
الملخَّص
تعرَّض الكاتب إلى مسألة الاقتران بين الأخلاق والتديَّن، والترابط الوثيق بينهما، ناقداً فكرتي تقدُّم الأخلاق على التديُّن، أو صحَّة التديُّن من دون الأخلاق، فبعد بيان أنَّ الغاية من خلق الإنسان هي العبادة، ذكر ما ورد عن أهميَّة حُسْنِ الخُلُق، وأهميَّة التديُّن والعمل، ثمَّ أجاب عن تساؤل إمكانية قيام الأخلاق مقام العمل، وبعدها تعرَّض لغايات غير المتديِّن من اتصافه ببعض الصفات الحسنة، وخاتماً بأنَّ غير المتديِّن قد يتصِّف ببعض الصِّفات الحسنة ألا أنَّ فيه أسوء الصِّفات، وهي التكبُّر والتمرُّد على الخالق).
المقدَّمة
بسْمِ اللهِ الرَّحمَن الرَّحيم، اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمِّد..
إنَّ الله تعالى بحكمته وسعة رحمته قد اختار للإنسان غاية من وجوده في هذه الحياة تتناسب مع كرامة الإنسان، وتتناسب مع حكمة الله البالغة، بحيث لا يعدُّ وجود الإنسان معها عبثاً في هذه الحياة، ولا يمكن أن يتصوَّرَ الإنسانُ الذي يؤمن بحكمةِ اللهِ وبعلمِه أن تكون هناك غاية أخرى أشرف وأفضل من الغاية التي اختارها الله إليه.
ولو فرض -جدلاً- وجودُ مؤمنٍ يعتقدُ خلافَ ذلك فإنَّ ذلك يعدُّ -والعياذ بالله- تشكيكاً في حكمة الله تعالى وفي سعة علمِه، وهذا خللٌ واضحٌ في أصلِ التَّوحيد الذي من أركانه وأساسياته الإيمان والإقرار بصفات الله الكمالية والتي منها العلم والحكمة.
وهناك كثيرٌ من الأفكار غير الصحيحة التي تطرح على السَّاحة أو تمارس من قبل المؤمنين بشكلٍ عمليٍّ وفي موارد مختلفة قد لا يلتفت إليها أكثرُنا بأنَّها ممَّا ينافي الدِّين، وينافي العقيدة، حتى عقيدة التوحيد.
ومن هذه الأفكار التي تسلخ المعنى الحقيقيِّ للدِّين، وتُفرِّغه من أهدافه العليا، وتجعله مجرَّدَ فكرةٍ خياليةٍ بلا طعمٍ ولا روحٍ هي هذه الفكرة القائلة: إنَّ الشيءَ المهمَّ الذي يجب أن يلاحظ في شخصية الإنسان -مهما كان هذا الإنسان ومهما كانت عقيدتُه- هي مسألة الأخلاق والتَّعامل مع الآخرين، فإذا حَسُنتْ أخلاقُ الإنسان فإنَّه يستحقُّ التَّعظيم والاحترام، ويستحقُّ التَّقديم على غيره من الناس الذين لا يتَّصفون بصفةِ حُسْنِ الخُلُق وإن كانوا متدِّينين مؤمنين.. فأهمُّ شيءٍ هو الأخلاق، ويمكن أن يستشهد لهذه الفكرة ببعض الرِّوايات من مثل قول الصَّادقg: >أربعٌ من كنَّ فيه كمل إيمانُه، وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك< قال: >وهو الصِّدق، وأداء الأمانة، والحياء، وحسن الخلق<([1])، وكذا ما ورد عن سيِّد الأنبياء محمَّدٍe قال: >لا تنظروا إلى كثرةِ صلاتِهم، وصومِهم، وكثرةِ الحجِّ والمعروف، وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدقِ الحديث، وأداء الأمانة<([2]).
وفي المقابل قد يتصوَّر المؤمنُ أنَّ الإنسان ما دام قد قام بالواجبات وترك المحرَّمات فلا يضرُّه سوءُ خلقِه، فإنَّ حسنَ الخلق أمرٌ حسنٌ ولكن لا دخل له بالإيمان والتديُّن، وكلا الفكرتين تحتاجان إلى نظرٍ وتقويمٍ وعرضٍ على القرآن والرِّوايات الشَّريفة.
وللوصول إلى نتيجةٍ واضحةٍ حول هذا الموضوع نحتاج إلى ذكر عدَّة نقاط:
النُّقطة الأولى: الغايةُ الأساس من خلق الإنسان
لماذا نحن موجودون في هذه الحياة؟ لماذا خلقنا الله؟ لماذا نعيش فترة من الزَّمن ونعلم أنَّنا راحلون بعد ذلك، فماذا يجب أن نصنع في هذه المدَّة القصيرة؟ وما هو الشَّيء الذي إذا صنعناه نكون قد حقَّقنا الغاية الإلهية من هذا الوجود؟ ولقد روي عن أمير المؤمنينg حيث قال: >رحم اللَّه امرأً أعدَّ لنفسِه، واستعدَّ لرمسِه، وعلِمَ من أين، وفي أين، وإلى أين<([3]).
والغاية ذكرت بشكلٍ صريحٍ في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56)، فعبادةُ اللهِ تعالى هي غاية وجود الإنسان في هذه الحياة، فمن لا يعبد اللهَ فهو لم يحقِّق الغاية التي أرادها الله منه، والعبادة تقتضي الاعتراف به سبحانه، وتوحيده، وقبول ما جاءت به رسلُه؛ لأنَّ عبادةَ الله تعالى إنَّما تكون وفْقَ ما أمرَ به تعالى، وهذا يقتضي الإيمان بشريعته التي جاء بها الرُّسلi.
وفي آية أخرى تبيِّن هذه الغاية، يقول تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}(المؤمنون:115). فإنَّها تشيرُ إلى أنَّ الخلق لو كان فقط في الدُّنيا لاعتبر ذلك عبثاً، فمجرَّد أنْ يبقى الإنسانُ في الدُّنيا مدَّة من الزَّمن ثمَّ يرْحَل إلى الفناء فهو عبثٌ يتنزَّه عن فعله الخالقُ الحكيم، وبالجمع بين الآيتين الشَّريفتين تكون الغاية من خلقنا (عبادة الله في الدُّنيا لكي نذهب إليه تعالى في الآخرة بصفتنا عابدين)، إنْ صحَّ هذا الجمع.
النُّقطة الثَّانية: أهميَّة حُسْنِ الخُلُق في الشَّريعة
إنَّ الرِّوايات الشَّريفة أكدَّت على محورية حُسْنِ الخُلُق في الإسلام، وأثرُه على الإيمان فعن أبي جعفرg قال: >إنَّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً<([4]). وأنَّه: >ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حُسْن الخُلُق<([5]) كما عن النَّبي الأعظمe، وعن أبي عبد اللهg قال: قال أمير المؤمنينg: >المؤمن مألوفٌ، ولا خيرَ فيمن لا يَأْلف ولا يؤلف<([6]).
وعن أبي عبد الله الصَّادقg: >ما يقدْمُ المؤمنُ على الله a بعملٍ بعد الفرائض أحبّ إلى الله تعالى من أنْ يسع الناس بخلقه<([7])، وهذه الرِّواية تدلُّ على أنَّ حسن الخلق يأتي من حيث المحبوبية لله بعد الفرائض، بمعنى أنَّ الفرائض أهمّ شيء، ثمَّ في الدرجة الثانية يأتي حسن الخلق، ويدلُّ أيضاً على كون حسن الخلق جزءاً من عمل الإنسان، بل قد يعدُّ من العبادات.
وفي رواية أنَّه متمِّم لما نقص من العبادة فعن أبي عبد اللهg: >إذا خالطتَ النَّاس فإن استطعتَ أن لا تخالط أحداً من النَّاس إلا كانت يدُك العليا عليه فافعل، فإنَّ العبدَ يكون فيه بعض التقصير من العبادة ويكون له حُسْنُ خُلُقٍ، فيبلغه الله بـ[حسن] خلقه درجة الصائم القائم<([8]). ومن طرق العامَّة عن النبي الأعظمe: >إنَّ العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وأشرف المنازل، وإنَّه يضعف العبادة، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم<([9]).
وقال رسول اللهe: >أمرني ربي بمداراة النَّاس كما أمرني بأداءِ الفرائض<([10])، ممَّا يعني أنَّ المداراة التي هي من الصفات الحسنة قد أُمِرَ بها رسولُe إمَّا بالاتصاف بها من قبلهK أو أمر الناس بها.
وهناك حديث يدلُّ على كون حسن الخلق له قيمة ذاتية بغضِّ النَّظر عن الدِّين، فعن الأميرg: >عجبتُ لرجلٍ يأتيه أخوه المسلم في حاجة فيمتنع من قضائها ولا يرى نفسَه للخير أهلا! فهب أنَّه لا ثواب يرجى، ولا عقاب يتَّقى، أفتزهدون في مكارم الأخلاق<([11]).
كما أنَّ هناك روايات عديدة جداً في ذمِّ سوء الخلق.. وليس بحثنا في الاستطراد حول هذه النُّقطة.
وخلاصة الأمر: أنَّ حُسْنَ الخُلُق جزءٌ من الإيمان، وأنَّه يعتبر جزءاً من العبادة أو العمل الذي سيسائل عليه الإنسان يوم القيامة.
النُّقطة الثَّالثة: أهميَّة التَّديُّن والعمل في الشَّريعة
ذكرنا في النُّقطة الأولى الغاية من خَلق الإنسان وإيجاده في هذه الدينا ألا وهي العبادة ولوازمها، ولا يظنُّ أنَّنا نقصد من العبادة خصوص الصَّلاة والصَّوم والحجِّ وبقية العبادات المعروفة.. بل تشمل امتثال كلَّ أمرٍ يأمر به الله سبحانه؛ لأنَّ العبودية تقتضي طاعة المعبود وامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه، ومن أوامره الأعمّ من الواجب والمستحب كخدمة النَّاس، فعن رسول اللهe: >الخلق عيال الله فأحبُّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً<([12]). والتصدُّق على الفقراء، وتعليم الجاهل، وهداية الضَّال، إدخال السرور على المؤمنين، ومن ضمن ذلك الأخلاق الحسنة بشكلٍ عامٍّ والتي هي جزء من العمل كما تقدَّم.
ولكنَّ العنصر الأساس الذي يوصف فيه الإنسان بصفة العبودية وعدمها هي العبادة المعروفة، فالذي لا يصلِّي ولا يصوم فضلاً عمَّن لا يعترف بالربوبية الإلهية فإنَّه يعدُّ عاصياً وفاسقاً وغير عابدٍ وإن أتى بكلِّ الأخلاق الحسنة، وهذا يدلُّ على محوريَّة العبادة، ولذا ورد عن رسول اللهe: >أفضلُ النَّاس من عشق العبادة، فعانقها، وأحبَّها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرَّغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدُّنيا، على عسرٍ أم على يسرٍ<([13]).
وكذلك محورية (العمل الصَّالح) الذي قُرِنَ بالإيمان في أغلب الآيات الشَّريفة: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، سواء قلنا بأنَّ العمل جزءٌ من الإيمان أم خارج عن حقيقة الإيمان، فإنَّ الإيمان والاعتقاد القلبي المجرَّد عن العمل الصالح إمَّا لا يسمى إيماناً أو يكشف عن عدم جديَّته في النَّفس.
وقد ورد عن أحدِ الصادقينh: >الإيمان إقرار وعمل، والإسلام إقرار بلا عمل<([14])، وعن الصادقg في حديث عن حقيقة الإيمان: >فإذا أتى العبدُ كبيرةً من كبائر المعاصي أو صغيرةً من صغائر المعاصي التي نهى اللهa عنها كان خارجاً من الإيمان، ساقطاً عنه اسم الإيمان وثابتا عليه اسم الاسلام، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الإيمان، ولا يخرجه إلى الكفر إلا الجحود والاستحلال أن يقول للحلال هذا حرام، وللحرام هذا حلال، ودان بذلك فعندها يكون خارجاً من الاسلام والإيمان، داخلاً في الكفر، وكان بمنزلة من دخل الحرم ثمَّ دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثاً فأخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النَّار<([15]).
وروى محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللهg قال: سألتُه عن الإيمان فقال: >شهادة أنْ لا إله إلا الله [وأن محمدا رسول الله] والإقرار بما جاء من عند الله وما استقر في القلوب من التصديق بذلك<، قال: قلت: الشهادة أليست عملاً؟ قال: >بلى<، قلت: العمل من الإيمان؟ قال: >نعم الإيمان لا يكون إلا بعمل، والعمل منه، ولا يثبت الإيمان إلا بعمل<([16]).
عن عبد الله بن مسكان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللهg قال: قلت له: ما الإسلام؟ فقال: >دينُ الله اسمه الإسلام، وهو دين الله قبل أن تكونوا حيث كنتم، وبعد أن تكونوا، فمن أقرَّ بدين الله فهو مسلم، ومن عمل بما أمر اللهa به فهو مؤمن<([17]).
وهناك رواية مهمَّة جداً أكثر تفصيلاً من حيث الدمج بين العبادة المعروفة وبين بعض مكارم الأخلاق، وهي تصلح للردِّ على الدَّعويين معاً خصوصاً الثَّانية القائلة بأنَّ أداء الواجبات وترك المحرمات كافٍ.
فعن جابر، عن أبي جعفرg قال: قال لي: >يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيُّع أن يقول بحبِّنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع، والتخشع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصَّوم، والصَّلاة، والبِّر بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة، والغارمين، والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفِّ الألسن عن النَّاس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء<. قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصِّفة، فقال: >يا جابر، لا تذهبنَّ بك المذاهب، حسْبُ الرجل أن يقول: أحبُّ علياً وأتولاه ثمَّ لا يكون مع ذلك فعَّالا؟! فلو قال: إنِّي أُحِبُّ رسولَ الله فرسول اللهe خير من علي ثمَّ لا يتَّبع سيرته، ولا يعمل بسنته ما نفعه حبُّه إياه شيئاً، فاتقوا اللهَ، واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحدٍ قرابة، أحبُّ العباد إلى الله! [وأكرمهم عليه] أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر، والله ما يتقرَّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطَّاعة، وما معنا براءة من النَّار، ولا على الله [لأحدٍ] من حجَّة، من كان [لله] مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل<([18]).
وعن أبي حمزة الثُّمالي قال: قال عليُّ بن الحسين(صلوات الله عليهما): >من عمل بما افترض الله عليه فهو من خير الناس<([19]).
النُّقطة الرَّابعة: هل تقومُ الأخلاقُ مقامَ التَّديُّن؟
ممَّا تقدَّم تبيَّن شيءٌ من الجواب على المقولةِ التي يمارسها البعضُ عملياً، ويؤصِّل لها آخرون فكرياً، وهي المقولة العاميَّة: (أهمُّ شيءٍ الأخلاق).. فمن توفَّر على الأخلاق فله مكانته واحترامه، وتقديره، ويقدَّم على غيره وإن كان هذا الغير متديناً، فالعبادة أمرٌ شخصيٌ يخصُّ الإنسان وعلاقته بربِّه سبحانه، وأمَّا الأخلاق فهي علاقة مع النَّاس، وتأثيرها عليهم واضحة، فالأخلاق أهمُّ ولا دخل لنا بتقييم الإنسان من خلال تديُّنه وعبادته.
ونلاحظ في هذا الكلام:
أولاً: محاولة فصل الأخلاق عن التديُّن، فالتديُّن شيءٌ والأخلاق شيءٌ آخر، وتقدَّم أنَّ حُسْنَ الخُلُق من الدِّين والإيمان.
ثانياً: محاولة الحياد قبال المتديِّن، وجعل الدين أمراً شخصياً، وبالتالي هو أمرٌ خاصٌّ لا يتدخَّل فيه الآخرون، ولا يقيِّمون بناء على وفقه هذا الإنسان أو ذاك، والذي يبدو لي أنَّ أحد أهداف هذا المعنى هو أن لا يلام الإنسان حينئذ على عدم تقيده بالدِّين وأحكامه الشَّرعية، لأنَّنا جعلنا ذلكَ أمراً شخصياً.
ثالثاً: أنَّ معيار الأهميَّة هنا تكمن -في نظر هذا القائل- في كون الشَّيء له علاقة بالنَّاس وتأثير عليهم بشكلٍ واضحٍ ومباشر، وأمَّا كون العلاقة مع الله تعالى فهو أمر أقلّ أهميَّة؟! وواضح أنَّ هذا النَّمط من التَّفكير لا يتلائم مع الدِّين ولا غاياته العُليا التي بيَّناها في النُّقطة الأولى.
والنتيجة: أنَّه لا يمكن أن تقوم الأخلاقُ مقامَ التديُّن، بل لا يمكن أن نسمِّي تلك الأخلاق أخلاقاً مع إفساد علاقة الإنسانِ بربِّه.
النُّقطة الخامسة: غايات صاحب الخُلُق الحَسَن من غير المتديِّنين
قد يسأل الإنسان المؤمن كيف يمكن أن يتَّصف غيرُ المتديِّن ببعض الصِّفات الحميدة أصلاً بينما قد يفتقدها بعض المتدينين؟! ألا يعدُّ ذلك خَلَلاً في التديُّن، أو أنَّ التديُّن أمرٌ جافّ لا روح فيه، فهو لا تأثير له على سلوك المتديِّن.
نقول في جواب ذلك:
أولاً: تقدَّم أنَّ الأخلاق جزءٌ من الإيمان والعبادة، ومن لا يتخلَّق بكلِّ تلك الأخلاق فالخلل فيه، لا في الدِّين، ثمَّ إنَّ هذا الخلل موجود في كلِّ أصحاب المدارس الفكريَّة، فليس كلُّ المنتمين إليها يلتزمون بما جاء فيها.
ثانياً: هناك تصويرٌ فيه كثيرٌ من الإحجاف بحقِّ المتديِّنين، وتعظيم مبالغ فيه لغيرهم، فليس الطابع العامُّ على غير المتديِّن هو الخُلُق الحسن، كما أنَّه ليس الطابع العامُّ على المتديِّن هو سوءُ الخلق كما يراد أن يصوَّر، بل الأمر بالعكس تماماً، ولكن لمَّا كان المتديِّن يُترقَّبُ منه حسن الخلق أكثر من غيرِه صار الالتفات إلى وجود بعض الخصال السيئة فيه أو في عدد من المؤمنين ملفتاً، وكذلك في غير المتديِّن لمَّا كان المتوقَّع منه عدم التقيُّد بحُسْنِ الخُلُق صار وجود خصلة هنا أو هناك ملفتاً، بل نفس هذا الالتفات يدلُّ على أنَّ المؤثِّر الأوَّل لحسن الخلق هو الدين نفسه والتديُّن به.
ثالثاً: هناك أسباب لحصول بعض الملكات الأخلاقية في الشَّخص ينبغي معرفتها:
1ـ أن تكون مجرَّد سجيَّة وراثيَّة فيه
فقد ورد عن أبي عبد اللهg قال: >إنَّ الخُلُق منيحة يمنحها الله! خَلْقَه، فمنه سجيَّة، ومنه نيَّة<، فقلت، فأيَّتهما أفضل؟ فقال: >صاحب السَّجية هو مجبولٌ لا يستطيعُ غيرَه، وصاحب النيَّة يصبر على الطَّاعة تصبُّرا، فهو أفضلهما<([20]).
2ـ أن تكون نابعة من فكرة سيِّئة
قد نلاحظ بعض المنحرفين فكرياً يحترمون كلَّ الآراء، فنتصوَّر أنَّ ذلك نابعاً من خُلُقٍ نبيل، ونيَّة حسنة، ولكن يتبيَّن أنَّ لديه عقيدة فاسدة هي التي جعلته يحترمك، فمثلاً قد يؤمن بالحريَّة المطلقة للإنسان، فهو يحترمك مع كونِك مسلماً وفق مبدئِه في حريَّة العقيدة، وفي نفس الوقت يحترمُ أصحابَ العقائدة الفاسدة، وأصحاب الشُّذوذ مثلا!! وهذا نابعٌ من عدم اهتمامه بما تؤول إليه هذه الأفكار والسُّلوكيات، وعدم الاهتمام بذلك يعدُّ من سوء الخلق لا من حسنها، ولهذا نرى الدَّفاع المستميت في هذه الزَّمن عن أصحاب الفواحش من باب تأكيد هذا المبدأ الفاسد، فالاحترام الظَّاهري فيه خبث باطني.
3ـ أن يكون بغرض الخداع والمكر
هناك من الناس ممَّن تمرَّن على المكْرِ والخِداع ورأى بأنَّ الوصول إلى الآخرين والتأثير عليهم لا يكون إلا بالأساليب النَّاعمة، والأخلاق الظَّاهرة، واللين، والعطف والحنان، والمساعدة، فيستخدم هذا الأسلوب، وفي الحديث: >من حَسُنَ خلُقُه كَثُر محبُّوه، وأنست النُّفوس به<([21])، فمثل هذا الشخص نيَّته فاسدة فلا وزن لهذا الخُلُق حينئذ، وينبغي الحذر منه.
4ـ أخلاق الإعارة
وردت رواية مهمَّة عن أبي عبد اللهg يقول فيها: >إنَّ الله تبارك وتعالى أعارَ أعداءَه أخلاقاً من أخلاقِ أوليائِه ليعيش أولياؤه مع أعدائه في دولاتهم<. وفي رواية أخرى: >ولولا ذلك لما تركوا ولياً لله إلا قتلوه<([22]). ففي الغالب هم المسيطرون، والحاكمون.
وفي رواية أخرى عن عبد الله بن كيسان، عن أبي عبد اللهg قال: قلت له: جعلت فداك أنا مولاك، عبد الله بن كيسان، قال: >أمَّا النَّسب فأعرفُه وأمَّا أنت، فلستُ أعرفك<، قال: قلت له: إنِّي ولدت بالجَبَل، ونشأتُ في أرضِ فارس، وإنَّني أخالط الناس في التجارات وغير ذلك، فأخالط الرَّجل، فأرى له حُسْن السَّمت وحسن الخلق و[كثرة] أمانة، ثمَّ أفتِّشه فأتبيَّنه عن عداوتكم، وأخالط الرَّجل فأرى منه سوء الخُلُق وقلَّة أمانة وزعارة، ثمَّ أفتِّشه فأتبيَّنه عن ولايتكم، فكيف يكون ذلك؟ فقال لي: >أما علمتَ يا ابن كيسان أنَّ اللهa أخذ طينة من الجنَّة وطينة من النَّار، فخلطهما جميعاً، ثمَّ نزع هذه من هذه، وهذه من هذه فما رأيتَ من أولئك من الأمانة وحسن الخلق وحسن السمت فمَّما مسَّتهم من طينة الجنَّة، وهم يعودون إلى ما خُلِقُوا منه، وما رأيتَ من هؤلاء من قلَّة الأمانة وسوء الخلق والزَّعارة، فمَّما مسَّتهم من طينة النَّار وهم يعودون إلى ما خُلِقُوا منه<([23])، ولا يعني ذلك أنَّ الإمامg يريد أن يبِّرر لهؤلاء سوء أخلاقِهم، وإنمَّا هو في مقام بيان سبب حصول ذلك.
والإيمان أيضاً قد يكون عاريةً {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}(الأنعام:98).
وهنا تجدر الملاحظة: إلى أنَّ هناك فرقاً بين أن نتعامل مع النَّاس بخُلُقٍ حسن، وبين أن ننظر إليه بما يتلائم ومستواه الإيماني، فنحن بمقتضى تديُّنِنا ونظرتنا الإسلامية ينبغي أن ننظر إليه بنفس المستوى الذي يراه اللهُ فيه، ومجرَّدَ كون الشخص محتوياً على الأخلاق الحسنة فإنَّ هذا يقتضي فقط التَّعامل معه بحسن، ولا تلازم بين حسن التَّعامل معه وبين النَّظر إليه أنَّه عدو لله.
النُّقطة السَّادسة: غير المتديِّن لا يمتلكُ كلَّ مكارمَ الأخلاق
وهنا نقطة جديرةٌ بالالتفات والتَّأمل، وتحتاج إلى تفعيل عنصر الوعي والغيرة على الدين معاً، وهي أنَّ الشخص الذي يمتلك بعضَ الصِّفات الأخلاقية الحسنة، دون أن يكون متديِّناً، لا يعني أنَّه يمتلك كلَّ الصِّفات الحسنة، كما أنَّ بعضَ المتدينين الذين يتَّصفون ببعض الصِّفات السيِّئة لا يعني أنَّهم خلْوٌ من كلِّ الصِّفات الحسنة، فهناك صفاتٌ تعدُّ من مكارم الأخلاق وغير المتديِّن لا يتَّصف بها، مثلاً ورد عن أبي عبد الله الصَّادقg قال: >إنَّ الله تبارك وتعالى خصَّ رسولَهe بمكارمِ الأخلاق، فامتحنوا أنفسَكم، فإنْ كانت فيكم فاحمدوا الله! وارغبوا إليه في الزِّيادة منها، فذكرها عشرة: اليقين، والقناعة، والصَّبر، والشَّكر، والحلم، وحسن الخلق، والسَّخاء، والغيرة، والشَّجاعة والمروءة<([24]).
فهذا الذي هو حَسُن الخُلُق بالنسبة إلى الحلم، وبشر الوجه والابتسامة، أو لديه صفة البذل والخدمة، هل يمتلك مثلاً خصلة الغيرة على الدِّين؟ إذا رأى المحرَّم والحرمات تنتهك يعترض أم يدعم؟! ألا يوجد بعضُ هؤلاءِ ممَّن وقفوا ضدَّ بعضَ الأحكام الشَّرعية؟ وأيدَّوا بعض القوانين المخالفة للدِّين؟!
ألا ينبغي أن تكونَ النَّظرة التَّقييمية للفرد بصورة شاملة وواسعة، بحيث تلحظ كلَّ الجوانب في شخصيته، فحسنُ الخُلُق في جهة وإن كان أمراً إيجابياً إلا أنَّ الجهات الأخرى التي يخلو منها وهي عنصر (التَّدين والإيمان) له سلبية أعظم وأكبر، ومفاسده أكثر حتى على المستوى الدنيوي فضلاً عن المستوى الأخروي.
وبعض الرِّوايات ذكرت أنَّ من مكارم الأخلاق >وذكر الله كثيراً< وبعضها >وقول الحقِّ ولو على نفسك<([25]).
بل غير المتديِّن لديه أسوءُ الصِّفات، وهي التَّمرُّد على الخالق، وعصيانه، وتحدِّيه في جبروته وسلطانه، والحكم بغير حكمه، والإفساد في الأرض، ونحن لا نقبل المتمرد على أبيه أو على أستاذه، أو على مديره في الشركة ونعتبره سيء الخلق، وإن كان متصفاً بالهدوء والابتسابمة مثلاً، فكيف بالتمرد على الخالق؟! فهو ظالم، ضالٌّ، مفسِد، وهذه أوصاف ذكرها القرآن الكريم لمثل هؤلاء، انظروا إلى لقمان الحكيم الذي قال عنه تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، ما هي مظاهر حكمتِه وعظاتِه لابنِه، يقولُ تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لقمان:13). وهي أوَّل عظة من لقمان لابنِه فيما ذكرَه القرآنُ الكريم.
ويقول القرآن عمَّن لا يستخدم عقله لأجلِ الوصول على الحقِّ وإلى الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}(الأعراف:179).
ويقول تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(طه:124). لأنَّ ذلك من مصاديق التكبُّر على الخالق العزيز ومحاربِته، {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}(السجدة:18).
وآخر دعوانا أن الحمْدُ للهِ ربِّ العالمين..
([1]) الكافي، ج2، ص99-100.
([2]) عيون أخبار الرضاg، ج2، ص56.
([3]) الوافي، الكاشاني، ج1، ص116، وشرح المقاصد، التفتازاني، ج1، ص5.
([4]) الكافي، ج2، ص99.
([5]) الكافي، ج2، ص99.
([6]) الكافي، ج2، ص102.
([7]) الكافي، ج2، ص100.
([8]) الكافي، ج2، ص102.
([9]) مجمع الزوائد، الهيثمي، ج8، ص25.
([10]) الكافي، ج2، ص117.
([11]) عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص330.
([12]) الكافي، ج2، ص164.
([13]) الكافي، ج2، ص83.
([14]) الكافي، ج2، ص24.
([15]) الكافي، ج2، ص27.
([16]) الكافي، ج2، ص38.
([17]) الكافي، ج2، ص38.
([18]) الكافي، ج2، ص75.
([19]) الكافي، ج2، ص81.
([20]) الكافي، ج2، ص101.
([21]) ميزان الحكمة، ج2، ص805، نقلا عن غرر الحكم.
([22]) الكافي، ج2، ص101.
([23]) الكافي، ج2، ص4.
([24]) من لا يحضره الفقيه، ج3/ ص554-555.
([25]) معاني الأخبار، ص191.
0 التعليق
ارسال التعليق