حمل الرّواية على التقيَّة عند الشَّيخ الطّوسيّ في الاستبصار (القسم الثَّاني)

حمل الرّواية على التقيَّة عند الشَّيخ الطّوسيّ في الاستبصار (القسم الثَّاني)

الملخَّص

تعرَّض الكاتب في هذا القسم(الثاني) إلى التطبيقات التي ذكرها الشيخ الشيخ الطوسي في الاستبصار حول الروايات المحولة على التقية، في قراءة استقرائية مستوعبة، فذكر أولاً التعبيرات التي استخدمها الشيخ والأئمةi المنقول عنهم تلك الروايات وعددها في كل باب فقهي، ثمَّ حاول تحليل تلك الاحصائيات في ستَّة أمور، وفي النَّقطة الثَّالثة حاول نقد بعض الأمور المستنتجة من طريقة الشيخ ومنهجه في الحمل على التَّقيَّة. 

 

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، اللهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد..

تعرَّضنا في القسم الأوَّل([1]) من البحث إلى طريقة الشَّيخ الطُّوسي في كتابه الاستبصار حول حمل الروايات على التقيَّة، فذكرنا نبذة تاريخية عن المسألة، ثمَّ ذكرنا ما يتعلَّق بنظريَّة الشَّيخ الطُّوسيS حول ذلك، والمبرِّرات لكثرة ما ورد في الاستبصار، بالإضافة إلى الشروط التي تستفاد من كلماته وموقعية الحمل على التقية بين بقيَّة المرجحات، والموارد التي تحمل فيها الرواية على التقية، وأساليب المعصومg في ذلك.

وفي هذا القسم سوف نتعرَّض إن شاء الله إلى قراءة تحليليَّة للموارد التي طبَّق فيها الشَّيخ الحمل على التقيَّة، وعرض إحصائيات حول ذلك وبعض الملاحظات. 

المبحث الثَّالث: قراءة تحليليَّة في تطبيقات الشَّيخ لحملِ الرِّواية على التقيَّة

وفيه ثلاث نقاط:

النُّقطة الأولى: في عرض الإحصائيات

اعتمدت هذه الدِّراسة المختصرة في استقصاء الموارد التطبيقية التي أعملَ فيها الشَّيخ مرجِّح الحمل على التقية في كتاب (الاستبصار فيما اختلف من الأخبار)، وهو مسرح مثالي لمثل هذه الدِّراسة باعتبار أنّه كتاب قد خصَّصه مؤلّفه لبيان الرِّوايات المتعارضة وطرق حلِّ الإشكال الواقع بينها. ومن خلال سبْر هذه الموارد المتعارضة قام الباحث برصد وتسجيل الرِّوايات المحمولة على التقيَّة من وجهة نظر الشَّيخ مع تسجيل بعض المعلومات المتعلِّقة بها.

وقد كانت النَّتيجة كالتَّالي:

* روايات التقية: 

الرقم

نوع الحمل على التقية أو الجزم بها

العدد

١

الروايات المحمولة على التقية

٢٨٥

٢

الروايات التي جزم فيها بالتقية

١٤٠

                                * من دون وجه للترجيح أو الجمع

٩٨

                                * قدَّم وجهاً فيها آخر –ولو على نحو التنزّل- للترجيح أو الجمع

٤٢

٣

الروايات التي احتمل فيها التقية

١٤٥

* الروايات من حيث القوة والضعف سندا:

الرقم

الاعتبار والضعف

العدد

١

الرويات المعتبرة سندا

١٥٩

                                * صحيحة

١٣٠

                                * موثقة

١٢٩

٢

الروايات الضعيفة سندا

١٢٦

* كيفية تلقي الراوي الأول:

الرقم

كيفية التلقي

العدد

١

مشافهة

١٢٢

٢

سماعا

٢٤

٣

مكاتبة

٩

٤

بصرا (قرأها من كتاب بيد المعصوم)

١

٥

غير معلومة الكيفية

١٥٣

* الرِّوايات التي جاءت في مصادر حديثيّة أخرى:

الرقم

المصدر الحديثيّ

العدد

١

ذكرت في كتاب تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي

٢٨٥

٢

ذكرت في الكافي لثقة الإسلام الكليني

٤٢

٣

ذكرت في من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق

٢٨

* الرِّوايات المحمولة على التقية بملاك مخالفة العامَّة، وفق الترتيب التالي:

الرقم

التعبير

العدد

١

جميع الروايات

٢٢١

٢

مذهب العامّة

٨٧

٣

مذهب أكثر العامّة

١٢

٤

مذهب كثير من العامّة

٣٥

٥

مذهب بعض العامّة

٨٧

* الروايات المحمولة على التقية لأسباب أخرى:

الرقم

السبب

العدد

١

لملاك مخالفة الإجماع والقطعي من المذهب

٤١

٢

لدلالة روايات أخرى

٥٠

٣

لموافقتها لقول من تقدّم على أمير المؤمنينg

١٤

٤

لملاك مخالفة أو موافقة ظاهر القرآن

١٠

٥

لملاك الضعف السندي

٤

٦

لموافقتها لفعل السلاطين

٤

* تفصيل الرِّوايات بحسب المعصوم الذي رُويت عنه الرواية:

الرقم

المعصوم

العدد

١

أمير المؤمنينg

١

٢

السجادg

٤

٣

الباقرg

٤٤

٤

الصادقg

١٨٨

٥

الكاظمg

٥

٦

الرضاg

٢٠

٧

الهاديg

٢

* تفصيل الكتب والأبواب الفقهية التي حُملت فيها الرِّوايات على التقيَّة:

الرَّقم

الكتاب

عدد الرِّوايات

الرِّوايات المتَّقى فيها

عدد الأبواب

الأبواب المتَّقى فيها

١

الطَّهارة

٧٦٢

٥٠

١٢٩

٢٥

٢

الصلاة

١١٠٨

٤٧

١٧٣

١٨

٣

الزَّكاة

197

6

32

4

4

الصوم

253

6

48

3

5

الحجّ

746

6

149

4

6

الجهاد

11

3

3

1

7

الدُّيون

٢٢

٠

٥

٠

٨

الشَّهادات

٩٦

١٢

١٣

٣

٩

القضايا والأحكام

٢٦

١

٤

١

١٠

المكاسب

٧٥

٠

١٠

٠

١١

البيوع

٢٥٤

٥

٤٧

٢

١٢

النِّكاح

٤١٧

٢٢

٦٦

١٣

١٣

الطَّلاق

٤٣٧

٣٢

٦٦

٨

١٤

العتق

١٢٨

٠

٢١

٠

١٥

الأيمان والنُّذور والكفَّارات

٦٨

٢

١٦

٢

١٦

الصَّيد والذِّباحة

١٤٤

٢١

١٨

٧

١٧

الأطعمة والأشربة

٣٢

٠

٥

٠

١٨

الوقوف والصَّدقات

٤٨

١

٧

١

١٩

الوصايا

١٠٥

٣

٢٠

٣

٢٠

الفرائض

٢٢٣

٣٣

٢٩

١٧

٢١

الحدود

٢١٩

٢٦

٣٤

٨

٢٢

الدِّيات

١٥٤

١٠

٢٩

٥

 

النُّقطة الثَّانية: في تحليل المعطيات([2])

بناء على المعطيات المتقدِّم ذكرُها يمكننا أن نجدَ نمطاً بين الرِّوايات المحمولة على التقيَّة يُتيح لنا القيام بعملية تحليل لها واستخلاص بعض النتائج، ليس بالضرورة أن تكون هذه النتائج يقينيّة، ولكنَّها على الأقل تكتسب مستوى من الظنِّ أو الاطمئنان الذي يمكن الاستناد إليه في مثل هذه الدراسات القائمة على عملية تجميع القرائن والكشف عن ما وراء السُّطور، مع ملاحظة أنَّ الباحث قد سلّط الضوء على ما يراه مهمّاً من هذه النتائج ودخيلا في عنوان البحث، وإلّا فإنَّ للآخرين أن يستفيدوا من المعطيات المجمَّعة للوصول إلى نتائج أخرى تندرج تحت عناوين أخرى.

كثرة اتقاء المعصومg

أوّل ما يُلتفت إليه في هذه المعطيات حضور التقيَّة بقوَّة في حياة المعصومين i، خصوصا عند الإمام الصادق g إذ كان لرواياته النصيب الأكبر من الحمل على التقيَّة، بحيث وصلت إلى "188" رواية من أصل "285" رواية، وهو بالتأكيد ليس عدداً قليلاً.

وفي الواقع نحن إذا ما جرَّدنا التراث الفقهي الإمامي سنجد أنّه يبدأ فعليّا مع الإمام الباقرg، ويبلغ أوجه مع الإمام الصادق g، ثمّ يبدأ بالانخفاض مع الإمام الكاظم g، ثمَّ ينتعش جزئياً مع الإمام الرضا "ع"، ثمَّ يشهد انخفاضاً شديداً مجدّداً مع بقيّة المعصومينi، ولذلك أسبابه الموضوعيّة المتّصلة بالواقع السياسي والاجتماعي الذي كان يعيشه كلُّ معصوم.

على أساس ذلك يمكننا أن نربط بين التراث الروائي المنقول عن كلِّ معصوم، وبين ما رصده الشَّيخ من روايات اتقّى فيها المعصومg، وسنجد تناسباً طردياً بحيث كلّ ما زاد عدد الرِّوايات زاد بتبعه عدد الرِّوايات المُتّقى فيها.

وفي حال صحّت هذه النسبة من الرِّوايات  التي حملها الشَّيخ على التقيَّة، فإنَّها ستكشف عن نتيجة في غاية الأهميّة، وهي أنَّ التقيَّة لم تغادر حياة المعصومg –على الأقل المعصوم الذي أخذ منه التراث الفقهي- رغم حصول التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة، وعليه نستطيع أن نقول أنَّ دور هذه التحوّلات إنّما كان على مستوى إعطاء الفسحة في التحديث وكثرة الرواية، وهذا لم يلزم منه تخفيف القيود التي توجب التقيَّة على المعصومg.

إشكاليّة كثرة الرِّوايات المُتّقى فيها ستتعزِّز أكثر إذا عقدنا مقارنة أخرى على أساس الأبواب الفقهيّة، فلا نكتفي بملاحظة عدد الرِّوايات المحمولة على التقيَّة بالنسبة إلى بقيّة الرِّوايات فحسب، بل يجب أن ننظر أيضاً إلى عدد الأبواب التي وقعت فيها التقيَّة بالنسبة إلى كلِّ أبواب الكتب الفقهيّة، إذ إنَّ الشَّيخ في كتابه قد جزَّء كبريات المسائل المرتبطة بكلِّ كتاب ضمن أبواب تحكي عن فتاوى لمسائل جزئية، فإذا ما أجرينا هذه المقارنة سنجد أنَّ المعصومo قد اتقّى في "125" باباً من أصل "930" باباً، بما يمثِّل نسبة "13.44%". وهي نسبة أعلى من نسبة الرِّوايات المحمولة على التقيَّة بالنسبة لكلِّ روايات الكتاب، حيث وصلت إلى "5.17%".

كيفيّة تلقّي الرِّواية عن المعصومg غير شفيعة في صرفها عن التقيَّة

حينما يتلقَّى الراوي جواب مسألته من المعصومg أو يتلقّى مطلق حديثه من خلال الكتابة والسماع، فإنّه لن يكون من المستغرب اتقّاء المعصومg في الرواية حتى وإن كان الراوي من الشيعة وخلّص الأصحاب؛ وذلك لأنَّا نتصوّر عنصراً ثالثاً في المشهد قد يكون المعصومg اتقّى منه هو، ويتأكّد هذا الأمر في الرِّوايات التي يصرّح فيها الراوي بأنّه قد سمع المعصوم يجيب مسألة شخص أو يكلّم شخصاً، ممَّا يكشف عن أنّ جوّ هذه الراوية لم يكن خاصّاً بين المعصومg وأصحابه، بل كان جوّاً مفتوحاً وعامّاً قد يدخل فيه بينهم من يُتقّى منه.

سيكون من العقلائي جداً أنّ احتمال التقيَّة سينخفض إذا كان التلقّي للرواية بشكل مباشر وشفهي، وقصرنا الحديث على المعصومg والراوي الشيعي، ولم تكن هناك قرينة في الرواية على أنّها كانت صادرة في مجلس عامّ وفضاء مفتوح.

لكنّا إذا لاحظنا الرِّوايات المحمولة على التقيَّة، وجدنا أنّ كثيراً منها كان التلقّي فيها مشافهة بين الراوي والمعصوم، وليس هناك ما يدلّ على وجود شخص ثالث، ممَّا يعني أنّه كان من المفترض أن يصبح ذلك عاملاً مساهماً في خفض احتمال التقيَّة، رغم ذلك اتقّى فيها المعصومg؛ ممَّا يجعلنا نقلّل من قيمة هذا العامل في مستوى كاشفيته عن عدم اتقّاء المعصوم، بل من الواضح أنَّ الشَّيخ لم يعطِ أي أهميّة تذكر لملاحظة كيفيّة التلقّي، لدرجة أنّه قد حمل رواية على التقيَّة مع أنّ راويها هو زرارة بن أعين، وقد صرّح فيها بأنّ هذا الحكم قد قرأه من كتاب أراه إياه نفس المعصومg([3]).

القوّة السنديّة غير شفيعة في صرف الرواية عن التقيَّة

في سياق النّقطة السابقة نجد أنّ أكثر من نصف الرِّوايات المحمولة على التقيَّة معتبرة السند، ونصفها تقريبا سندها صحيح، ممَّا يعني أنَّ السلسلة بين الشَّيخ والمعصومg كلّها من الرواة الثقاة الإماميّة ولم يكن بينهم شيعيّ غير إمامي فضلا عن غير الشيعي، بل في كثير من الأحيان تنتهي السلسلة إلى رواة كبار عند الإماميّة كزرارة ومحمّد بن مسلم وعبدالرحمن بن الحجاج؛ ممَّا يعطيها درجة عالية من الوثوق بالصدور، لكنّ ذلك لم يكن مانعا من اتقاء المعصومg فيها، ونحن لو لم يكن بين أيدينا هذا المقدار الكبير من الرِّوايات المحمولة على التقيَّة والتي سندها صحيح، لقلنا أنَّ  درجة احتمال التقيَّة مع مثل هذا السند وهذه النوعيّة من الرواة ستكون أقل بلا شكّ، ولكن والحال هذه سيفقد هذا العامل -كسابقه- مستواه في الكشف عن عدم اتقاء المعصومg.

موافقة العامَّة المعيار الأبرز في الحمل على التقيَّة

من الواضح جدّاً من طريقة الشَّيخ في حمل الرواية على التقيَّة استناده بشكلٍ أساسي على كون مضمونها موافقاً للعامَّة، وكأنَّما يعتقد الشَّيخ بأنَّ الدائرة التي كان يتقّي منها المعصومg تشمل خصوص العامّة، أو على الأقل هم الجزء الأكبر المشكّل لهذه الدائرة.

وإذا ما ألقينا نظرة فاحصة على هذه الرِّوايات وحلّلناها بملاحظة الجزم بالتقيَّة أو احتمالها، وبوجود معيار آخر يبرر الحمل على التقيَّة من عدمه سنحصل على إحصائية أكثر دقَّة، فمثلاً على مستوى كون الرِّواية موافقة لجميع مذاهب العامَّة، نجد أنَّه من بين "87" رواية:

* جزم بالتقيَّة في "40" رواية، منها "24" رواية قد برّر حملها على التقيَّة بمعيار إضافي لمخالفة العامّة، كمخالفة إجماع الإماميّة، ممّا يترك لدينا "16" رواية جزم فيها بالتقيَّة لأنّها موافقة لمذاهب العامّة فقط.

* احتمل التقيَّة في "47" رواية، منها "12" رواية كان معها معيار إضافي لمخالفة العامة.

لم يكتفِ الشيخ بكون مضمون الرواية موافقاً لجميع مذاهب العامّة أو حتى معظمهم فحسب، بل كان من المبرّر بالنسبة إليه حمل الراوية على التقية حتى لو كان مضمونها موافقاً لقول بعض فقهاء العامّة([4])؛ ولذا نجد في الإحصائية المتقدّمة أنّه من بين "221" رواية محمولة على التقيَّة بمعيار موافقة العامّة، هناك "87" رواية توافق مذاهب بعض العامّة، ومن هذه الـ"87" رواية، هناك "21" رواية قد جزم فيها بالتقيَّة فقط لأنَّها موافقة لمذاهب بعض العامّة من دون وجود معيار آخر يرفع من احتمال التقيَّة.

إذاً، ما نستخلصه هنا هو أنَّ معيار مخالفة العامّة مهمّ بالنسبة للشيخ، ولكن لا يبدو أنّ هناك فرقاً بين كون المُخالَف هو جميع العامّة أو بعضهم، بحيث يكون مخالفة مضمون الرواية لجميع مذاهب العامّة ذات كاشفيّة أقوى من عدم اتقاء المعصومg؛ لأنَّا رأينا أنَّه قد جزم بالتقيَّة في "16" رواية مخالفة لجميع مذاهب العامّة، وجزم بالتقيَّة في "21" رواية مخالفة لبعض مذاهب العامّة؛ ممَّا يجعل القسمين على مستوى واحد في الكاشفيّة إذا ما قصرنا نظرنا على خصوص معيار "مخالفة العامّة" ولم ندخل في المعالجة معياراً آخر.

وما يحسن الإشارة إليه هنا، هو أنَّ الشَّيخ في عدد من الموارد كان يُخضِع الرواية للنقد الداخلي أوّلاً بعيداً عن كون مضمونها موافقا للعامّة، ومن ثمّ بعد أن يستقرّ به الأمر على عدم صحَّة هذا المضمون -ولو من أجل التهافت الداخلي في الرواية أو لكونها رواية شاذة في مقابل روايات كثيرة على عكس مضمونها- يحاول أن يوجّه سبب صدور مثل هذه الرواية بقوله أنّها محمولة على التقيَّة؛ لمخالفتها للعامّة أو بعضهم([5]). وهذه المنهجيّة متسقة مع ما ذكره في كتابه (العدّة في أصول الفقه) من أن ردّ الخبر لا يوجب القطع ببطلان صدوره؛ لأنّه لا يمتنع أن يكون صحيحا في نفسه وقد صدر على وجه من الوجوه كأن يكون له تأويل لا نقف عليه، أو خرج مخرج التقيَّة([6]).

ما بين الجزم بالتقية واحتمالها

تنقسم الرِّوايات التي حملها الشَّيخ على التقيَّة إلى نصفين متساويين تقريبا، نصف جزم بوقوع التقية فيه، ونصف احتمل فيه ذلك، والحيثيّة المشتركة بين هذين النصفين هو عدم قبول الشَّيخ للعمل بمضمون الرواية كما هو ظاهر منها، ممَّا يعني أنَّ احتماله للتقيّة في رواية ما، لا يساوق احتماله لصحّة مضمونها أيضا، بل مضمونها مرفوض عنده على كلِّ حال، غاية الأمر أنّه يقدِّم وجهاً آخر لمعالجة الرواية ويسعى لجمعها مع الرِّوايات المقبولة بضروب من التأويل قد لا تساعد عليه قواعد الظهور العرفي، فإن جاء من يناقش في هذا التَّأويل ولم يقبله، كان للشيخ أن يتمسَّك بالاحتمال الآخر وهو التقيَّة([7]).

كان من المفترض أنَّ احتمال الشَّيخ للتقيّة في نصف الموارد سيجعلنا نقول: بأنَّ نسبة اعتماد الشَّيخ على هذا المرجّح ليست كبيرة جداً كما قد يُتصوّر، لكن الالتفات إلى هذه النكتة سيجعل احتمال التقيَّة عنده له اعتباره الذي لا يقلّ عن جزمه إلا بدرجة يسيرة، وبالتالي سيرفع من نسبة اعتماد الشَّيخ على مرجّح الحمل على التقيَّة.

انفراد الشَّيخ بنقله معظم الرِّوايات المحمولة على التقيَّة

معظم الرِّوايات التي حملها الشَّيخ على التقيَّة لا نجد لها أثراً في بقيّة المصادر الروائيّة سوى في كتاب تهذيب الأحكام، وهو من تأليف نفس الشيخ، ولهذا دلالتان مهمتان:

الدّلالة الأولى: تعزيز الفرضيّة القائلة بأنَّ الشَّيخ انفرد عن سابقيه بكثرة حمل الرواية على التقيَّة، ليس لوجود خلاف مبنائي، بل لأنَّ من سبقه كان يجري عمليّة تصفية للروايات أوّلاً، فيخرج الرِّوايات المحمولة على التقيَّة عن حيِّز البحث، ومن ثمَّ يذكر ما بقي في مصنّفه الروائي أو الفقهي، وهذا ما لم يلتزم به الشيخ، فآثر ذكر الرِّوايات الموجودة بين يديه في مصنّفه، وذكر معها وجه ردّها وعدم الأخذ بها([8]).

الدّلالة الثَّانية: التزام الشَّيخ بذلك ساهم في توسيع رقعة التراث الحديثيّ الإمامي، ولولاه لكان من الممكن أن تُفقد هذه الرِّوايات. وجود هذه الرِّوايات في تراث الإماميّة -وإن كان الشَّيخ لا يراها حجّة في مقام العمل والفتوى- على أهميّة كبيرة بالنسبة للفقهاء اللاحقين له، حيث قدَّم بعضهم فهومات جديدة لها، وعالجوها بطريقة مغايرة لطريقة الشيخ، بل ربما قبلوها واستفادوا منها فائدة جديدة([9]).

النُّقطة الثَّالثة: في نقد النتائج

لا شكَّ أنَّ ما قدّمه الشَّيخ في كتاب الاستبصار بشكلٍ عامٍ هو جهد كبير لا توفّي حقَّه الكلمات من طالب صغير، وما أفاده في خصوص حمل الرِّوايات على التقيَّة جهد آخر له قيمته واعتباره أيضا. في هذه النّقطة يسعى الباحث إلى محاولة التأمّل في ما استُخلص من نتائج حتى الآن، ويضع للقارئ ما يظن أنّها نقودات متوجّهة لمنهجية الشَّيخ في حمل الرِّوايات على التقية، ولتطبيقاتها أيضا. وهي نقودات ليس بالضرورة أن تكون صحيحة بشكل تامّ في نفسها، إلّا أنَّ مقتضى البحث العلمي يفرض على الباحث أن يسجّل ملاحظاته التي رصدها، ويترك تقييمها للقرّاء والباحثين.

أولا: نقد عامّ

وفيه عدَّة أمور:

الأمر الأول: عدم الانسجام بين شرائط التقيَّة وحجم الرِّوايات المتقَّى فيها

إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الإطار النظري لحمل الرِّوايات على التقيَّة عند الشيخ، وقارنّا بينه وبين حجم حضور التقيَّة في حياة المعصومg، فسنجد نوعاً من عدم الانسجام بين نفس ما تقتضيه هذه الشرائط وبين النتيجة في كتاب الاستبصار.

الأمر الثاني: شرطيَّة الخوف الشَّديد على النَّفس والمال

إيمان الشَّيخ بأنّ التقيَّة لا تشرّع إلا في حقِّ من كان خائفا بشدّة على خصوص النّفس والمال يجعلنا نتساءل مع هذا العدد من الرِّوايات المُتّقى فيها: هل يُعقل أنّ المعصومg عاش هذا الجوّ القاهر، بحيث كانت مقتضيات التقيَّة من الخوف الشديد على النفس والمال متوفّرة في كلِّ هذه المواطن التي اتّقى فيها؟ وهل ينسجم الخوف الشديد على النّفس والمال في اتّقاء المعصومg من بعض شيعته كما قرَّر ذلك الشَّيخ في كتاب الاستبصار([10])؟

إنَّ هذا العدد من الرِّوايات المحمولة على التقيَّة يوحي للناظر من بعيد أنّ المعصومg يمكن أن يتّقي في كلِّ شيء وفي ظلّ أيّ مستوى من الخطر يعيشه حتّى ولو كان بسيطا لا يصل فيه الاحتمال لدرجة عالية ولا المحتمل كذلك، ومن البعيد أن يكون في جميع هذه المواطن التي قرَّرها الشَّيخ قد عاش ظرف التقيَّة في حدِّه الأعلى، فلو كان مثل ذلك موجوداً لبانت قرائنه على الأقل، ونحن لا نجد في هذه الرِّوايات قد أشار الراوي لجوّ المسألة بحيث نستفيد منه كون المعصومg في ظرف الخوف الشديد على النفس والمال، ولا نجد في الرِّوايات الأخرى توصيف هذه الحالة بما يقتضيه هذا العدد من الرِّوايات المحمولة على التقيَّة.

الأمر الثالث: اشتراط التقيَّة في حقِّ المعصومg ببيان الحق

مع هذا العدد من الرِّوايات سيكون من البعيد أيضاً احتمال أنَّ المعصومg قد بيَّن الحقَّ بلا مزيد عليه في كلِّ موضع من مواضع التقيَّة، وهذه الشرطية تتعزَّز بالإشكاليّة إذا ما جمعناها مع الشرطيّة السابقة؛ لأنَّ كون المعصومg يعيش هذا المستوى من التقيَّة سيقيّد فرصته في بيان الحقِّ، وستكون الظروف المتاحة لاستدراك ما قد اتقى فيه قليلة ومحدودة، ولن يكون هناك تناسبٌ بين بيان الواقع والتقيَّة فيه، وبالتالي سيذهب هذا الواقع ويضيع.

لقد نصَّ الشَّيخ على ضرورة وجود ما يدلُّ على التقيَّة في كلام المعصومg: "إمَّا بما يصاحب كلامه [المعصومg]، أو يتقدّمه، أو يتأخّر عنه، ومن اعتبر جميع ما روي عن أئمتنا عليهم السلام –على سبيل التقية- وجده لا يعرى ممَّا ذكرناه"([11]). والحال أنّ هذا النمط المتساهل في حمل الرواية على التقيَّة سيجعلنا نتساءل عن ماهية القرائن التي تحدّث عنها الشيخ، وعن كيفيّة تحصيلها بين هذه الرِّوايات. على سبيل المثال، قام الشَّيخ بحمل مجموعة من روايات بابٍ ما على التقيَّة، بحيث لم تبقَ إلا رواية أو روايتين دالّة على الحكم الواقعي([12])، وقام أيضا بحمل باب فقهي بأجمعه على التقيَّة بحيث لم تكن هناك أي رواية دالة على الحكم الواقعي([13])، كما أنّه في بعض الأبواب الفقهيّة التي لا تحوي إلّا عدداً محدوداً من الرِّوايات نجده يحمل بعضها على التقيَّة دون غيرها([14])، وفي جميع هذه الأمثلة لا نجد ذكراً للقرائن التي تحدّث عنها الشيخ.

كان من الممكن أن يقال دفاعاً عن الشَّيخ أنَّ هذه القرائن كانت موجودة وربَّما لم تصلنا وفُقدت لولا أنَّ الشَّيخ بنفسه قد نصَّ في كلامه المتقدِّم على وجود القرينة في جميع ما روي عن الأئمة g، ومن ثمّ يبقى هذا الدفاع مجرّد احتمال يحتاج إلى إقامة الشواهد عليه، وقد يكون مدفوعاً بقاعدة لو كان لبان. 

الأمر الرابع: عدم وضوح دائرة العامّة المُتّقي منهم

بعد قبول الشَّيخ لكون موافقة الرواية للعامّة كاشفاً عن التقيَّة، انعكس ذلك على كتابه الاستبصار، وتنوّع ظهور هذا المعيار بأشكال متنوّعة حسب ما أشرنا بين موافقة جميع مذاهب العامّة أو أكثرهم أو بعضهم، لكن الشَّيخ لم يوضّح بالضبط مقصوده من "العامّة"، هل هم الفقهاء وأصحاب المذاهب أو هم أتباع المذاهب أو كليهما؟ ومن ثمّ حينما يحمل الرواية على التقيَّة لموافقتها لبعض العامّة لم يبيّن سبب اتقاء المعصومg من هؤلاء البعض.

وبعبارة ثانية: حينما يختلف العامَّة فيما بينهم في حكمٍ ما، لماذا يتقي المعصومg بمطابقة قوله لقول بعضهم دون البعض الآخر؟ ستكون الإجابة: لأنَّ هؤلاء مورد الخوف. هنا نحتاج لإقامة الشواهد والدخول في بحث تاريخي تحليلي حتّى نميّز دائرة البعض المُتّقى منه من غيره، وهذا ما لم نجده في كلمات الشيخ.

في الواقع ما يمكن أن نستخلصه من كتاب الاستبصار أنّ الشَّيخ قد ترك الخيارات مفتوحة تجاه دائرة المُتقى منه:

١. العامَّة بمعنى الفقهاء

"الوجه في هذا الخبر أيضا التقيَّة، لأنّ في الفقهاء من يقول.."([16]).

٢. العامّة بمعنى الأتباع

"الْوَجْهُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التقيَّة وَوَجْهُ التقيَّة فِي ذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ جَارِيَةً فِي إِخْرَاجِ الْفِطْرَةِ بِصَاعٍ عَنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ وَبَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ جُعِلَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ بِإِزَاءِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَتَابَعَهُمُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ فَخَرَجَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ وِفَاقاً لَهُمْ عَلَى جِهَةِ التقيَّة"([17])،.. هذا الحكم الذي سنَّه عثمان قد التزم به الناس، والحال أنَّ أغلب فقهاء العامّة قد خالفوه بالصراحة([18]).

٣. بعض العامّة بمعنى المتقدّمين منهم

"يَنْبَغِي أَنْ نَحْمِلَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التقيَّة لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَامَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِك‏"([19]).

ولم يجد الباحث في كلمات الشَّيخ تفسيره لمقصوده من (بعض العامّة)، ولماذا اتّقى المعصومg من هؤلاء البعض، وبالتّالي تبقى الاحتمالات مفتوحة في هذا المجال أيضاً.

أهميّة هذه النّقطة تكمن في أنّها تعطينا معياراً واضحاً ومحدَّداً يستعين به الباحث في تقييم الرِّوايات ومعرفة المُتّقى منها، ومن دون تحديد الموقف فيها سيكون الحمل على التقيَّة مستنداً إلى احتمالات مفتوحة وغير مبتنٍ على أسس معرفيّة قويّة. ويتأكّد ذلك بملاحظة التحوّلات في فقه العامّة وتفاعله مع واقعه السياسي والاجتماعي، فعلى سبيل المثال في الفترة السابقة على ظهور مذهب مالك بن أنس "ت179هـ.ق" وعلى الخصوص في منتصف القرن الثاني الهجري لم يكن بين العامّة قد راجت فكرة التمذهب والتقليد بعد، بل كانوا يعتمدون في معرفة الأحكام الشرعية على الإجماع في المسائل الإجماعيّة، وعلى سؤال آبائهم أو المعلّمين في مناطقهم في المسائل الخلافيّة، وإذا ما عرضت مسألة جديدة عليهم سألوا أي فقيه بينهم لا على نحو الخصوص([20]).

وعليه سيكون من المنطقي أن المعصوم المعاصر لهذه الفترة -الباقرينh- ستكون تقيّته بمطابقة قول العامّة المجمع عليه، أو مطابقة قول العامّة في محلِّ السكن، وسيكون من البعيد -أو على الأقل من النادر- أن يتّقي المعصومg بمطابقة قول أصحاب المذاهب.

الأمر السادس: عدم ملاحظة بعض القرائن العقلائيّة

في كثير من الأحيان أعملَ الشَّيخ نقداً داخليّا للروايات بشكل جيّد وبحث عن انسجامها الداخلي ومدى مطابقتها مع المعروف من مذهب الإماميّة، وهو في الحقيقة بحثٌ عن قرائن صدور الرواية على جهة التقية، إلّا أنَّه في هذا السياق لم نجده يراعي بعض القرائن التي لها دور في الكشف عن اتقاء المعصومg من عدمه، مثل نوعيّة التلقّي ونوعيّة الراوي كما أشرنا لذلك في نقطة تحليل المعطيات.

ثانيا: نقد موارد خاصّة

المورد الأول. النِّسبة للعامّة

في الموارد التي حملها الشَّيخ على التقيَّة لموافقة مضمونها للعامّة، قد وقف الباحث على تفصيل القول فيها، ووجد في بعضها مغايرة النسبة في الاستبصار عمّا هو موجود في مصادر أخرى.

١. النسبة لجميع العامّة([21])

نسب الشَّيخ لجميع العامّة قولهم بأنَّ الأخوات لا يحجبن الأمّ عن الثلث في الميراث، وبهذه النسبة ردّ ما رواه عن الصادق g: فِي أَبَوَيْنِ وَأُخْتَيْنِ قَالَ: >لِلْأُمِّ مَعَ الْأَخَوَاتِ الثُّلُثُ؛ إِنَّ اللَّهَ a قَالَ:‏ {فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ} وَلَمْ يَقُلْ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَخَوَات»‏([22]). والحال أنَّ ما أفادته الرواية لم يذهب له أيُّ أحدٍ من العامّة سوى ابن عباس كما ذكر الشَّيخ في كتابه الخلاف([23]). ويؤيّد ذلك ما قاله النووي: "روى أنَّ ابن عباس دخل على عثمان فقال له: قال الله تعالى {فإن كان له أخوة فلأمه السدسوليس الاخوات أخوة بلسان قومك، فقال عثمان: لا أستطيع أن أردَّ ما كان قبلي، وانتشر في الأمصار، وتوارث به الناس. فدلَّ بهذا أنَّهم أجمعوا على ذلك"([24]).

٢. النسبة لأكثر العامَّة

نسب الشَّيخ لأكثر العامّة قولهم بأنَّ الجمعة لا يصحّ إقامتها إلّا في مصر تُقام فيه الحدود، وبهذه النسبة ردّ ما رواه عن الصادق g عن أبيه عن أمير المؤمنينg: «لَا جُمُعَةَ إِلَّا فِي مِصْرٍ يُقَامُ فِيهِ الْحُدُود<([25]). والحال أنَّ من ذهب لهذا القول هم: الحسن البصري، سفيان الثوري، ابن سيرين، النخعي، أبو حنيفة النعمان فقط، وخالفهم في ذلك خلق كثير من العامّة([26]). قال النووي: "إذَا كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ صَحَّتْ جُمُعَتُهُمْ فِي قَرْيَتِهِمْ وَلَزِمَتْهُمْ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا سُوقٌ وَنَهْرٌ أَمْ لا، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَحَكَاهُ الشَّيخ أَبُو حَامِدٍ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ"([27]).

٣. النسبة لكثير من العامّة

نسب الشَّيخ لكثير من العامّة قولهم بحرمة الوصيّة إلى المرأة، وبهذه النسبة ردّ ما رواه عن الصادق g: قال أمير المؤمنينg: >الْمَرْأَةُ لَا يُوصَى إِلَيْهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَتُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُم}<([28])، والحال أنَّ مضمون الرواية لم يذهب إليه أحد من العامّة سوى عطاء كما ذكر الشَّيخ في كتابه الخلاف([29])، ويؤيّد ذلك ما قاله النووي: "أمَّا الوصيّة إلى المرأة فإنَّها تصحّ في قول أكثر أهل العلم، وروى ذلك عن شريح، وبه قال مالك الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأى وأحمد بن حنبل، ولم يجزه عطاء، لأنَّها لا تكون قاضية فلا تكون وصية"([30]).

المورد الثَّاني: حمل مجموعة من الرِّوايات على التقيَّة بملاك واحد، والحال أنّ مضمون كلّ رواية تختلف فيه مذاهب العامّة.

في عدد من الموارد قام الشَّيخ بحمل مجموعة من الرِّوايات على التقيَّة لكونها موافقة لمذهب العامّة أو أكثرهم أو بعضهم مثلا، وعند التدقيق في كلّ رواية رواية وتتبّع مضمونها التفصيلي عند العامّة نجد أنّه لم يذهب له أحد من العامّة، أو من ذهب له فئة قليلة مثلا.

المورد الثَّالث: روايات يصعب حملها على التقيَّة

هناك بعض الرِّوايات التي حملها الشَّيخ على التقيَّة يجد الباحث فيها قرائن تبعّد عملية الحمل هذه.

١. مضمون الرواية موافق لقول شخص جاء بعد المعصوم

ردَّ الشَّيخ روايتين رواهما عن الصادق g تتضمَّنان حكما بأنّ فصول الإقامة واحدة واحدة غير مثناة، وحملهما على التقيَّة باعتبار أنّهما توافقان مذهب بعض العامّة، وبمراجعة كتابه الخلاف تبيّن أنّ هذا البعض هو خصوص الشافعي "150-204 هـ.ق" وفي أحد قوليه، وأمَّا بقيّة العامّة فقد ذهبوا لأقوال مختلفة([31]). ولا معنى لأن يتّقي المعصومg قولاً جاء بعد حياته.

٢. مضمون الرواية موافق لقلّة قليلة من العاّمة يبعد الاتّقاء منهم خصوصا

ردّ الشَّيخ رواية رواها عن الصادق g تتضمن حكما بجواز الزواج من الأمّ والبنت إذا تزوج إحداهما ثم طلقها ولم يدخل بها، وحملها على التقيَّة باعتبار أنّها توافق مذهب العامّة، وبمراجعة كتابه الخلاف ذكر أنّ هذا البعض هم ابن الزبير "1-71 هـ.ق" وعطاء بن أبي رباح "27-114 هـ.ق" ومجاهد بن جبر"21-104 هـ.ق"، ونصّ على أنّ جميع الفقهاء يوافقون الإماميّة([33]). فمن البعيد أن يتّقي المعصوم قول من سبقه وهو في ضمن جوّ موافق للحكم الواقعي.

٣. مضمون رواية يصعب نسبته للمعصوم وإن كان تقيّة

ردَّ الشَّيخ روايتين رواهما عن الصادقين h تتضمنان حكما بتنزيل قتل المرأة والعبد والغلام خطأ منزلة القتل العمد، وحملهما على التقيَّة –وإن لم يصرّح بوضوح- باعتبار أنّ بعض المخالفين يذهب للقول أنّه في بعض الظروف يتمّ تنزيل منزلة القتل عمدا لمنزلة القتل خطأ على عكس مضمون الرواية([34]).

ومن الصعب جدا صدور مثل هذا الكلام عن المعصوم على أي وجه من الوجوه؛ لأنّه مورد للتّشنيع عليه والاستهزاء به وبعلمه، وهو قول شاذ لا يذهب له متفقّه فضلا عن معصوم، فكيف يتمّ تنزيل الخطأ منزلة العمد وفي خصوص المرأة والغلام والعبد، ومن ثم إنزال العقاب عليهم بأشدّ مما ارتكبوه([35])؟

المورد الرابع: حمل رواية على التقيَّة بدلالة رواية أخرى ليس فيها دلالة على التقيَّة

استفاد الشَّيخ في حمل بعض الرِّوايات على التقيَّة من خلال دلالة روايات أخرى يظهر منها الإشارة إلى أنَّ الحكم في الرواية الأولى ليس هو الحكم الواقعي وإنَّما هو تقيّة، ولكن في موردين على الأقلّ قام الشَّيخ بالاستدلال على التقيَّة في بعض الرِّوايات من خلال روايات تؤيِّد فتوى الشَّيخ فقط، وليس فيها دلالة على أنَّ الأخبار المحمولة على التقيَّة قد صدرت تقيّةً.

المورد الخامس: إفتاء المعصوم بحسب مذهب الراوي

في مورد واحد أشار الشَّيخ في حمله لمجموعة من الرِّوايات على التقيَّة تتحدَّث عن أكثر أيام النفاس إلى أنَّ الاختلاف في تفاصيل هذه الرِّوايات راجع إلى اختلاف مذاهب العامّة، وكأنَّ المعصوم أفتى كلاً منهم بمذهبه الذي يعتقده، ولا كلام في هذه الكبرى التي قرّرها الشيخ، ولكن التأمّل يأتي في تطبيقها على هذه الرِّوايات؛ إذ إنَّ "4" روايات منها صحيحة، و"3" من هذه الصحيحة يرويها محمّد بن مسلم، فكيف أفتى المعصومg محمّد بن مسلم بحسب المذهب الذي يعتقده؟.

خاتمة البحث

النّقطة الأولى: نتائج البحث

بحمد الله وعونه إلى هنا انتهى بحث (حمل الرواية على التقيَّة عند الشَّيخ الطوسي.. دراسة مختصرة في النظرية والتطبيق) والذي سعيت فيه إلى استخراج القواعد النظرية المُساهمة في حمل الرواية على التقيَّة عند الشيخ، مع محاولة لاستقصاء التجربة التطبيقيّة التي أعملها في كتابه الاستبصار من خلال رصدها تفصيلياً وتحليلها والتأمّل في مخرجاتها، وقد توصّلت من خلال البحث إلى أهمّ النتائج التالية:

* لم يقدِّم الشَّيخ تصوّراً نظرياً واضحاً في كيفيّة حمل الرواية على التقيَّة؛ ولذلك احتاج معرفة النظرية عنده إلى استقراء كلماته في مختلف كتبه.

* يظهر من الشَّيخ أنّه يشترط في مشروعية التقيَّة الخوف الشديد على النفس والمال.

* يجوِّز الشَّيخ التقيَّة على مطلق المعصوم، ولكن يشترطها بعدم خفاء الحقّ وإقامة الحجّة والبيّنات عليه.

* يظهر من كلمات الشَّيخ في كيفية الترجيح تقدّم المرجّح الصدوري على المرجّح الجهتي، وعدم المصير إلى حمل الرواية على التقيَّة قبل حصول حالة "التكافؤ" بين الرِّوايات المتعارضة.

* من خلال استقراء موارد الحمل على التقيَّة في كتاب الاستبصار بدا جليّاً تنوُّع المبرّرات التي استند عليها الشَّيخ في حمل الرِّواية على التقيَّة، ولم يكتفِ بمبرّرات محدّدة ومضبوطة، بل سعى للبحث عن أيِّ قرينة عقلائيّة تساهم في صرف الرواية عن المراد الجدّي إلى التقيَّة.

* كما في النُّقطة السابقة، تنوّعت الأساليب التي يلجأ إليها المعصومg في ممارسة التقيَّة في وجهة نظر الشَّيخ، وقد بيَّن نوع الاتقاء بحسب فهمه للرواية وخبرته بكلمات المعصومين"ع".

* يتعامل الشَّيخ مع مرجِّح مخالفة العامَّة المذكور في الرِّوايات على أساس أنَّه كاشف عن اتقاء المعصومg.

* حمل الشَّيخ في كتاب الاستبصار "285" رواية على التقيَّة، كان مبِّرر الحمل في معظمها هو موافقة مضمون الرِّواية للعامة.

قدّمت عمليّة الاستقراء مجموعة من النتائج، أهمّها:

- كثرة اتقاء المعصومg.

- كيفية تلقّي الرواية والقوّة السنديّة لم تشفع في صرف الرواية عن التقيَّة.

- موافقة العامّة المعيار الأبرز في الحمل على التقيَّة.

- احتمال التقيَّة عند الشَّيخ له اعتباره وثقله وليس مجرّد احتمال ثبوتي.

- انفرد الشَّيخ بين محدّثي الإمامية في نقله معظم الرِّوايات المحمولة على التقيَّة.

* رغم الجهد الكبير والاستثنائي الذي قام به الشَّيخ في كتاب الاستبصار إلّا أنَّه لم تخلُ بعض الموارد المحمولة على التقيَّة من التأمّل بحسب ما يراه الباحث.

* الكثرة في حمل الرواية على التقيَّة جعلت الباحث يتأمَّل في مدى انسجام النَّظريَّة والتَّطبيق عند الشَّيخ.

النُّقطة الثَّانية: توصيات

بناءً على ما تقدَّم في البحث يوصي الباحث بالتالي:

١. دراسة مضمون الرِّوايات المحمولة على التقيَّة عند الشَّيخ ومقارنتها مع فتاواه في كتبه الأخرى وكيفية استدلاله عليها، ومع فتاوى الفقهاء المعاصرين له أو المتقدِّمين عليه؛ وذلك للتأكُّد من اعتماد الشَّيخ على المرتكزات المتشرعيّة في عملية الترجيح بشكل خفي بحيث يكون حمل الرواية على التقيَّة في طول الفراغ من الفتوى أو لا.

وبعبارة أخرى: تحديد نمط تعامل الشَّيخ مع الترجيح على أساس الحمل على التقيَّة، هل كان يجزم بالفتوى ومن ثمَّ يحاول تبرير الرِّوايات المُعارِضة للرِّوايات الدالَّة على فتواه بحملها على التقيَّة، أو كان الأمر بالعكس بحيث تكون الفتوى في طول الترجيح؟

٢. دراسة المشتركات والمختلفات الفقهيّة بين الإماميّة والعامّة، ومن ثمّ مقارنتها مع مضمون الرِّوايات التي حملها الشَّيخ على التقيَّة بملاك مخالفة العامّة؛ وذلك للتأكّد من وجود أو عدم وجود نمط مشترك بين الرِّوايات المحمولة على التقيَّة والموافقة للعامّة.

٣. القيام بدراسة تاريخية تحليلية للوضع الفقهي والاجتماعي والسياسي المحيط بالمعصومg وكيف هي علاقته مع مجتمع العامَّة من جهة، وكيف هي علاقة مجتمع العامّة مع مجتمع الإماميّة من جهة أخرى؛ وذلك لتحديد الدائرة التي كانت تشكّل تهديداً وخطراً يُوجب على المعصومg اتقاءها.

      والحمد لله ربِّ العالَمين.

 


([1]) نشر في العدد السابق للمجلة.

([2]) يحسن التَّنويه إلى أنَّ هذا التحليل مبتنٍ على التسليم بصحَّة ما فعله الشيخ من حمل الروايات على التقيَّة.

([3]) انظر: الاستبصار، كتاب الفرائض، ح178.

([4]) انظر: الاستبصار، كتاب الطهارة، ح179، وكتاب النكاح، ح234، وكتاب الطلاق، ح97، وكتاب الصيد والذباحة، ح51، وكتاب الديات، ح313.

([5]) انظر مثلا: الاستنبصار، كتاب الصلاة، ح697، وكتاب الطلاق، ح228-231، وكتاب النكاح، ح27.

([6]) العدَّة في أصول الفقه، ج1، ص146-147.

([7]) انظر مثلا: الاستبصار، كتاب الطهارة، ح6، وح621، وكتاب الصلاة، ح1076-1077.

([8]) انظر: المددي، السيد محمَّد كاظم، رؤية حول حمل الروايات على التقية عند الشيخ الطوسي، ترجمة مرقال هاشم، مجلَّة نصوص معاصرة.

([9]) انظر: مجموعة من المؤلفين، الترجيح بمخالفة العامة في نصوص فقه الإمامية "إطلالة تاريخية – تحليلية"، ترجمة حسن علي مطر، مجلة نصوص معاصرة.

([10]) انظر: الاستبصار، كتاب الصلاة، ح270، وح506.

([11]) تلخيص الشافي، ج3، ص89.

([12]) انظر مثلا: الاستبصار، كتاب الجهاد، باب أنَّ المشركين يأخذون من مال المسلمين شيئا ثمَّ يظفر بهم المسلمون ويأخذون ما أخذوه من المسلم، هل يرد عليه أم لا؟

([13]) انظر: الاستبصار، كتاب الطلاق، باب حكم المباراة.

([14]) انظر مثلا: الاستبصار، كتاب الطهارة، باب ذرق الدجاج.

([15]) انظر: كتاب الطلاق، باب الخلع.

([16]) الاستبصار، ج1، ص66.

([17]) الاستبصار، ج2، ص48.

([18]) انظر: النووي، أبو زكريا، المجموع شرح المهذّب، ج6، ص142، والمقدسي، موفق الدين بن قدامة، المغني، ج3، ص81.

([19]) الاستبصار، ج4، ص206.

([20]) صفري، نعمت الله، نقش تقيه در استنباط، ص506-507.

([21]) انظر: الملحق، 26-31، و50، و57، و75، و87، و96، و114، و131، و149، و153، و247، و257.

([22]) الاستبصار، كتاب الفرائض، ح110.

([23]) الطوسي، محمَّد بن الحسن، الخلاف في الأحكام، ج4، ص39.

([24]) المجموع، ج16، ص72.

([25]) الاستبصار، كتاب الصلاة، ح843.

([26]) انظر: المجموع، ج4، ص505، والمغني، ج2، ص246.

([27]) المجموع، ج4، ص505.

([28]) الاستبصار، كتاب الوصايا، ح105.

([29]) الخلاف، ج4، ص159.

([30]) المجموع، ج15، ص510.

([31]) الخلاف، ج1، ص280. وانظر: السرخسي، محمَّد بن أحمد، المبسوط، ج1، ص129.

([32]) انظر: الملحق، 9، و10، و14-17، و65، و68، و112، و135، و139-141، و189، و191، و268، و275.

([33]) الخلاف، ج4، ص303. وانظر: المجموع، ج16، ص217.

([34]) الاستبصار، ج4، ص358.

([35]) انظر: التستري، محمَّد تقي، الأخبار الدخيلة، ج3، ص314.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا