حمل الرّواية على التّقيّة عند الشّيخ الطّوسيّ في الاستبصار (القسم الأوَّل)

حمل الرّواية على التّقيّة عند الشّيخ الطّوسيّ في الاستبصار (القسم الأوَّل)

المقدِّمة

يكتسبُ حمل الرّواية على التّقيّة موقعيّةً مهمّةً في البحث الفقهيّ والرّوائيّ الإماميّ بما يمثّل انعكاساً للوضع الذي عاشه المعصومون والموقف من نفس التّقيّة في أزمنة صدور النّصّ، ويكفي الاطّلاع على الموسوعات الفقهيّة والرّوائيّة لمعرفة حجم حضور حمل الرّواية على التّقيّة، وبالتّالي إدراك أهمّيّة البحث عنه ومحاولة التّقعيد له. 

وقد وجدتُ في ثنايا الدّرس الفقهيّ أنَّ صاحب الوسائل كثيراً ما يُعلِّق على الرّوايات بأنَّ الشّيخ قد حمل هذه الرّواية على التّقيّة أو احتمل ذلك فيها؛ ممَّا شكَّل دافعاً أوّليّاً للقراءة في هذا الموضوع بالخصوص، وتبيَّن أنَّ حمل الرّواية على التّقيّة عند الشّيخ الطّوسيّ يُعتبر من الأمور المفصليّة في طريقة البحث الفقهيّ عند الإماميّة، وأنَّ مدى حضور هذا الأمر لديه كان استثناءً عمَّن سبَقه؛ وعلى أساس ذلك تبلورت فكرة البحث عن الإطار النّظريّ الذي حمله الشّيخ لحمل الرّواية على التّقيّة وكيفيّة تطبيقه لذلك.

وقد انطلقت في البحث من تساؤل أساسيّ حاصله: ما هي القواعد الكلّيّة المُساهمة في حمل الرّواية على التّقيّة عند الشّيخ الطّوسيّ؟ وفي هذا السِّياق جاء عددٌ من الأسئلة الفرعيّة:

  • لماذا نحتاج لحمل الرّواية على التّقيّة؟
  • ما هي العلاقة بين حمل الرّواية على التّقيّة ونفس التّقيّة؟
  • ما هو موقف الشّيخ من الظّروف التي كان يعيشها المعصومونi؟
  • ما هي المشتركات بين الموارد التي حملها الشّيخ على التّقيّة؟ وكيف يمكن تحليلها؟
  • ما مدى انسجام هذه الموارد بعضها مع بعض ومع ما تمَّ استفادته من قواعد كلّيّة في وجهة نظر الشّيخ؟

وللإجابة على ذلك قسَّمت الدّراسة إلى قسمين، قسم نظريٌّ نهجتُ فيه المنهج الاستقرائيّ حصراً من خلال تتبُّع كلمات الشّيخ في كتبه المختلفة، واستخلاص نتائج عامَّة منها، وقسم تطبيقيٌّ نهجتُ فيه مزيجاً بين المنهج الاستقرائيّ والتّحليليّ، حيث تتبّعت الجزئيّات المحمولة على التّقيّة في كتاب الاستبصار، ومن ثمَّ حاولت إيجاد الرّابط المشترك بينها، وختاماً قدّمت بعض التأمّلات في ما تمّ استخلاصه من عمليّة الاستقراء.

المبحث الأوَّل: تمهيد

النُّقطة الأولى: في بيان مفردات البحث

1ـ تعريف التّقيّة:

أمَّا لغةً:

فقد اشتقّت لفظة التّقيّة من المصدر الثّلاثيّ المجرَّد "وقى"، ومنها يأتي "يقي" "وقاية"([1])، والوقاية في اللّغة تعني: "حفظ الشَّيء ممّا يؤذيه ويضرّه"([2])، "الصّيانة والسّتر عن الأذى والحماية والحفظ"([3]). وذكر ابن فارس في معنى التّقيّة "الحذر"([4]).

ومهما يكن، يظهر من هذه التّعاريف أنَّ التّقيّة عبارة عن فعلٍ ما وظيفته هي حماية الشّيء وحفظه من الضّرر والأذى، ممَّا يعني أنَّ كلَّ تقيّة يُتصوَّر فيها أربعة أمور على الأقل، الشّيء المراد حمايته، والحامي، وفعل الحماية، وما يسبِّب الخطر والأذى.

وأمَّا اصطلاحاً:

عند تتبّع التّعريف الاصطلاحي للتّقيّة نجد أنَّ الفقهاء قد ذكروا لها عدداً من التّعاريف لا تخرج في إطارها العامّ عن المعنى اللّغويّ، فقد ذكر الشّيخ المفيد في معناها: "كتمان الحقِّ، وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا"([5]). وعرّفها الشّهيد الأوّل بـ: "مجاملة النَّاس بما يعرفون، وترك ما ينكرون حذراً من غوائلهم"([6]). وعرَّفها الشّيخ الأنصاريّ بـ: "التحفُّظ عن ضررِ الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ"([7]).

حيث نجد بالمقارنة مع المذكور في التّعريف اللّغويّ وجود العناصر الأربعة لتحقّق عنوان التّقيّة، إلّا أنَّ العنصر الثّالث وهو فعل الحماية قد تغاير هذه التّعريفات، بين "الكتمان" أو الأعمّ منه "المجاملة " و"التحفُّظ "، أي إنَّ التّقيّة ليست مجرّد كتمان الحقّ بحيث أنّه لو كان الحقُّ مكشوفاً للمُتّقى منه لم يكن هناك معنى للتّقيّة، بل هو أعمّ من ذلك ويشمل حتّى الحالة التي يكون فيها اعتقاد المُتّقي مكشوفاً للمُتّقى منه ورغم ذلك بسبب ما يترقّبه من خطر وضرر يجامله ويفعل الفعل المطابق لاعتقاد المُتّقى منه([8])، كما لو كان شخصٌ حاضراً في مجلس طاغية من طغاة عصره، وهذا الطّاغية يعرف اعتقاد هذا الشخص، وهذا الشخص يعرف أنَّ الطّاغية يعلم باعتقاده، فأمره الطّاغية أن يسبّ رموز الحقّ مثلاً، فهل يكون فعله هذا -لدفع شرّ الطّاغية- مندرجاً تحت عنوان التّقيّة أو عنوان آخر؟

2ـ الرّواية:

لغةً:

يظهر من المعاجم اللّغوية أنَّ لفظ "الرّواية" هو مصدر يعني النّقل والتّحديث، ومنه روى فلانٌ حديثاً وشعراً، ويبدو أنّه بسبب وضوح اللّفظ اكتفوا بتعريفه بمثل: "رَوى فلانٌ حديثاً وشِعراً، يَرْوِيه رِوايةً، فهو: راوٍ. فإذا كَثرت رِوَايته، قيل: هو راوِية"([9])،  "رَوَيْتُ الحديثَ والشِعر رِوَايَةً فأنا راو"([10]).

اصطلاحاً:

قال الطّريحيّ في مجمع البحرين: "الرواية في الاصطلاح العلمي: الخبر المنتهي بطريق النَّقل من ناقلٍ إلى ناقل حتى ينتهي إلى المنقول عنه من النبي أو الإمام"([11]). ويظهر من هذا التّعريف أنَّ الرّواية هنا قد استعملت كاسم مفعول لما يصدر عن الرّاوي، وقد شرط فيها المُعرّف أن تكون منتهيةً لخصوص النّبيّ أو الإمام بسند متّصل. وقد أشار الشّيخ عبدالهادي الفضليّ إلى أنّ الرّواية في الاصطلاح تستخدم تارةً بمعنى المصدر الذي أُشير إليه في التّعريف اللّغوي، وتارةً بمعنى اسم المفعول الذي تحدّث عنه الطّريحيّ في الاصطلاح العلميّ، ولكن قد لا يشترط البعض في إطلاق الرّواية على الخبر كونها منتهية بسندٍ متّصل إلى المعصوم، هذا مضافاً إلى أنّ الرّواية في اصطلاح بعض الفقهاء المتأخّرين قد تعني الحديث الفاقد للحجّيّة والاعتبار([12]).

ومهما يكن فإنَّ المقصود بالرّواية في هذه الدّراسة الوجيزة هو كلُّ خبرٍ ينقل عن المعصوم g.

3ـ حمل الرّواية:

لم يجد الباحث تفسيراً اصطلاحياً لهذا التّركيب "حمل الرّواية" عند الشّيخ الطّوسيّ وإن كثر استعمالُه له، ولكن بملاحظة الموارد التي استُعمِل فيها يمكن القول إنّ معنى حمل الرّواية على شيءٍ هو تفسير الرّواية على أساس هذا الشّيء، فإذا قيل مثلاً إنّ هذه الرّواية محمولة على المجاز، كان المعنى أنّ تفسير هذه الرّواية يكون على أساس المجاز، أي إنّ قائل الرّواية لم يقصد المعنى الحقيقيّ وإنّما أراد المعنى المجازيّ من اللّفظ، وكذا إذا قيل إنّ هذه الرّواية محمولةٌ على التّقيّة، كان المعنى منها أنّ تفسير هذه الرّواية يكون على أساس التّقيّة، أي إنَّ قائل الرّواية لم يقصد الحكم الواقعيّ، وإنّما أعطى حكماً على خلاف الواقع رعايةً لشأن التّقيّة.

4ـ تنبيه: في الفرق بين حمل الرّواية على التّقيّة وحملها على حال التّقيّة

يستعمل الشّيخ مصطلحين متقاربين لفظاً، هما "حمل الرّواية على التّقيّة" و"حمل الرّواية على حال التّقيّة"، وبينهما تغاير معنائيّ مهم، إذ الأوَّل يعني أنَّ المعصوم قد اتّقى في بيان الحكم الشّرعيّ ولم يبيّن الحكم الواقعيّ، بينما الثّاني فيعني أنّ المعصوم لم يكن في ظرف تقيّة، وإنّما بيّن وظيفة المكلَّف الذي يقع في ظرف تقيّة كيف يتصرَّف وماذا يفعل. 

وهذه الدّراسة الوجيزة إنَّما تختصُّ بـ"حمل الرّواية على التّقيّة"، ولم يقصد الباحث فيها دراسة الموارد التي حملها الشَّيخ على حال التّقيّة، حيث بلغت اثنان وثلاثون رواية لم يدرجها الباحث في تعداد الرّوايات المحمولة على التّقيّة.

5ـ الشّيخ الطّوسيّ

هو الشّيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ بن الحسن الطّوسيّ، شيخ الطّائفة وزعيم الإماميّة في زمانه، فاقت شهرته الزّمان والمكان، فهو أعرف من أن يُعرّف، تتلمذ على أساطين العلم في وقته، الشّيخ محمّد بن محمّد النّعمان المفيد، والسّيّد عليّ بن الحسين المرتضى علم الهدى، قال عنه العلّامة الحلّي:"شيخ الإمامية ووجههم، ورئيس الطائفة، جليل القدر، عظيم المتزلة، ثقة عين صدوق، عارف بالأخبار والرجال، والفقه والأصول، والكلام والأدب، وجميع الفضائل تنسب إليه، صف في كل فنون الإسلام هو المهذب للعقائد في الأصول والفروع، والجامع لكمالات النفس في العلم والعمل" ([13])

لقد هيمنت الشّخصيّة العلميّة للشّيخ الطّوسيّ على الإماميّة لفترة طويلة من الزّمن لتكشف بذلك عن عظم مكانته وهيبته في نفوسهم، يقول الآغا بزرك الطّهرانيّ: "مضت على علماء الشيعة سنون متطاولة وأجيال متعاقبة ولم يكن من الهيِّن على أحدٍ منهم أن يعدو نظريات شيخ الطائفة في الفتاوى، وكانوا يعدون أحاديثه أصلاً مسلَّما، ويكتفون بها، ويعدون التأليف في قبالها، وإصدار الفتوى مع وجودها تجاسراً على الشيخ وإهانة له"([14]).

6ـ كتاب الاستبصار

كتاب الاستبصار فيما اختلفَ من الأخبار هو أحدُ الموسوعات الرِّوائيّة الأربعة عند الإماميّة، وثاني مؤلَّفَيّ الشّيخ في الرِّواية بعْدَ كتابِه تهذيب الأحكام، يحوي بين دفّتيه أكثر من(5550) حديثٍ قد رتّبهم الشّيخ على أساسٍ فقهيّ بدايةّ من كتاب الصّلاة وانتهاءّ بكتاب الدّيّات، وأفرد في كلّ باب رواياته الخاصّة فيه على نحوٍ يكون جامعاً لها غير مخلٍّ بمقصودها، فإذا كانت روايات الباب قليلة أورد جميع ما بين يديه، وإذا كانت كثيرة ذكر جملةً منها تحقّق الغاية والغرض وأرجع الباقي على كتابه تهذيب الأحكام.

وقد كانت الغاية من تأليف هذا الكتاب -كما ذكر الشّيخ في مقدّمة الكتاب- هو الاستجابة لدعوة من أصحابه في تأليف كتاب جامع يحوي الأحاديث المختلفة خصوصاً، بأن يورد أوّلاً في كلِّ باب الأخبار التي يفتي على أساسها، ثمَّ يعقُّبها بالأخبار المنافية لها، ويبيّن وجه الجمع أو التّرجيح بينها، على أن يحاول قدر الإمكان عدم إسقاط شيء منها.

وهذا ما ظهر جليّاً في معالجاته للرّوايات، حيث نجد الشّيخ يقدّم وجوه الجمع الدّلاليّ أوّلاً كحمل العامّ على الخاصّ، والمجمل على المفصّل، والأمر على الاستحباب، والنّهي على الكراهة، والجمع بين حال التمكّن وحال الاضطرار عند المكلّف، وغيرها من وجوه الحمل التي تجعل الرّوايات المتنافية بدواً منسجمة مع بعضها البعض([15])، فإنْ لم يمكن الجمع دلالياً أو كان جمعاً غير عرفيّ قدّم وجهاً من وجوه التّرجيح، كشذوذ الخبر، وابتلائه بالضّعف السّنديّ أو الضّعف المضمونيّ، ووهم الرّاوي، وغلط النّاسخ، ومخالفة القرآن، وغيرها من الوجوه التي يجد فيها الشّيخ قرينة على الأقربيّة للواقع.

النّقطة الثّانية: نظرة تاريخيّة تحليليّة على حمل الرّوايات على التّقيّة

يمكن أن نقسّم السّير التّاريخيّ في تعاطي فقهاء الإماميّة مع حمل الرّواية على التّقيّة إلى مرحلتين أساسيّتين، المرحلة الأولى ما قبل الشّيخ الطّوسيّ والتي ربَّما تتّسم بغياب حمل الرّواية على التّقيّة بوصفها مرجِّحاً بين الرّوايات المتعارضة، والمرحلة الثّانية هي مرحلة الشّيخ الطّوسيّ التي هي على عكس الأولى تماماً.

أوّلاً: مرحلة ما قبل الشّيخ الطّوسيّ

في المرحلة السّابقة على الشّيخ الطّوسيّ لا يتوفَّر في ما بين أيدينا من مصادر حديثيّة وفقهيّة لعلماء الإماميّة ما يدلُّ على استعمالهم التّرجيح بالحمل على التّقيّة، إلّا في موارد نادرة جداً وتعدُّ على الأصابع عند الشّيخ الصّدوق والسّيّد المرتضى، وقد جاءت في سياقات مختلفة عن تلك التي حمل فيها الشّيخ الطّوسيّ الرّواية على التّقيّة باعتباره مرجّحاً بين الرّوايات المتعارضة، حيث حمل الشّيخ الصّدوق روايتين على التّقيّة في كتابه من لا يحضره الفقيه ليس من جهة ترجيح رواية على أخرى، بل لأنَّه وجد في هذه الرّوايات قرائن تدلُّ على اتّقاء المعصوم g فيها، وحمل السّيّد المرتضى روايتين على التّقيّة أيضاً من جهة إلزام المخالف لا اعتقاداً منه([16])؛ وبالتّالي لا يمكن الاستناد إلى مثل هذه الموارد المحدودة في القول بأنَّ هذا المرجّح قد سبق استعماله زمن الطّوسيّ، على الأقل لا يمكن أن نقول بذلك بحسب ما هو متوفّر بين أيدينا من مصادر. 

وعدم اللّجوء لحمل الرّواية على التّقيّة عند من تقدّم على الشّيخ لا يعني اعتقادهم بعدم اتّقاء المعصوم في الجملة، ولا يعني أنّهم يجدون التّراث الذي بين أيديهم منسجماً تماماً وخالٍ من الرّوايات المتعارِضة، بل إنَّ التّقعيد الأصوليّ عند المرتضى ومن تقدّم عليه كان يقتضي بطبيعته عدم حاجتهم لحمل الرّواية على التّقيّة، وذلك يعود في جذره لمبانيهم في قبول الأخبار والعمل بها، حيث يشترطون في حجّيّة الخبر العلم به، ويرفضون العمل بأخبار الآحاد.

مثل هذا الموقف سينعكس بالضّرورة على طريقة معالجة الرّوايات وسيجعل موقفهم من التّرجيح بين الرّوايات المتعارضة مغايراً لموقف غيرهم؛ لأنَّ التّعارض المُوجِب للتّرجيح فرع الحجّيّة بين الأطراف المتعارضة، فإذا كانت الحجّيّة عند أبناء هذا المسلك تابعةً للعلم، لم يحصل عندهم هذا التّعارض المصطلح؛ لأنَّ التّعارض يستحيل أن يقع بين معلومين([17]). غاية الأمر سيكون التّعارض عند هؤلاء حينئذ في مرتبة أسبق على اكتساب الرّواية للحجّيّة، أي إنّهم إذا وجدوا روايتين متعارضتين فسيجب عليهم أن يبحثوا في كلٍّ منهما ويدرسوا القرائن الداخليّة والخارجيّة المحيطة بهما لتحصيل العلم بإحداهما فقط وبالتّالي اكتسابها للحجّيّة، وعلى هذا سيكون حمل الرّواية على التّقيّة عندهم مندرجاً تحت المُميِّزات للحجّة من غيرها، لا أنّه مرجّح بين الحجّتين([18]).

قال السّيّد المرتضى: "اعلم أنّا إذا كنّا قد دللنا على أنَّ خبر الواحد غير مقبول في الأحكام الشرعية، فلا وجه لكلامنا في فروع هذا الأصل الذي دللنا على بطلانه؛ لأنَّ الفرع تابع لأصله، فلا حاجة بنا إلى الكلام على أنَّ المراسيل مقبولة أو مردودة، ولا على وجه ترجيح بعض الأخبار على بعض، وفيما يُردّ له الخبر أو لا يرد في تعارض الأخبار، فذلك كلُّه شغلٌ قد سقط عنَّا بإبطالنا ما هو أصل لهذه الفروع، وإنَّما يتكلَّف الكلام على هذه الفروع من ذهب إلى صحَّة أصلِها، وهو العمل بخبر الواحد"([19]).

من جهة ثانية نجد أنَّ الشّيخ المفيد والشّريف المرتضى كان لهم موقفٌ نقديّ من "مخالفة العامّة" الذي يُعتبر المعيار الأبرز في الكشف عن التّقيّة كما سيتبيّن لاحقاً في فصول البحث، حيث ذهب الشّيخ المفيد لاعتبار هذا المرجّح الوارد في الرّوايات لا يتناول ترجيح روايات الفروع أصلاً، وإنّما قد نصَّ عليه المعصومونi حتّى يبيّنوا لشيعتهم أنَّ ما يرد عنهم في خصوص مدح أعداء الله وخصماء الإيمان ليس صادراً إلّا على جهة التّقيّة، وبالتّالي كون الرّواية قريبة أو بعيدة عن أقوال العامّة يعني القرب والبعد من أقوال العامّة فيما يرتبط بالموقف العقديّ لا الفقهيّ.

قال الشّيخ المفيد: "إنمَّا المعنى في قولهم: >خذوا بأبعدهما من قول العامَّة<، يختصُّ ما روي عنهم في مدائح أعداء الله، والترحُّم على خصماء الدين، ومخالفي الإيمان، فقالوا: >إذا أتاكم عنَّا حديثان مختلفان أحدهما في تولي المتقدِّمين على أمير المؤمنين g والآخر في التبرِّي منهم فخذوا بأبعد ما من قول العامَّة<؛ لأنَّ التقية تدعوهم بالضرورة إلى مظاهرة العامَّة بما يذهبون إليه من أئمتهم، وولاة أمرهم، حقنا لدمائهم، وستراً على شيعتهم"([20]).

والسّيّد المرتضى بدوره وجَّه نقداً لهذا المرجّح من جهة أخرى استناداً إلى مبناه ومبنى من يقول بعدم حجّيّة خبر الواحد، حيث ورد هذا المرجّح عن طريق الآحاد، ولا حجّيّة لخبر الواحد([21]).

وما يمكن أن يكون مساهماً في عدم وجود حمل الرّواية على التّقيّة قبل الشّيخ الطّوسيّ هو ملاحظة طبيعة الكتب المصنّفة في هذه الفترة؛ فهي بين مصنّفات خالية من التّعليقات، وبين أصول تقتصر على ما يراه المؤلّف حجَّة في مقام العمل([22]).

ثانياً: مرحلة الشّيخ الطّوسيّ

على عكس المرحلة السّابقة، جاء الشّيخ الطّوسيّ بقفزة هائلة في حمل الرّواية على التّقيّة لدرجة أنَّه كان المرجِّح الأبرز بين سائر المرجّحات التي استفاد منها في كتاب الاستبصار، ويعود ذلك إلى سببين أساسيّين: 

السَّبب الأوّل: هو غرضُه من تأليف موسوعتيه الروائيّتين "تهذيب الأحكام" ومختصره "الاستبصار فيما اختلف من الاخبار"؛ حيث أراد رفع ما يتصوَّر من تنافٍ بين الرّوايات الموجودة في التّراث الإماميّ، وعلى هذا الأساس كان خيار الحمل على التّقيّة خياراً مقبولاً في وجهة نظرِه لتبرير هذه الحالة، خصوصاً أنَّ ذلك منسجمٌ مع الضّرورة التّاريخية باتّقاء المعصوم وعيشه في ظلِّ ظروف مشدَّدة.

والسّبب الثّاني: هو مبنى الشّيخ في حجّيّة أخبار الآحاد، حيث أدّى به القول بذلك لتكثّر الرّوايات ذات الاقتضاء للحجّيّة، وبالتّالي تكثّر حالة التّنافي بين الأدلّة وتأكّد الحاجة الماسّة لرفع هذا التّعارض، وأيضاً كان القول بحجّيّة أخبار الآحاد طريقاً لقبول الرّوايات التي نصّت على التّرجيح على أساس مخالفة العامّة، وبالتّالي تطبيق ذلك في بحثه الرّوائيّ والفقهيّ، حيث اعتبر كون مضمون الرّواية موافقاً لمذاهب العامّة كاشفاً عن اتّقاء المعصوم. وسيأتي مزيد بيان وتوضيح لموقف الشّيخ ضمن البحوث القادمة.

وما يمكن أن يُقال في هذه النّقطة أنَّ السّنّة التي سنّها الشّيخ تلقّاها فقهاء الإماميّة بالقبول، وقد شهدت الفترة الزّمنيّة اللّاحقة للشّيخ متابعة له في المنهجيّة والتطبيق في حمل الرّوايات على التّقيّة إلى أن جاء المحقّق الحلّيّ ووجّه نقودات جادّة لمشروع الشّيخ، رغم ذلك لم يكتب الدّوام لهذا الموقف النّقديّ واستمرّ الفقهاء في الاستفادة من حمل الرّوايات على التّقيّة وإن اختلف بعضهم مع الشّيخ على مستوى التّطبيق([23]).

المبحث الثَّاني: بناء النّظريّة عند الشّيخ في حمل الرّوايات على التّقيّة

النّقطة الأولى: في تبرير الحاجة لحمل الرّوايات على التّقيّة

إنّ الدّخول في البحث عن ضوابط حمل الرّوايات على التّقيّة أو الكيفيّة التي يراها الشّيخ مقبولة في حمل تلك الرّواية دون غيرها على التّقيّة، يقتضي في مرحلة سابقة أن يقدِّم الشَّيخ تبريراً لأصلِ حصول هذه الظّاهرة في الرّوايات؛ فإنّ النّاظر من بعيد للتّراث الرّوائيّ الإماميّ وقبل دخوله في تفاصيله يواجه عدداً من المحتملات الثّبوتيّة في توصيف هذا التّراث بشكل إجماليّ، فقد يكون تراثا منسجماً تُكمّل فيه الرّوايات بعضها البعض ولا يوجد بينها أي نحو من التّهافت والتّعارض، وبالتّالي لا حاجةَ أصلاً لإجراء أيِّ نوعٍ من أنواع المرجّحات فضلاً عن الحمل على التّقيّة، أو قد يكون في التّراث ما ظاهره نقضه بعضه الآخر وإعطاء نتائج متضاربة فيما بينها ولا يمكن القبول بها جميعاً والتّسليم لها بالحجّيّة المطلقة، فهنا وإن اكتسبت عمليّة التّرجيح اعتبارها وأصبح لأصل إجراء المرجّحات معقوليّتها إلّا أنَّ السّؤال يبقى مفتوحاً تجاه المبرّر في الاستفادة من خصوص التّرجيح بهذا المرجِّح المزبور.

حقيقة الموقف من هذه النّقطة لا تستدعي الإطالة في البحث والتّفتيش عن مضانّ حصول التّعارض في تراث الإماميّة أو اتّقاء المعصومg في بيان الأحكام الشّرعيّة، بل إنَّ ذلك من الواضحات لكلّ من قرأ شطراً من الرّوايات وسبر شيئاً من تاريخ المعصومينi وتاريخ شيعتهم.

وقد أشار الشّيخ الطّوسيّ في مقدّمة كتابه "تهذيب الأحكام" إلى ظاهرة التّعارض بين الرّوايات ومدى حضورها في التّراث حتّى لا تكاد تخلو رواية من معارض ينافيها وينقض مضمونها، وهذا ما أدَّى إلى حصول ارتدادات على فضاء الإماميّة بحيث أصبح تعارض التّراث الإماميّ سبباً للطّعن على المذهب ووسيلة لنقض المعتقد؛ وهو ما دعى الشّيخ لتأليف كتابه هذا من أجل رفع استيحاش التّناقض البدويّ بين الرّوايات من خلال ضروب التّأويل والجمع الدّلاليّ المُؤيَّد بروايات أخر متجاوزاً بذلك البحث السّنديّ والطّعن في طرق صدور النّص قدر الإمكان، بحيث لا يلجأ إلى التّرجيح وبيان أوجه الفساد إلّا بعد استنفاد وسعه في عمليّة الجمع([24]).

إذاً، كان للشّيخ موقفه الواضح من حصول التّعارض، وهو وإن جدّ في رفع التّنافي بين الرّوايات بنحوٍ قد يكون متساهلاً كما ذكر إلّا أنّ ذلك لم يكن مانعاً من اضطراره إلى إعمال صناعة التّرجيح بشكل كبير؛ ممَّا يكشف عن تجذّر هذه الظّاهرة وعدم إمكان تجاوزها بسهولة.

ومن جهة أخرى تحدّث الشّيخ عن ضرورة التّقيّة تاريخيّاً بالنّسبة للشّيعة الإماميّة، وأثرها على الفروع الفقهيّة بل نفس الأصول الاعتقاديّة بداية من رحيل النّبيe حيث اضطّر أمير المؤمنين g لممارسة التّقيّة في مبايعة أبي بكر على الخلافة؛ مستدفعاً للشّر، وفارّاً من الفتنة، وبعد أن لم يبقَ عنده بقيّة ولا عذر في المحاجزة والمدافعة، دلّ على ذلك مجموعة من الأحداث والمواقف التي تشير بوضوح لوجود أسباب الخوف وأماراته المجوّزة للتّقيّة([25]). وما يهمُّ هنا هو البحث عن ممارسة المعصوم للتّقيّة في الفتوى؛ إذ هي العامل الرّئيسيّ الذي سيبرّر لنا الحاجة لحمل الرّوايات على التّقيّة.

وما يمكن طرحه في المقام -بعد كون ذلك من الواضحات عند الإماميّة- هو مقدار النّصوص المتكثّرة في المصادر الرّوائية التي تصرِّح أو تلوِّح بممارسة المعصوم للتّقيّة في الفتوى، حيث ورد مثل: "أُحِبُّ أَنْ لاَ تُجِيبَنِي بِالتَّقِيَّةِ"([26] و"أَعْطَاكَ مِنْ عَيْنٍ كَدِرَةٍ"([27]و"أَعْطَاكَ مِنْ جِرَابِ اَلنُّورَةِ"([28])، و>إِنَّ أَصْحَابَ أَبِي أَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِالْحَقِّ ثُمَّ أَتَوْنِي شُكَّاكاً فَأَفْتَيْتُهُمْ بِالتَّقِيَّةِ<([29])و>مَا سَمِعْتَ مِنِّي يُشْبِهُ قَوْلَ اَلنَّاسِ فِيهِ اَلتَّقِيَّةُ<([30])، و>يَا زِيَادُ، مَا تَقُولُ لَوْ أَفْتَيْنَا رَجُلاً مِمَّنْ يَتَوَلاَّنَا بِشَيْءٍ مِنَ اَلتَّقِيَّةِ<([31])، إذ إنّ تكثّر مثل هذه النّصوص يوجب القطع أو الاطمئنان باتّقاء المعصومg على مستوى الفتوى والرّواية في الجملة.

الشّيخ الطّوسيّ أكّد على الحقيقة التّاريخية لواقع الشّيعة الصّعب الذي جعل لهم كلَّ المبرّرات لممارسة التّقيّة والتّورية في أمر دينهم ومعتقدهم. قال في معرض مناقشته للإشكالات الواردة على تواتر النّصّ عن النّبيّe في ولاية أمير المؤمنينg: "لم تلقَ فرقة ولا بُلي أهل مذهب بما بليت به الشيعة: من التتبع والقصد وظهور كلمة أهل الخلاف، حتى أنَّا لا نكاد نعرف زمانا -تقدَّم- سلمت فيه الشيعة من الخوف ولزوم التقية، ولا حالاً عريت فيها من قصد السلطان وعصبيته، وميله وانحرافه، هذا، إلى كثرة ما جرى بينها وبين خصومها من الخوض في النص -على مرِّ الدهر- واجتهاد جماعة مخالفينا في الطعن عليه، والثلم له وتطلب ما يدحضه.. فكيف بما يقع من فرقة مغمورة مقهورة، قد تضافر عليها المقترفون، واصطلح في قصدِها المختلفون، ومن تأمَّل صورة الشيعة -بعين منصف- علم صحَّة قولِنا"([32]).

وفي النّتيجة يصبح حمل الرّوايات على التّقيّة مُبرَّراً بسبب عاملين، الأوّل هو وجود التّعارض بين الرّوايات، والثّاني ممارسة المعصومg للتّقيّة في الفتوى.

النّقطة الثّانية: كلّيّات في الحمل على التّقيّة عند الشّيخ الطّوسيّ

لم يبيَّن الشّيخ في كتبِه بشكلٍ واضح شرائط حمل الرّواية على التّقيّة ولم يصرّح بماهيّة الأسباب التي تجعل الرّواية صادرة على جهة التّقيّة، وبالتّالي لا يمكن أن نجزم بالضّبط بما كان يدور في ذهن الشّيخ ونعرف ما يعتقده أنّها عوامل وأسباب تؤدّي إلى حمل الرّواية على التّقيّة، وهو ما يجبرنا على محاولة استخراج هذه القواعد من خلال ممارسته العمليّة في ترجيح الرّوايات بملاحظة المشتركات بين الموارد المحمولة على التّقيّة في كتابه الاستبصار.

رغم ذلك يمكن أن نجد في كلماته كلّيّات تتصل بنفس التّقيّة وشرائطها، وكلّيّات تتّصل بعملية التّرجيح وطرائقها، فهذه الكلّيّات وإن لم تتعرّض بشكل مباشر إلى كيفيّة حمل الرّواية على التّقيّة، إلّا أنّ نفس فهم شروط التّقيّة ودائرة مشروعيّتها عند الشّيخ، خصوصاً بالنّسبة للمعصوم، ومعرفة موقفه العامّ من عمليّة التّرجيح ستشكّل الأرضيّة التي تنطلق منها عوامل الحمل على التّقيّة؛ لذا سنذكر شروط التّقيّة أوّلاً، وكيفيّة التّرجيح ثانياً، ونختم بما تمّ استفادتُه من استقراء موارد الحمل على التّقيّة في كتاب الاستبصار.

أوّلاً: شروط التّقيّة

1ـ ظرف مشروعيّة التّقيّة:

قال الشّيخ: "التقية‌-‌ عندنا‌-‌ واجبة عند الخوف‌ ‌على النفس"([33]).

وقال في معرض توجيهه لتصريح الإمام في عدم اتّقائه في شرب المسكر ومسح الخفّين ومتعة الحجّ: "أن يكون أراد لا أتقي فيه أحداً إذا لم يبلغ الخوف على النفس أو المال وإن لحقه أدنى مشقة احتمله، وإنّما يجوز التقية في ذلك عند الخوف الشديد على النفس أو المال"([34]).

ما يمكن استظهاره من هذه الكلمات ونظيراتها([35]) أنّ الشّيخ يشترط في مشروعيّة التّقيّة أمرين، أن يكون هناك خوف شديد، وترقّب لحصول المحذور، وأن يكون الخوف منصباً على النّفس والمال دون غيرها من المحذورات والمشاقّ، فلو كان الشّخص في ظرفٍ يخاف –لولا التّقيّة- أن يُهان إهانة بسيطة مثلاً فإنّ التّقيّة لا تشرّع في حقّه.

2ـ مشروعيّة التّقيّة عند المعصومg:

يختلف حال تقيّة بين المعصومg وغيره من المكلّفين بسبب اختلاف الوظيفة المناطة لكلٍّ منهما، حيث إنَّ المعصوم يكون مكلَّفاً بإيصال الشّريعة والحقّ من جانب الحقّ إلى العباد، وهذا يُوجب أن تُراعي أفعال المعصومg مقتضى وظيفته الأساسيّة، وأن لا تؤدّي لنقض الغرض الذي لأجله صار واسطة بين الله والعباد. فيرى الشّيخ أنّ التّقيّة في حقّه إذا كانت في ظرفٍ ستؤدّي إلى ضياع الحقّ وعدم معرفته وغلق باب العلم به فإنّها لا تكون جائزة، وأمّا في غياب هذا المحذور فإنّ التّقيّة تكون مشروعة حتّى في حقّ النّبيّ e([36]).

وعلى هذا الأساس يعتقد الشّيخ بأنّ جميع الموارد التي اتّقى فيها المعصوم قد بيّن الحقّ من جهة أخرى بلا مزيد عليه. قال الشّيخ: "إن الإمام لا يجوز أن يتقي فيما لا يُعلم إلا من جهته، ولا طريق إليه إلا من جهة قوله، وإنَّما تجوز التقية عليه فيما قد بان بالحجج والبيّنات ونصبت عليه الدلالات حتى لا تكون فتياه فيه مزيلة لطريق إصابة الحقِّ وموقفة للشبهة، ثمَّ لا تبقى في شيء إلا ويدلُّ على خروجه منه مخرج التقية: إمَّا بما يصاحب كلامه، أو يتقدّمه، أو يتأخّر عنه، ومن اعتبر جميع ما روي عن أئمتناq -على سبيل التقية- وجده لا يعرى ممَّا ذكرناه"([37]).

3ـ مواطن عامّة يتّقي فيها المعصومg:

في سياق كلامه عمّا يشرّع من التّقيّة للمعصومg، وما حصل منهم فعلاً في موارد التّقيّة من بيان الحقّ بنحوٍ ما، صرّح الشّيخ بالمحالّ التي يتّقي فيها المعصومg والأشخاص الذين يتّقي منهم، فهو إنَّما يتّقي من الأعداء دون الموالين، ومن هو متّهم غير مأمون دون الموثوق به، ومع ذلك إذا كان في مجلس خوف فيجوز أن يكون ما يفتون به مواليهم صادراً على جهة التّقيّة، وفي النّتيجة إّنما يرتفع الشّكّ في أنّ المعصوم قد أفتى على وجه التّقيّة إذا كان المستفتي من الموالين وفي غير مجلس خوف، وأمّا دون ذلك، كما إذا كان المستفتي عدوّاً لهم أو متَّهماً أو كان المجلس مجلس خوفٍ فإنّ احتمال التقية يرتفع([38]).

ثانياً: موقعيّة الحمل على التّقيّة بين سائر المرجِّحات

قدّم الشّيخ منهجيّته الخاصّة في معالجة الرّوايات والتّرجيح بينها في ثلاثة مواقع من مصنّفاته، في مقدّمة تهذيب الأحكام ومقدّمة الاستبصار، وفي كتابه الأصوليّ "العدة في أصول الفقه"، وليس المقام التّفصيل في منهجيّته، بل ما يهمّ هنا هو بيان موقعيّة التّرجيح بحمل الرّواية على التّقيّة من بين سائر المرجّحات في نظر الشّيخ، وبالدّقّة بيان الحالة التي يجب أن تحمل فيها الرّواية على التّقيّة عند وجود أو عدم بقيّة المرجّحات التي نصّ عليها الشّيخ.

وفي الواقع لا يوجد ضمن النّصوص الثّلاثة ذكر خاص لحمل الرّواية على التّقيّة حين التّعارض مع بقيّة الرّوايات سوى ما أورده من حمل خبر الواحد -ولو من دون تعارض- على التّقيّة أو غيرها من الوجوه([39]) إذا كان هناك قرينة تدلُّ على العمل بخلاف ما يتضمّنه الخبر من كتاب أو سنّة مقطوع بها أو إجماع من الفرقة المحقّة، ولا يصحّ والحال هذه –أي وجود قرينة على العمل بخلاف خبر الواحد- أن نقطع ببطلان الخبر في نفسه وعدم صدوره، وإنّما يجب الامتناع من العمل به فقط([40]).

لكنّ هذا المورد لا يصحّ أن ندخله في بحث المرجّحات، بل يمكن القول فيه أنّه من ضمن عوامل التّمييز بين الحجّة واللاحجّة؛ لأنّ الشّيخ لم يفرض وقوع حالة تعارضٍ بين الرّوايات وثمّ اختار أن يرجّح خبرا على آخر، بل فرض خبر واحد مجرّدا عن المعارض وعليه قرينة على الخلاف، ونحن في هذه النّقطة إنّما نبحث عن موقعيّة حمل الرّواية على التّقيّة بوصفها مرجّحاً لا مميّزاً.

نعم، ما يمكن أن نستفيد منه في المقام هو ما ذكره من كيفيّة إجراء المرجّحات حين تعارض الأخبار في كتابه "العدّة"، حيث أورد عدداً من المرجّحات ومايز بينها وقدّمها بطريقة تُشعِر بتقدّم أحدها على الآخر، فأوّل ما ذكره هو موافقة الكتاب أو السّنّة القطعيّة أو إجماع الفرقة المحقّة، وثمّ عقّبه بقوله: "فإن لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك"، وأورد مرجّحاً يستند إلى حال الرّواة، وعبّر بعد ذلك بقوله: "فإن كان رواتهما جميعاً عدلين" وأورد مرجّحاً على أساس كثرة الرّواة، ثمَّ قال: "فإنْ كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة"، وذكر التَّرجيح من خلال البعد والقرب من قول العامّة([41]).

في هذه الفقرة لم ينصَّ الشّيخ على حمل الرّواية على التّقيّة، ولكنَّه أشار إلى التّرجيح على أساس مخالفة العامَّة، وسيأتي ضمن النّقطة القادمة بيان ما يظهر من الشّيخ في كتاب الاستبصار أنَّ مخالفة العامّة ليست شيئاً خارجاً عن حمل الرّواية على التّقيّة، بل هي تطبيق من تطبيقاتها.

وما يهمُّ في كلامه هو اعتباره تأخُّر هذا المرجّح عن بقية المرجّحات الصّدوريّة، وعدم المصير إليه في حال سبقته تلك المرجّحات كعدالة الرّاوي وكثرة من نقل الخبر؛ وذلك بسبب تعبيرِه بين كلِّ مرجّح وآخر بـ"فإن لم يكن" الظّاهر في أخذ التّرتيب قيداً في إجراء المرجّح التّالي ذكره.

وقد يعبّر عن هذه الشّرطيّة بشرطيّة "التّكافؤ"([42]) بين الأخبار المتعارضة التي هي مورد للقبول عند كثير من العلماء([43]).

ثالثاً: كلّيّات منتزعة من كتاب الاستبصار

الأمر الأوَّل: مبرّرات لحمل الرّواية على التّقيّة

دأب الشّيخ بشكلٍ واضح في كتاب الاستبصار على ذكر السّبب الذي يدعوه لحمل الرّواية على التّقيّة أو احتمال ذلك على الأقل، وهي أسباب يُمكن اعتبارها ذات اقتضاء في الكشف عن اتّقاء المعصومg في نظر الشّيخ، ليس بالضّرورة اقتضاء تاماً في جميعها، ولكنّها على الأقل لها درجة مقبولة من الكاشفيّة يجد فيها الشّيخ مُبرّراً معرفيّاً يصحّ الاعتماد عليه في مقام حمل الرّوايات على التّقيّة.

الأسباب التي ذكرها في الكتاب ووقف عليها الباحث هي كالتّالي:

1ـ موافقة مذهب العامّة:

استند الشّيخ في أغلب الموارد التي حملها على التّقيّة إلى كون مضمون الرّواية موافقاً لمذهب العامّة وفتاواهم، وكان هذا العامل بالنّسبة إليه عاملاً محورياً في الكشف عن مواطن اتّقاء المعصومg. ولم يكتفِ بكون الرّواية موافقة لجميع مذاهب العامّة فقط، بل اعتبر موافقتها لبعض مذاهب العامّة أو حتّى بعض فقهائهم سبباً لإسقاط المراد الجدّي من الرّواية وصرف جهتها نحو التّقيّة، ولذا جاءت تعبيراته عن هذا السّبب في الكتاب بأشكالٍ متنوّعة، مثل: "مذهب أكثر العامَّة"، "مذاهب كثير من أهل العامَّة"، "مذاهب بعضِ العامَّة"، "مذهب العامَّة"، "مذاهب جميع العامَّة"، "قول بعض الفقهاء"، "مذهب من خالفنا". قال الشّيخ:

- "نَحْمِلَهُ عَلَى التَّقِيَّةِ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ جَمِيعِ الْعَامَّةِ، ومَا هَذَا حُكْمُهُ تَجُوزُ التَّقِيَّةُ فِيه‏"([44]).

- "نَحْمِلَهُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعَامَّة"([45]).

- "فَالْوَجْهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ التَّقِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ الْعَامَّة"([46]).

- "يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعَامَّة"([47]).

- "قَدْ وَرَدَ مَوْرِدَ التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْآبَارِ والْغُدْرَانِ فِي قِلَّتِهَا وكَثْرَتِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ وَرَدَ مُوَافِقاً لَهُم‏"([48]).

2ـ إجماع العامّة على تغليطهم فتوىً ما:

في هذا السّبب نجد العامّة يتّفقون على خطأ فتوى ما ولا يقبلونها بشكلٍ إجماعيّ، سواء كانوا هم فيما بينهم متّفقين على فتوى على خلافها أم كانوا مختلفين أيضاً، ومثل هذه الحالة في نظر الشّيخ تعطي المبرِّر لاتّقاء المعصومg وإفتائه على غير الواقع في حال كان الواقع هو نفس الفتوى التي لا يقبلها العامَّة. هذا السّبب يُصحّح اتّقاء المعصومg ولكن لا يشترط أن يكون القول والفتوى التي اتّقى بها المعصومg موافقة لمذاهب العامّة، وهذا هو الفرق بين هذا السّبب والذي سبقه. قال الشّيخ:

- "فَهَذَا الْخَبَرُ يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولاً عَلَى التَّقِيَّةِ لِأَنَّ مَا أَفْتَى بِهِg فِي الْأَخْبَارِ الْأَوَّلَةِ لَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَامَّةِ ومَا هَذَا حُكْمُهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَّقِيَ فِيه‏"([49]).

- "نَحْمِلَهُمَا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَامَّةِ يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ ويَدَّعُونَ أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةُ إِجْمَاعٍ ومَا هَذَا حُكْمُهُ تَجْرِي فِيهِ التَّقِيَّة"([50]).

3ـ ضعف الرّاوي:

علّل الشّيخ حمل رواية واحدة على التّقيّة من جميع الرّوايات في هذا الباب بسبب كون الرّاوي ضعيفا متروك الحديث، ولم يبيّن الوجه في كون ضعف الرّاوي مستلزماً لاتّقاء المعصوم. قال الشّيخ: "هَذَا الْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقِيَّةِ لِأَنَّ رَاوِيَهُ وَهْبُ بْنُ وَهْبٍ وهُوَ عَامِّيٌّ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِه‏"([51]).

وربّما يكون السّبب في حمل هذه الرّواية على التّقيّة ليس ضعف الرّاوي، وإنّما مذهبه، كما يظهر من قول الشّيخ عنه بأنه عامّي.

4ـ مذهب الرّاوي:

من الأسباب التي يجدها الشّيخ تؤدّي إلى حمل الرّواية على التّقيّة هو مذهب الرّاوي، ويظهر من الشّيخ أنَّه يبيّن هذا السّبب على وجهين:

الوجه الأوّل: هو ملاحظة المعصومg لمذهب السّائل وهواه فيتّقيه ويفتيه على طبق ما يذهب إليه هو لا على طبق الواقع. وسيأتي في النّقطة التّالية من بيان طرائق اتّقاء المعصومg توضيحٌ أكثر لموقف الشّيخ من إفتاء المعصومg للرّاوي على طبق مذهبه. قال الشّيخ: "نَحْمِلَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ الْعَامَّةِ ولِأَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفَتْ كَاخْتِلَافِ الْعَامَّةِ فِي أَكْثَرِ أَيَّامِ النِّفَاسِ فَكَأَنَّهُمْ أَفْتَوْا كُلّاً مِنْهُمْ بِمَذْهَبِهِ الذي يَعْتَقِدُه‏"([52]).

والوجه الثّاني: هو ملاحظة نفس الطّريق بغضّ النّظر عن القول بأنَّ المعصومg قد أفتاهم على طبق مذهبهم أم لا، بأن يكون رواة الرّواية من العامّة أو غير مذهب الإماميّة، ولم يبيّن الشّيخ العلاقة بين كون الرّواة من العامّة وحمل الرّواية على التّقيّة. قال الشّيخ: "الْوَجْهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى التَّقِيَّةِ لِأَنَّهُ رَوَاهُ رِجَالُ الْعَامَّةِ حَسَبَ مَا يَعْتَقِدُونَهُ ويَرْوُونَهُ عَنِ النَّبِي‏"([53])، وقال في موضع آخر: "هَذَا خَبَرٌ مُوَافِقٌ لِلْعَامَّةِ وقَدْ وَرَدَ مَوْرِدَ التَّقِيَّةِ .. بَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّ رُوَاةَ هَذَا الْخَبَرِ كُلَّهُمْ عَامَّةٌ ورِجَالُ الزَّيْدِيَّة"([54]).

5ـ منافاة ظاهر القرآن:

يظهر من الشّيخ في بعض الموارد التي حملها على التّقيّة أنّه يعتبر مخالفة الرّواية لظاهر القرآن قرينة على صدور الرّواية على جهة التّقيّة. قال الشّيخ: "فَأَمَّا مَا رَوَاهُ .. فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَذَاهِبِ الْعَامَّةِ ومُنَافٍ لِظَاهِرِ الْقُرْآن‏"([55]).

6ـ كون الرّواية المُقابلة موافقة لظاهر القرآن:

إذا تعارضت الرّوايات وكانت الطّائفة الأولى موافقة لظاهر القرآن، والأخرى ليست كذلك وليس بالضّرورة أن تكون مخالفة للقرآن أيضاً، يكون ذلك قرينة مُبرِّرة لحمل الطّائفة الثّانية على التّقيّة. قال الشّيخ: "فَالْوَجْهُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِمَذَاهِبَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعَامَّةِ، وإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْأَوَّلَةَ مُطَابِقَةٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآن‏"([56]).

7ـ مخالفة إجماع الإماميّة والقطعيّ من مذهبهم:

يعتبر الشّيخ مخالفة الرّواية للقطعيّات من مذهب الإماميّة وما أجمعوا عليه علامة على كون الرّواية صادرة على وجه التّقيّة. قال الشّيخ: "وَ أَمَّا مَا رَوَاهُ .. فَالْوَجْهُ مَا قُلْنَاهُ مِنَ التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْفِرْقَةِ الْمُحِقَّة"([57])، وقال أيضاً: "الْوَجْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الْمَذْهَب‏"([58]).

8ـ إجماع الإماميّة على ترك العمل بمضمون الرّواية:

يشبه هذا السّبب ما ذكرناه آنفا من "إجماع العامة على تغليطهم فتوى ما"، ولكنّه هنا في الطّرف الإماميّ، أي أنّ الإماميّة يُجمعون على بطلان قول ما حتّى ولو اختلفوا في الفتوى فيما بينهم، فإذا جاءت الرّواية على خلاف إجماعهم برّر ذلك الحمل على التّقيّة. قال الشّيخ: "فَأَمَّا مَا رَوَاهُ.. ومَا أَشْبَهَ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مِمَّا يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّقِيَّةِ لِإِجْمَاعِ الطَّائِفَةِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا"([59]).

9ـ دلالة رواية أخرى على كون ذلك من التّقيّة:

يستفيد الشّيخ من مجموع الرّوايات الموجودة بين يديه لمعايرة الرّوايات بعضها من خلال بعض، حيث نجد المعصومg في موقع يقول قولا أو يفعل فعلا ومن ثمّ في رواية أخرى يكشف عن وجه ذلك القول والفعل بنحو تفصيليّ أكثر أو يقدّم تبريراً في حال كان قوله أو فعله مخالفاً للواقع، ككونِه صادراً على وجه التّقيَّة أو غيره من الوجوه. وعلى أساس ذلك نجد الشّيخ يُجري الكثير من عمليّات الجمع الدّلاليّ والتّرجيح من خلال دلالة روايات أخرى، ومن ذلك الكشف عن اتَّقاء المعصومg في حكم ما. 

قال الشّيخ: "الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْخَبَرِ الْأَوَّلِ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّقِيَّةِ أَوْ حَمْلِهِ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ والذي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَخْرَجَهُ مَخْرَجُ التَّقِيَّةِ مَا رَوَاه‏.."([60]).

10ـ موافقة سنّة من تقدَّم على أمير المؤمنينg:

في حال كان مضمونُ الرّواية موافقاً لما سنَّه من تقدَّم على أمير المؤمنينg في خلافة المسلمين وفي قبال ذلك رواية لا توافق هذه السّنّة، يقدّم الشّيخ الرّواية الثّانية ويحمل الأولى على التّقيّة خصوصّاً إذا كانت السّنّة المسنونة مخالفة لسنّة النّبيّe. قال الشّيخ: "الْوَجْهُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ ومَا جَرَى مَجْرَاهَا أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ، ووَجْهُ التَّقِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ جَارِيَةً فِي إِخْرَاجِ الْفِطْرَةِ بِصَاعٍ عَنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ وبَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ جُعِلَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ بِإِزَاءِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وتَابَعَهُمُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، فَخَرَجَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ وِفَاقاً لَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّقِيَّة"([61]).

وقالU في مورد آخر: "الْوَجْهَ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنْ نَحْمِلَهُمَا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ قَضَى بِهَا أَبُو بَكْرٍ فِي خِلَافَتِهِ"([62]).

11ـ فعل السّلاطين:

لا يكتفي الشّيخ بملاحقة أقوال العامّة لتقييم وجه الرّواية، بل يضمّ إلى عمليّته الاستقصائيّة معرفة أفعال السّلاطين وآراءهم، ويعتبرها سبباً لحمل الرّواية على التّقيّة في حال التّعارض وموافقة مضمون إحدى الطّائفتين لفعل السّلاطين وآرائهم. قال الشّيخ:

"الْوَجْهُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى التَّقِيَّةِ التي قَدَّمْنَاهَا لِأَنَّ سَلَاطِينَ الْوَقْتِ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ"([63]).

12ـ لزوم تكذيب الأخبار الأخرى في الباب:

حينما يجد الشَّيخُ خبراً أو مجموعة من الأخبار قطعيَّة الدّلالة بالنّسبة إليه ولا يمكن تأويلَها والجمع بينها وبين الرِّوايات المقابلة لها، فإنَّه يعتبرُ ذلك مبرِّراً لحمل الرّوايات المعارِضة على التّقيَّة؛ حتَّى لا تتناقض الأخبارُ ويؤدّي لتكذيب بعضها البعض. قال الشّيخ: "فَالْوَجْهُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَعَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا وتَضَادِّ مَعَانِيهَا أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِمَذْهَبِ الْعَامَّةِ، ولَوْ لَمْ نَحْمِلْ هَذِهِ الْأَخْبَارَ عَلَى مَا قُلْنَا لَاحْتَجْنَا أَنْ نَحْذِفَ الْأَخْبَارَ التي..، ولَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَعْمَلَ بِهَا عَلَى وَجْهٍ، وذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى حَال‏"([64]).

الأمر الثَّاني: أساليب اتّقاء المعصومg

بملاحظة الموارد التي حملها الشّيخ على التّقيّة، نجده في بعض الأحيان يبيِّن وجوه اتّقاء المعصومg وكيفيّة ممارسته للتّقية في الرّواية، وهي وجوهٌ يُمكن أن تشكّل عاملاً يساهم في الكشف عن مواطن تقيّة المعصومg ودافعاً لما قد يشعر به القارئ من استهجان في كثرة حمل الرّوايات على التّقيّة.

الأساليب التي ذكرها في الكتاب ووقف عليها الباحث هي كالتّالي:

1ـ إيتاء الفتوى على طبق قول المُتّقى منه:

أوّل الأساليب وأبرزها وما يُمكن توقّعه بسهولة عند المعصومg –وبالنّسبة لغيره ممّن يمارس التّقيّة في القول- هو ذكر الفتوى مطابقةً لمذهب المُتّقى منه، بل إنّ الشّيخ يرى بعض الرّوايات التي اختلفت مضامينها إنّما كانت بسبب اختلاف المذاهب المُتّقى منها، ولهذا يتّقي الإمامg كلّاً على حسب مذهبه. قال الشّيخ:

"نَحْمِلَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ لِأَنَّهَا مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ الْعَامَّةِ ولِأَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفَتْ كَاخْتِلَافِ الْعَامَّةِ فِي أَكْثَرِ أَيَّامِ النِّفَاسِ فَكَأَنَّهُمْ أَفْتَوْا كُلّاً مِنْهُمْ بِمَذْهَبِهِ الذي يَعْتَقِدُه"([65])

2ـ إيتاء الفتوى على طبق قول لم يقل به أحد:

نصَّ الشَّيخ في موردٍ واحدٍ على الأقل بأنَّ القولَ الذي اتّقى به المعصومg لم يقل به أحد، ورغم ذلك حمله على التّقيّة. قال الشّيخ: "الْوَجْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِمَذَاهِبِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَامَّةِ، مَعَ أَنَّ مَضْمُونَ حَدِيثَيْنِ مِنْهَا التَّخْيِيرُ، ولَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَباً لِأَحَد"([66]).

في هذا المورد حمل الشّيخ عدداً من الرّوايات على التّقيّة، وكان من بينها روايتان تتضمّنان حكماً بالتّخيير للمكلّف، وهذا القول لم يقل به أحد لا من الإماميّة ولا من غيرهم، ورغم ذلك لم يكن هذا مانعاً من أن يشملها الشّيخ بالحمل على التّقيّة.

3ـ إيتاء الفتوى حكاية عن مقالة المُتّقى منه:

حمل الشّيخ بعض الرّوايات على التّقيّة، وبيَّن فيها أنَّ المعصومg إنَّما قال بهذه المقالة من باب الحكاية عن المُتّقى منهم، فهو في مقام النّقل والحكاية لا في مقام الافتاء والتّبنّي. قال الشّيخ: "الْوَجْهَ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنْ نَحْمِلَهُمَا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ قَضَى بِهَا أَبُو بَكْرٍ فِي خِلَافَتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَوَى ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ عَنْهُ دُونَ مُرِّ الْحَق‏"([67]).

4ـ التّورية في بيان الفتوى:

في هذا الأسلوب يعطي المعصومg الحكم في قالبٍ لفظيّ يحتمل أكثر من وجه بحيث يفهم منه المُتّقى منه ما يوافق قوله، ويلتفت الإماميّ للمراد الحقيقيّ منه. قال الشّيخ: "فَأَمَّا مَا رَوَاهُ.. فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَخْبَارِ .. وإِنَّمَا لَمْ يُصَرِّحْg بِذَلِكَ لِلسَّائِلِ لِضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ، وقَالَ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْه‏"([68]).

5ـ عدول المعصوم عن الجواب على السّؤال

من الأساليب التي أشار إليها الشّيخ في اتّقاء المعصومg هو عدم جوابه على سؤال السّائل بدلاً من أن يجيبه على أساس قول المُتّقى منه. قال الشّيخ: "فَالْوَجْهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ ضَرْبٌ مِنَ التَّقِيَّةِ.. وفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: >أَمْسِكْ عَنْ هَذَا<، فَعُلِمَ بِإِمْسَاكِهِ عَنِ الْجَوَابِ أَنَّهُ لِضَرْبٍ مِنَ التَّقِيَّةِ لَمْ يَقُلْ مَا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ، واسْتِعْمَالِ سَلَاطِينِ الْوَقْتِ ذَلِك‏"([69]).

الأمر الثَّالث: موافقة العامّة كاشفٌ عن صدور الرّواية على وجه التّقيّة

كان حضور موافقة العامَّة بوصفها مرجِّحا في كتاب الاستبصار كبيراً جدّاً، وفي أغلب الموارد التي جاء فيها هذا المرجّح استعمله الشّيخ بوصفه كاشفاً عن تقيّة المعصومg، ولم يقدِّمه كمرجّح مجرّد عن حيثيّة الكاشفيّة إلّا في موارد قليلة تصل إلى اثني عشرة رواية فقط ردّها الشّيخ بقوله: إنّها توافق مذهب العامّة من دون أن يحمل الرّواية على التّقيّة، بينما الأوّل -وهو أن يردّ الشّيخ الرّواية بقوله إنّها موافقة لمذاهب العامّة فتحمل على التّقيّة- يتجاوز "220" رواية؛ ممَّا يجعلنا نطمئنُّ بأنَّ الشَّيخ يتعاطى مع أمر المعصوم للرّواة بالتّرجيح على أساس موافقة العامّة بوصفها أمارة على كون الرّواية صادرة على جهة التّقيّة، لا على أنّها أمارة في الكشف عن الرّوايات الموضوعة مثلاً.

وهنا لا بدَّ من الالتفات إلى أنّ الشّيخ ربما يكون لا إشكال لديه في صدور التّراث الذي بين يديه أو هو على درجة عالية جدّاً من الاطمئنان، ولذلك بالنّسبة إليه ينتفي احتمال كون الرّواية موضوعة مثلاً، كما أنَّ طريقته التي ذكرها في التّعاطي مع أخبار الآحاد في كتابه العدَّة تكشف عن روحيّة الشّيخ تجاه مجمل التّراث وموقفه الإيجابي منها على مستوى الصّدور، حيث صرَّح هناك بأنَّه ليس لنا نفي خبر الواحد الذي تكون عليه قرينة على عدم اعتباره بل نسقطه عن الحجّيّة فقط ونتأوّل أيّ وجه من الوجوه في صدور الرّواية كأن يكون لها وجه من التّأويل لا نقف عليه، أو أن تكون خرجت على سببٍ خفي علينا الحال فيه، أو يكون الخبر متناولاً شخصاً بعينه، أو خرج مخرج التّقيّة، وغير ذلك من الوجوه([70]).

نكتفي بهذا المقدار في هذا القسم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في القسم الثاني عرض قراءة تحليلة في تطبيقات الشيخ لحمل الرواية على التقية.

والحمد للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وآلِه الطَّيبين الطَّاهرين.


 


([1])الفراهيديّ، الخليل بن أحمد، العين، ج5، ص238-239.

([2])الرّاغب الأصفهانيّ، الحسين بن محمّد، المفردات في غريب القرآن، ص881.

([3])الزّبيديّ، السّيّد محمّد مرتضى، تاج العروس، ج20، ص304.

([4])ابن سيده، عليّ بن إسماعيل، المحكم والمحيط الأعظم، ج6، ص599.

([5]) المفيد، الشّيخ محمّد بن محمّد بن النّعمان، تصحيح اعتقادات الإماميّة، ص137.

([6]) الشّهيد الأوّل، محمد بن مكّي العامليّ، القواعد والفوائد، ج2، ص255.

([7]) الأنصاريّ، مرتضى، رسالة التّقيّة، ص37.

([8])انظر: السيستاني، السيد محمَّد رضا، بحوث في شرح مناسك الحجّ، ج18، ص504.

([9]) الزهري، محمَّد بن أحمد، تهذيب اللغة، ج5، ص225.

([10]) الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصِّحاح، ج6، ص2364.

([11]) الطُّريحي، فخر الدِّين، مجمع البحرين، ج2، ص256.

([12]) انظر: الفضليّ، عبدالهادي، أصول الحديث، ص33-34.

([13]) الحلّيّ، الحسن بن المطهّر، خلاصة الأقوال، ص249.

([14]) الطّهرانيّ، الشيخ آغا بزرك، مقدّمة كتاب النّهاية (حياة الشّيخ الطّوسيّ)، ص8.

([15]) للمزيد انظر: دلبرى، سيد علي، مباني رفع تعارض اخبار از ديدكاه شيخ طوسى در استبصار، الفصل الخامس.

([16]) انظر: المدديّ، السّيّد محمّد كاظم، رؤية حول حمل الرّوايات على التّقيّة عند الشّيخ الطّوسيّ، ترجمة مرقال هاشم، مجلّة نصوص معاصرة.

([17]) انظر: المظفّر، محمّد رضا، أصول الفقه، ج2، ص212.

([18]) انظر: رؤية حول حمل الرّوايات على التّقيّة عند الشّيخ الطّوسيّ.

([19]) الشّريف المرتضى، عليّ بن الحسين علم الهدى، الذّريعة إلى أصول الشّريعة، ج2، ص554-555. وانظر أيضًا: الشّريف المرتضى، عليّ بن الحسين علم الهدى، رسائل الشّريف المرتضى، ج2، ص31.

([20]) المفيد، محمّد بن محمّد بن النّعمان، جوابات أهل الموصل في العدد والرّؤية، ص47-48.

([21]) انظر: رسائل الشريف المرتضى، ص212.

([22]) انظر: صفرى، نعمت الله، نقش تقيه در استنباط، ص246.

([23]) انظر: نقش تقيه در استنباط، ص247، والمدديّ، محمّد كاظم، تاريخ تطوّر الحمل على التّقيّة في الفقه (التّحوّل من الطّريقيّة إلى الموضوعيّة)، ترجمة حسن علي مطر، مجلّة نصوص معاصرة.

([24])انظر: الطّوسيّ، محمّد بن الحسن، تهذيب الأحكام، المقدّمة.

([25])انظر: الطّوسيّ، محمّد بن الحسن، تلخيص الشّافي، ج3، ص80-81.

([26])الصّدوق، محمّد بن عليّ، من لا يحضره الفقيه، ج1 ص262.

([27])تهذيب الأحكام، ج5، ص486.

([28])تهذيب الأحكام، ج9، ص332.

([29])الكلينيّ، محمد بن يعقوب، الكافي، ج3، ص339.

([30])تهذيب الأحكام، ج8، ص98.

([31])الكافي، ج1، ص65.

([32])تلخيص الشّافي، ج2، ص59.

([33])الطوسي، محمد بن الحسن، تفسير التبيان، ج2، ص435.

([34])الاستبصار، ج1، ص83.

([35])انظر تلخيص الشافي، ج3، ص80-81.

([36])تلخيص الشافي، ج3، ص87.

([37])نفس المصدر، ج3، ص89.

([38])انظر: تلخيص الشّافي، ج3، ص89.

([39])ذكر الشّيخ بعض الوجوه الّتي يمكن أن تصحّح صدور خبر الواحد ومع ذلك لم تعمل الطّائفة على متضمّنه، مثل: أن يكون له وجه من التّأويل لا نقف عليه، أو أن يكون خرج على سبب خفيّ علينا الحال فيه، أو يكون الخبر متناولا شخصا بعينه، أو خرج مخرج التّقيّة، وغير ذلك من الوجوه. "انظر: الطّوسيّ، محمّد بن الحسن، العدّة في أصول الفقه، ج1، ص146-147"

([40])العدَّة في أصول الفقه، ج1، ص145-146.

([41])المصدر السابق، ج1، ص375-377.

([42])انظر: صفرى، نعمت الله، نقش تقيه در استنباط، ص350.

([43])انظر: المصدر السابق، ص356-357.

([44])الطوسي، محمد بن الحسن، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، ج4، ص249-250.

([45])الاستبصار، ج1، ص103.

([46])الاستبصار، ج1، ص396.

([47])الاستبصار، ج1، ص65.

([48])الاستبصار، ج1، ص35.

([49])الاستبصار، ج3، ص60.

([50])الاستبصار، ج3، ص220.

([51]) الاستبصار، ج1، ص51.

([52])الاستبصار، ج1، ص169-170.

([53])الاستبصار، ج4، ص91.

([54])الاستبصار، ج1، ص71.

([55])الاستبصار، ج1، ص69.

([56])الاستبصار، ج1، ص212.

([57])الاستبصار، ج4، ص197.

([58])الاستبصار، ج1، ص210.

([59])الاستبصار، ج1، ص354.

([60])الاستبصار، ج3، ص33.

([61])الاستبصار، ج2، ص60.

([62])الاستبصار، ج4، ص204.

([63])الاستبصار، ج4، ص87.

([64])الاستبصار، ج3، ص384-385.

([65])الاستبصار، ج1، ص169-170.

([66])الاستبصار، ج1، ص402.

([67])الاستبصار، ج4، ص203.

([68])الاستبصار، ج3، ص355.

([69])الاستبصار، ج3، ص309.

([70])انظر: العدّة في أصول الفقه، ج1، ص146-147.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا