
الملخَّص
تعرَّض الكاتب في مقالته الفكرية إلى الشُّبهة القائلة بأنَّ الدِّين لجموده قاصرٌ عن مواكبة الحياة وتلبية المسائل الجديدة، فبعْدَ بيان الشُّبهة بصياغتين فكرية وروائية وذكر الأساس الذي بنيت عليه الشُّبهة، ذكر ستَّ حقائق فكرية مهمَّة ممهِّدة للجواب على تلك الشُّبهة، ثمَّ في النُّقطة الثَّالثة تعرَّض للرُّدود على تلك الشُّبهة وما يلحق بها من شبهات مثبتاً صلاحية الدِّين لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، وحاجة البشريَّة إليه.
مقدِّمة:
بسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم، اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّد..
الدين بثبات جانبه الاعتقادي والتشريعي -في نظر البعض- يُعدُّ في دائرة جمود لا يستطيع -وهو محبوسٌ داخلها- أن يجاري ما عليه حركة البشر من تطوُّر وتجدُّد، وهذا ما يفسِّر النُّفرة عند هؤلاء من دعوات التمسك بالدين حتى في مساحة الحركة الفكرية والعلمية؛ إذ إنَّها تُعتبر عندهم دعوات تخلّف ورجعية، وأريدُ أنْ أقفَ على هذه المسألة في عجالةٍ عبَر ثلاث نقاط؛ الأولى: في بيان الشُّبهة بصياغتين؛ فكرية وروائية. والثانية: في التأصيل إلى بعض الحقائق كممهّدات للجواب عن الشبهة. والثَّالثة: في بيان الرُّدود على هذه الشبهة.
النُّقطة الأولى: شبهة القصور والجمود
يمكن أن نتعرَّض إلى الإشكال بصياغتين كالتالي:
أوَّلا: الإشكال بالصِّياغة الفكريَّة
وهي تلاحظ جنبتين:
1) الجنبة الاعتقاديَّة:
وحاصلها القول: بأنَّ الدين يُعبِّر عن حالة أصولية ثابتة لا تتبدَّل ولا تتغيَّر مهما تبدَّلت الظروف، وهذا الجمود العقدي يعتبر عائقاً كبيراً أمام التطوُّر؛ لأنَّه يفرض نمطاً خاصّاً من التفكير والتحليل، ويُحَدُّ بأسسٍ تفرض امتداداتها حتى آخر ذيول المسائل الكبيرة والصغيرة، فهي منظومة معرفية ثابتة جامدة، تتغلغل لتضع يدها على كلِّ شيء بنحوٍ قطعي حدّي غير قابل للرد، وليس فيه من المرونة شيء، وهذا يتضارب مع حركة الحياة المتطوِّرة بطبيعتها.
2) الجنبة التشريعية:
وحاصلها: بأنَّ الشريعة ما دامت انعكاساً للعقيدة، فيرد عليها ما يرد على العقيدة، فهي مبتلاة بالجمود أيضاً، وفوق ذلك يمكن أن يقال: بأنَّ الدِّينَ قاصرٌ في فقهِه عن الإجابةِ على المسائل المعاصرة من جهة أخرى تتعلَّق بأصل صياغته ولحاظاته؛ لأنَّه جاء في حاضنة محدودة بفهم معيَّن، لا يمكن له أن يقفز على تراكماته وإرثه الثقافي الضيّق بحيث يستشرف ما سوف يقع في المستقبل من تبدّلات هائلة تنسف هذا الإرث، بحيث لا تبقي منه شيئاً صالحاً للاستمرار!
فهذا الفقه مهما كان قادرا -ومتمكِّنا- من تقديم الإجابات -ورفع الحيرة- في تحديد الموقف الشَّرعي التابع للشَّأن الفرديِّ الخاص، وربما حتى المجتمعي البسيط، أو حتى ما كان في رقعة أوسع من ذلك بقليل، إلا أنَّه ليس قادراً على الإدارة والقيادة للحركة البشريَّة العامَّة، فقد ينجح الدين -مثلاً- في توجيه الفرد بأنْ يقول له: لا تأكل هذا، ولا تلبس هكذا، وتجب عليك الصلاة، ويلزمك الصِّيام، وساعد الفقراء بالصدقة، وتعامل مع جيرانك بالحسنى، وغير ذلك ممَّا ينظِّم بعض العلاقات في عناوينها البسيطة الساذجة، إلا أنَّه يفشل حتماً أمام التحدِّيات الكبيرة في مسائل كالتعايش، والمواطنة، والإنسانية، ومشاكل العنصرية، والطائفية، والانتماءات، والتحزُّبات، والتنمية، ومسائل إدارة الدولة، ورسم سياساتها الداخلية والخارجية، وعقد الاتفاقيات الدولية، وطرق وضوابط ترشيدها على ما هي عليه اليوم من ترابط وتداخل وثيق، وتقديم أحكام الحرب والسلم، وتحديد أسس الأمن والعسكر، والتحالفات العالمية، وتحديد الأمثل من بين ما أنتجته العقليَّات الاقتصادية المعقَّدة، فضلاً عن نظريَّات الفلسفة الاجتماعية والمذاهب الفكرية المتعدِّدة والمتراكمة التي بُنيت عليها المجتمعات المتحضِّرة اليوم، فضلاً عن تمكُّن هذا الفقه من ملاحظة التأثيرات الكبيرة والخفيَّة والمتداخلة التي تربط بين العلوم الإنسانية المختلفة.
وغير ذلك كثيرٌ ممَّا يتعلَّق بشبكةٍ معقَّدة من شؤون الإنسان في أبعاد الصِّناعة، والتجارة، والتقنيات، والزراعة، والأحياء، والفلك، والطب، والعلوم الحديثة بصياغاتها الحالية، وهذه الفكرة الأم، هي ما أنتج لنا مصطلح العلمانية بتعريفاتها المتعدِّدة المخفّفة والثقيلة، وهي الفكرة التي جعلت الدين في طرف، والعلم في طرف مقابل بحيث لا يجتمعان، فرجَّحت كفّة العلم على الدين بناءً على هذا الافتراض.
ثانيا: الإشكال بالصِّياغة الرِّوائية
ومهما حاول المتديِّنون أن ينفوا هذه الشبهة عن الدين ببنائه العقدي وانعكاسه التشريعي، فإنَّهم غير قادرين على ذلك، خصوصاً مع ملاحظة ما ورد في تراثهم الرِّوائي الذي يؤكِّد حقيقة الجمود هذه، فممَّا ورد في هذا الشَّأن -ويُفهم منه عدمُ اهتمام الدين بالحياة، وعدمُ اعتداده ببنائها أصلاً-:
1) ما جاء: عن أبي الحسن موسى الكاظمg، قال: >دخل رسولُ اللهe في المسجد، فإذا جماعة قد أطافوا برجل، فقال: ما هذا؟ فقيل: علَّامة. قال: وما العلَّامة؟ فقالوا: أعلمُ النّاس بأنساب العرب، ووقائعها، وأيّام الجاهليّة، والأشعار، والعربيّة، قال: فقال النبيّe: ذاك علمٌ لا يضرُّ من جهله، ولا ينفع من علمه<([1])، فمحتوى هذه الرِّواية يلمِّح إلى أنَّ هذا النَّوع من العلوم الإنسانية المرتبطة بالتراث، والتأريخ، والجغرافيا، والأدب، واللغة، ليس بذي أهمية في النَّظرة الدينية، فلا يشجّع على خوضه، أو تعلّمه، فإنَّ ذلك مضيعة للوقت.
2) وكذلك ما جاء عن النبيّe: >إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل<([2])، فهو يحصر العلم فيما فُسِّر هذه الأمور الثلاثة على الترتيب: علم العقائد، ثمَّ علم الفقه، ثمَّ علم الأخلاق، وكلُّها علوم دينية، وما عداها فهو من الفضول الزَّائدة غير ذات فائدة حسب هذه الرِّواية.
3) وورد ما يثبت دعوى فكرة الجمود في الحديث الصحيح عن الصادقg: «حلال محمَّدe حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره، ولا يجيء غيره<([3]).
4) وورد ما يثبت أنَّ الدين بعد أن وصل إلى أوج كماله في فترة من الفترات الذهبية، فهو إلى أفول ونقصان كبقية الأمور على العادة، فلا يصلح هذا الدين لهذا العصر، فقد كمل الدين في عهد النبيe، وهو بعد كمالِه يؤول إلى النُّقصان، وما هكذا حالُه لا يتمكَّن من مجاراة حركة العصر المتجدِّدة.
وجاء في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}: "قال عمر: نزلت يوم عرفة، واليوم الثَّاني يوم النحر، فأكمل لنا الأمر، فعلمنا أنَّ الأمر بعد ذلك في انتقاص"([4])، وفي رواية أخرى عن رجل قال: سمعت رسول اللهe يقول: >إنَّ الإسلام بدأ جذعاً، ثمَّ ثنياً، ثمَّ رباعياً، ثمَّ سداسياً، ثمَّ بازلاً<، قال عمر: فما بعد البزول إلا النقصان ([5]).
والحاصل من كلِّ ذلك: أنَّ الدِّين في نفسِه عِلمٌ جامد، وفي نفس الوقت فإنَّه لا يحترم العلوم الإنسانية، ولا يعترف بحركتها وحاجتها إلى التطوُّر، ويسدُّ باب التصاعد، ولا يقبل أن يتيح لها فرصة الارتقاء، وهذا يعني عدم صلاحيته لقيادة الحياة.
تنبيهٌ على صدق الإشكال:
وممَّا قيل -كمنبِّه وجدانيّ مزعوم على صدق الإشكال المذكور-: ماذا قدَّم الدين في قبال ما قدَّم العلم الإنساني الحديث أثناء الأزمات كالأوبئة والزلازل وغير ذلك؟! وماذا قدَّم في سبيل تقدّم البشر ورفاهيتهم واستفاداتهم من موارد الكون في صالح تحسين معيشتهم وتسهيلها؟! لا شيء.
الرَّأي الفكري الناشئ عن ملاحظة الإشكال:
من هنا نشأت محاولات حلِّ المنافرة بين الدين والعلم في صياغتها العلمانية (اللادينية/الدنيوية) -على اختلاف معانيها-، ومعانيها وحلولها يمكن توصيفها إجمالاً في التالي:
المعنى الأوَّل: فصلُ الدِّين عن السياسة والدولة، وذلك بإلغاء الوصاية الدينيَّة مطلقاً، مع احترام كلِّ الأديان، والقول بحريَّة التعبير.
المعنى الثَّاني: فصلُ الدِّين عن الحياة العامَّة ككل، وحصره في مساحات فردية ضيِّقة جداً، فالرؤية هنا تقول بضرورة تفاعل البشر مع الحياة في مختلف مجالاتها على أساسٍ دنيوي لا روحاني، فهذه العلمانية تدَّعي احترام الدين كمعتقد فردي وخيار خاص، إلا أنَّها شرسة عليه بشكلٍ كبيرٍ حيثما شكَّل مظهراً عامّاً، فحينها تتعدّى حتى على هذه المساحة الفردية الخاصَّة، وتحاول صهرها في بوتقة المبادئ العلمانية العامَّة، فالحجاب ممنوع في السَّاحة العامَّة؛ لأنَّ له طابعاً دينياً ظاهرياً عامّاً، والصلاة في الأماكن العامَّة والأذان كذلك، بل حتى رفض الشذوذ يعتبر محاربة لأسس العلمانية، فهو يُعدُّ اليوم أمراً غير مسموح به حتى على مستوى امتناع الاختلاط بهم، أو عدم الاحتفاء بأيامهم، فضلاً عن التصريح بمضادّتهم أو مخالفتهم.
وبعبارة أخرى: حقيقة هذه العلمانية هي: قلبُ الوصاية من دينية إلى علمانية، فهي تفرض -بكلِّ ما للكلمة من معنى- وصاية بمبادئ علمانية حاكمة على أيِّ مظهرٍ مخالفٍ لانفتاحها المطلق.
المعنى الثَّالث: العلمانية الإسلامية، وهي علمانية هجينة مشوَّهة، وقد تكون هي الأخطر! فهي تأخذ من هذا ضغثاً ومن ذاك ضغثاً، وتحاول أن تمازج بينهما لإرضاء الطَّرفين، ومعناها باختصار: تقديم نموذج ذا جوهر علماني يؤمن بفكرة الفصل، ولكنَّه في الوقت ذاته يدَّعي أنَّ هذا الفصل مبني على أساس رؤية دينية؛ حيث إنَّه اجتهاد وقراءة حديثة للدِّين نفسه، وليس هروباً أو قطيعة أو محاربة للدين، والمعنى هنا:
1) أن نقول: إنَّ الدين من الأساس لا يمتلك أطروحة تتدَّخل في عالم السياسة وإدارة المجتمعات حتى يتصادم معها فيقال بالفصل، بل الدِّين مجموعة من القيم والمثل المنظِّمة لعلاقة الإنسان بربِّه وربَّما محيطه القريب، أمَّا ما يتعلَّق بالشَّأن العام فإنَّه متروك للعقل البشريّ وفهمه وتطوراته مع الزَّمن.
2) أو أن نقول: إنَّ مرونة التشريع الإسلامي قابلة لأن تتكيَّف مع منتجات العقل البشري، فتتحرَّك متماهية مع متطلَّبات العصر وتطوُّراته، فهذه المرونة حلٌّ يجعلنا في منطقة وسط، والجمع أكمل.
3) أو أن نقول: إنَّ تشخيص الموضوعات هو الذي يكون بيد العلوم الإنسانية، وأمَّا الأحكام فهي بيد الدِّين، كما يمكن التفريق أيضاً بين الموضوعات البسيطة الواضحة كالهلال والخمر والقمار، والموضوعات المعقدَّة كالحكومة والدَّولة، فالأُولى للدين أن يحدِّدها، بينما الثَّانية ليس له ذلك، وإلا صار عائقاً عن مماشاة التطوُّر والتصاعد.
4) أو أن نقول: إنَّ المصالح المشتركة التي تلتقي في بعض المساحات التطبيقية بين العلمانية والدين تقضي بالتمسُّك تنفيذياً بهذه المساحات، وتفعيل التقارب المشترك الذي تلتقي فيه الرُّؤية -مثلاً- عند رفض الاستبداد، وتحسين الأوضاع المعيشيَّة، والتَّركيز على النُّمو الاقتصادي، وجودة الإنتاج، وتوسيع رقعة الحقوق الإنسانية ممَّا يدعو إليه الطَّرفان بغضِّ النَّظر عن الخلفيات الفكريَّة، فالعلمانية الإسلامية -على هذا- تكتيك عملي تنفيذي لا يجد تضارباً مطلقاً بين الدين والعلمانية، وقد يقدِّم بعض التنازلات في معادلات موازنة مصلحية في حالات معينة.
وكيف كان: فإنَّ الفرق بين هذه العلمانية وبين سابقتيها، هو ادعاء الأولتين احترام الدين في إطاره الفردي خارجاً عن حاضنة الدين، أمَّا هذه فهي تقول بعين ذلك مستندة -بزعمها- إلى الدِّين نفسه، وهنا مكمن الخطورة.
النُّقطة الثَّانية: حقائق ممهِّدة
ومع اتضاح الفكرة العامَّة بالالتفات إلى التَّفاصيل السَّابقة، وقبل الانتقال إلى الأجوبة المباشرة على الشبهات المتقدِّمة، لا بدَّ من التوقُّف أولاً على بعض الحقائق والتنبيهات الهامَّة جداً في كشف اللثام وتوضيح الصورة، فهذه جملة من الحقائق التي يعتبر فهمها والالتفات إليها مقدِّمة لفهم مواقع المغالطات في هذه الشبهات، ونذكر منها التالي:
أولا: الحركة العلميَّة تتوقَّف على الحقِّ والقول بثباته
إنَّ الإنسان بفطرتِه طَلّابٌ للحقِّ، وهو يرغب في اتباعه تحصيلاً لآثاره الفعلية، وتجنباً لمفاسد مضادته، وهو في حركة تطوُّره وتصاعده العلمية إنَّما ينشد ما يكون حقاً ليبني عليه فرص التطوُّر والارتقاء، بمعنى أنَّ الحقَّ هو المبحوث الأوَّل للإنسان في الحركة العلمية؛ لأنَّه يدرك وجود واقع خارجي له نظام تكويني معيَّن مليء بالأسرار والكوامن، فتتمحور حركته العلمية حول كشف تلك الأسرار ومحاولة اصطياد قوانين هذا الواقع الخارجي؛ لتوظيفها في صالح الإنسان، وتسخير عناصره لرفاهيته وتطوُّره في مختلف المجالات.
وهذا الواقع الخارجي الذي جُعل معياراً لحركة التصاعد والتطوُّر هو عينُه ما يسمى حقاً؛ لأنَّ الحقَّ هو: (ما له كون ثابت في لوح الواقع، سواء كان عينا، أو سنة، سببا، أو أثرا)، وهذا ما يحرِّك الإنسان للتطوُّر، وإلا لو أذعن الإنسان بفكرة التغيُّر المطلق، والسفسطة، وعدم الواقعية، لما أمكن له أن يتحرَّك علمياً أصلاً؛ لأنَّ كلَّ ما جعله له هدفا ليكشف ألغازه، قابلٌ -حسب هذا الفرض- لأنْ يتبدَّل، فلا قوانين، ولا تكرار لعناصر الكون ونتائجه، إذ يبطل -حسب هذا الفهم- نظام العلية المنتج لمسألة الثبات، فبأيِّ منطلق عقلائي يسعى الإنسان حينها لكشف غوامض العلوم لتوظيف النتائج لصالحه؟!
قال العلامة الطباطبائيN في ميزانه: "والحقُّ والباطل مفهومان متقابلان، فالحقُّ هو الثابت العين، والباطل ما ليس له عين ثابتة"([6])، إذن: الحقُّ بثباتِه هو منطلق الحركة العلمية.
ثانيا: العقائد الإسلاميَّة حقائق تكوينيَّة ثابتة وفوقانيَّة
هذا الحقُّ الثابت الذي يعبِّر عن نقطة انطلاق البحث في العلوم، فهمه في كليَّات الوجود هو عينه ما يعبَّر عنه بمنظومة العقائد، فالعقائد حقيقتها هي تفسير ما عليه الواقع بالدليل الذي يرشد إلى حقيقة الخلق والخالق والحركة في هذا الكون والمعاد.
وهناك حقائق تكوينيَّة تعبِّر بمجموعها عن حالة الحقِّ الثابت في الكون، وتنعكس على أثرها طبيعة مسارات العلوم وكيفية حركتها، والخطأ في تحديدها، واستبدالها برؤية كونية وهميَّة يؤدِّي -لا محالة- إلى الخطأ في وجهة -وكيفية، وغرض- الحركة العلمية في العلوم الطبيعية الإنسانية، والوجه في ذلك واضح؛ إذ إنَّ حركة تطوير هذه العلوم معتمدة على القوانين الطبيعية الثابتة، فإذا أخطأ الباحث علمياً في تحديد أسس هذه القوانين، ومصدرها، وقَلَبَ الوهمَ واقعاً، والواقع وهماً، فإنَّ حركته ستكون وهمية أيضا، حتى لو اكتشف العديد من القوانين على ما هي عليه في الخارج؛ لأنَّ حركته ستكون ناقصة بالتأكيد، يحسب ما هو ناقص كاملا، ويظنُّ ما هو وسيلة غاية، ويعتقد أنَّ الحد الأقصى فيما هو أدنى واقعا، وهذا يؤثِّر حتما في توجيه حركة توظيف تلك القوانين.
وأذكر من تلك الحقائق ثلاثة نماذج أساسية:
1) تبعية الكون لله سبحانه كخالق.
2) تأثير المعاد فعليا بحقانيته وتجذُّره في باطن عالم الطبيعة.
3) أصالة جانب الروح في الإنسان.
والتأثير الأكبر لهذه الحقائق إنَّما يبرز في تحديد وجهة البحث في العلوم، وكيفية توظيفها، أمَّا نفس اكتشاف القوانين فهو ممَّا يمكن حتى مع فكرة الإلحاد الظاهري، وأقول: "الظاهري"؛ لأنَّه مهما حاول هؤلاء العلماء أن يتنكروا لهذه الحقائق، فإنَّهم لا يتمكَّنون من التنكُّر إلى ضرورة الإيمان بنظام العلِّية الذي ينتج الثبات، وإلا صار بحثهم العلمي سراباً، فوجدانهم -وفطرتهم- تؤمن بوجود الحقِّ الثابت الذي تكون القوانين العلمية تبعا له، بغضِّ النَّظر عن مصداق هذا الحقّ، فما يقولون به من إلحاد ليس إلحاداً حقيقةً.
وعليه: فإنَّ هذه الحقائق المذكورة لو أُنكرت، فإنَّ إنكارها لا يمنع استكشاف القوانين بنحو وبآخر، شريطة الإيمان بأصل الحقِّ، ولكنَّ إنكار هذه الحقائق الثابتة يؤثِّر لا محالة في توجيه حركة العلم، فمن استبدل محورية الخالق بمحورية الإنسان، ومن أنكر المعاد وقال بالدهرية والصدفة، ومن أنكر الروح واستغرق في المادة، فإنَّه سينظر إلى هذه القوانين الطبيعية في العلوم نظرة ضيقة محدودة، ستؤثِّر على توجيه توظيفها بالنحو الصحيح، لتكون متضاربة مع النظرة الأشمل التي تربط هذه الطبيعيات -بقوانينها- بمنظومة معرفية واحدة مع الخالق العظيم، الذي خلق الملكوت كما خلق الملك، وجعل المعاد مستبطَنا في هذا العالم، ودعا الإنسان في حركته العامَّة لأنْ يؤصِّل جانب الروح ويجعله هو المعيار.
قال تعالى في سورة النجم: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا * فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}(النجم:28،29،30).
ثالثا: العلاقة بين الثَّابت والمتغيِّر
والسؤال هنا يقول: هل يتنافى الثبات مع الحركة مطلقا؟ وليس المقصود هنا السؤال عن إمكانية اجتماع الضدين، فهو محال بالتأكيد، ولكنَّ السُّؤال بمعنى: هل أنَّ المتحرِّك لا يمكن أن يتحرَّك ضمن أمر ثابت، فلا يمكن له إلا أن ينفلت عن أيِّ علاقة مع أيِّ ثابت؟ أو يمكن للمتحرِّك أن ينطلق في حركتِه دون تلكؤ مع محافظتِه على علاقته بالثَّبات بنحوٍ ما، ومن جهة أخرى؟
والجواب: إنَّ التغيير بالحركة المطلقة التي لا ترجع إلى أيِّ ثابت أمر لا يتناسب مع ثبات الكون ورسوخ الحقِّ فيه كمستند ومرجع تكويني أصيل، كما أنَّه لا يمكن أن يعبِّر عن هوية ثابتة تشكِّل حضورا وتأثيرا مستمرا، ومع ملاحظة ذلك نقول: إنَّ الحركة المنتجة هي تلك التي تتعلَّق بأصول وجذور ثابتة توجِّه هذه الحركة بما يتناسب مع الحقِّ الثابت، دون أن تتضارب معه، وهذا ما يحفظ هوية هذه الحركة، فما يعبِّر عن جانب الثبات هو: الكليات المفاهيمية الراجعة إلى جذور تكوينية حقانية ثابتة، هذا لا يمكن أن يتبدَّل أو أن يتغيَّر، فمن خلق الكون هو خالقه الفعلي، وهو الله تعالى، هذه حقيقة لا يمكن أن تتبدَّل، ومن يمدُّ هذا الكون بالوجود فيكون بحاجته في ذلك دائماً هو الله، لا يمكن أن يتبدَّل ذلك بأن يحلَّ مكانه أحد، لأنَّ الرابط تكويني حقيقي، والغرض من خلق الإنسان هو تحديد مصيره في المعاد، لا يمكن أن يتبدَّل ذلك، والخلق الناشئ عن الحكمة المطلقة قضى بأن يكون الإنسان ذا بعدين، روح ومادة، وأنَّ الأصل فيه -المعبِّر عن هويته الحقيقية- هي الروح، لا البدن، هذه كلُّها حقائق تابعة لتكوين ثابت لا يمكن أن يتغيَّر.
أمَّا حركة التغيير والتطوير، فلا تطال هذا الجانب، بل تتعلَّق بجانب آخر يستند إلى جانب الثبات ليحافظ على هويته وأصالته التكوينية، ولا يقع في الخيال والوهم، فالحركة حينئذ تكون في المصاديق المتجدِّدة، قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(النحل:5-8).
كما أنَّ الحركة قد تكون في جهة استكشاف القوانين الطبيعية، وإيجاد الرابط الواقعي بينها وبين المكتشف فعلاً، فتكون نتائج وتطبيقات جديدة، يُبنى عليها في المستقبل، وهكذا، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}(الإسراء:25)، فضلاً عن ربط قوانين عالم الطبيعة بقوانين العالم الأصل، والاطلاع على الملك بعين الملكوت، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(طه:114)، {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}(الأنعام 75).
وينبِّه –وجداناً- على خطأ فكرة ونظرية الحركة المطلقة بلا حاجة إلى ثبات: ناقضية نفس القول بالتغيُّر المطلق كفكرة لنفسها، حيث إنَّها ستكون -بتطبيق هذه الكليَّة- غير ثابتة أيضاً، فلا تصلحُ للبناء عليها، وما يلزم منه نقض نفسه بتثبيته أقصر باعاً من أن ينقض غيره وينافره، {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}(سبإ: 48)، {وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}(الشورى: 24).
رابعاً: نظرتان للفقه الإسلامي
مع التأمُّل في الفقه الإسلامي، لا ينبغي إغفال إمكان ملاحظته بلحاظين، والقول -حينها- بالفرق بين الفقه التجزيئي المتناثر الذي يجيب عن المسائل على نحو القضية المنطقية (موضوع وحكم)، وبين الفقه التركيبي الذي يُنظر إليه كنظرية ذات إطار شمولي ومعالم منهجية واضحة، وهو يجيب على نحو النظرية العامَّة.
إنَّ التفريق بين هذين اللحاظين سيسهم في علاج المشكلة المذكورة كما سوف يتَّضح.
خامسا: علاقة الدِّين بالعلوم الإنسانية
وهنا سؤال له دخل بما نحن فيه، يقول: ما هي علاقة الدين ببقيَّة العلوم الإنسانية؟ هنا رؤيتان:
الرؤية الأولى: أنَّ الدين أجنبيٌّ عنها، كالعلاقة بين علم الطبِّ، وعلم النحو مثلا، فالطبُّ علم تكويني، والنحو علم اعتباري، موضوع الطبِّ هو جسم الإنسان، وموضوع النحو هو الكلمة من حيث إعراب أواخرها، الغاية من الطبِّ تصحيح أسقام البدن، والغاية من النحو تصحيح النطق، فلا علاقة لأحدهما بالآخر، ولا رابط بينهما، وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى الدين وبقية العلوم الإنسانية، فالدين يلبي الحاجات الروحية للإنسان، ويعطيه تفسيرا عاما لوضع الكون بما يصحِّح أوضاعه الروحية فيه وفيما يستقبله من عالم الآخرة، فيهمُّه من هذا التفسير تكوين علاقة صحيحة بينه وبين الخالق، فيرشد أفكاره وأخلاقه ويضع سلوكياته على الصراط القويم بما يتناسب مع مفرزات العقيدة، وهذا كلُّه يصحِّح الأوضاع من الناحية المعنوية الروحية.
وأمَّا العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع، أو علم الطب، أو علوم الصناعات والزراعة، وغير ذلك، فإنَّها علوم تتولى سدَّ الحاجات المادية في وجود الإنسان، وتتعامل مع حال الطبيعة على ما هي عليه في الخارج دون تدخُّل الإنسان، فهي تدرس القوانين التي تحكم العالم الطبيعي، وتتكيَّف معها بتوظيف ما يمكن توظيفه لخدمة الجانب الكثيف في الإنسان، تصحيحاً وتقويماً واستفادةً ورفاهيةً.
الرؤية الثَّانية: هي علاقة تكوينية واسعة شاملة، بينها رابط وثيق يجمع كلَّ العلوم ببعضها البعض، ومع الرجوع إلى تقسيمات العلوم وتصنيفها نجد لحاظات متعدِّدة جدا أفرزت تقسيمات وتصنيفات عديدة، والمسألة لا زالت محلَّ جدلٍ، إلا أنَّ النتيجة الثابتة من وراء جميع هذه التقسيمات تقول بوجود رابط بين العلوم، لعلَّ أشملها وأجمعها ما قسم العلوم إلى طبيعيات وما وراءها، واعتبر الفلسفة والحكمة علماً يبحث فيه الوجود بما هو -وهو ما سُمِّي بالإلهيات-، وأمَّا سائر العلوم -مهما تعدَّدت- فإنَّها تبحث عن الوجود الخاص ولو كان اعتباريا؛ إذ إن مآل الاعتباري للحقيقي، فالرابط بين جميع العلوم هو الوجود، والذي أسميناه الحقّ سابقا، والوجود والحقُّ هو الله تعالى، فهو أصل العلوم؛ لأنَّ كلَّ ما في العلوم يبحث عن جهة خاصَّة من الوجود الذي هو انعكاس لله تعالى، وهذه هي نظرية التوحيد الأشمل.
إذن: كلُّ العلوم مبنيَّة على أساس نظرة فلسفية حِكَمية تعرّف الوجود، وتربط بين أجزاء الوجود رباط المنظومة الواحدة ذات الأجزاء المتناسقة، والفقه الديني بالمعنى الأعمّ هو الأقدر على توصيف المتماشي مع هذه المنظومة، لا تلك المعرفة المبتنية على أساس أوهام الإنسانوية ومتخيَّلاتِها، حيث مع ما تمكَّنت فيه من تفجير أسس علمية طبيعية -تؤمن في باطنها بنظام العلل والمعلولات الذي قامت عليها المنظومة التكوينية المزبورة-، إلا أنَّها تبقى -باعترافهم- مجهولة في القسم الأكبر الطبيعي، فضلا عن الجزء المجرَّد الذي لا يعترفون به أصلا، فضلا عن الإقرار بضرورة دراسته وإضافته إلى المنظومة المعرفية، فهؤلاء لا يؤمنون إلا بالمادة، والمادة آلية التعرُّف فيها هي التجربة والحس، فنطاقها محدود جدا، والإنسان مغرور جدا بنفسه حيث يظنُّ أنَّه ملك الكون بملكه قوانينه، وهو لا يعلم أيَّ شيء عن الطرف المقابل في عالم الملكوت! قال تعالى في توصيف هذه الحالة -بما يشمل توصيف حال علم الإنسان حتى في هذا الطرف الذي يعيشه المسمَّى بعالم الدنيا في جزئه المادي الطبيعي-: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}(الإسراء:25)، وقال سبحانه: {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(البقرة:216)، وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}(يوسف:76)، وكلُّ ما يمكن أن يُبذل من جهد إنساني هنا هو محاولة إصابة الواقع بحقانيته، بينما الأمر معكوس في الشأن الإلهي –عكس الشأن الإنساني-، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ}(الحج6)، لا أنَّه يتبع الحقَّ، بل الحقُّ هو الله تعالى، وما ينعكس عن صفاته الذاتية من نظم نسميه: العالم، والكون، فانظر إلى الفرق بين النظرتين!
سادسا: التطوُّر البشريُّ بين داعيَين:
لا بدَّ من التفريق في النتاجات البشرية -التي تستدعي الحاجة، وتوجد المشكلة لتطالب بالحلول- بين ما نتج عن التفكير العقلائي؛ رغبةً في الرقي في سلّم التكامل، وتلبية الحاجات حتى المادية منها، وسدِّ الضرورات الناتجة عن التطور الزماني التصاعدي، وبين ما نتج عن السفاهة، والأوهام، والتخيلات، والاستغراق في المادية، والرفاهية، والأنسنة، والفردانية، وغير ذلك ممَّا يتوغَّل في الانحطاط ابتعاداً عن الخطِّ التكويني الواقعي الذي يعيش فيه([7]).
قال العلَّامة في (الميزان) كلاماً مهمّاً ننقله رغم طوله: "إنَّ الاجتماع الإسلامي شعاره الوحيد هو: اتباع الحقِّ في النظر والعمل، والاجتماع المدني الحاضر شعاره اتباع ما يراه ويريده الأكثر، وهذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكوِّن، فغاية الاجتماع الإسلامي السعادة الحقيقية العقلية، بمعنى أن يأخذ الإنسان بالاعتدال في مقتضيات قواه.. ولذلك وضع الإسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على اتباع الحقِّ، وشدَّد في المنع عمَّا يفسد العقل السليم، وألقى ضمان إجراء الجميع من الأعمال والأخلاق والمعارف الأصلية إلى عهدة المجتمع، مضافا إلى ما تحتفظ عليه الحكومة والولاية الإسلامية من إجراء السياسات والحدود وغيرها، وهذا على أيِّ حال لا يوافق طباع العامَّة من الناس..
وأمَّا غاية الاجتماع المدني الحاضر فهي التمتُّع من المادَّة، ومن الواضح أنَّ هذه تستتبع حياة إحساسية تتبع ما يميل إليه الطبع، سواء وافق ما هو الحقّ عند العقل، أو لم يوافق، بل إنَّما يتبع العقل فيما لا يخالف غايته وغرضه، ولذلك كانت القوانين تتبع في وضعها وإجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع، وميول طباعهم.. وأمَّا الأخلاق والمعارف الأصلية فلا ضامن لإجرائها..
ولازم ذلك أن يعتاد المجتمع -الذي شأنه ذلك- بما يوافق هواه من رذائل الشهوة والغضب، فيستحسن كثيرا ممَّا كان يستقبحه الدين، وأن يسترسل باللعب بفضائل الأخلاق والمعارف العالية مستظهرا بالحرية القانونية، ولازم هذا اللازم أن يتحوَّل نوع الفكرة عن المجرى العقلي إلى المجرى الإحساسي العاطفي، فربما كان الفجور والفسق في مجرى العقل تقوى في مجرى الميول والإحساسات، وسُمي فتوة وبُشرا وحسن خلق كمعظم ما يجري في أوروبا بين الشبان وبين الرجال والنساء المحصنات، أو الأبكار، وبين النساء والكلاب، وبين الرجال وأولادهم ومحارمهم، وما يجري في الاحتفالات ومجالس الرقص، وغير ذلك ممَّا ينقبض عن ذكره لسان المتأدِّب بأدب الدين.
وربما كان عاديات الطريق الديني غرائب وعجائب مضحكة عندهم، وبالعكس، كل ذلك لاختلاف نوع الفكرة والإدراك باختلاف الطريق..، إذا تأمَّلت هذا الاختلاف تبيَّن لك وجه أوفقية سنة المجتمع الغربي لمذاق الجامعة البشرية دون سنة المجتمع الديني، غير أنَّه يجب أن يتذكَّر أنَّ سنة المدنية الغربية وحدها ليست هي الموافقة لطباع الناس حتى تترجح بذلك وحدها، بل جميع السنن المعمولة الدائرة في الدنيا بين أهلها من أقدم أعصار الإنسانية إلى عصرنا هذا من سنن البداوة والحضارة تشترك في أنَّ الناس يرجِّحونها على الدين الداعي إلى الحقِّ في أوَّل ما يعرض عليهم لخضوعهم للوثنية المادية، ولو تأمَّلت حقَّ التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى غير أنَّها تحولت من حال الفردية إلى حال الاجتماع، ومن مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية.
والذي ذكرناه من بناء السنة الإسلامية على اتباع الحقِّ دون موافقة الطبع من أوضح الواضحات في بيانات القرآن، قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}، وقال تعالى: {والله يقضي بالحق}، وقال في وصف المؤمنين: {وتواصوا بالحق}، وقال: {لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون}، فاعترَفَ بأنَّ الحقَّ لا يوافق طباع الأكثرين وأهواءهم، ثمَّ ردَّ لزوم موافقة أهواء الأكثرية بأنَّه يؤولُ إلى الفساد، فقال: {بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون}"([8]).
النُّقطة الثَّالثة: الرُّدود على الشُّبهات
بعد ملاحظة الأمور الستة السابقة، نأتي الآن لردِّ الشبهات السابقة، ويمكن إجمالها -تحت مظلة الشبهة الأم، ممثّلةً في جمود الدين- في أربع شبهات:
الشُّبهة الأولى: الجمود العقائدي
وحاصلها: أنَّ جمود العقائد يفرض جمود المنظومة المعرفية الدينية ككل، فلا يلبِّي حاجة العصر.
والجواب فيما تقدَّم من أنَّ:
1) الحركة العلمية تفتقر إلى حقائق ثابتة تستند إليها.
2) وأنَّ العقائد الإسلامية هي القوالب الفكرية المعبِّرة عن تلك الحقائق الثابتة في الواقع الخارجي.
3) وأنَّه لا بدَّ من التفريق بين الجمود المطلق المطبق، وبين الجمود الذي يشكِّل معتمدا ومنطلقا للحركة المتزنة.
فالمتغيِّر -الذي هو حركة تطوُّر العلوم- لا بدَّ فيه من الرجوع إلى ثابت –وهو الواقع الخارجي بقوانينه وسننه وعناصره وأعيانه-، وإلا صار بلا هوية، وبلا تأثير، والعقائد الإسلامية مبنيَّة على تكوينيات ثابتة حقانية، غير قابلة للتبدُّل؛ لأنَّها كذلك خارجاً، وانطلاق الأفكار لا بدَّ -لكي يعبِّر عن حقانيته- أن يستند في حركته إلى هذا الحقّ الثابت التكويني، وإلا عاد سفسطةً وهراءً مهما تجمَّل بالمصطلحات، ومهما كان معبِّرًا كمنتَجٍ عن عقلية كبيرة متخصِّصة في هذا العلم أو ذاك؛ إذ إنَّ المسمَّيات لا قيمة لها بقدر ما تبتعد عن الواقع، ولو كان بتزييف وتزيين.
يقول العلَّامة في (الميزان) حول هذه المسألة: "ربما أمكن أن يقال: هب أنَّ السُّنَّة الإسلامية سنَّة جامعة للوازم الحياة السعيدة، والمجتمع الإسلامي مجتمع سعيد مغبوط، لكن هذه السُّنَّة لجامعيتها وانتفاء حرية العقيدة فيها تستوجب ركود المجتمع..، فإنَّ السير التكاملي يحتاج إلى تحقُّق القوى المتضادة في الشيء وتفاعلها حتى تولِّد بالكسر والانكسار مولودا جديدا خاليا من نواقص العوامل المولدة التي زالت بالتفاعل، فإذا فرض أن الإسلام يرفع الأضداد والنواقص وخاصة العقائد المتضادة من أصلها فلازمه أن يتوقَّف المجتمع الذي يكونه عن السير التكاملي.
أقول: وهو من إشكالات المادية التحولية (ماترياليسم ديالكتيك) وفيه خلط عجيب فإنَّ العقائد والمعارف الإنسانية على نوعين: نوع يقبل التحوُّل والتكامل، وهو العلوم الصناعية التي تستخدم في طريق ترفيع قواعد الحياة المادية.. كالعلوم الرياضية، والطبيعية وغيرهما..
ونوع آخر لا يقبل التحوُّل -وإن كان يقبل التَّكامل بمعنى آخر-، وهو: العلوم والمعارف العامَّة الإلهية التي تقضي في المبدأ -والمعاد والسَّعادة والشَّقاء وغير ذلك- قضاءً قاطعاً واقفاً غير متغيِّر ولا متحوِّل، وإن قبلتْ الارتقاء والكمال من حيث الدِّقة والتعمُّق، وهذه العلوم والمعارف لا تؤثِّر في الاجتماعات وسنن الحياة إلا بنحو كلي، فوقوف هذه المعارف والآراء وثبوتها على حال واحد لا يوجب وقوف الاجتماعات عن سيرها الارتقائي، كما نشاهد أن عندنا آراءا كثيرة كلية ثابتة على حال واحد من غير أن يقف اجتماعنا لذلك عن سيره، كقولنا: إن الإنسان يجب أن ينبعث إلى العمل لحفظ حياته..، وقولنا: إن العالم موجود حقيقة لا وهما. وإنَّ الإنسان جزء من العالم. وإن الإنسان جزء من العالم الأرضي..، ومن هذا القبيل القول بأنَّ للعالم إلها واحدا شرَّع للنَّاس شرعاً جامعاً لطرق السعادة من طريق النبوة، وسيجمع الجميع إلى يوم يوفيهم فيه جزاء أعمالهم وهذه هي الكلمة الوحيدة التي بنى عليها الإسلام مجتمعه وتحفظ عليها كل التحفظ..
والحاصل أنَّ المجتمع البشري لا يحتاج في سيره الارتقائي إلا إلى التحوُّل والتكامل يوماً فيوماً في طرق الاستفادة من مزايا الطبيعة وهذا إنَّما يتحقَّق بالبحث الصناعي المداوم وتطبيق العمل على العلم دائماً، والإسلام لا يمنع من ذلك شيئا"([9]).
الشُّبهة الثَّانية: المحدوديَّة التَّشريعيَّة
وقد أجيب للتوِّ عن شكلها الأوَّل الملاحظ لتبعية الجانب التشريعي للجانب العقائدي، فيكون جامداً بجموده، ويبقى شكلها الثَّاني؛ بمعنى: أنَّ التشريع جاء مُقَوْلَبًا بمقاس الظروف التي نزل فيها، ولا قابلية له لمعالجة المستجدِّات الهائلة.
والجواب: في أمرين:
الجواب الأوَّل: أنَّ التشريع عندما يلحظ فيه المشرِّع البيئةَ الخاصَّة، والفترة الزمنية المحدودة، فنعم، يصحُّ الإشكال، ولكنّ المدَّعى في التشريع الإسلامي -بمقتضى خاتميته- هو أنَّه صِيْغَ بنحوٍ يبقى حتى انتهاء الدنيا، وهذا ثابت بالضرورة، سواء وقفنا على كيفية هذه القابلية للاستمرار واقتنعنا بها، أو لم نقف عليها، فضلاً عمَّا إذا وقفنا عليها ولم نقتنع بعقولنا القاصرة، وهناك عدَّة نظريات تذكر في هذا الشَّأن تحاول أن تبيِّن مرونة التشريع الديني وقدرته على المواكبة، ليس هنا محلّ تفصيلها.
الجواب الثَّاني: ملاحظة ما تقدَّم من التفريق بين الفقه باللحاظ التجزيئي، والفقه باللحاظ التركيبي، فالفقه باللحاظ التجزيئي ربما لا يتمكَّن من الإجابة المباشرة على مستجدَّات المشاكل المعاصرة؛ لأنَّه أطر من أوَّل الأمر بمشكلة ذات زمن مختلف جدا، وكان يصبُّ النظر حول علاجها بما هي موضوع ملحوظ من كامل حيثياته التي يدخل تأثير الزمان والمكان والبيئة ضمن تكوينه، أمَّا الفقه بالنظرة الأعمّ والأشمل، والذي يُلحظ فيه التشريع كمنظم سلوكي يستند إلى قواعد عقائدية تستند بدورها إلى وضع التكوين الثابت، فهو بصفته التركيبية كروح وجوهر وأصول لا يمكن أن يغفل أيّ مسألة مهما استجدَّت بتقدُّم الزمان، فهو سيبقى يمتلك الإجابة عنها مهما تعقدَّت، إذ إنَّها لن تخرج بحال عن قوانين التكوين التي تشكل مستندا لقوانين التشريع عبر مرآة العقائد الثابتة.
إذن: من طالَب الفقه التجزيئي بما هو تجزيئي –لا بما هو جزء المنظومة الفقهية المعرفية المتكاملة بوصفها التركيبي- بمعالجة القضايا المعاصرة كمشاكل عامَّة، فإنَّه أخطأ الطريق؛ فهو مثل من طالب بعض مسائل الرياضيات كأمر جزئي مؤطَّر أن تعالج ما تعالجه النظريات الرياضية ذات القوانين الكلية الثابتة.
ورغم ذلك نقول: إنَّ الفقه التجزيئي بفروعه الممتدة والمنبسطة على تقسيمات علم الفقه، تشكِّل بمجموعها صورة الفقه النظرية، فهو مستوعب لما يحتاجه المكلَّف تكليفا ووضعا بنحو فردي واجتماعي لا يستهان به حتى لو لم يُلحظ بوصفه التركيبي، قال الآغا بزرك الطهراني في (الذريعة) عن كتاب (التحرير) للعلامة الحلي: "(1375 : تحرير الأحكام الشَّرعية) على مذهب الإمامية في تمام الفقه لآية الله العلامة الحلي المتوفى سنة 726، اقتصر فيه على مجرَّد الفتوى، وترك الاستدلال، لكنَّه استوعب الفروع والجزئيات، حتى أنَّه أُحصيت مسائله فبلغت أربعين ألف مسألة، رتَّبها على ترتيب كتب الفقه، في أربع قواعد للعبادات والمعاملات والإيقاعات والأحكام"([10])، ووصف أيضاً كتابَه (قواعد الأحكام) بقوله: "وهو أجلُّ ما كُتب في الفقه الجعفري بعد كتاب الشرايع، فهو حاوي لجميع أبواب الفقه، وقد أُحصيت مسائله في ستماية وستين ألف مسألة، وقيل: إنَّه أُحصيت مسائله في ماية ألف مسألة وإحدى وأربعين، والله العالم"([11]).
وقال بعض العلماء: "وبالنتيجة: فما يترقب في المسائل المعاصرة أعمُّ من الفقه المدرسي، ولا يعدُّ ذلك نقيصة فيه؛ حيث إنَّه لا يحمل هكذا رسالة في حدِّ ذاته كما يظهر من تعريفه أيضا، فلا تطلبوا الأعمَّ من الأخص، فلا تطلبوا من الفقه التجزيئي المتناثر -في حدِّ ذاته- أن يجيب على مطالبات هي أكبر من ظرفيته، مثل تأسيسه الأسس الأخلاقية، والأسس المعرفية، والاجتماعية، والإنسانية، فذلك يحتاج إلى مجاهدات علمية وعينية من الصالحين والمصلحين في الخارج، وهذا أمر آخر غير نفس المسائل الفقهية بالاصطلاح المنطقي؛ أي: القضايا حمليةً وشرطيةً.
فلا بدَّ من الانتقال من فقه القضية -عبر ساحة الفقاهة- إلى فقه النظرية للإجابة على تلك التساؤلات التي تتطلَّب تبيان نظام شامل تجاه جوانب معينة، تتبلور في خضمِّها المواقف الشرعية"([12]).
إذن: الكليات العقدية ثابتة بثبات التكوين، وهي تنتج أصولا تشريعية ثابتة أيضا؛ لأنَّه تشريع واقعي، يلحظ الحقَّ، وهذا لا يتبدَّل، وإذا تبدلت المصاديق واستجدت، فتبقى الروح والكليات نفسها على ما هي عليه؛ لأنَّ التكوين لا يتبدَّل، والموضوع المستجد لن يخرج عن ثوب التكوين، بل هو مفرز من مفرزات سننه وقوانينه الثابتة مهما استجد، وهذا المصداق الجديد سيكون منطبقا لتلك التشريعات الثابتة التي تشمله بأصولها تارة، وربما بفروعها تارة أخرى، وبهذا يُعلم ما هو المقصود من الحديث الصحيح: >حلال محمَّدe حلال إلى يوم القيامة..<([13]).
قال العلامة في (الميزان): "هل الإسلام بشريعته يفي بإسعاد هذه الحياة الحاضرة؟ ربما يقال: هب أنَّ الإسلام لتعرُّضه لجميع شؤون الإنسانية الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي في إيصاله مجتمع ذاك العصر إلى سعادتهم الحقيقية، وجميع أمانيهم في الحياة، لكن مرور الزَّمان غيَّر طرق الحياة الإنسانية، فالحياة الثقافية والعيشة الصناعية في حضارة اليوم لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرنا.. فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكلة العبقرية اليوم؟ وكيف يمكن أن تحمل كلاً من الحياتين أثقال الأخرى؟
والجواب: أنَّ الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليَّات شؤونها، وإنَّما هو من حيث المصاديق والموارد، وبعبارة أخرى: يحتاج الإنسان في حياته إلى غذاء يتغذَّى به، ولباس يلبسه، ودار يقطن فيها ويسكنها.. وغير ذلك، وهذه حاجة كلية غير متغيِّرة ما دام الإنسان إنسانا ذا هذه الفطرة والبنية.. والإنسان الأوَّلي وإنسان هذا اليوم في ذلك على حدٍّ سواء.
وإنَّما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الإنسان بها حوائجه المادية، ومن حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبَّه لها وبوسائل رفعها..
وكما أنَّ هذه الاعتقادات الكليَّة التي كانت عند الإنسان أوَّلا لم تبطل بعد تحوِّله من عصر إلى عصر، بل انطبق الأوَّل على الآخر انطباقاً، كذلك القوانين الكليَّة الموضوعة في الإسلام طبق دعوة الفطرة واستدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيلة مكان وسيلة ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظاً من غير تغيُّر وانحراف، وأمَّا مع المخالفة فالسُّنة الإسلامية لا توافقها، سواء في ذلك العصر القديم والعصر الحديث"([14]).
الشُّبهة الثَّالثة: ماذا قدَّم الدِّين في الأزمات؟
وبالنسبة إلى شبهة: ماذا قدَّم الدين للبشرية في مثل الأوبئة والزلازل والأزمات؟!
فبناء على الرؤية الأولى في تحديد علاقة الدين ببقية العلوم الإنسانية -المتقدِّمة في قولنا: "خامسا" في النُّقطة الثَّانية-، فإنَّ هذا السُّؤال يكون خاطئا جداً؛ لأنَّ الدِّين في واقعه وجوهره مختلف عن واقع وجوهر متعلَّقات الجانب المادي، وما ذُكر من أوبئة وزلازل وكوارث، فإنَّها تتعلَّق بالجانب المادي، والدين لا علاقة له بهذه الأمور من الأساس، فلا تجد أحدا يسأل مثلا: ماذا أفادنا المهندس واللحام في جائحة (كورونا)؟!
وبناء على الرؤية الثَّانية -وهي الصحيحة-، المبتنية على حاكمية الجانب الروحي الأصيل على الجانب المادي، وملاحظة الإسلام لكلا الأمرين معاً، فيكون الدين قد رشّد الحركة، ووضّح الطريق للسلوكيات التي ينبغي أن تتحرَّك في دائرة الأزمات الإنسانية الطبيعية، فحين يُسأل: ماذا قدَّم الدين في جائحة (كورونا) مثلا؟ يجاب: إنَّه قدَّم أحكاماً فطريَّة وإنسانية وتكوينية تضمن حركة صحيحة في إدارة هذه الأزمة، فيأتي الدين في هذه الأزمة ليوجب بالوجوب الكفائي -من منطلق إلهي وإنساني، لا اقتصادي إضراري، أو إثرائي لفئة خاصَّة- إقامة التجارب للتوصُّل إلى علاجٍ طبِّي بالتطعيم أو غيره، ويحرم سرقة الأدوات الطبية والكمامات، ويحرم احتكار التطعيمات والكمامات والأدوية، ويحرم الاختلاط والتقارب حتى في المساحات الشعائرية الدينية، ويحمّل المسؤولية للفرد ضمانا حالة التهاون، ويفرض ضرورة التعاون على البرّ بين الدول وتناسي الخلافات في هذا الشأن الإنساني، ويحرِّم الاستفادة من هذا السلاح البيولوجي وانتهازه كفرصة للتخلُّص من الأعداء، ويوجب الالتزام بالتعاليم الطبيَّة بحذافيرها، وغير ذلك الكثير ممَّا يتكفَّل إدارة أصل حركة المواجهة لهذا الوباء بطرق منطقية وعقلائية لا تتدخَّل فيها الأهواء والمنافع الذاتية، هذا ما قدَّمه الدين في هكذا وباء، وفي غيره من أزمات طبيعية، وحتى في غير الأزمات، حيث يحثُّ على طلب العلم بشتى أنواعه على نحو الوجوب الكفائي، لتحقيق الاستقرار ومواكبة التطورات وتتبع أسباب قوة المجتمع المؤمن في مختلف المجالات العلمية دون استثناء.
يقول الشيخ محمَّد مهدي شمس الدين في كتابه (التاريخ وحركة التقدُّم البشري): "إنَّ الذي يخترع الآلات وينشئ المؤسَّسات، ويبتكر الخطط هو عقل الإنسان، بعد أن تتوفَّر له دواعي النمو والانطلاق، فإذا تآخت معها قيم الروح والأخلاق، حقَّق الإنسان إنجازات مادية وتنظيمية تتفق مع مقتضيات الإيمان، وتوفِّر للإنسان حياة سعيدة طيبة، ورضوان الله والنجاة في الآخرة، وإذا لم تتآخ قيم الروح والأخلاق مع دواعي النمو والانطلاق في التعامل مع الكون المادي، حقَّق الإنسان إنجازات مادية وتنظيمية توفِّر له القوة، واللذة والرخاء، دون أن توفِّر له السعادة وطيب الحياة"([15]).
الشُّبهة الرَّابعة: الرِّوايات تؤكِّد الجمود
ويمكن الجواب عن الإشكال الرِّوائي بالتَّالي:
1) وجود الآيات والرِّوايات المعارضة التي تدعو لطلب العلم بنحوٍ مطلق، وتبيِّن أنَّ الدين إنَّما بُني على العلم بسائر امتداداته، وكذلك الآيات التي تذكر تسخير الأرض وما عليها للإنسان، والتي تحثُّه على الاستفادة من قوانينها وتكويناتها أفضل استفادة كل بحسب ما توصل إليه في عصره، كذلك الآيات التي تتكلَّم عن أنَّ العاقبة للمتقين، وحكم العالم سيكون في منتهى الأمر إلى أصحاب الدين في آخر الزمان، ممَّا يدلُّ على عدم جموده، وصلاحيته للقيادة والريادة.
2) لو صحَّت الرواية التي تدلُّ على حصر العلم النافع في العلوم الدينية الثلاثة، وكذلك الرواية التي تنفي النفع من وراء علم الأنساب والتأريخ والشعر واللغة، فهي محمولة على النسبيَّة، وبيان الأولوية في صرف الوقت؛ أي: أنَّ هذه العلوم الثلاثة لو أضيفت لبقية العلوم، فإنَّها الأهم، بحيث يكون ما قابلها بمثابة العدم؛ وذلك باعتبارها تلبي الحاجة النهائية الأصيلة من وجود الإنسان ضمن فكرة أصالة الروح، وعبودية الإنسان للخالق، وانتهائه إليه بالمعاد، وباقي العلوم إنَّما تلبي الحاجات الفانية المرتبطة بهذا العالَم الفاني، فهذا لا يعني عدم أهميَّتها، ولكنَّها لو قورنت بالعلم الذي يضمن حياة مستقرَّة في عالم البقاء، فإنَّها كالقطرة في البحر لا تعدُّ شيئاً، فهي الأولى بصرف الوقت والجهد.
3) يمكن إدخال العلوم الإنسانية في الحصر بملاحظة العناوين الثانوية، بل بملاحظة عنوان الكفاية أيضاً؛ حيث إنَّ الفقه شامل لكلِّ شيء، وما دام أصل وجود المجتمع المؤمن اليوم -والحفاظ على قوَّته، واستقلاليته عن دول الكفر التي تكيد به ليلا نهارا- متوقِّفا على الاستغراق في هذه العلوم الحديثة، واستكشاف كوامنها، فإنَّها تكون على نحو الواجب الكفائي.
4) النقصان -على فرض صحَّة الرواية الواردة عن عمر، وهي ليست كذلك- محمول على النقصان التطبيقي، لا النقصان بمعنى القصور في نفس التشريع، فكأنَّ هذه الروايات تلحظ ما جاء في وصف آخر الزمان أنَّ الإسلام يعود غريباً من جهة تطبيقه، والأنس بأحكامه في الذهنية المجتمعية العامَّة، وإلا فإنَّ نفس التشريع الإسلامي غير قابل للأفول والضعف ما دام مستندا إلى حقائق تكوينية ثابتة بواسطة العقائد الحقَّة كما قلنا.
قال العلامة الطباطبائي في (الميزان): "فهذه الرِّوايات -كما ترى- تروم بيان أنَّ معنى نزول الآية يوم عرفة إلفات نظر الناس إلى ما كانوا يشاهدونه من ظهور أمر الدين واستقلاله بمكَّة في الموسم، وتفسير إكمال الدين وإتمام النعمة بصفاء جو مكة ومحوضة الأمر للمسلمين يومئذ، فلا دين يُعبد به يومئذ هناك إلا دينهم، من غير أن يخشوا أعداءهم ويتحذروا منهم.
وإن شئت فقل: المراد بالدِّين صورة الدين المشهودة من أعمالهم، وكذا في الإسلام، فإنَّ هذا المعنى هو الذي يقبل الانتقاص بعد الازدياد، وأمَّا كليَّات المعارف والأحكام المشرعة من الله فلا يقبل الانتقاص بعد الازدياد الذي يشير إليه قوله في الرِّواية: "إنَّه لم يكمل شيء قطّ إلا نقص".."([16]).
ثمَّ وضَّح مستدركاً أنَّ المراد من الدين هو شريعته، وهي غير قابلة للنقصان، فلا معنى لحمل الدين هنا على أنَّه ظهوره بينهم دون مزاحمة الكافرين لهم، وهو المعنى الذي يمكن أن يتعرَّض إلى النقصان، فالدين هو نفس معارفه وأحكامه، وهذا غير قابل للانتقاص، خلافاً للفهم العمري، قالN: "وهذا ما ذكرناه: أنَّ معنى إكماله الدين إكماله من حيث تشريع الفرائض فلا فريضة مشرعة بعد نزول الآية، لا تخليص أعمالهم وخاصة حجهم من أعمال المشركين وحجهم، بحيث لا تختلط أعمالهم بأعمالهم، وبعبارة أخرى يكون معنى إكمال الدين: رفعه إلى أعلى مدارج الترقي حتى لا يقبل الانتقاص بعد الازدياد.
وفي تفسير القمي.. عن أبي جعفرg قال: >آخر فريضة أنزلها الولاية، ثمَّ لم ينزل بعدها فريضة، ثمَّ أنزل: {اليوم أكملت لكم دينكم} بكراع الغميم، فأقامها رسول اللهe بالجحفة، فلم ينزل بعدها فريضة<"([17]).
وقالN في بيان عدم شمول سنة النقصان للدِّين لكونه مبتنياً على الحقائق الثابتة: "الدين الحقُّ هو الغالب على الدُّنيا بالآخرة، والعاقبة للتقوى، فإنَّ النَّوع الإنساني بالفطرة المودوعة فيه تطلب سعادته الحقيقية، وهو استواؤه على عرش حياته الروحية والجسمية معا حياة اجتماعية بإعطاء نفسه حظَّه من السلوك الدنيوي والأخروي، وقد عرفت أنَّ هذا هو الإسلام ودين التوحيد، وأمَّا الانحرافات الواقعة في سير الإنسانية نحو غايته وفي ارتقائه إلى أوج كماله فإنَّما هو من جهة الخطأ في التطبيق، لا من جهة بطلان حكم الفطرة، والغاية التي يعقبها الصنع والإيجاد لا بدَّ [من] أن تقع يوماً معجَّلا أو على مهل، قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، يريد: أنَّهم لا يعلمون ذلك علماً تفصيليا، وإن علمته فطرتهم إجمالا، إلى أن قال: {ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون}، إلى أن قال: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}.. فهذه وأمثالها آيات تخبرنا أنَّ الإسلام سيظهر ظهوره التَّام، فيحكم على الدنيا قاطبة.
ولا تصغِ إلى قول من يقول إنَّ الإسلام -وإن ظهر ظهوراً ما، وكانت أيامُه حلقة من سلسلة التاريخ، فأثَّرت أثرها العام في الحلقات التالية، واعتمدت عليها المدنية الحاضرة شاعرة بها أو غير شاعرة-، لكنَّ ظهوره التَّام -أعني حكومة ما في فرضية الدين بجميع موادها وصورها وغاياتها- ممَّا لا يقبله طبع النوع الإنساني، ولن يقبله أبداً، ولم يقع عليه بهذه الصِّفة تجربة حتى يوثق بصحَّة وقوعه خارجاً وحكومته على النوع تامَّة.
وذلك أنَّك عرفت أنَّ الإسلام -بالمعنى الذي نبحث فيه- غاية النوع الإنساني، وكماله الذي هو بغريزته متوجِّه إليه، شعر به تفصيلاً أو لم يشعر، والتجارب القطعية الحاصلة في أنواع المكونات يدلُّ على أنَّها متوجِّهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها، يسوقها إليها نظام الخلقة، والإنسان غير مستثنى من هذه الكلية"([18]).
والنتيجة: أنَّه لا ثغرة في الدين تجعله ناقصا قاصرا عن أن يلبِّي حاجات الناس، خصوصا أنَّ الدين بتطبيقه الكامل لم يحكم إلا في ظرف قصير بتقصير من الناس، فالقصور في الناس الذين ابتعدوا عن الدين بترك ولاية آل البيتi، والله تعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}(المائدة:66)، ثمَّ قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}(المائدة:67)، يعني: في ولاية عليٍّ وأهل البيتi، لكنَّ الناس أبوا عن التسليم لهذه الولاية، وتتالى رفضهم لها بأنحاء متعدِّدة، والله المستعان.
([1]) الكافي، الكليني، ج1، ص32.
([2]) المصدر نفسه.
([3]) الكافي، الكليني، ج1، ص58.
([4]) كنز العمال، المتقي الهندي، ج2، ص399.
([5]) مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص462.
([6]) الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج14ص262.
([7]) راجع: استعداد فقه الإمامية لحلِّ المسائل العصرية، للعبدي، ص34.
([8]) الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج4، ص101.
([9]) الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج4، ص118.
([10]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة، الشيخ آغا بزركـ الطهراني، ج3ص378.
([11]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة، الشيخ آغا بزركـ الطهراني، ج14 ص17، وراجع: استعداد فقه الإمامية لحلِّ المسائل العصرية، للعبدي، ص24.
([12]) استعداد فقه الإمامية لحلِّ المسائل العصرية، العبدي، ص31.
([13]) الكافي، الكليني، ج1ص58.
([14]) الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج4، ص120.
([15]) التاريخ وحركة التقدُّم البشري ونظرة الإسلام، الشيخ محمَّد مهدي شمس الدين، ص76.
([16]) الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج5، ص198.
([17]) الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج5، ص200.
([18]) الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج4، ص131.
0 التعليق
ارسال التعليق