الإمام الحسين عليه السلام وعقيد الرجعة

الإمام الحسين عليه السلام وعقيد الرجعة

الملخّص: 

أشار الكاتب في هذا المقال إلى عقيدة الرجعة في معناها اللغوي والاصطلاحي، وأهميتها، وما هو موقف جملة من أكابر علماء الطائفة حول عقيدة الرجعة، مع ذكر كلماتهم واتفاقهم على ثبوتها، وبيان الاختلاف في كونها من الضروريات المذهبية أم من المسلّمات المذهبية.

ثم أشار إلى الأدلة القرآنية على عقيدة الرجعة وإمكانها ووقوعها، ثم بيّن الأدلة الروائية مستنداً في كلّ ذلك على ما أورده العلماء في المجاميع الحديثية، والكتب العقائدية حول عقيدة الرجعة، وكلمات جملة من الأعلام المعاصرين.

وبعدها انتقل الكاتب إلى بيان رجعة الإمام أبي عبدالله الحسينg، وما جاء من النصوص الروائية في حقّها، مقسِّماً المطلب فيها إلى جهتين:

الأولى: النصوص الدالة على أصل رجعة الإمام الحسينg.

والثانية: معالم رجعة الإمام الحسينg في الروايات مقسّماً إياها على أقسام خمس.

ثم ختم البحث مؤكّداً فيه على أنّ الإمام الحسينg ليس ماضٍ فقط، وإنما هو مستقبل أيضاً في عالم الرجعة.

 

مقدّمة:

يعتبر البحث العقائدي من الأبحاث الأساسية الضرورية؛ لأنّ العقيدة هي التي تفرز سلوك الإنسان، فإنّ أيّ سلوك يقع في الخارج لا يتحقّق إلا بعد وجود اعتقاد سبق ذلك السلوك.

وهذا ما أكّد عليه القرآن الكريم في آياته المباركة في سورة البقرة حيث قال الله تبارك وتعالى: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(البقرة:2-3)، فقد قدّم الإيمان بالغيب -وهو عقيدة- على إقامة الصلاة -وهي العمل-، فقدّم الأصل على الفرع؛ لأنّ الذي لا يؤمن بعقيدة المعاد لن يقيم الصلاة، وأما الذي يؤمن بعقيدة المعاد فهو الذي سوف يقيم الصلاة.

ومن هنا يتّضح أهمية البحث في الفقه الأكبر وهو العقيدة، وفي مختلف الأبواب الاعتقادية الحقّة، لما له من دور كبير في التأثير على تفكير الإنسان وحركته وسلوكه.

ومن المسائل الاعتقادية التي انفردت بها الشيعة الإمامية (أنار الله برهانها) هي عقيدةُ الرجعة، استناداً على القرآن الكريم والسُنة المطهّرة الشريفة عن النبي الأعظمe والأئمة الحجج الطاهرينi، والبحث فيها له فوائد جمّة وكبيرة، فيؤثّر في نظرة الإنسان لمفهوم الموت والحياة، والمفاهيم المرتبطة بالحياة كالعزّة والذلّة، والنصر والهزيمة، وكذلك له تأثير في أخلاق الإنسان وسلوكه.

وقد أُلِّفَت كتبٌ كثيرة لبيان هذه العقيدة الشريفة، وبيان حقيقتها وأدلتها وأهميتها، تارةً كُتِبَ حولها في كتبٍ مستقلة بها، وتارةً أخرى كُتِبَ حول هذه العقيدة في ضمن الكتب الخاصة ببيان عقائد الشيعة الإمامية، ومن تلك المؤلّفات التي خُصِّصَت لبيان عقيدة الرجعة -على سبيل المثال لا الحصر-:

  1.  إثبات الرجعة، للعلامة السيد محمد السبزواري الموسوي الأصفهاني، المعاصر للعلامة المجلسي.
  2.  كتاب الرجعة، للمولى محمد الطاهر بن الحسين الشيرازي، شيخ الإسلام بقم المقدسة.
  3.   كتاب الرجعة، للعلامة السيد هاشم البحراني، صاحب تفسير البرهان.
  4.  كتاب الرجعة، للعلامة الشيخ عبدالله السماهيجي البحراني، صاحب كتاب الصحيفة العلوية.
  5.  الرجعة، للميرزا محمد مؤمن بن دُوست محمد الحسيني الإسترابادي، الشهيد بمكة سنة 1088 هـ.
  6.  الإيقاظ من الهجعة في البرهان على الرجعة، للفقيه المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، صاحب الوسائل، المتوفى سنة 1104 هـ.
  7.  الشيعة والرجعة، الشيخ محمد رضا الطبسي النجفي، (مجلدين).
  8.  مشكاة الأنوار في إثبات رجعة محمدٍ وآله الأطهارi تأليف الشيخ محمد بن علي آل عبد الجبار البحراني.
  9.  الرجعة بين الظهور والمعاد، آية الله الشيخ محمد السند، (5 مجلدات).
  10.  محاضرات في الرجعة، السيد علي الصدر الحسيني.
  11.  إثبات الرجعة، الشيخ علي آل محسن.
  12.  الرجعة، العلامة الشيخ سليمان المدني البحراني.

وغيرها من الكتب المخصّصة لبيان هذه العقيدة([1])، والكتب التي ذكرت وأشارت لعقيدة الرجعة من الكتب الروائية؛ ككتاب أصول الكافي، وبصائر الدرجات، وكتب التفاسير، والاعتقادات للصدوق، وكتب أصول الدين وغيرها، وكذلك الكتب التي تصدّت لشرح الزيارة الجامعة الكبيرة، فقد أشير فيها لبحوث عديدة حول عقيدة الرجعة.

ومن الثابت والمسلّم به في عقيدة الشيعة الإمامية بالرجعة من خلال النصوص الكثيرة هو رجعةُ رسول الله الأعظم محمدe والأئمة الطاهرينi، والشهداء، ومن محض الإيمان محضاً، ومن محض الكفر محضاً إلى الدنيا.

وإنّ لسيد الشهداء الإمام الحسينg دوراً عظيماً وكبيراً في عالم الرجعة، حيث إنّه أول إمامٍ من أئمة أهل البيتi يكرّ في زمان الرجعة في أواخر دولة الظهور لإمام العصر والزمان الحجة المهدي l، فقد أكّدت الروايات المعصومية عن أهل بيت العصمةi على رجعة الإمام الحسينg وأنّ له دولةً في ذلك العصر، وكذا أشارت الروايات الشريفة لجملة من المعالم والأحداث التي ستقع في رجعة الإمام أبي عبدالله الحسينg.

ولذا ينبغي التأكيد في ختام هذه المقدّمة على أنّ موضوع عقيدة الرجعة موضوعٌ غيبي، ولا يوجد سبيل للدخول إلى عالمه إلّا من خلال الرجوع إلى النصوص الشريفة المباركة التي تحدّثت عنه؛ لأنّه موضوع غيبي، وبحسب اعتقادنا أنّ النصوص الشريفة عن أهل البيتi باب وقناة من قنوات الغيب وبيان المستقبل.

ومن أجل التعرّف على رجعة الإمام سيد الشهداء الحسينg، لا بُدّ من التعرّف على أصل عقيدة الرجعة من أجل التعرّف على رجعته؛ لارتباط البحث بها.

فيكون البحث تحت عنوان: (الإمام الحسينg وعقيدة الرجعة) في نقاط:

النقطة الأولى: التعريف اللغوي والاصطلاحي للرجعة:

التعريف اللغوي: بمعنى العود والرجوع مقابل الذهاب([2])، ويطلق عليها الكَرَّة بمعنى الرجوع، ومنه اشتقاق كلمة تكرار([3])، والكَرَّة: البعث وتجديد الخَلْق بعد الفَناء([4]). 

التعريف الاصطلاحي: هي رجوع أهل البيتi إلى الدنيا ورجوع كثير من الأموات إلى عالم الدنيا.

وقد بيّنها المحدّث الشيخ الحرّ العامليS فقال: "اعلم أنّ الرجعة هنا هي الحياة بعد الموت قبل القيامة، وهو الذي يتبادر من معناها"([5]).

وقال العلامة المظفر S: "أنّ الذي تذهب إليه الشيعة الإمامية أخذاً بما جاء به أهل البيتi أنّ الله تعالى يعيد قوماً من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعُزّ فريقاً، ويذلّ فريقاً آخر، وذلك عند قيام مهدي آل محمدi، ولا يرجع إلا من عَلَت درجته في الإيمان، أو من بلغ الغاية من الفساد، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور، وما يستحقّونه من الثواب والعقاب"([6]).

النقطة الثانية: أهمية عقيدة الرجعة

إنّ عقيدة الرجعة تعتبرُ من الحقائق القطعية التي قد دلّت عليها الأدلة والبراهين، وقامت عليها إجماعات الإمامية.

وإنّ ما يثبت أهميتها وجودها بشكل دائم في الأدعية والزيارات، وتأكيد الاعتقاد بها وتجديد الاعتراف بها، مضافاً لما في القرآن الكريم والروايات الشريفة، فإنّ تربية الإنسان الشيعي وتعليمه من قِبل الأئمة الطاهرينi في مناجاته وأدعيته وزياراته لمراقد أهل البيتi على ذِكر الرجعة والاعتراف بها دليلٌ واضح على أهميتها، وأنّها من الأمور التي لها ذِكرٌ ووجود في حياة الشيعي، كما يجدّد الاعتراف بعقيدة التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد يوم القيامة.

ولهذا المعنى أشار الحر العامليS في الإيقاظ، بقوله: "إنّا مأمورون بالإقرار بالرجعة واعتقادها وتجديد الاعتراف بها في الأدعية والزيارات ويوم الجمعة وكلّ وقت، كما أنّا مأمورون بالإقرار في كثير من الأوقات بالتوحيد والنبوة والإمامة والقيامة، وكلّ ما كان كذلك فهو حقّ، والصغرى ثابتة بالنقل المتواتر الآتي، والكبرى بديهيّة؛ فالرجعة حقّ"([7]).

النقطة الثالثة: الرجعة في أقوال علماء الشيعة الإمامية

لقد احتلّت عقيدة الرجعة موقعاً كبيراً في كلمات علماء الشيعة الإمامية، كسائر العقائد الأُخرى، فإنّ أساطين الطائفة وأكابرها الذين يقع على عاتقهم بيان العقائد الحقّة للمؤمنين، وتوضيح ما التبس عليهم في فهمها، وإزالة تشكيكات المرجفين لضعفاء المؤمنين؛ حتى تتضح معالم الدين وأساسياته.

لذا قد ذُكِرت الرجعة في كثير من كلمات علماء الإمامية، وتمّ التأكيد عليها، وبيان حقيقتها وإمكانها والأدلة عليها، وإنّ الاطّلاع على كلماتهم من الضرورة بمكان حتى يتمّ إزالة اللوابس والاشتباهات، ومن خلال بياناتهم في الاهتمام بهذه العقيدة نُدرك أنّ من الوظائف الملقاة على عاتق علماء الإمامية هو بيان العقائد الحقّة للناس، ومن تلك العقائد عقيدة الرجعة.

وكلمات العلماء في عقيدة الرجعة كثيرة، منها:

الأول: الشيخ الصدوقS قال: "اعتقادنا في الرجعة أنّها حقّ"([8]).

الثاني: الشيخ المفيدS قال: "اتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وإن كان بينهم في معنى الرجعة إختلاف"، ثم قال أيضاً: "قد جاء القرآن بصحّة ذلك، وتظاهرت به الأخبار، والإمامية بأجمعها عليه إلا شذّاذ منهم"([9]).

الثالث: السيد الشريف المرتضىS قال: "اعلم أنّ الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه أنّ الله تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان المهديl قوماً ممّن كان قد تقدّم موته من شيعته، ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته. ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم، فيلتذّوا بما يشاهدون من ظهور الحقّ وعلوّ كلمة أهله"([10]).

الرابع: الشيخ الحر العامليS قال: "فإنّ ثبوت الرجعة من ضروريات مذهب الإمامية عند جميع العلماء المعروفين والمصنّفين المشهورين"([11]).

الخامس: العلامة المجلسيS قال: "أجمعت الشيعة على الرجعة في جميع الأعصار، واشتهرت بينهم كالشمس في رابعة النهار"([12]).

السادس: الشيخ فخر الدين الطريحيS قال: "الرجعة -بالفتح- هي الكرّة بعد الموت بعد ظهور المهديl وهي من ضروريات مذهب الإمامية، وعليها من الشواهد القرآنية، وأحاديث أهل البيتi ما هو أشهر من أنْ يُذكَر، حتّى أنَّه ورد عنهمi من لم يؤمن برجعتنا ولم يقرُّ بمتعتنا فليس منّا"([13]).

السابع: السيد عبدالله شبرS قال: "اعلم أنّ ثبوت الرجعة مما اجتمعت عليه الشيعة الحقّة والفرقة المحقّة، بل هيّ من ضروريات مذهبهم..."([14]).

الثامن: العلامة البحراني الشيخ حسين العصفورS قال: "المسألة الثانية في الرجعة: ومما يجب الإقرار به على المكلفين القيامة الصغرى، لكنها غير عامة لسائر الناس، وإنما يرجع إلى الدنيا من محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً، وقد تفرّد بهذه الإمامية إلا من شذّ منهم ممّن لا يتدبّر الآيات القرآنية والأخبار المعصومية"([15]).

التاسع: السيد الإمام الخمينيS قال: "إنّ أصل الرجعة من ضروريات المذهب، دلّت عليها الآيات والروايات، والاختلاف في جزئياتها لا يسقط ثبوتها"([16]).

العاشر: المقدّس الشيخ الميرزا جواد التبريزيS عندما سُئِل: ما هي عقيدتنا في الرجعة؟ أجاب: "هي من المسلّمات عندنا، وقد دلّت عليها الروايات، وفيها الصِّحاح، والله العالم"([17]).

والمتحصّل من بيان كلمات جملة من أعلام الطائفة: أنّ أصل عقيدة الرجعة عند الشيعة الإمامية أمرٌ من الثوابت، وأنّها من المسائل الواضحة قرآناً وروايةً، ولا خلاف بين الأعلام في أنّها من الثوابت، ويؤيّد ذلك ما جاء عن سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (مدّ ظله الشريف) في جواب استفتاء له، قال: "الرجعة في الجملة ثابتة بمقتضى الروايات الكثيرة الواردة عن الأئمةi، ونحن نؤمن بها، ولا نعلم تفاصيلها، ويكفي فيها الموافقة الإجماليّة"([18])، وإنّما قد وقع الخلاف عند الأعلام في تحديد أنّها من ضروريات المذهب أم من مسلّماته.

الرأي الأول: بأنّ عقيدة الرجعة من ضروريات المذهب، رأي جماعةٍ من أعاظم العلماء، كالشيخ الحرّ العاملي، والشيخ فخر الدين الطريحي، والسيد عبدالله شبر، والسيد الإمام الخمينيS، وكذلك السيد الكلبيكانيS حيث قال: "الرجعة وجزئيّاتها في الجملة ثابتة، ولا يبعد كونها من ضروريّات المذهب"([19]).

الرأي الثاني: بأنّ الرجعة من مسلّمات المذهب -وليست من الضروريات-، فهو رأي معظم مراجع الدين المعاصرين([20])، ومنهم المقدّس الشيخ الميرزا جواد التبريزيS، وقد أشار الفقيه السيد محمد صادق الروحانيS بأنّها من المسلّمات في إحدى إجاباته على الاستفتاءات العقائدية، قال عن الرجعة: "من مسلّمات مذهبنا بالجملة، ويكفي الاعتقاد بها إجمالاً"([21]).

النقطة الرابعة: الرجعة في القرآن الكريم

لقد تحدّثت آيات القرآن الكريم في مواطن عديدة عن رجعة الأموات، حيث بيّنت تارةً إمكان وقوعها، وتارة أخرى أنّها قد وقعت، وليست ممكنة فحسب، وكذلك في روايات تفسير الأئمة الطاهرين من أهل البيتq للآيات الشريفة وتأويلها ما يدلّ على أنّها قد وقعت، وسوف تقع في المستقبل.

ومن تلك الآيات:

الآية الأولى: قول الله a: {أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ}(القيامة: 40)، فإنّ هذه الآية المباركة دالة على إمكان الرجعة، فإنّها من قسم إحياء الموتى.

الآية الثانية: قول الله  مخاطباً نبيه عيسى بن مريمg: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي}(المائدة: 110)، فإنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على وقوع الرجعة وحصولها، في زمن نبي الله عيسىg، حيث إنّه قد أحيى الموتى بإذن الله a، وأنّ جميع الموتى الذين أحياهم النبي عيسىg بإذن الله a رجعوا إلى دار الدنيا وبقوا فيها، ثم ماتوا بآجالهم.

الآية الثالثة: قوله تبارك وتعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(البقرة: 259)، وهذه الآية الكريمة من الواضحات في وقوع الرجعة.

وقد جاءت روايات عديدة في تفسيرها وبيانها([22])، ومنها ما جاء في مجمع البيان، قال: "وروي عن عليg: >أنّ عزيراً خرج من أهله وامرأته حامل وله خمسون سنة، فأماته الله مائة سنة ثم بعثه، فرجع إلى أهله ابن خمسين، وله ابن له مائة سنة، فكان ابنه أكبر منه، فذلك من آيات الله<"([23]).

الآية الرابعة: قوله عزّ وجلّ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ}(النمل: 38)، وهذه من الآيات الواضحة والجليّة التي استدلّ بها كلّ علماء الإمامية الذين بحثوا في الآيات القرآنية الدالة على عقيدة الرجعة، وتعتبر من أهم الآيات في هذا البحث.

فقد ذكر الشيخ الحر العامليS: "قد وردت الأحاديث الكثيرة في تفسيرها بالرجعة، على أنّها نصّ واضح الدلالة ظاهر بل صريح في الرجعة؛ لأنّه ليس في القيامة قطعاً، وليس بعد القيامة رجعة إجماعاً، فتعيّن كون هذه الرجعة قبلها، وإنّما آية القيامة {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}(الكهف: 47)، وإذا ثبت أنّه يحشر من كلّ أمّة فوجاً ممن يكذّب بآيات الله، ثبت باقي أقسام الرجعة، وإلّا لزم إحداث قول ثالث، مع أنّه لا قائل بالفرق، فإنّ الإماميّة تقرّ بالجميع، والعامّة تنكر الجميع، فالفارق خارق للإجماع"([24]).

الآية الخامسة: قول الله سبحانه وتعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(النحل: 38)، فما رواه الشيخ الكليني([25])والشيخ الصدوق([26]) أنّها نزلت في الرجعة، وقد أشار الصدوق إلى أنّها في الرجعة استناداً لما جاء في الآية اللاحقة لهذه الآية وهي قوله تعالى: {ليُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} (النحل: 39)، حيث قالS: "والتبيين يكون في الدنيا لا في الآخرة"([27]).

والآيات القرآنية الشريفة في عقيدة الرجعة آياتٌ كثيرة جدّاً، ذكر منها الشيخ الحر العامليS أربعاً وستين آية في كتابه الإيقاظ([28]).

النقطة الخامسة: الرجعة في روايات أهل البيتi

أما إثبات عقيدة الرجعة في روايات أهل البيتi فهيّ كثيرة جدّاً، وقد بلغت المئات، وقد بلغت إلى حدّ التواتر المعنوي، فقد قال الحرّ العامليS: "ولا ريب في بلوغ الأحاديث المذكورة حدّ التواتر المعنوي بدليل إيجابها لليقين، لكلّ من خلا قلبه من شبهة أو تقليد، وبدليل جزم العقل، وباستحالة تواطؤ جميع رواتها على الكذب، وبدليل الاستقراء والتتبّع للأخبار"([29]). 

ومن تلك الروايات الشريفة:

الرواية الأولى: ما جاء في عيون الأخبار عن الحسن بن الجهم -في حديث طويل- أنّ المأمون قال لأبي الحسن الرضاg: يا أبا الحسن فما تقول في الرجعة؟ فقال الرضاg: >إنها لحقّ، قد كانت في الأمم السالفة، ونطق به القرآن، وقد قال رسول اللهe: يكون في هذه الأمّة كلّ ما كان في الأمم السالفة حذو النّعل بالنّعل والقذّة بالقذّة<([30]).

فقد أكّد الإمامg على كون هذه العقيدة حقّاً، ثم أكّد على ثبوت وقوعها في الأمم السالفة، واستدلّ على وقوعها في أمة النبي الأعظمe بالحديث النبوي، وهو حديث رواه أيضاً علماء العامة([31])، فكما وقعت الرجعة في سالف الأمم، سوف تقع أُمّة النبي الأعظم محمّدe.

الرواية الثانية: ما رواه الشيخ الطوسيS في المصباح الكبير: في أعمال يوم الجمعة عن الصادقg أنه قال: >من أراد أن يزور قبر رسول اللهe وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسينi وقبور الحجج وهو في بلده فليغتسل يوم الجمعة -إلى أن قال:- وليقل: اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا النَّبِي الْمُرْسَلُ، وَالْوَصِي الْمُرْتَضى، وَالسَّيِّدَةُ الْكُبْرى، وَالسَّيِّدَةُ الزَّهْراءُ، وَالسِّبْطانِ الْمُنْتَجَبانِ، وَالأَوْلادُ الأعْلامُ، وَالأُمَناءُ الْمُنْتَجَبُونَ. -إلى أن يقول:- فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لا مَعَ عَدُوِّكُمْ، إنّي لَمِنَ الْقائِلينَ بِفَضْلِكُمْ، مُقِرٌّ بِرَجْعَتِكُمْ، لا أنكِرُ للهِ قُدْرَةً، وَلا أزْعُمُ إلاّ ما شاءَ اللهُ سُبْحانَ اللهِ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ<([32]).

ففي هذا النصّ الشريف إقرارٌ برجعة أهل البيتi.

الرواية الثالثة: ما رواه ابن بابويه في كتاب الفقيه([33]) وعيون الأخبار([34]) والشيخ الطوسي في التهذيب([35]) بأسانيدهما الصحيحة: عن محمد بن إسماعيل البرمكي عن موسى بن عبدالله النخعي، عن الإمام علي بن محمد الهاديh في الزيارة الجامعة.

فإنّ هذه الزيارة العظيمة التي قال عنها السيد عبدالله شبرS: "أنّ الزيارة الجامعة الكبيرة أعظم الزيارات شأناً، وأعلاها مكانة ومكاناً، وأنّ فصاحة ألفاظها وفقراتها وبلاغة مضامينها وعباراتها تنادي بصدورها من عين صافية نبعت عن ينابيع الوحي والإلهام"([36])، وقال فيها السيد محسن الأمينS: "رواها الشيخ الطوسي في التهذيب، وهي أحسن الزيارات الجامعة متناً وسنداً، وأكملها"([37])، قد جاءت على ذكر عقيدة الرجعة في عدّة فقراتٍ من الزيارة، ممّا يؤكّد على التركيز على بيانها والإقرار بها وحقيقة وقوعها، وبياناً لرجعة الأئمةi، وهذه الفقرات:

الفقرة الأولى: >أُشْهِدُ اللَّهَ وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي مُؤْمِنٌ بِكُمْ وَبِمَا آمَنْتُمْ بِهِ، كَافِرٌ بِعَدُوِّكُمْ وَبِمَا كَفَرْتُمْ بِهِ، مُسْتَبْصِرٌ بِشَأْنِكُمْ وَبِضَلَالَةِ مَنْ خَالَفَكُمْ، مُوَالٍ لَكُمْ وَلِأَوْلِيَائِكُمْ، مُبْغِضٌ لِأَعْدَائِكُمْ وَمُعَادٍ لَهُمْ، سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكُمْ، مُحَقِّقٌ لِمَا حَقَّقْتُمْ مُبْطِلٌ لِمَا أَبْطَلْتُمْ، مُطِيعٌ لَكُمْ، عَارِفٌ بِحَقِّكُمْ، مُقِرٌّ بِفَضْلِكُمْ، مُحْتَمِلٌ لِعِلْمِكُمْ، مُحْتَجِبٌ بِذِمَّتِكُمْ، مُعْتَرِفٌ بِكُمْ، وَمُؤْمِنٌ بِإِيَابِكُمْ، مُصَدِّقٌ بِرَجْعَتِكُمْ، مُنْتَظِرٌ لِأَمْرِكُمْ، مُرْتَقِبٌ لِدَوْلَتِكُمْ<.

ففي هذه الفقرة أكّدg على الإيمان بإيابهم، والتصديق برجعتهم، والانتظار لأمرهم، والترقّب لدولتهم.

وقد قال السيد نعمة الله الموسوي الجزائريS عند قول الإمامg: >وَمُؤْمِنٌ بِإِيَابِكُمْ<، قال: "فيه دلالة على أنّ الأئمةi كلّهم يرجعون في الرجعة، وكذلك رسول اللهe، والأخبار مستفيضةٌ في الدلالة عليه.

وقد وفّق الله سبحانه -وله الحمد- على الوقوف على ستّمائة حديث، وعشرين حديثاً دالّة على المطلوب"([38]).

الفقرة الثانية: >وَنُصْرَتِي لَكُمْ مُعَدَّةٌ حَتَّى يُحْيِيَ اللَّهُ دِينَهُ بِكُمْ، وَيَرُدَّكُمْ فِي أَيَّامِهِ، وَيُظْهِرَكُمْ لِعَدْلِهِ، وَيُمَكِّنَكُمْ فِي أَرْضِهِ<.

وهنا وصف الإمامg زمان الرجعة بأنّه من أيام الله a. وممّا لا شكّ ولا ريب فيه أنّ كلّ الأوقات هي أوقات الله تعالى، وكلّ الأماكن هي لله سبحانه، لكن من تلك الأزمنة والأمكنة ما تنسب إلى الله a بخصوصيتها من أجل بيان شرفها وعظمتها، وأنّ لها قداسة خاصة، كما يقال للكعبة المشرّفة -وهيّ من الأمكنة- بيت الله، ولشهر رمضان المبارك -وهو من الأزمنة- شهر الله.

وقد جاء في الرواية الشريفة عن الإمام الباقرg: >أيامُ الله ثلاثة: يوم يقومُ القائمُ، ويوم الكرَّة، ويوم القيامة<([39])، والمراد من الكرّة هو الرجعة.

وقد أشار الفقيه الكبير آية الله الجوادي الآملي إلى توضيح بيان الغاية من كون زمان الرجعة يوم من أيام الله a: "ويوم الرجعة من أيّام الله؛ لأنّ رجعة الأئمة في نهاية الدنيا تجلٍّ لقدرة الله تعالى، وهي أيام يظهرُ فيها اللهُ أبّهة وعظمة دولة آل محمّدi لكلّ الأمم، ويُرجع فيها أعداءهم ليتجرّعوا الذلّ والخزي بكلّ وجودهم"([40]).

الفقرة الثالثة: >وَجَعَلَنِي مِمَّنْ يَقْتَصُّ آثَارَكُمْ، وَيَسْلُكُ سَبِيلَكُمْ، وَيَهْتَدِي بِهُدَاكُمْ، وَيُحْشَرُ فِي زُمْرَتِكُمْ، وَيَكُرُّ فِي رَجْعَتِكُمْ، وَيُمَلَّكُ فِي دَوْلَتِكُمْ، وَيُشَرَّفُ فِي عَافِيَتِكُمْ، وَيُمَكَّنُ فِي أَيَّامِكُمْ، وَتَقَرُّ عَيْنُهُ غَداً بِرُؤْيَتِكُمْ<.

وعند هذه الفقرة أشار الفقيه الكبير الشيخ الجوادي الآملي (دامت بركاته) لأهميّة الاستمرار بالدعاء من المؤمن والتضرّع إلى الله تعالى حتى ينال شرف المعيّة مع أهل البيتi في عالم الرجعة، فقال: "إنّ المعيّة الدائمة لآل النبيّi ومجانبة أعدائهم صعبة، ودونها عقبات شداد، لذا يتضرّع الزائرُ إلى الله تعالى لأن ينعُم طول حياته بموالاتهمi والثبات على دينهم.

وهذه المحبّة والطاعة الكاملة شرط أساس للمعيّة لهمi في زمان الرجعة وقيام دولة الصالحين والمصلحين، وللحشر معهم في عالم الآخرة، بل إنّ تلك الصفات والخصائص لا تكون كاملة التحقّق إلّا بصيرورة الموالي أحد أنصارهم، لذا يستمرّ الزائرُ البصير في دعائه، ويسأل اللهَ أن يرجعه معهم في دولتهم المبشّر بها"([41]).

ثم قال: "إنّ عصر الرجعة هو زمان هيمنة دولة الأئمّة، لذا يدعو زائرُهم أن يوفّقه الله أن يُملّك في دولتهم"([42]).

وقال العلامة المجلسي الأب في روضة المتقين، في بيانه لقول الإمامg: >وَيُمَلَّكُ فِي دَوْلَتِكُمْ<، قال: "أي صيّرني مَلِكاً لإعلاء كلمة الله، فإنّ كلّ واحد من الخُلّص في الرجعة يصير مَلِكاً من الملوك، كما كان في زمان رسول اللهe وأمير المؤمنينg"([43]).

الرواية الرابعة: ما رواه الشيخ الطوسي في المصباح في الصلوات المرغّب في فعلها يوم الجمعة في صلاة أُخرى لفاطمة الزهراءj قال: روى إبراهيم بن عمر الصنعاني، عن أبي عبداللهg -ثم ذكر كيفيّة الصلاة والدعاء بعدها إلى أن قال:- >وأسألك أن تصلّي على محمد وآل محمد، وأن تفرّج عن محمد وآل محمد، وتعجّل فرجي مقروناً بفرجهم<([44]).

وقد قال الشيخ الحر العامليS: "ومثل هذا كثيرٌ في الأدعية، والحمل على الحقيقة الذي هو واجب قطعاً مع عدم قرينة المجاز يدلّ على الرجعة، ويؤيّد التصريحات الكثيرة جداً"([45]).

النقطة السادسة: رجعة الإمام سيد الشهداء الحسينg

ومن المسائل التي تمّ التركيز عليها وكثرت فيها النصوص الشريفة المروية عن أهل بيت العصمة والطهارةi التأكيد على رجعة الإمام الحُسينg، وتمّ تفسير جملة من الآيات الشريفة على أنّها تشير إلى رجعته.

وبيان ذلك في جهتين:

الجهة الأولى: النصوص الدالة على أصل رجعة الإمام الحسينg

ممّا لا شكّ فيه للمتأمّل الحاذق في نصوص وروايات أهل البيتi أنّه يلتقي بنصوص روائية عديدة أكّدت وبيّنت أصل رجعة الإمام سيد الشهداءg، وقد ركّز الأئمة الطاهرينi على موضوع رجعة الإمام الحسينg في خطاباتٍ عديدة، وأجابوا على أسئلة أصحابهم حول رجعة النبيe والأئمةi بشكل عامّ وعلى رجعة الإمام أبي عبدالله الحسينg بشكل خاصّ، مضافاً إلى الآيات القرآنية التي فسّروها برجعته.

مضافاً إلى ذلك ما جاء في الزيارات الواردة عن الأئمة الطاهرينi لقبر سيد الشهداءg، حيث إنّ تلك الزيارات تحتوي على حقائق معرفية عميقة جدّاً، وليست هي قوالب مناجاةٍ فقط، فهي نصوص تغذّي الجانب المعرفي، وفيها بيانٌ للمنظومة العقائدية الشيعية بلسان الأئمة المعصومين، وعقيدة الرجعة من تلك العقائد التي لها حضورٌ كبير في نصوص الزيارات المعصومية، وقد اشتملت النصوص المعصومية الواردة في زيارة قبر سيد الشهداء الحسينg تأكيداً واضحاً وصريحاً على رجعته، فضلاً عن نصوص الزيارات الجامعة للأئمةi فهيّ بلا شكّ شاملة لرجعة الإمام الحُسينg؛ لأنّه أحد الأئمة المعصومين، والذي يزار بتلك الزيارات الجامعة فتكون تلك النصوص شاملة له.

ومن النصوص الواردة في بيان أنّ لسيد الشهداء الحسينg رجعة:

النص الأول: في تأويل الآيات الظاهرة: محمد بن عباس، عن جعفر بن محمد بن مالك، عن القاسم بن إسماعيل، عن علي بن خالد العاقولي، عن عبدالكريم الخثعمي، عن سليمان بن خالد، قال: >قالَ أبو عبداللهg في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}(النازعات: 6-7)، قالَ: الرَّاجِفةُ الحُسَينُ بنُ عليٍّg، والرَّادِفةُ عليُّ بنُ أبي طالبg، وأوَّلُ من يَنفُضُ عن رأسِهِ التُّرابَ الحُسينُ بنُ عليٍّg، في خمسةٍ وسَبعين ألفاً، وهو قولهُ تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(غافر: 51-52)<([46]).

النص الثاني: في مصباح المتهجّد وإقبال الأعمال، ما ورد من الناحية المقدّسة إلى القاسم بن العلاء الهمداني، وكيل أبي محمد العسكريg في دعاء الثالث من شعبان يوم مولد الإمام الحسينg، حيث جاء في آخر الدعاء: >فنحن عائذون بقبره من بعده، نشهد تربته، وننتظر أوبته، آمين ربّ العالمين<([47])، ومن الواضح أنّ معنى كلمة (أَوْبَته) هو (رجعته).

النص الثالث: في كامل الزيارات، بسنده عن يزيد العجلي قال: قلت لأبي عبداللهg: يا بن رسول الله أخبرني عن إسماعيل الذي ذكره الله في كتابه، حيث يقول: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}(مريم: 54) أكان إسماعيل بن إبراهيمg؟ فإنّ الناس يزعمون أنّه إسماعيل بن إبراهيم، فقالg: >إنّ إسماعيل مات قبل إبراهيم، وإنّ إبراهيم كان حجّة الله قائماً صاحب شريعة، فإلى من أُرسل إسماعيل إذاً؟ فقلتُ: جعلت فداك، فمن كان؟ قالg: ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيg بعثه الله إلى قومه، فكذّبوه، وقتلوه وسلخوا فروة وجهه، فغضب الله له عليهم، فوجّه إليه إسطاطائيل ملك العذاب، فقال له: يا إسماعيل أنا إسطاطائيل ملك العذاب، وجّهني إليك ربّ العزّة لأُعذِّب قومك بأنواع العذاب إن شئت. فقال له إسماعيل: لا حاجة لي في ذلك يا إسطاطائيل. فأوحى الله إليه: فما حاجتك يا إسماعيل؟ فقال: يا ربّ إنّك أخذت الميثاق لنفسك بالربوبيّة، ولمحمّدe بالنبوة، ولأوصيائه بالولاية، وأخبرت خير خلقك بما تفعل أُمّته بالحسين بن عليh من بعد نبيّها، وإنّك وعدت الحسينg أن تكرّه إلى الدنيا، حتى ينتقم بنفسه ممّن فعل ذلك به، فحاجتي إليك يا ربّ أن تكرّني إلى الدنيا حتى أنتقم ممّن فعل ذلك بي ما فعل، كما تكرّ الحسينg. فوعد الله إسماعيل بن حزقيل ذلك، فهو يكرّ مع الحسين بن عليg([48]).<

النص الرابع: في مصباح المتهجّد، بإسناده عن صفوان بن مهران الجمّال: قال: استأذنت الصادقg لزيارة مولانا الحسينg، فسألته أن يعرّفني ما أعمل عليه. إلى أن قالg: >وَأُشْهِدُ اللهَ وَملائكَتَهُ وَأنبيائَهُ وَرُسُلَهُ أَنّي بِكُم مُؤمِنٌ وَبِإيِابكم مُوقنٌ بشَرائِع ديني وخواتيِم عَمَلي<([49])، وهي الزيارة المعروفة بزيارة وارث.

ومن الملفت للانتباه أنّ عبارة >أنّي بِكُم مُؤمِنٌ وَبِإيِابكم مُوقنٌ< قد وردت في كثير من الزيارات المطلقة لسيد الشهداءg، بل وحتى الزيارات المخصوصة، وهذا يدلّ على التأكيد على الإقرار والإيمان برجعته.

النص الخامس: في كامل الزيارات: حدثني الحسين بن محمد بن عامر، عن أحمد بن إسحاق ابن سعد، قال: حدثنا سعدان بن مسلم قائد أبي بصير، قال: حدثنا بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللهg قال: >إذا أتيت القبر بدأت فأثنيت على اللهa  وصليت على النبيe، واجتهدت في ذلك، ثم تقول: سلام الله وسلام ملائكته فيما تروح وتغدو، والزاكيات الطاهرات لك، وعليك سلام الملائكة المقربين والمسلمين لك بقلوبهم، والناطقين بفضلك، والشهداء، على أنك صادق وصدّيق، صدقت ونصحت فيما أتيت به<.

إلى أن قالg في ضمن ما قال: >فقلبي لكم مسلّم، وأمري لكم متّبع، ونصرتي لك معدّة، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين لدينه ويبعثكم، فمعكم معكم لا مع عدوكم، إني من المؤمنين برجعتكم، لا أنكر لله قدرةً، ولا أكذّب له مشيّةً، ولا أزعم أن ما شاء لا يكون<([50]).

وغير هذه النصوص في رجعة أبي عبدالله الحسينg كثيرة، وإنمّا ذكرنا بعضها هنا خشية الإطالة.

الجهة الثانية: معالم الرجعة الحسينية في الروايات الشريفة

عند الرجوع إلى كتب المجاميع الروائية يقف الباحث عند نصوص روائية عديدة وكثيرة تحدّث عن رجعة الإمام سيد الشهداء الحسينg وبيّنت الروايات وفصّلت عدّة جوانب ومعالم لرجعته، ويمكن تقسيم الروايات لأقسام خمسة:

القسم الأول: أول من يرجع من الأئمة

لقد تحدّثت الروايات الشريفة على أنّ أول من يرجع وتنشقّ الأرض عنه هو سيد الشهداء الإمام الحسينg، وقد ورد هذا المعنى في روايات عديدة.

ومن تلك الروايات:

الرواية الأولى: ما جاء في مختصر بصائر الدرجات: عن ابن فضّال، عن أبي المعزى، عن داود بن راشد، عن حمران بن أعين، قال: قال أبو جعفرg لنا: >إنّ أوّل مَن يرجع لَجاركم الحسينg([51])<.

الرواية الثانية: ما رواه أيضاً بسنده عن محمد بن مسلم، قال: سمعت حمران بن أعين وأبا الخطاب يحدّثان جميعاً -قبل أن يحدث أبو الخطاب ما أحدث- أنهما سمعا أبا عبد اللهg يقول: >أوّل مَن تنشقُّ الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا، الحسين بن عليg([52])<.

وإنّ التعبير بقولهل: >تنشقُّ الأرض عنه< تمييزٌ للتفريق بين الرجعة والنزول، ودالٌّ أيضاً عن أنّ رجوع الإمام الحسينg بجسده الدنيوي، وخروجه من قبره الشريف.

الرواية الثالثة: ما رواه أيضاً بإسناده إلى المعلّى بن خنيس وزيد الشحّام، عن أبي عبداللهg قالا: سمعناه يقول: >إنّه أوّل من يكرّ في الرجعة الحسين بن عليّg([53])<.

وهنا سؤال: ما هو المراد والمقصود من الأوّلية في تعبير الإمام الباقرg بقوله: >إن أوّل من يرجع<، وقول الإمام الصادقg: >أول من تنشقُّ الأرض عنه

ومن أجل التعمّق في السؤال نقول: إنّ الروايات الشريفة من جهةٍ قد دلّت على أنّ رجوع سيد الشهداءg يكون في أواخر دولة الإمام الحجة المهدي l وحياته، فقد روى ثقة الإسلام الكلينيS في الكافي، بسنده عن أبي عبد اللهg في قوله تعالى: {ثُمَّ رَدْدَنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَليهِمْ}(الإسراء: 6) قال: >خروج الحسينg في سبعين من أصحابه، عليهم البيض المذهب، لكل بيضة وجهان، المؤدّون إلى الناس أنّ هذا الحسين قد خرج حتى لا يشكّ المؤمنون فيه، وأنّه ليس بدجّال ولا شيطان، والحجّة القائم بين أظهرهم، فإذا استقرّت المعرفة في قلوب المؤمنين أنّه الحسينg، جاء الحجّةَ الموتُ، فيكون الذي يغسّله ويكفّنه ويحنّطه ويُلْحِده في حفرته الحسين بن عليg، ولا يلي الوصيَّ إلا الوصيُّ<([54]).

ومن جهةٍ أخرى قد دلّت الروايات المباركة الكثيرة على وجود رجعات موازية للظهور المقدس لإمام الزمان l، وأنّ هناك أشخاصاً يرجعون إلى الدنيا قبل رجوع الإمام سيد الشهداء الحسينg، كما في إرشاد المفيد: وروى المفضّل بن عمر، عن أبي عبد اللهg قال: >يخرج القائمl من ظهر الكوفة سبعة وعشرين رجلاً، خمسة عشر من قوم موسىg الذين كانوا يهدون بالحقّ وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبا دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالكاً الأشتر، فيكونون بين يديه أنصاراً وحكاماً<([55])، وما جاء في زيارة الإمام المهدي l: >يا مولاي إن أدركت أيامك الزاهرة، فأنا عبدك، متصرّف بين أمرك ونهيك، وإن أدركني الموت قبل ظهورك فإني أتوسّل بك وبآبائك الطاهرين، وأسأله أن يصلّي على محمد وآل محمد، وأن يجعل لي كرّة في ظهورك، ورجعة في أيامك، لأبلغ من طاعتك مرادي، وأشفي من أعدائك فؤادي<([56]).

فكيف يتمّ التوفيق بين هذه الروايات وبين القول بأنّ أول من تنشقّ عنه الأرض هو سيد الشهداء الحسينg؟

والجواب عن ذلك: إنّ معنى الأولية في قول الإمام الباقرg: >إن أول من يرجع<، وكذا قول الإمام الصادقg: >أول من تنشقُّ الأرض عنه<، هيّ أولية إضافية، أي بالإضافة للأئمة المعصومينi، فيكون المعنى هو أنّ أول من تنشقّ الأرض عنه وأول من يرجع من أئمة أهل البيتi هو سيد الشهداء الإمام الحسينg، وإنّ من يرجع في أول زمان ظهور الإمام المهدي l ودولته ليس فيهم أحدٌ مِن الأئمةi، فتكون الأولية هنا أولية إضافية؛ أي أوّل الأئمة رجوعاً. 

القسم الثاني: مدّة حكومته

قد أشارت جملة من الروايات الشريفة عن أهل البيتi بأنّ للإمام الحسينg في زمان الرجعة حكومة، فتارةً بيّنت بعض الروايات الشريفة أنّ الإمام الحسينg يحكم مدة طويلة، وتارةً أخرى بيّنت بعض النصوص أنّ حكومتهg في عصر الرجعة أربعون سنة.

ومن تلك الروايات:

الرواية الأولى: في مختصر البصائر: عن أيّوب بن نوح والحسن بن علي بن عبدالله بن المغيرة، عن العباس بن عامر، عن سعيد بن جبير، وعن داود بن راشد، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفرg قال: >أوّل من يرجع الحسين بن عليg، فيمكث حتى تقع حاجباه على عينيه من الكبر<([57]).

الرواية الثانية: في مختصر البصائر: عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد ومحمّد بن خالد البرقي، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن المعلّى بن عثمان، عن المعلّى بن خنيس، قال: قال لي أبو عبداللهg: >أوّل من يرجع إلى الدنيا الحسين بن عليg، فيملك حتى يسقط حاجباه على عينيه من الكبر<([58]).

الرواية الثالثة: في البحار، قال: منتخب البصائر: سعد، عن ابن عيسى، عن عمر بن عبد العزيز، عن رجل، عن جميل بن دراج، عن المعلّى بن خنيس وزيد الشحام، عن أبي عبد اللهg قالا: سمعناه يقول: >إنّ أوّل من يكرّ في الرجعة الحسين بن عليg، ويمكث في الأرض أربعين سنة حتى يسقط حاجباه على عينيه<([59]).

القسم الثالث: من يرجع مع الحسينg في دولته

لقد عرّفت الروايات الشريفة بجملةٍ ممّن يرجع مع سيد الشهداءg في دولته، وهيّ روايات عديدة، فبعضها أشار إلى رجعة أنصار الإمام الحسينg الذين استشهدوا معه في أرض كربلاء يوم عاشوراء لسنة 61 للهجرة، وبعضها ذكر عدد 75 ألفاً من دون التفصيل في من هم هؤلاء، بل أطلقت العدد، وبعض تلك الروايات أشارت إلى رجوع سبعين نبيٍّ من أنبياء الله تعالىi يرجعون معه، وجملة من الروايات خصّت ذكر نبيّ الله إسماعيل بن حزقيلg بالرجوع مع سيد الشهداء الحسينg.

وأضِفْ لذلك ما جاء في الروايات من رجعة يزيد بن معاوية W وقتلة سيد الشهداءg، وهذا ما سنشير له في القسم الخامس. 

ومن تلك الروايات:

الرواية الأولى: في الكافي: بسنده عن أبي عبد اللهg في قوله تعالى: {ثُمَّ رَددنا لَكُمُ الكَرَةَ عَليهِمْ}(الإسراء: 6) قال: >خروج الحسينg في سبعين من أصحابه ..<([60]).

الرواية الثانية: قد تقدّم ذكرها، كما في تأويل الآيات الظاهرة: محمد بن عباس، عن جعفر بن محمد بن مالك، عن القاسم بن إسماعيل، عن علي بن خالد العاقولي، عن عبدالكريم الخثعمي، عن سليمان بن خالد، قال: قالَ أبو عبداللهg في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}(النازعات: 6-7)، قالَ: >الرَّاجِفةُ الحُسَينُ بنُ عليٍّg، والرَّادِفةُ عليُّ بنُ أبي طالبg، وأوَّلُ من يَنفُضُ عن رأسِهِ التُّرابَ الحُسينُ بنُ عليٍّg، في خمسةٍ وسَبعين ألفاً، وهو قولهُ تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(غافر: 51-52)<([61]).

الرواية الثالثة: في البحار: ما رواه عن الإمام الصادقg أنّه قال: >ويقبل الحسينg في أصحابه الذين قتلوا معه، ومعه سبعون نبيّاً كما بعثوا مع موسى بن عمران، فيدفع إليه القائمg الخاتم، فيكون الحسينg هو الذي يلي غسله وكفنه وحنوطه ويواريه في حفرته<([62]).

الرواية الرابعة: وقد تقدّمت، عن كامل الزيارات المروية عن أبي عبداللهg أنّه قال: >فوعد الله إسماعيل بن حزقيل ذلك، فهو يكرّ مع الحسين بن عليّg([63])<.

القسم الرابع: المُلك الحسيني في دولة الرجعة، وبشارة المؤمنين بزيارته

أشارت جملة من الروايات إلى أنّ مدّة الدولة الحسينية طويلة كما تقدّم، وأشارت بعضها إلى أنّ الإمام الحسينg يمكث في الأرض أربعين سنة، وحيث إنّ الروايات الشريفة عن أهل البيتi دلّت على أنّ رجعة أئمة أهل البيتi يوم من أيام الله a، وأنّ التمكين والعدل بأعلى درجاته في دار الدنيا يظهر في دولتهم، فهذا بنفسه -بالإضافة للروايات- يدلّ على أنّ أهل الإيمان تكون له العزّة كما أكّد القرآن الكريم على تلك الحقيقة في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(المنافقون: 8).

وبالإضافة لذلك فقد أشارت بعض الروايات إلى طبيعة وكيفية المِلك الحسيني في عالم الرجعة، وكيفية زيارة المؤمنين للإمام الحُسينg ويستبشرون بما أعدّه الله تبارك وتعالى لهم من الكرامة.

ففي كامل الزيارات قال: حدثني الحسين بن محمّد بن عامر، عن معلّى بن محمّد البصري، عن أبي الفضل، عن ابن صدقة، عن المفضّل بن عمر، عن أبي عبداللهg قال: >كأني والله بالملائكة قد ازدحموا المؤمنين على قبر الحسينg<، قال: قلت: فيترأون له، قال: >هيهات هيهات قد لزموا والله المؤمنين حتى أنهم ليمسحون وجوههم بأيديهم، قال: ويُنزِل اللهُ على زوار الحسينg غدوة وعشية من طعام الجنة، وخدّامُهم الملائكة، لا يسأل اللهَ عبدٌ حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة إلا أعطاها إياه<.

قال: قلت هذه والله الكرامة، قال لي: >يا مفضّل، أزيدك؟<، قلت: نعم سيدي، قال: >كأنّي بسرير من نور قد وُضِع، وقد ضُرِبت عليه قبّةٌ من ياقوتة حمراء مكلّلة بالجوهر، وكأنّي بالحسينg جالساً على ذلك السرير، وحوله تسعون ألف قبّة خضراء، وكأنّي بالمؤمنين يزورونه ويسلّمون عليه، فيقول الله a: أوليائي سلوني فطالما اٌذيتم وذلّلتم واضطهدتّم، فهذا يوم لا تسألوني حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلّا قضيتها لكم، فيكون أكلهم وشربهم من الجنة،  فهذه والله الكرامة التي لا انقضاء لها ولا يدرك منتهاها<([64]).

فإنْ قلتَ: إنّ هذه الرواية الشريفة لا دخل لها برجعة الإمام الحسينg ودولته ومِلكه في زمان الرجعة، بل قد يكون المقصود بهذا الحدث والموقف أنّه في عالم الآخرة، ومن مختصّات القيامة.

أقول: لقد أشارت الرواية الشريفة بأنّ اللهa يخاطب المؤمنين: >فهذا يوم لا تسألوني حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلّا قضيتها لكم<، فكيف يتصوّر بعد انتهاء عالم الدُنيا أنْ يسأل المؤمنون الله سبحانه وتعالى من حوائج عالم الدنيا الذي انطوى وانتهى وانقضى، وهم في عالمٍ هو ما بعد عالم الدنيا.

وقد علّق جملة من العلماء على القول بأنّ هذه الرواية لا علاقة لها برجعة الإمام الحسينg، فقد قال الحرّ العامليS في الإيقاظ: "سؤال حوائج الدنيا يدلّ على أنّ هذا في الرجعة؛ إذ هي لا تُسأَل في الآخرة"([65]).

وفي تعليقٍ لسماحة العلامة الجليل السيد ضياء الخباز القطيفي (دام عزّه) على هذه الرواية، قال: "لقد فهم البعض من الرواية أنّها تتحدّث عن منزلة الإمام الحسينg يوم القيامة، والحال لو أنّها تتحدّث عن منزلته يوم القيامة لا معنى أنْ يطلب اللهُ منهم يسألوه حاجة من حاجات الدنيا، فكيف يسألون حاجة من حوائج الدنيا وقد انقضى عالم الدنيا، فهذا يدلّ على أنّه يقع في رجعة سيد الشهداءg([66])".

القسم الخامس: المعركة بين الإمام الحُسينg ويزيد بن معاوية W في عالم الرجعة

من الأمور التي وردت في الروايات الشريفة عن أهل البيتi أنّ في عالم الرجعة، وتحديداً في زمان رجعة الإمام سيد الشهداءg سوف تقع معركة وحرب بين الإمام الحسينg وأصحابه، وبين يزيد بن معاوية وأصحابه (لعنة الله عليهم)، ويكون النصر العظيم المؤزّر فيها للإمام الحسينg.

ومن تلك الروايات:

الرواية الأولى: ما جاء في البحار: عن تفسير العياشي عن رفاعة بن موسى قال: قال أبو عبداللهg: >إنّ أوّل من يكرّ إلى الدنيا الحسين بن عليg وأصحابه، ويزيد بن معاوية وأصحابه فيقتلهم حذو القذّة بالقذّة، ثم قال أبو عبداللهg: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}(الإسراء: 6)<([67]).

الرواية الثانية: ما نقله في البحار أيضاً عن منتخب البصائر، قال: منتخب البصائر: سعد، عن ابن عيسى، عن اليقطيني، عن الحسين بن سفيان عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد، عن أبي عبداللهg قال: >إنّ لعليg في الأرض كرّة مع الحسين ابنهg، يقبل برايته حتى ينتقم له من بني أمية ومعاوية وآل معاوية ومن شهد حربه..<([68]).

 

خاتمة:

وبعد التعرّف على عقيدة الرجعة، وكذلك التعرّف على رجعة الإمام الحسينg، نشير في هذه الخاتمة لفائدة هذا البحث، وأنّ التعرّف من قِبَل المؤمنين على رجعة الإمام أبي عبدالله الحسينg هو ما يبيّن ويوضّح لنا حقيقةً عاليةً ورفيعةَ المستوى.

وهيّ: أنّه من الواضح ومن الواجبات الاعتقادية -إنْ صحّ التعبير- ضرورة ووجوب معرفة المعصومg، وقد ألمح القرآن لذلك في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}(الإسراء: 71)، وقد أشارت الروايات الكثيرة لضرورة معرفة الأئمة الأطهارi.

وممّا يجب الالتفات له هو أنّ معرفة الإمام المعصومg لها درجات ومراتب، وأحد تلك الدرجات والمراتب التي يدركها الإنسان المؤمن بالغيب هي معرفة أنّ الإمام المعصومg ليس ماضياً فقط، بل هو حاضر، وهو مستقبل آتٍ في عالم الرجعة.

فإنّ المطالع بتمعّن ودقّة لروايات رجعة الإمام الحسينg عليه أنْ يدرك أنّ هذه الروايات تتحدّث عن مستقبل قادم وأحداث سوف تجري في المستقبل، فعليه أنْ لا يعيش (الحسينg) في فكره وعقله وقلبه ووجدانه على أنّه مجرّد ماضٍ أو حاضر فقط، بل يعيش (الحسينg) مستقبلاً آتياً وأملاً قادماً من خلال الاعتقاد برجعته، فهذا يعطي الإنسان المؤمن دافعاً للدعاء بأنْ يرزقه الله تعالى الرجعة والكرّة في زمان دولته، وترقّباً إلى أنّ الوعد الإلهي بالنصر للمؤمنين متحقّق لا محالة، فقد قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}(غافر: 51)، وقال سبحانه وتعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(القصص: 5).

وقد أشار لهذه النكتة شيخنا الفقيه آية الله الشيخ محمد السند البحراني (دام ظلّه)، حيث قال: "فإنّ عقيدة الرجعة هي فهمٌ أعمق لمعرفة الحسينg فـ (من زاره عارفاً بحقّه) أحد درجات معرفة الحسينg هو الحسين المستقبل، وليس الحسين الماضي فقط"([69]).

والحمد لله رب العالمين.

يوم الجمعة، 7 ربيع الآخر 1446 هـ، الموافق 11 / 10 / 2024م. 

النجف الأشرف (على مشرّفها أفضل الصلاة والسلام).


([1])راجع مقدمة التحقيق لكتاب الإيقاظ من الهجعة في البرهان على الرجعة، فقد ذكر أكثر من 40 كتاباً مختصاً لهذه العقيدة، ص7-11.

([2]) ابن منظور، لسان العرب، ج8، ص114؛ الطريحي، مجمع البحرين، ج4، ص334.

([3]) كتاب العين، الخليل الفراهيدي، مادّة (كرر).

([4]) لسان العرب.

([5]) الإيقاظ من الهجعة في البرهان على الرجعة، الحر العاملي، ص71.

([6]) عقائد الإمامية، المظفّر، ص70-71.

([7]) الإيقاظ من الهجعة في البرهان على الرجعة، الحر العاملي، ص102.

([8]) الاعتقادات، الصدوق، ص90

([9]) أوائل المقالات، ص51.

 ([10]) رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص125.

([11]) الإيقاظ من الهجعة في البرهان على الرجعة، الحر العاملي، ص95.

([12]) بحار الأنوار، المجلسي، ج53، ص122.

([13]) مجمع البحرين، الطريحي، مادة الرجعة.

([14]) حق اليقين، ج2، ص2-35.

([15]) محاسن الاعتقاد واكتساب السداد، الشيخ حسين آل عصفور، ص339.

([16]) تقريرات فلسفة، ج3، ص197، نقلاً عن كتاب أدب فناء المقرّبين، الشيخ الجوادي الآملي، ج9، ص258.

([17]) الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية، الميرزا جواد التبريزي، ص229.

([18]) الاستفتاءات: 589.

([19]) إرشاد السائل، ص203.

([20]) كتاب المهدوية الخاتمة، السيد ضياء الخبّاز، ج2، ص109.

([21]) الموقع الإلكتروني للسيد صادق الروحاني ¤، أجوبة الاستفتاءات.

([22]) انظر: البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، ج1، ص543-549.

([23]) مجمع البيان، الطبرسي، ج2، ص174.

([24]) الإيقاظ من الهجعة، الحر العاملي، ص106.

([25]) الكافي، الكليني، ج8، ص50، ح14.

([26]) الاعتقادات، الصدوق، ص115.

([27]) المصدر السابق، ص156.

([28]) الإيقاظ من الهجعة، الحر العاملي، ص106-125.

([29]) المصدر السابق، ص73.

([30]) عيون أخبار الرضاg، ج1، ص216.

([31]) مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص34؛ كنز العمّال، ج11، ص134، ح30924.

([32]) مصباح المتهجّد، الشيخ الطوسي، ص253.

([33]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج2، ص609، ح1.

([34]) عيون أخبار الرضاg، ج1، ص305، ح1.

([35]) تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج6، ص102، ح96.

([36]) الأنوار اللامعة في شرح الزيارة الجامعة، السيد عبدالله شبر، ص29.

([37]) مفتاح الجنات، السيد محسن الأمين، ج2، ص211.

([38]) شرح الزيارة الجامعة، السيد نعمة الله الجزائري، ص257.

([39]) الخصال، الصدوق، ص108؛ معاني الأخبار، الصدوق، ص366.

([40]) أدب فناء المقرّبين في شرح الزيارة الجامعة، الشيخ الجوادي الآملي، ج10، ص145.

([41]) المصدر نفسه، ج11، ص113.

([42]) المصدر نفسه، ص151.

([43]) شرح الزيارة الجامعة، مستخرج من روضة المتقين للمجلسي الأب، تحقيق أحمد العبيدان الأحسائي، ص168.

([44]) مصباح المتهجّد، الشيخ الطوسي، ص266-267. 

([45]) الإيقاظ من الهجعة، الحر العاملي، ص316.

([46]) تأويل الآيات الظاهرة، ص737؛ مختصر بصائر الدرجات، ص491؛ تفسير فرات، ص537؛ بحار الأنوار، ج53، ص103.

([47]) مصباح المتهجّد، الطوسي، ص826؛ إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس، ص303.

([48]) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص138، ح3.

([49]) مصباح المتهجد، الطوسي، ص717-723.

([50]) كامل الزيارات، ابن قولويه، باب 79، ح17.

([51]) مختصر بصائر الدرجات، ص22.

([52]) المصدر السابق، ص24.

([53]) المصدر السابق، ص18.

([54]) الكافي، الكليني، ج8، ص206، ح250.

([55]) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص386.

([56]) مصباح الكفعمي، ج2، ص176.

([57]) مختصر البصائر، ص93-117؛ بحار الأنوار، ج53، ص14-43؛ الإيقاظ، الحر العاملي، ص361.

([58]) مختصر البصائر، ص98-119.

([59]) بحار الأنوار، المجلسي، ج53، ص54-63.

([60]) الكافي، الكليني، ج8، ص206، ح250.

([61]) تأويل الآيات الظاهرة، ص737؛ مختصر بصائر الدرجات، ص491.

([62]) بحار الأنوار، المجلسي، ج53، ص103-130.

([63]) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص138، ح3.

([64]) كامل الزيارات، باب50، ح3.

([65]) الإيقاظ من الهجعة، الحر العاملي، ص387.

([66]) برنامج (حبر السماء) حوار يديره الإعلامي (أحمد فيصل) مع سماحة السيد ضياء الخباز حول عقيدة الرجعة وعلاقتها بالإمام الحسينg في حلقتين على قناة اليوتيوب.

([67]) بحار الأنوار، المجلسي، ج53، ص76-78.

([68]) المصدر السابق، ج53، ص74-75.

([69]) الشعائر الحسينية، فقه العتبات والزيارة، الشيخ محمد السند، الفصل 3، ص159.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا