأخلاقي، فهم فوق الحالة الطبيعية ودون المرتبة الثَّالثة الآتية.

الدرجة الثَّالثة: وهي الدرجة الأعلى وهي حالة الأشخاص الذين هم من أصحاب الرَّذائل والشهوات والذين تغلب عليهم الحالة الشهوية في التَّعامل مع الجنس الآخر.

تعيين المراد بالمرض في الآية المباركة من بين هذه الدَّرجات الثَّلاث أمرٌ مهمٌّ جداً؛ فإنَّه لو قلنا بأنَّ المراد بالمرض هو المرتبة الأعلى منه(الثَّالثة) والتي يدخل فيها أصحاب الشهوات الذين يثارون بسرعة فإنَّه في المقابل ستكون دائرة النَّهي عن الخضوع المؤدِّي لمثل هذه الإثارة الشهوية وسيعة جداً بلحاظ أنَّ أقلَّ كلامٍ عادي وليِّن يمكن أن يؤدِّي إلى إثارة هؤلاء؛ حيث إنَّهم سريعو الإثارة، فيشمل النهي عن الخضوع حتى الدرجات الضعيفة والنازلة منه. 

أمَّا لو كان المراد بالمرض هو الأوَّل؛ أي الحالة المتعارفة لعموم الناس فإنَّ دائرة الخضوع المنهيَّ عنه ستكون أكثرُ ضيقاً بمعنى أنَّ الخضوع المنهيَّ عنه سيكون خضوعاً وليناً خاصّاً بحيث يمكنه تحريك وإثارة الإنسان المتعارف.

وإطلاق المرض على الحالة المتعارفة للإنسان مشكلٌ، ولذا فالظاهر الأوَّلي  هو أنَّ المراد بالمرض هو الدرجة الأعلى منه والتي تختصُّ بأصحاب الشهوات والرذائل والذين هم خلاف المتعارف وعندهم نوعُ مرضٍ وانحرافٍ واختلالٍ نفسي، وبناء على هذا تكون دائرة النَّهي عن الخضوع وسيعة جداً بحيث تشمل أدنى مراتب الخضوع واللين في القول، والتي تكون أقربَ للحالة الطبيعية للكلام المؤدية لإثارة مثل هؤلاء؛ إذ إنَّ مثل هؤلاء يهيّجهم أقلُّ مستوىً من الخضوع. 

نعم هناك مقدار من الخضوع نطمئنُّ بعدم شمول النهي عن الخضوع له وهو الحالة الطبيعية من اللين، والتي تكون موجودة عند النساء مقارنة بالرجال، والسرُّ في ذلك هو لزوم العسر والحرج على المرأة؛ إذ لا يجب عليها تغيير مستوى صوتِها الطبيعي الذي يمتاز بنوعٍ من الرِّقة واللين في مقابل صوت الرجال. أمَّا المراتب الأخرى من الخضوع واللين والتي هي فوقَ الحالة الطبيعية فيشملها النَّهي. 

هذا (أي كون المراد بالمرض هو المرتبة الأعلى منه) هو الظهور الأوَّلي للمرض إلا أن يستفاد من القرائن ومناسبات الحكم والموضوع أنَّ المراد بالمرض في الآية هو الحالة الطبيعية والمتعارفة من الإثارة والشهوة الموجودة في كلِّ إنسان (المرتبة الأدنى من المرض). هذان احتمالان ولكلٍ وجه، والمسألة غير واضحة.

النُّقطة الخامسة: هل قوله تعالى {فيطمع الذي في قلبه مرض} علَّة أم حكمة؟

هناك احتمالان في المقام:

الاحتمال الأوَّل: أن يكون الطَّمع المذكور في الآية المباركة جزءاً من الموضوع وليس فيه أيُّ شائبة تعليل، فيكون النهي عن الخضوع في القول بقيد أن يكون ممَّا يوجب الطمع في الطرف الآخر.

الاحتمال الثَّاني: أن يكون بمنزلة العلَّة لا أنَّه جزءٌ من الموضوع، فيكون المعنى أنَّ سرَّ النَّهي عن الخضوع في القول هو طمع الذي في قلبه مرض، فالمنع والنهي متركِّز على الطمع، فيكون مثل الإسكار في جملة >لا تشرب الخمر لأنَّه مسكر<، فإنَّ التَّعليل تارةً يكون بوجود أداة للتعليل كما في مثال الخمر المذكور، وتارة من دون أداء التَّعليل كما في الآية محلَّ البحث.

الاحتمال الثَّاني -وهو أنَّه بمنزلة العلَّة لا أنَّه جزءُ الموضوع- قوي، وبعد استظهار أنَّه بمنزلة العلة يدور أمره بين أن يكون علَّة وبين أن يكون حكمة، والظاهر أنَّه علة لا حكمة؛ فإنَّ مثل هذا التركيب -الذي يأتي فيه نفي أو نهي ويأتي بعد ذلك فعل مضارع بعد فاء- له ظهور في العليّة، سواء أكانت العليّة مستفادة من نفس الفاء أم كان نفس التركيب مفيداً للعلية كما لعلَّه الأظهر، وعلى كلِّ حالٍ فتبادر العليَّة من الآية قويٌّ جداً.

وبناءً على الاستظهارين -أي استظهار أنَّه بمنزلة العلَّة وأنَّه علَّة لا أنَّه مجرَّد حكمة([26])- يكون المراد بالآية هو نهي النساء عن الخضوع بالقول، والعلَّة في ذلك هو منع إيجاد الطمع في الطرف المقابل، وعليه فيمكن القول -بلحاظ أنَّ دورَ العلة هو التعميم أو التخصيص- بأنَّ كلَّ ما يوجب الطمع في الآخرين حرام ومنهي عنه.

النُّقطة السَّادسة: تعميم الحرمة من الخضوع في القول إلى كلِّ ما يوجب الطمع

بعد البناء على حرمة الطَّمع واستفادة حكمٍ عام من التَّعليل وهو أنَّ كلَّ ما يوجب الطمع فهو محرَّم، لا تختصُّ الحرمة بالخضوع في القول الموجب للطمع، بل تشمل غير ذلك من نوع الفعل والحركات ونوع اللباس والأنحاء والأحوال الأخرى التي توجب الطمع؛ إذ أنَّ التعليل يوجب التعميم فلا موضوعية للخضوع في القول. وهذا مطلب واضح.

النُّقطة السَّابعة: أيّ معنىً من معاني الرِّيبة المتقدِّمة تثبت حرمته بهذه الآية؟

تقدَّم أنَّ للريبة معانٍ ثلاثة، وهي:

النظر الذي يوجب خطور تصورات المعصية.

النظر الذي يوجب حصول الميل للمعصية.

النظر الذي يوجب خوف الوقوع في المعصية.

أمَّا المعنى الأوَّل فلا تثبت حرمته الآية؛ إذ الآية تفرض حرمة الفعل الذي يؤدِّي إلى طمع الطَّرف المقابل، ولفظة الطمع لا تشمل التصوُّرات التي لا طمع فيها.

أمَّا المعنى الثَّاني فإنَّ الميل الذي يوجبه النَّظر إن كان شديداً فالآية تثبت حرمته؛ إذ الطَّمع هو الميل الشديد، أمَّا لو كان الميل ضعيفاً فالآية لا تثبت حرمته.

وأمَّا المعنى الثَّالث فإنَّه غير مشمول للآية؛ فإنَّه لو فرض عدم وجود ميل شديد بسبب النَّظر ولكنَّه فرض وجود احتمال عقلائي بأنَّ النَّظر يجرُّه للحرام فإنَّه لا يصدق الطمع هنا؛ إذ موضوع الآية هو الطمع والميل الشديد، والفرض أنَّه لا ميل شديد عنده وإن وجد خوف الوقوع في الحرام.

وعليه فالآية المباركة تثبت حرمة النَّظر -أو ما شابهه- الذي يؤدِّي إلى أحدِ أمرين:

الأوَّل: الميل الشديد. 

الثَّاني: إرادة فعل الحرام، وذلك من باب أولى؛ إذ الإرادة للشيء لا تتحقَّق إلا مع الميل الشديد إليه.

أمَّا باقي مراتب ومعاني الرِّيبة فلا تثبت الآية حرمتها.

النُّقطة الثَّامنة: هل المراد هو الطمع النُّوعي أم الشخصي؟

أحياناً يكون الخضوع في القول من المرأة أو النَّظر إليها موجباً للطمع الشخصي، وأحيانا يكونُ موجباً للطمع النوعي، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه؛ فقد يتحقَّق الطمع الشخصي فقط؛ وذلك كما لو كان الخضوع بدرجة قليلة بحيث يوجب الطمع الشهوي عند هذا الشخص فقط دون إيجابه الطمع الشهوي عند النوع لكون هذا الشخص له حالة شهوية خاصَّة، وقد يتحقَّق الطمع النوعي فقط فيكون الخضوع في القول موجباً للطمع عند النوع وإن لم يوجب الطمع عند هذا الشخص، وقد يجتمعان. فما هو الملاك في الحرمة؟

توجد أربعة احتمالات:

الاحتمال الأوَّل: الملاك هو الطمع الشخصي، فيحرم كلُّ خضوعٍ في القول أو لبس نوع من اللباس من المرأة أو النَّظر من الرجل أو غير ذلك ممَّا يؤدِّي إلى إثارة الطمع عند هذا الشخص، ويكون نفس هذا الخضوع أو اللباس من المرأة في قبال رجل آخر أو حصول النَّظر من رجل آخر لمنظر من المناظر غير محرَّم لعدمِ إثارة الطمع عنده؛ فإنَّ الملاك إذا كانَ الطمع الشخصي فهو يختلفُ من موردٍ لآخرَ ويختلف الحكم بتبع ذلك.

الاحتمال الثَّاني: الملاك هو الطمع النوعي.

الاحتمال الثَّالث: الملاك هو كلاهما بمعنى أن المحرم هو الخضوع الموجب لحصول الطمع الشخصي والنوعي معاً.

الاحتمال الرَّابع: الملاك هو حصول أحدهما.

ولعلَّ الظهور الأوَّلي للفظ هو الطمع النوعي؛ فيكون المحرَّم هو الخضوع الذي يوجب بحسب النوع إثارة الطمع والشَّهوة؛ وذلك على أساس المرتكزات العرفية والقرائن اللبية، ولكن بملاحظة ملاكات التحريم في الطمع النوعي يمكن تعميم الحرمة لموارد الطمع الشخصي بمعنى أنَّه لو كان الخضوع في موردٍ من الموارد لا يؤدِّي إلى الطَّمع والإثارة عند النَّوع ولكنَّه يؤدِّي إلى إثارة هذا الشخص فإنَّه يحرم أيضاً بملاحظة ملاكات التحريم في الطمع النوعي فإنها شاملة للطمع الشخصي.

النُّقطة التَّاسعة: هل الطمع محرَّم؟

نفس الخضوع في القول محرّم لوقوعه مورد النهي في الآية، ولكن هل الطمع الحاصل نتيجة للخضوع في قوله تعالى{فيطمع الذي في قلبه مرض} حرام أم لا؟ 

ومن الواضح أنَّ لبَّ الاستدلال بالآية المباركة على حرمة النَّظر بريبة يتوقَّف على إثبات حرمة الطَّمع؛ إذ النَّهي عن الخضوع في القول وكلّ ما يوجب الطمع في الطرف المقابل إنَّما هو تكليف للنساء، ومن يقوم بهذا الأمر الموجب لطمع الطرف المقابل، أمَّا محلَّ البحث فهو تكليف نفس هذا الشخص الذي يحصل عنده طمع؛ فإنْ ثبتت حرمة الطمع من الرِّجال ثبت أنَّ النَّظر بريبة محرَّم؛ حيث إنَّه موجب لحصول الطمع، وإن لم تثبت حرمة الطمع فلا تكون الآية دالَّة إلا على حرمة الخضوع في القول وكلُّ فعلٍ يوجبُ حصولَ طمعٍ في الطَّرف المقابل، وهذا غير مسألة النَّظر بريبة، فلا تكون الآية دليلاً على حرمة النَّظر بريبة.

هناك احتمالان في حكم الطمع:

الاحتمال الأوَّل: عدم الحرمة

ودليله عدم وجود نهي أو غيره ممَّا يمكن استفادة النهي منه تعلَّق بالطمع، كما أنَّ النهي الموجود في الخضوع في قوله تعالى{لا تخضعن} لا يسري إلى الطمع، إضافة إلى أنَّ الطمع الذي يحصل نتيجة للخضوع في القول لا يكون اختيارياً في كثيرٍ من الأحيان فلا تتعلَّق به الحرمة حينئذٍ، فيكون المعنى هو نهي النساء عن الخضوع في القول حتى لا يحصل الطمع في الطرف الآخر، وهذا الطمع قد لا يكون محرّماً.

الاحتمال الثَّاني: الحرمة

ثمَّ إنَّ الاحتمالَ الأوَّل غير صحيح، والصحيح هو الثَّاني([27])؛ حيث إنَّ ظاهر الكلام الحرمة؛ حيث إنَّ مدخول (الفاء) في قوله {فيطمع} يستظهر منه عرفاً أنَّ الحرمة قد سرت ممَّا قبله إليه. وذلك شبيه بقوله تعالى ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ حيث إنَّ ظهور {فيسبوا} الذي هو عمل اختياري هو الحرمة الناشئة من حرمة مورد النَّهي وهو سبُّ الذين يدعون من دون الله تعالى. بل لعلَّ مثل هذا التعبير آكد في بيان حرمة مدخول الفاء؛ حيث إنَّه يدلُّ على أهمية مدخولها، وأنَّ حرمته شديدة بحيث سرت منه إلى مقدِّمته، وكذلك الآية محلّ البحث بتقريب أنَّ الطمع هو منشأُ جعل الحرمة لمقدِّمة من مقدِّماته وهي الخضوع في القول، وهذا يعني أنَّ الحرمةَ في الطَّمع شديدة أدَّت لسرايتها إلى الخضوع، وعليه فالطمع محرَّم.

وبعبارة أخرى: إنَّ الآية تبيِّن أنَّ ما يوجب الطمع -وهو الخضوع في القول- حرام، فمن باب أولى يحرم نفس الطمع الذي هو الأساس لحصول هذه الحالة.

وبعبارة ثالثة: علة الحرام محرَّمة، وهذا هو الظهور العرفي للتعليل.

إشكال:

قد يقال بأنَّ الطمع أمرٌ غير اختياري، والأمر غير الاختياري لا يتصف بالحرمة، نعم يمكن أن يكون الأمر غير الاختياري فيه مفسدة ومبغوضية بحسب الواقع ونفس الأمر، أمَّا تعلُّق الحرمة به فغير ممكن.

الجواب:

 معنى الطمع هو الميل والشوق الذي يوجد في الشخص، وظاهرُه الأمر الاختياري أو لا أقل يشمله، سواء أكان اختيارياً في نفسه أم في مبادئه، ولا وجه لحمل الطمع على الأمر غير الاختياري فقط. وعليه فالطمع هنا فيه ثلاثة احتمالات:

الأوَّل: يختص بالطمع غير الاختياري، وهذا خلاف الظاهر.

الثَّاني: يختص بالطمع الاختياري.

الثَّالث: يشمل الاختياري وغيره.

وسواء أخذنا بالثَّاني أم الثَّالث فلا يضرُّ ذلك بما استفيد من حرمة الطمع؛ إذ ظاهر الآية مبغوضية الطمع ولو كان غيَر اختياريٍّ، نعم الطمع غير الاختياري لا يتعلَّق به النهي لمكان عدم اختياريّته، ولكن من الممكن أن يكون مبغوضاً وفيه مفسدة، وعليه فالنهي يشمل الطمع الاختياري وظاهره التحريم. فالطمع له ظهور في الحرمة في موارد إمكان جعل الحرمة (وهو الطمع الاختياري)، نعم لو كان له إطلاق بحيث يشمل الاختياري وغيره -كما هو الاحتمال الثَّالث- فإنَّه توجد قرينة لبيّة تفيد بأنَّ غير الاختياري ليس محرّماً بل فيه المبغوضية الواقعية فحسب، والقرينة اللبيّة هي عدم إمكان تعلُّق النهي والتكليف بأمرٍ غيرِ اختياري، وعلى كلِّ حالٍ نقطع ونطمئن بأنَّ الطمع يشمل الاختياري ولا مانع من جعل الحرمة في هذا القسم بخصوصه لأجل حفظ ظهور الكلام بذلك، خصوصاً أنَّ التعبير بـ {في قلبه مرض} يسوق الذهن إلى الطمع الاختياري؛ إذ المرض أمر اختياري أو لا أقل يشمل الفرد الاختياري منه.

وبناء على ما تقدَّم فإنَّ الآية تبيّن ثلاثة أحكام:

الحكم الأوَّل: وهو الأصل وهو حرمة الخضوع في القول على النساء.

الحكم الثَّاني: وهو ما استفيد من التعليل وهو: كلَّما يوجب طمع من في قلبه مرض فهو حرام، وهذا الحكم عام، والحكم السابق خاص بحيث إنَّ الحكم السابق مصداق من مصاديقه.

الحكم الثَّالث: طمع الرجل في النساء الأجنبيات حرام، وهذا الحكم حكم مستقل استفيد من التعليل، وهو حكم متوجِّه إلى الرِّجال، وقد استفيد هذا الحكم وسابقه من قوله تعالى: {فيطمع..}، وباستفادة الحكم الثَّالث تتمُّ دلالةَ الآية على حرمة النَّظر بريبة.

هذا، ولكن قد يتأمّل في استفادة الحكم الثَّالث وهو حرمة الطمع على الرجال من الآية المباركة بالبيان التالي:

إنَّ استفادة حرمة الطمع على الرِّجال تمَّت من خلال الملازمة؛ فإنَّه عندما تُنهَى المرأة عن فعل كلِّ ما يوجب الطمع فإنَّه يستفاد منه أنَّ الطمع الشهوي من الرجال أمرٌ مذموم، وهذه الملازمة إمَّا أن تكون ملازمة عرفية -وهي إمَّا لفظية وإمَّا غير لفظية-، وإمَّا أن تكون ملازمة عقلية.

ومن الواضح عدم تمامية الملازمة العقلية؛ إذ العقل لا يرى منعاً في أن يكون أمر -وهو الطمع- مذموماً -وإن لم يكن محرماً- ويكون هو المبنى والأساس لتحريم أمر آخر وهو الخضوع في القول، وعليه فأقصى ما يمكن إدعاؤه هو الملازمة العرفية. ولكن قد يقال بأنَّ أقصى ما يستفاد من الملازمة العرفية أنَّ الطمع مذموم، ولا مانع أن يكون هذا الأمر المذموم منشأً لجعل حرمة الخضوع في القول وما شابهه، فالملازمة إنَّما تثبت مطلق مذمومية الطمع لا حرمته، وعليه فلا تستفاد حرمة الطمع الشهوي من الآية.

ولو تنزَّلنا وسلَّمنا تمامية الملازمة العرفية في إثبات حرمة الطمع فإنَّه قد يقال بأنَّ الملازمة تامَّة في الجملة فحسب ولا تثبت حرمة الطمع على الإطلاق([28]).

وبناء على كلِّ ذلك يحصل ترديد في تمامية استفادة الحكم الثَّالث وهو حرمة الطمع على الرِّجال من الآية المباركة، وبالتالي فلا تكون الآية دليلاً تاماً لإفادة حرمة النَّظر بريبة، وإن رُجِّح سابقاً إمكانية استفادة حرمة الطمع مطلقاً ولكنَّ تبقى تمامية الملازمة المذكورة محلَّ ترديد سواء أكانت عقلية أم عرفية لفظية أم عرفية غير لفظية.

نعم، أقصى ما تفيده الملازمة بين حرمة الخضوع لكلِّ فعل يؤدِّي للطمع وبين الطمع هو الإشعار بحرمة الطمع ولا تصل لحدِّ الظهور، كما أنَّه لا ريبَ في تمامية الملازمة على مستوى إفادة مذمومية الطمع.

والنتيجة: هي حصول التردُّد في استفادة حرمة الطَّمع على الرجال بشكلٍ مطلق من الآية المباركة، وبالتالي لا يمكن أن تكون الآية من أدلَّة حرمة النَّظر بريبة.

النتيجة من البحث:

عدم تمامية الاستدلال بهذه الآية المباركة على حرمة الطمع على الرجال وحرمة النَّظر بريبة، وغاية ما تدلُّ عليه حرمة الخضوع في القول وغيره على النساء ممَّا يؤدِّي إلى حصول الطمع عند الرجال، أمَّا نفس الطمع فهو وإن أمكن استفادة مذموميته من الآية المباركة، ولكنَّ إثبات حرمته محلُّ تردُّد.

نعم، حرمة النظر بريبة يستفاد من أدلة أخرى غير هذه الآية المباركة. 

والحمد لله ربِّ العالمين.


 


([1]) هذا البحث عبارة عن ترجمة وإعادة صياغة -بتصرف كبير- لما طرحه آية الشيخ علي رضا أعرافي(حفظه الله تعالى) في بحث الخارج ضمن بحثِه عن أدلَّة قاعدة حرمة النَّظر بريبة، وقد استفيد في المبحث الأوَّل ( معاني الرِّيبة) من نفس الحضور في درسِه وتقريرِه سنة 2022-2023م، واستفيد في المبحث الثَّاني(حول دلالة الآية) من التقريرات المفرَّغة لدرسه في سنة سابقة الموجودة في موقعه الإلكتروني. مع الإلفات إلى أنَّه ما أمكن فهمه من بحوث الشيخ(حفظه الله تعالى) ويحتمل حصول خللٍ في فهمِ مرادِه في بعض الموارد.

([2]) المراد ممَّا شابه النَّظر كلُّ ما أدَّى إلى ريبة من فعل أو قول كما سيأتي في النُّقطة السَّادسة من المبحث الثَّاني.

([3]) الصِّحاح للجوهري، ج1، ص84، المصباح المنير للفيومي، ص129، معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ص411، ترتيب كتاب العين للخليل الفراهيدي، ج1، ص731، مجمع البحرين للطريحي، ص343.

([4]) معجم الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، ص263-264.

([5]) کشف اللثام عن قواعد الأحکام، الفاضل الهندي، ج٧، ص٢٣.

([6]) وقد أشار الشَّيخ مكارم الشيرازي(حفظه الله تعالى) في تعليقته على العروة إلى أنَّ خوفَ الوقوع في المحرَّم متَّحد مع الفتنة والافتتان، ج2، ص758 حاشية:1.

([7]) كتاب النكاح، الشيخ الأنصاري، ج٥٥.

([8]) كتاب النكاح، الشيخ محمد علي الأراكي، ص22.

([9]) العروة الوثقى(جماعة المدرسين)، ج5، ص439، العروة الوثقى والتَّعليقات عليها(مؤسسة السبطين)، ج15، ص 186.

([10]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 91 ص 104.

([11]) كما في جواهر الكلام حيث قال: "من دون تلذّذ و لا خوف ريبة أو افتتان"، جواهر الكلام في ثوبه الجديد، ج 15، ص60.

([12]) ولا يتصوَّر هنا المعنى الثَّالث؛ إذ لا معنى لأن يقال: بأنَّ النَّظر يوجب خوف الوقوع في الحلال، نعم يحتمل أن يقال: إنَّ النَّظر يوجب حصول احتمال من الناظر احتمالاً عقلائياً أن يفعل الحلال بسبب نظره كما لو كان حين نظره يحتمل احتمالاً عقلائياً أنَّه بعد نظره يواقع زوجته بسبب ذلك النَّظر.

([13]) ولعلَّه يصعب تحقُّق مثل هذا الفرض في الخارج، خصوصاً مع ملاحظة أنَّه من مصائد الشيطان.

([14]) مثل هذه الرواية:

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: 

كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص يُسَلِّمُ عَلَى النِّسَاءِ وَ يَرْدُدْنَ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع يُسَلِّمُ عَلَى النِّسَاءِ وَ كَانَ يَكْرَهُ‏ أَنْ‏ يُسَلِّمَ‏ عَلَى‏ الشَّابَّةِ مِنْهُنَّ وَ يَقُولُ أَتَخَوَّفُ أَنْ يُعْجِبَنِي صَوْتُهَا فَيَدْخُلَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا أَطْلُبُ مِنَ الْأَجْرِ. (الكافي، ج2 ص 642).

 ولو ورد في البحث ذكر النظر دون ذكر غيره فإنَّما هو من بابِ الجري على ما هو الغالب، وإلا فلا اختصاص بالنظر كما اتَّضح في هذا التنبيه.

([15]) الأحزاب: 32.

([16]) الأحزاب: 30-31.

([17]) ولعلَّ المراد ليس هو تغيير المرأة لكيفية صوتِها من أجل إيقاع الرِّجال في الاستماع المحرم؛ فإنَّ ذلك وإن كان حراما، لكنَّه خارج عن محلِّ الكلام، فإنَّ محلَّ الكلام هو تغييرُ كيفيةِ الصَّوت وترقيقه وتليينه أكثر من اللين الطبيعي الموجود فيه حتى لو لم يكن القصد من ذلك هو إيقاع المستمع في الحرام؛ فإنَّ قصدَ الإيقاع في الحرام وإن كان محرَّماً ولكنَّه عنوان آخر. 

([18]) المصباح المنير، الفيومي، ص196.

([19]) معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ص600.

([20]) الصِّحاح للجوهري، ج3، ص770.

([21]) مفردات الرَّاغب الأصفهاني، ص 480.

([22]) سورة البقرة 10.

([23]) في تفسير علي بن إبراهيم حدَّثنا محمَّد بن أحمد، قال: حدثنا محمَّد بن عبد الله بن غالب عن عبد الرحمان بن أبي نجران عن حمَّاد عن حريز قال: سألت أبا عبد اللهg عن قول الله : {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} قال: >الفاحشةُ الخروجُ بالسيف<،‏ (تفسير نور الثقلين، ج‏4، ص: 268).

([24]) عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَمَّنْ ذَكَرَهُ عَنْ‏ زَيْدٍ الشَّحَّامِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍg فِي قَوْلِ اللَّهِ : {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ} قَالَ: قُلْتُ: مَا طَعَامُهُ؟ قَالَ: >عِلْمُهُ الَّذِي يَأْخُذُهُ عَمَّنْ يَأْخُذُهُ<. (الكافي (ط-الإسلامية)، ج‏1، ص: 50).

([25]) من الواضح أنَّ هذا يتمُّ بناءً على جوازِ استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وآية الله الشَّيخ الأعرافي(حفظه الله تعالى) يراه جائزاً ولا مانع عقلي منه ولكنَّه خلاف الظهور الأوَّلي، ولذلك يحتاج إلى قرينة.

([26]) مع الالتفات إلى أنَّ الحكمةَ قد تفيد التعميم والتخصيص في موارد وضمن قيود وشروط بحسب رأي الشيخ(سلمه الله تعالى).

([27]) سيأتي بعد ذلك أنَّ الشيخ(حفظه الله تعالى) تردَّد في حرمة الطَّمع.

([28]) ولعلَّ وجه كون الملازمة -بعد تسليم إفادتها لحرمة الطمع- تامَّة في الجملة لا بالجملة، هو ما أشار إليه نفس الشيخ الأعرافي في موضع آخر من وجود إشكال حاصله: أنَّ الآية ليست في مقام البيان من جهة هذا الحكم وهو حرمة الطمع فلا يمكن استفادة الإطلاق في هذا الحكم.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا