الإصلاحُ بيْنَ الزَّوجين (دِراسةٌ فقهيَّة)

الإصلاحُ بيْنَ الزَّوجين  (دِراسةٌ فقهيَّة)

الملخَّص

تعرَّض الكاتبُ في مقالته الفقهية الاستدلالية إلى مسألة الشِّقاق بين الزوجين، فبعد بيان الوظيفة الشرعية تجاهها سواء كان الشخص أحد طرفي النِّزاع أم لا، أكَّد على حثِّ الإسلام على الإصلاح، ثمَّ  بيَّن شروط المصلِح وهي أربعة، ثمَّ ذكر ما يتعلَّق بمسألة بعث الحكمين، ومن هو الذي يتولَّى ذلك فهل هو الحاكم الشَّرعي أم الزَّوجان، متعرِّضاً لأدلَّة القولين ومناقشتهما مرجحاً الرَّأي الأوَّل. 

 

مقدِّمة

العلاقة الزَّوجية كغيرها من العلاقات قد تصيبها حالة من الفتور أو النفور، وقد يصل الأمرُ بها إلى حصول الخلافات والمشاكل بين الزَّوجين، فقد تكون المشكلة في طرف الزَّوج بحيث لا يقوم بأداء حقوق زوجتِه، وهذه الحالة تسمَّى بحالة نشوز الزَّوج، وقد تكون المشكلة في طرف الزَّوجة بحيث لا تقوم بأداء حقوق الزَّوج، وهذه الحالة تسمَّى بحالة نشوز الزَّوجة، وقد تكون المشكلة في كلا الطَّرفين، فمن جهة أولى فإنَّ الزَّوجة لا تريد الاستمرار في علاقتها الزَّوجية مع هذا الزَّوج؛ إمَّا بسبب عدم أداء حقوقها، أو بسبب سوء عشرته، أو بسبب إضراره بها مثلاً، أو غير ذلك، ومن جهة أخرى فإنَّ الزَّوج يصرُّ على تعليق زوجته، فلا يعاشرها بالمعروف لتعود العلاقة كما كانت، ولا يطلِّقها لكي تبدأ حياة زوجية أخرى، ولا يؤدّي حقوقها.

وهذه الحالة تسمَّى بحالة الشِّقاق؛ لأنَّهما تشاركا في التعدّي والتباعد، فكأنَّ كلّاً منهما صار في شقّ، أي في جانب غير جانب الآخر، وحاصله الاختلاف وعدم الاجتماع على رأيٍّ واحد([1]).

فلرفع هذه الحالة ذكر القرآن الكريم أحد الطرق العلاجية، وهو طريق الإصلاح من قبل الأهل، يقول تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيرًا}(النساء:35).

والإصلاحُ في الإسلام له أهميّته الكبيرة؛حيث إنَّ الحالة المثالية التي يريدها الإسلام في المجتمع بشكل عامّ -وفي إطار الأسرة بشكل خاصّ- هي أنْ تسود فيه حالة الوئام والاطمئنان والسكينة، وتنتشر فيه روح التعاون والمحبّة والمودّة، لا أن يكون المجتمع مجتمعاً مضطرباً متزلزلاً، بأن تسوده حالة البغضاء والشحناء، وتكثر فيه المنازعات والمخاصمات؛ حيث إنَّ مجتمعاً كهذا لن يكون مجتمعاً قوياً متماسكاً يعيش حياة طيّبة وهنيئة. 

ولكن الطبيعة البشرية قد تحتِّم في بعض الأحيان حصول بعض الخلافات والنِّزاعات والخصومات بين أفراد المجتمع، إلا أنَّه لا يعني ذلك أن تُترك هذه الحالة على ما هي عليه حتى تسود وتعمّ في المجتمع، بحيث تكون هي الحالة العامّة والمسيطرة على طبيعة المجتمع المسلم، بل لا بدَّ من السَّعي نحو إرجاع هذا الوضع المتأزّم إلى حالته الطبيعية، ولذا أمر الإسلام بمسألة الإصلاح، ويعبِّر عن بعض حالاته بـ (إصلاح ذات البين). 

وقد حثَّ القرآن الكريم على مسألة الإصلاح في آيات عديدة: 

منها: قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(الحجرات:10). 

ومنها: قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}(الأنفال:1)، أي أصلحوا أساس ارتباطكم وقوّوا ارتباطاتكم بإذهاب عوامل التفرقة والنفاق([5]).

ومنها: قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الحجرات:9).

بل في كثير من الآيات نجد أنَّ كلمة الإصلاح تأتي عقيب التوبة، وكأنَّما التوبة مشروطة بإصلاح ما أفسده الإنسان، ولا تكفي التوبة المجرّدة عن الإصلاح، وذلك في آيات عديدة: 

منها: قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ}(البقرة:160). 

ومنها: قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فإنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(النور:5). 

ومنها: قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيمًا}(النساء:146). 

وغيرها من الآيات التي تفيد هذا المعنى.

ولأهمّية هذه المسألة لا بأس أن نبحث عن مسألة الإصلاح في عدَّة نقاط:

النُّقطة الأولى: الوظيفة الشرعية تجاه فضِّ الخصومات والنزاعات

الخلافات والخصومات لا بدَّ أن تكون بين طرفين، فتارة أكون أنا طرفاً في النزاع والخلاف، وتارة أخرى لا أكون طرفاً فيه، فما هي وظيفتي تجاه كلتا الحالتين بشكل عامّ؟

الحالة الأولى: أن أكون طرفاً في الخصومة

 فلو حصل بيني وبين أخي المؤمن خلاف ونزاع، فتخاصمنا، فما هي وظيفتي الشرعية حينئذٍ؟

في هذه الحالة على المؤمن أن يلحظ مجموعة من الأمور:

أولاً: إنَّ هذا الشخص الذي خاصمته إنَّما هو أخوك في الدين، {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات:10)، فلا بدَّ أن أتذكّر هذا الأمر دائماً، فلا تدفعني الخصومة إلى القيام بفعل ما ينافي الأخوّة الإيمانية.

ثانياً: لا بدَّ أن أعرف بأنَّ هجران المؤمن أمر مذموم في الإسلام، وقد وردت الروايات الكثيرة الذامّة لهذه الحالة، منها ما ورد عن النبيe في وصيّته لأبي ذر: >يا أبا ذرٍّ، إيّاكَ وهِجرانَ أخِيكَ؛ فإنَّ العَمَلَ لا يُتَقَبَّلُ مِن الهِجرانِ<([11]).

ثالثاً: على المؤمن أن يُبادر ويُسارع إلى إرجاع العلاقة وإصلاح ما فسد، وأن لا تطول المدّة في الخصومة والهجران؛ لأنَّه كلّما طالت المدّة كان من الصعب إرجاع العلاقة كما كانت عليه سابقاً، ولذا ورد عن النبي e: >أيُّما مُسلِمَينِ تَهاجَرا فمَكَثا ثَلاثاً لا يَصطَلِحانِ إلاّ كانا خارِجَينِ مِن الإسلامِ، ولَم يَكُن بَينَهُما وَلايَةٌ، فأيُّهُما سَبَقَ إلى كلامِ أخيهِ كانَ السّابِقَ إلَى الجَنّةِ يَومَ الحِسابِ<([12]). 

وعنهe أيضاً: >يا أباذر، أنهاك عن الهجران؛ فإن كنتَ لا بدَّ فاعلاً فلا تهجرْهُ ثلاثة أيام كَمَلاً، فمن مات فيها مُهاجراً لأخيه كانت النار أولى به<([13]). 

فهذه روايات قاسية وشديدة اللهجة، تشدِّد على عدم التأخير في إصلاح المشكلة، ولذا ذهب البعض من الفقهاء إلى حرمة الهجران أكثر من ثلاثة أيام على الأحوط وجوباً، كالسيد السيستانيB([14]).

رابعاً: أن يتحلّى المؤمن بثقافة الاعتذار، فالاعتذار يطيّب الخواطر ويسكّن النفوس، وهو أمر مرغوب ومطلوب، وليس فيه إهانة للشخص المعتذر، بل فيه رفعة له؛ لأنَّه يكشف عن سموِّ أخلاقه وعلوّ نفسيّته، بل الاعتذار مطلوب حتى لو لم يكن الشخص مقصّراً، يعني حتى لو كان على حقّ والآخر ليس كذلك، فمع ذلك مطلوبٌ منه الاعتذار، وهذا ما جاء في مضمون بعض الروايات: 

منها: ما عن الإمام الباقرg: >ما مِـن مُؤمنَينِ اهـتَجَرا فَوقَ ثَلاثٍ إلاّ وَبَرِئْتُ مِنهُما في الثّالِثَةِ<، فقيلَ لَهُ: يا ابنَ رسولِ اللّه، هذا حالُ الظّالِمِ فما بالُ المَظلومِ؟ فقالَg: >ما بالُ المَظلومِ لا يَصيرُ إلَى الظّالِمِ فيَقولُ: أنا الظّالِمُ، حتّى يَصطَلِحا؟!<([15])، فالإمامg يبرأ حتى من الشخص المظلوم؛ لأنَّه لم يذهب ويعتذر ليعيد العلاقات كما كانت في السابق.

ومنها: ما عن الإمام الصادقg يقول: >سَمِعتُ أبي يقولُ: إذا تَنازَعَ اثنانِ فَعازَّ أحَدُهُما الآخَرَ فلْيَرجِعِ المَظلومُ إلى صاحِبهِ حتّى يَقولَ لِصاحِبهِ: أي أخِي أنا الظّالِمُ، حتّى يَقطَعَ الهِجرانَ بَينَهُ وبَينَ صاحِبهِ، فإنَّ اللّه َتبارَكَ وتعالى حَكَمٌ عَدلٌ يأخُذُ للمَظلومِ مِن الظّالم<([16])، يعني إنَّ قولك لأخيك: "أنا الظالم" لن يغيّر من الواقع شيئاً عند الله تعالى، فالله يعلم أنَّك مظلوم وسوف يأخذ بحقِّك، ولكن الآن المهمّ أن لا تفسد علاقتك بأخيك، فاذهب إليه واعتذر وإن كنت مظلوماً.

الحالة الثَّانية: أن لا أكون طرفاً في الخصومة

كما لو كان هناك شخصان مؤمنان حصل بينها خلاف ونزاع، وتخاصما على إثر ذلك، فما هي وظيفتي الشرعية تجاههما حينئذٍ؟

في هذه الحالة يوجد خطاب عامّ لجميع المؤمنين بأنَّ وظيفتكم هي إصلاح ذات البين، فالكلّ مسؤول عن ذلك بما يستطيع أن يقدِّمه، فلا ينبغي إهمال هذه الوظيفة الشرعية، والله (سبحانه وتعالى) أعطى الثواب الجزيل على هذا العمل المبارك، ولذا ورد عن النَّبيe: >صَلاحُ ذاتِ البَينِ أفضَلُ مِن عامَّةِ الصَّلاةِ والصَّومِ<([17])، ويا له من فضل عظيم؛ إذ الصلاة التي هي عمود الدين صار إصلاح ذات البين أفضل منها! 

من هنا قد يُسأل: لماذا لا نحمل الصَّلاة في هذه الرِّواية على الصلاة المندوبة المستحبة، يعني أنَّ إصلاح ذات البين أفضل من الصلاة المستحبة وليست الواجبة؛ لأنَّ الصلاة الواجبة هي عمود الدين، فكيف يكون إصلاح ذات البين أفضل منها؟!

والجواب عن ذلك: أنَّ الرواية قالت: >أفضل من عامَّة الصلاة<، فهي ظاهرة في أنَّ إصلاح ذات البين أفضل من كلِّ الصلوات، سواء الواجبة منها أم المستحبة، وهذا يعطي أهميَّة كبيرة لهذه القضية.

أمَّا لماذا صار إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصوم؟

هذا لأنَّ فساد العلاقة بين الأخوين يؤدّي إلى هدم تديّنهما، فيكون دينهما وإيمانهما في معرض الهلكة والنقص، ولذا نجد الكثير من المتخاصمين يفقدون حالة التقوى والتديّن، فتراه يبرِّر لنفسه الغيبة، والشَّتم، والشَّماتة، والإهانة، وغير ذلك والعياذ بالله، فمن هنا يقول النبيe: >ألا أُخبِرُكم بِأفضلَ مِن دَرَجَةِ الصِّيامِ والصَّلاةِ والصَّدَقةِ؟< قالوا بلى يا رسول الله قال: >إصلاحُ ذاتِ البَين؛ فإنَّ فسادَ ذاتِ البَينِ هِي الحالِقةُ<([18])، و(الحالقة) يعني الخصلة التي من شأنها أن تحلق، أي تهلك([19])، وفي وصية الإمام أمير المؤمنينg لابنه الإمام الحسنg: >ثُمَّ إِنِّي أُوصِيكَ يَا حَسَنُ وَجَمِيعَ أَهْلِ بَيْتِي وَوُلْدِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ رَبِّكُمْ، وَلا تَمُوتُنَّ إِلّٰا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَأَنَّ الْمُبِيرَةَ الْحَالِقَةَ لِلدِّينِ فَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ<([20]). 

ففساد ذات البين يستأصل الدين والإيمان والتديّن من أساسه كما يستأصل الموسى (الحالقة) الشعرَ من أساسه، ومن ثمَّ لا منفعة من صلاتهما وصومهما وهما على هذه الحالة من البغضاء والشحناء، ولذا صار إصلاح ذات البين أفضل من عامَّة الصلاة والصوم([21]).

إذن، على المؤمن أن يسعى لإصلاح ذات البين وحلّ الخلاف، إمَّا من خلال تقديم النصيحة، أو رفع سوء الفهم، بل وحتى عن طريق دفع الأموال إن استلزم ذلك؛ فإنَّه يروي أحد الرواة قائلاً: "مرَّ بنا المفضّل وأنا وختني (صهري) نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة، ثمّ قال لنا: تعالوا إلى المنزل فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده، حتّى إذا استوثق كلُّ واحدٍ منَّا من صاحبه قال: أما إنّها ليست من مالي ولكن (أبو عبد اللهg) أمرني: إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما وافتديهما من ماله، فهذا من مال أبي عبد الله الصادقg"([22]).

النُّقطة الثَّانية: شروط الـمُصْلِح

في عمليَّة الإصلاح لا بدَّ أن يتوفَّر المصلِح على مجموعة من الصفات والشروط، بعضها لازمة، وبعضها غير لازمة ولكن من المهمّ الالتفات إليها([23]):

الشَّرط الأوَّل: العدل 

من الشروط المهمَّة للمصلح أن يكون عادلاً، بحيث لا يقوم بعملية الإصلاح على حساب المظلوم ولصالح الظالم، بل لا بدَّ عليه من نصرة المظلوم مهما أمكن، يقول الله تعالى: {فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الحجرات:9).

الشَّرط الثَّاني: الأمانة

في عملية الإصلاح قد يطّلع المصلح على بعض الأسرار والأمور الخاصَّة بالطرفين المتخاصمين، فينبغي الحرص على حفظها وعدم إفشائها، وإلا فقد خان الأمانة التي عُهدت إليه. 

وقد ورد عن عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّهg قال: سَأَلْتُهُ عَنْ عَوْرَة الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَرَامٌ؟ فَقَالَ: >نَعَمْ<، قُلْتُ: تعْنِي سُفْلَيْهِ؟ فَقَالَ: >لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ، إِنَّمَا هُوَ إِذَاعَةُ سِرِّهِ<([25]).

الشَّرط الثَّالث: الثِّقة بالنَّفس

من الشروط المهمّة أيضاً أن يكون المصلح على ثقة من نفسه، وأنَّه قادر على أن يقوم بعملية الإصلاح، فلا يستصغر من نفسه؛ فإنَّ الكثير من المؤمنين يمتنع عن عملية الإصلاح بحجّة أنَّه لا يتمكّن من ذلك، وهذا الاستصغار للنفس قد يمنع الإنسان عن أداء التكليف، ولعلَّ هذا يكون من وساوس الشيطان الرجيم، فهذه مسؤولية على عاتق الجميع، ولكن كلٌّ بحسب استطاعته، فإذا كان الإنسان بإمكانه أن يساعد في الإصلاح في جهة معيّنة فليفعل ذلك. 

مثلاً: قد يكون الإنسان غير مستطيع للإصلاح المباشر، ولكنَّه يستطيع أن يوسّط واسطة يمكنها الإصلاح، فليقم بهذا الأمر، أو مثلاً يمكنه الدعم المادي لرفع الخصومة، فليقم بهذا الأمر، فكلٌّ بحسبه؛ إذ إنَّ كلّ شخص فيه قابلية لأن يقدّم شيئاً في سبيل الإصلاح، ولذا يقول أمير المؤمنينg كما نُسب عنه: >وتزعم أنَّك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر<([26]).

الشَّرط الرَّابع: الحكمة

من الشروط المهمّة أيضاً في عملية الإصلاح هو شرط الحكمة في المصلِح؛ إذ يحتاجها المصلح بشكل كبير في عملية الإصلاح حتى لا يكون ما يُفسده أكثر ممّا يُصلحه، فأحياناً نجد البعض يُفسد أكثر ممَّا يصلح، يعني هو قد يريد الإصلاح ولكن الآلية والطريقة التي يتّبعها تكون خاطئة ولا حكمة فيها، فيوجد عنده حسنٌ فاعلي، ولكن لا يوجد حسنٌ فعلي، ولذا لا بدَّ للمصلح أن يلتفت إلى هذا الأمر بشكل جيِّد، فإذا لم يكن يستطيع الإصلاح بلسانه مثلاً فلا يفعل، بل يقوم بالإصلاح بطرق أخرى كما قلنا سابقاً، فليس أمر الإصلاح محصوراً بالنصح اللساني.

مثلا،ً البعض يتصوّر أنَّه لا بدَّ أن ينقل وجهة نظر كلٍّ من الطرفين إلى الآخر بحذافيرها، فيذهب ويستمع للطرف الأوَّل، ثمَّ يذهب للطرف الثَّاني ويقول له: "فلانٌ يقول فيك كذا، وأنّك قد فعلت به كذا وكذا، وأنَّك أخطأت في حقِّه!!"، فهذا الشخص في الحقيقة من حيث لا يشعر هو يقوم بشحن نفسيّة الطرف الثَّاني غيظاً على الطرف الأوَّل، فهذا إفساد لا إصلاح. 

فلا بدَّ في عملية الإصلاح أن أنقل الكلام الطيِّب والذي يسكِّن النفوس، ولذا ورد في الروايات العديدة أنَّ من موارد جواز الكذب هو مورد إصلاح ذات البين، منها ما عن الإمام الصادقg: >الْكَلَامُ‏ ثَلَاثَةٌ: صِدْقٌ‏ وَكَذِبٌ‏ وَإِصْلَاحٌ بَيْنَ النَّاسِ<، قَالَ: قِيلَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاس؟ِ قَالَg:>تَسْمَعُ مِنَ الرَّجُلِ كَلَاماً يَبْلُغُهُ فَتَخْبُثُ نَفْسُهُ‏ فَتَلْقَاهُ فَتَقُولُ: سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ قَالَ فِيكَ مِنَ الْخَيْرِ كَذَا وَكَذَا خِلَافَ مَا سَمِعْتَ مِنْهُ<([27]). 

وقد أفتى الفقهاء في رسائلهم العملية بجواز الكذب من أجل الإصلاح بين المؤمنين، وإن احتاط بعضهم -إمَّا وجوباً أو استحباباً- بالاقتصار فيه على صورة عدم تيسُّر التورية([28]).

النُّقطة الثَّالثة: فيما يرتبط بالإصلاح بين الزَّوجين

فيما يرتبط بآية البحث -وهي قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيرًا}(النساء:35)- توجد مجموعة من البحوث الفقهية المهمَّة المرتبطة بها والمذكورة في كتب الفقه، نشير إلى بعض عناوينها إجمالاً:

المبحث الأوَّل: ما هو موضوع الأمر ببعث الحَكمين، هل هو خوف الشِّقاق، أو حصول الشِّقاق فعلاً، أو استمرار الشِّقاق، أو غير ذلك؟

المبحث الثَّاني: من هو المخاطب في قوله تعالى: {فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا}، هل هم الحكّام الشرعيّون، أو الزَّوجان أنفسهما، أو أهل الزَّوجين، أو عموم المؤمنين؟

المبحث الثَّالث: هل الأمر بالبعث على نحو الوجوب أو على نحو الاستحباب؟

المبحث الرَّابع: هل هذا البعث على نحو الحَكَمية أو على نحو الوكالة؟ فإذا كان على نحو الوكالة فليس للحكمين أن يتصرّفا إلا على طبق شرط الوكالة، بخلاف ما لو كان بعثهما على نحو الحَكمية؛ فدائرة التصرّف تكون أوسع من ذلك.

المبحث الخامس: هل الأمر بالبعث أمر مولوي أو أمر إرشادي؟

المبحث السَّادس: هل لا بدَّ أن يكون الحَكمان من خصوص الأهل أو لا؟

وغيرها من المباحث المذكورة في محلّها، ولا يسع المقام لبحثها بأجمعها، إلا أنَّ المهمَّ في المقام هو أنَّ القرآن الكريم قد طرح طريقةً لعلاج النشوز والشقاق بين الزَّوجين وهي عملية الإصلاح، ونحن سوف نتطرّق إلى البحث الذي له صلة كبيرة بالمقام وهو المبحث الثاني من المباحث المتقدّمة. 

بعثُ الحَكَمين

الآية المباركة أمرت ببعث الحكمين من أجل أن يقوما بعملية الإصلاح بين الزَّوجين، ولكن من هو المأمور في هذه الآية المباركة ببعث الحَكمين؟ 

توجد في هذه المسألة مجموعة من الآراء، أهمُّها رأيان:

الرَّأي الأوَّل: أنَّ المأمور بالبعث هم الحكَّام الشَّرعيّون

وهذا هو رأي المشهور من الفقهاء، كالشيخ المفيد في المقنعة([30])، والشيخ الطوسي في المبسوط([31])، وابن البرّاج في المهذّب([32])، وابن زهرة في الغنية([33])، وغيرهم.

الرَّأي الثَّاني: أنَّ المأمور بالبعث هم نفس الزَّوجين

وقد ذهب إلى هذا القول مجموعة من الفقهاء، كالصدوقين P([34])، والشيخ الطوسي N في النهاية([35])، والمحقّق الحلي N في المختصر([36])، وصاحب الحدائق N([37])، وغيرهم، وقد قيّده بعضهم -كالمحقّق وصاحب الحدائق وغيرهما- بأنَّه إن امتنع الزَّوجان عن ذلك تولّى الحاكم بعثهما؛ وذلك من أجل الجمع بين الأخبار.

أدلَّة الرَّأي الأوَّل:

يمكن أن يستدلَّ على الرأي الأوَّل القائل -بأنَّ المأمورين ببعث الحكمين في هذه الآية هم الحكّام الشرعيون- بعدّة أدلة، نذكر منها دليلين:

الدَّليل الأوَّل: الآية المباركة

وهي قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيرًا}(النساء:35).

فهذه الآية المباركة فيها مجموعة من الشواهد والقرائن الدالة على أنَّ المأمورين ببعث الحَكَمين هم الحكّام الشرعيّون:

الشاهد الأوَّل: إنَّ رفع المنازعات من وظائف الحاكم الشرعي

ممّا لا شكّ فيه أنَّ من وظائف الحاكم الشرعي رفع المنازعات وفضّ الخصومات، وليست هي وظيفة لكلّ أحد، فبمناسبات الحكم والموضوع نقول بأنَّ الخطاب في الآية متوجّه إلى الحكّام الشرعيين، دون غيرهم.

الشاهد الثَّاني: التعبير بالحَكَم ظاهر في أنَّ الباعث هو الحاكم الشرعي

لو لاحظنا الآية الشريفة لوجدنا أنَّها عبّرت بالحَكَم، حيث قال تعالى: {فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا}، والتعبير بالحَكَم ظاهر في أنَّ المبعوث إنَّما يكون مبعوثاً على نحو الحَكَمية لا على نحو الوكالة، وتنصيب الحَكَم هي من وظائف الحاكم الشرعي، فيكون المخاطب بالبعث وتنصيب الحَكَم هو الحاكم الشرعي، لا غيره.

الشاهد الثَّالث: أنَّ الآية تفترض المغايرة بين الباعث والمبعوث إليه

لو لاحظنا الآية الشريفة لوجدنا أنَّها افترضت أنَّ هناك تغايراً بين الشخص الباعث وبين المبعوث إليه، حيث قالت: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا}، يعني إن خفتم الشقاق بين الزَّوجين فابعثوا حَكَماً لكي يصلح بينهما، فالمأمورون ببعث الحَكَم هم غيرُ الزَّوجين، وإلا لو قلنا بأنَّ المأمورين بالبعث هم الزَّوجان لكان الباعث والمبعوث إليه واحداً، وهذا خلاف ظاهر الآية، فلأجل ذلك نقول بأنَّ الخطاب موجّه إلى غير الزَّوجين، والقدر المتيقّن منه هم الحكّام الشرعيّون.

الشَّاهد الرَّابع: الضَّمير في الخطاب ضمير للغائب

لو لاحظنا الآية الشريفة لوجدنا أنَّها جاءت بضمير الغائب في الخطاب، حيث قالت: {فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا}، وهو ظاهر في أنَّ المخاطب هو غير الزَّوجين، وإلا لو كان الخطاب للزوجين لكان التعبير بضمير المخاطب (فابْعثوا حَكَماً من أهلكم وحَكَماً من أهلكُنّ)، والالتفات من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب ليس عرفياً.

والحاصل من كلِّ ما تقدَّم: تمامية هذا الدليل الأوَّل

الدليل الثَّاني: رواية تفسير علي بن إبراهيم

توجد رواية صريحة الدلالة على أنَّ بعث الحكمين وظيفة للحكّام الشرعيين، وهي رواية علي بن إبراهيم في تفسيره عن أمير المؤمنينg قال: أتى عليَّ بن أبي طالب رجلٌ وامرأةٌ على هذه الحال، فبعثَ حكماً من أهله وحكماً من أهلها، وقال للحكمين: >هل تدريان ما تحكمان؟ إن شئتما فرَّقتُما، وإن شئتما جَمَعتُما ..<، إلى آخر الرِّواية([39]).

وتقريب الاستدلال: 

أولاً: دلَّت الرواية على أنَّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الذي قام بوظيفة بعث الحَكَمَين.

ثانياً: الظاهر أنَّ الإمام (عليه السلام) إنَّما بعث الحكمين باعتباره هو الحاكم الذي يتولّى وظيفة بعث الحكمين.

ثالثاً: لا يُشكل بأنَّ هذه الرواية معارضة بصريح الفقه الرضوي وموثّقة سماعة الآتية في القول الثاني، وبالتالي فلا يُعتمد عليها([40])؛ إذ ستأتي أيضاً المناقشة في دلالتهما.

النتيجة: أنَّ بعث الحكمين للإصلاح هي وظيفة الحكّام الشرعيين.

ولكن يمكن المناقشة في هذا الدليل: 

أولاً: بأنَّ هذه الرِّواية ضعيفة؛ للإرسال.

ثانياً: أنَّ أقصى ما دلَّت عليه الرواية هو تصدّي الإمام أمير المؤمنينg لبعث الحكمين، ولا دلالة فيها بوجهٍ على انحصار الوظيفة بالحاكم الشرعي.

أدلَّة الرَّأي الثَّاني:

يمكن أن يستدلَّ على الرَّأي الثَّاني -القائل بأنَّ المأمورين بالبعث في هذه الآية هم الزَّوجان- بعدّة أدلَّة أيضاً، نذكر منها التالي:

الدليل الأوَّل: الرِّوايات المفسّرة للآية

توجد بعض الروايات يظهر منها أنَّ المأمورين بالبعث هم الزَّوجان، نذكر منها:

الرِّواية الأولى: مرسلة عبيدة

تفسير العياشي عن محمَّد بن سيرين عن عبيدة قال: أتى عليَّ بن أبي طالبg رجلٌ وامرأةٌ، ومع كلّ واحد منهما فئامٌ من الناس، فقالg : >ابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها<، ثمَّ قال للحكمين: >هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتُما، إن رأيتما أن تُفرِّقا فرّقتُما<، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله عَلَيَّ ولِي، فقال الرجل: أمَّا في الفُرقة فلا، فقال عليg: >ما تبرح حتى تُقرّ بما أقرَّتْ به<([41]).

بتقريب: أنَّ هذه الرواية ظاهرة في كون خطاب أمير المؤمنينg موجّه للزَّوجين، لا إلى غيرهما، فكأنمَّا الإمامg يقول: "يا أيَّها الزَّوجان ابعثوا الحكم من أهلكما"؛ بقرينة أنَّ المرأة بعد ذلك هي التي أجابت الإمام، وكذلك الرجل هو الذي أجاب الإمام بالرفض فيما لو كان المآل إلى الفرقة، والإمام لم يسمح له بالانصراف حتى يُقرّ بما أقرّت به المرأة.

ولكن قد يشكل على ذلك: بأنَّ الضمير في خطاب الإمامg ضمير للجمع، فلا يناسب أن يكون موجّهاً للزوجين، وإلا لقال: "ابعثا حكماً"، وليس "ابعثوا حكماً".

والجواب عنه: أنَّ الإتيان بضمير الجمع وإرادة المفرد أو المثنّى ليس عزيزاً في الكلام، فلا إشكال من هذه الناحية([42]).

النتيجة: أنَّ المأمور ببعث الحكمين هما الزَّوجان.

ولكن هذه الرواية مناقشة سنداً ودلالةً:

أمَّا سنداً؛ فلأنَّها رواية ذكرها العياشي في تفسيره مرسلةً، من دون إسناد إلى أمير المؤمنينg، فلا حجيَّة لها.

وأمَّا دلالةً؛ فالأمور:

أولاً: الظاهر من الرواية أنَّ المخاطب هو غير الزَّوجين، والقرينة على ذلك هو ضمير الجمع في خطاب الإمامg، وأيضاً بقرينة أنَّ الإمامg خاطب الحَكَمين بعد ذلك، وهما غير الزَّوجين، وأمَّا الاستشهاد بأنَّ الزَّوجة هي التي أجابت الإمامg بعد ذلك؛ فلعلَّ ذلك تأييداً منها لحكم الحكمين، فسياق الرواية لا يظهر منه أنَّ الزَّوجين هما المأموران ببعث الحكمين. 

ولا أقل من الاحتمال المعتدّ به، فإنَّه يحتمل أن يكون الخطاب لغيرهما -من الأهل أو الحكّام الشرعيين- فلا يتمُّ الاستدلال.

ثانياً: أنَّ بعث الحَكمين في الحقيقة هي وظيفة الحاكم الشرعي، ولكن الحاكم الشَّرعي تارة يقوم بهذه الوظيفة بنفسِه، وأخرى يوكِّل غيرَه للقيام بها، سواء أكان هذا الغير هما الزَّوجان أم غيرهما من الأهل، فلا تُنافي هذه الرِّواية كون الخطاب في الآية موجَّه للحكَّام الشرعيين، بل يقال: بما أنَّ وظيفة بعث الحكمين هي وظيفة الإمام، فهو الذي وكَّلَ الزَّوجين بالبعث، أو وكَّلَ الأهلَ بالبعث، فلا تنافي في ذلك.

فهذه الرواية غير تامَّة الدلالة على المدّعى.

الرَّواية الثَّانية: موثّقة سماعة

وهي ما رواها محمَّد بن يعقوب الكليني، عن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن سماعة قال: سألتُ أبا عبد اللهg عن قول اللهa: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها}، أرأيتَ إن استأذنَ الحكمان فقالا للرجل والمرأة: أليس قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح والتفريق؟ فقال الرَّجل والمرأة: نعم، فأَشْهَدَا بذلك شهوداً عليهما، أيجوز تفريقُهما عليهما؟ قال: >نعم، ولكن لا يكون ذلك إلا على طهر من المرأة من غير جماع من الزَّوج<، قيل له: أرأيت إن قال أحد الحكمين: قد فرَّقتُ بينهما، وقال الآخر: لم أفرِّق بينهما، فقال: >لا يكون التفريقُ حتى يجتمعا جميعاً على التفريق، فإذا اجتمعا على التفريق جاز تفريقُهما<([43]).

بتقريب: أنَّ ظاهر الرواية هو أنَّ البعث كان من قبل الزَّوجين؛ حيث قال الرَّاوي بعد ذكر الآية: "أرأيت إن استأذن الحكمان فقالا للرجل والمرأة: أليس قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح والتفريق؟"، فإنَّه ظاهر في كون البعث منهما كما لا يخفى، بل هو ظاهر الرِّوايات الدالَّة على اشتراط الحكمين على الزَّوجين قبول ما يحكمان به؛ فإنَّه لو كان البعث إنَّما هو من الإمام من غير تعلُّق بالزَّوجين بالكليَّة -كما هو ظاهر القول المشهور- لما كان لهذا الاشتراط هنا وجه كما لا يخفى([44]).

مناقشة دلالة الرواية:

يمكن المناقشة في دلالة هذه الرواية بالتالي: أنَّ الرواية لم تذكر من هو الذي بعث الحَكمين، فصحيح أنَّ الحَكَمين قالا للزوجين: "أليس قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح والتفريق"، إلا أنَّ هذا لا يعني أنَّ البعث قد صدر من الزَّوجين أصالةً؛ إذ لعلَّ الحاكم الشرعي هو الذي أوكلهما بالبعث كما قلنا في مناقشة الرواية السابقة، وبالتالي لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية على أنَّ المخاطب ببعث الحَكَمين في الآية هم الزَّوجان.

فهذه الرواية غير تامة الدلالة على المدّعى.

الرِّواية الثَّالثة: رواية الفقه الرضوي

فقد ورد في الفقه الرضوي الآتي: >وأمَّا الشقاق فيكون من الزَّوج والمرأة جميعاً كما قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهايختار الرَّجل رجلاً، والمرأة تختار رجلاً، فيجتمعان على فرقة أو على صلح، فإن أرادا إصلاحاً فمن غير أن يستأمرا، وإن أرادا التفريق بينهما فليس لهما إلا بعد أن يستأمرا الزَّوج والزَّوجة<([45]).

وتقريب الاستدلال:

أولاً: الرِّواية دلَّت على أنَّ من يختار الحَكمين هو الزَّوج والزَّوجة.

ثانياً: هذا الاختيار من الزَّوجين صريح في أنَّ وظيفة بعث الحكمين تكون على الزَّوجين، لا غيرهما.

النتيجة: بعث الحَكَمين هي وظيفة الزَّوجين([46]).

ويمكن المناقشة في ذلك:

أولاً: هناك كلام طويل في نسبة هذا الكتاب إلى الإمام الرضاg، والأظهر أنَّه للصدوق الأبN وليس للإمامg، فلا يعتمد عليه بمجرَّده.

ثانياً: أنَّ المذكور هو أنَّ الزَّوج يختار رجلاً، والزَّوجة تختار رجلاً، وهذا لا ينفي احتمال أنَّ وظيفة بعث الحكمين هي للحاكم الشرعي أصالةً، ثمَّ الحاكم الشرعي هو الذي أمرهما أو وكَّلهما أو أذن لهما في ذلك، فلا يتمُّ المطلوب.

فالحاصل من كلِّ ما تقدَّم؛ عدم تمامية الدليل الأوَّل.

الدليل الثَّاني: عدم الدليل دليلُ العدم

لو سبرنا الرِّوايات التي فسَّرت الآية لا نجد فيها ما يدلُّ على أنَّ الأمر ببعث الحكمين متوجِّه إلى الحكّام الشرعيين، وفي المقابل عندنا موثّقة سماعة، وصريح الفقه الرضوي -الذي هو إمَّا كلام الإمامg بعينه، أو هو كلام الإمامg ولكن بصياغة الصدوق الأب له كفتوى-، بل وظواهر الأخبار المفسِّرة للآية، فلا مناص من القول بأنَّ البعث وظيفة للزوجين لا للحكّام.

مناقشة الدليل الثَّاني:

أولاً: لا نسلّم عدم وجود روايات تدلّ على أنَّ الأمر ببعث الحكمين متوجّه إلى الحكّام الشرعيين، بل توجد رواية علي بن إبراهيم التي نقلناها سابقاً في أدلَّة القول الأوَّل.

ثانياً: بأنَّه لو سلّمنا بأنَّ الروايات المفسِّرة للآية لا يوجد فيها ما يدلُّ صراحةً على أنَّ المأمورين ببعث الحكمين هم الحكّام الشرعيّون؛ وذلك لضعف سند رواية عليِّ بن إبراهيم، إلا أنَّه بعد ذكر الدليل على الرأي الأوَّل عرفنا أنَّ هناك شواهد وقرائن تدلُّ على أنَّ القدر المتيقّن في الآية هو أنَّ المخاطب بالبعث هم الحكّام الشرعيّون، ولا تنافيه الروايات المفسّرة، ولا تعارضه الروايات الضعيفة، ولا موثّقة سماعة كما عرفت سابقاً.

والحاصل من كلّ ما تقدّم: أنَّ أدلة الرأي الأوَّل هي المستحكمة، وأدلَّة القول الثَّاني مردودة، فلا محيص عن القول بأنَّ الأمر بالبعث في الآية موجَّه إلى الحكّام الشرعيين، لا إلى الزَّوجين.

ملاحظة ختاميَّة 

صحيح أنَّ الأمر ببعث الحكمين موجّه إلى الحكّام الشرعيين، إلا أنَّ مجرَّد كون الأمر ببعث الحَكَمين موجّه للحكّام الشرعيين لا ينافي مطلوبية ومحبوبية إصلاح ذات البين من قبل عموم المؤمنين كما تقدَّم معنا مفصَّلاً، فلو استطاع شخصٌ أن يصلح بين ذات البين فإنَّه مطلوب منه أن يقوم بذلك، من هنا قال صاحب مهذّب الأحكامN: "حيث أنَّ الموضوع من الإصلاح والمعروف، وهو محبوب عند‌ الشرع بل عند جميع الناس، فالخطاب متوجّه إلى كلّ من يطلّع على الموضوع ويتمكّن على رفع الشقاق بينهما بقول حسن وتدبير لطيف ونحوهما، مثل قوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْولا يختصّ بخصوص الحاكم الشرعي إلا إذا كان تنازع وتخاصم بينهما يحتاج إلى فصله بحسب موازين القضاوة، وإن كان الأحوط تعيينه مطلقاً"([47]).

وقال صاحب كشف اللثامN: "وبالجملة ينبغي أن لا يكون خلاف في جواز البعث من كلٍّ من هؤلاء [أي الزَّوجين والأهل والحاكم]، ووجوبه إذا توقّف الإصلاح عليه، خصوصاً الحاكم والزَّوجين، ولا ينشأ الاختلاف في الآية الاختلاف في ذلك"([48]).

والحمد لله ربِّ العالمين.


([1]) الشهيد الثَّاني، زين الدين بن علي، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، ج‌8، ص364‌.

([2]) النساء: 35.

([3]) الحُجُرات: 10.

([4]) الأنفال: 1.

([5]) وجداني فخر، قدرة الله، الجواهر الفخرية في شرح الروضة البهية، ج‌3، ص79‌.

([6]) الحُجُرات: 9.

([7]) البقرة: 160.

([8]) النور: 5.

([9]) النساء: 146.

([10]) الحُجُرات: 10.

([11]) الحرُّ العاملي، محمَّد بن حسن، وسائل الشيعة، ج‌12، ص264‌.

([12]) الحرُّ العاملي، محمَّد بن حسن، وسائل الشيعة، ج‌12، ص262‌.

([13]) الحرُّ العاملي، محمَّد بن حسن، وسائل الشيعة، ج‌12، ص264‌.

([14]) استفتاءات الموقع؛ "السؤال: ما حكم تهاجر المؤمنين وبالخصوص إذا زاد عن ثلاثة أيام؟

الجواب: هجر المؤمن لأزيد من ثلاثة أيام محل إشكال والأحوط تركه".

([15]) الحرُّ العاملي، محمَّد بن حسن، وسائل الشيعة، ج‌12، ص263‌.

([16]) الحرُّ العاملي، محمَّد بن حسن، وسائل الشيعة، ج‌12، ص261‌.

([17]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج‌13، ص453‌.

([18]) ورَّام بن أبي فراس، مسعود بن عيسى‏، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر المعروف بمجموعة ورّام‏، ج1، ص39.‏

([19]) المجلسي، محمَّد باقر بن محمَّد تقي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‌23، ص86‌.‌

([20]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج‌13، ص453‌.

([21]) هذه الإفادة استفدتها من سماحة الأستاذ الشيخ معين دقيق(حفظه الله)[من علماء لبنان المقيمين في مدينة قم، وأستاذ البحث الخارج] في محضر درسه لكتاب نهاية الحكمة، وذلك في الموعظة الأخلاقية قبل الدرس في يوم الأربعاء، وقد قمت بترتيبها والتوسّع فيها بعد ذلك.

([22]) الحرُّ العاملي، محمَّد بن حسن، وسائل الشيعة، ج‌18، ص440‌.

([23]) هذه الإفادة استفدتها من سماحة الشيخ هاني البناء (حفظه الله)[من فضلاء أهل البحرين] في إحدى محاضراته، وقد قمت بترتيبها على شكل شروط للمصلح والتوسّع فيها بعد ذلك.

([24]) الحُجُرات: 9.

([25]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج‌4، ص86‌.

([26]) الفيض الكاشاني، محمَّد محسن، الوافي، ج‌2، ص319‌.

([27]) الكليني، محمَّد بن يعقوب، الكافي، ج‏2، ص341.

([28]) لاحظ: الخوئي، السيد أبو القاسم، منهاج الصالحين، ج2، ص10، م35؛ التبريزي، الميرزا جواد، منهاج الصالحين، ج2، ص14، م35؛ الحكيم، السيد محمَّد سعيد، منهاج الصالحين، ج1، ص435، م17؛ السيستاني، السيد علي، منهاج الصالحين، ج2، ص17، م38؛ الفياض، محمَّد إسحاق، منهاج الصالحين، ج2، ص114، م228.

([29]) النساء: 35.

([30]) المفيد، محمَّد بن محمَّد بن نعمان، المقنعة، ص518. 

([31]) الطوسي، محمَّد بن الحسن، المبسوط في فقه الإمامية، ج4، ص339.

([32]) ابن البرّاج، القاضي، عبد العزيز، المهذّب، ج2، ص265.

([33]) الحلبي، ابن زهرة، غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع، ص353.

([34]) الصَّدوق الأب، علي بن بابويه، الفقه الرَّضوي المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام)، ص245؛ حيث قال: "يختار الرجل رجلاً والمرأة تختار رجلاً فيجتمعان على فرقة أو على صلح، فإن أرادا إصلاحاً أصلحا من غير أن يستأمرا، وإن أرادا التفريق بينهما فليس لها إلا بعد أن يستأمرا الزَّوج و المرأة"؛ الصدوق، محمَّد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص337، حيث قال: "فيختار الرجل رجلاً وتختار المرأة رجلاً، فيجتمعان على فرقة أو صلح، فإن أرادا الإصلاح أصلحا من غير أن يستأمرا، وإن أرادا أن يفرّقا فليس لهما أن يفرّقا إلا بعد أن يستأمرا الزَّوج و المرأة"؛ وكذا نفس العبارة تقريباً في كتابه المقنع، ص350.

([35]) الطوسي، محمَّد بن الحسن، النهاية في مجرَّد الفقه والفتاوى، ص531‌؛ حيث قال: "وأمَّا الشّقاق فهو أنّه إذا كره كلّ واحد من الزَّوجين الآخر، ووقع بينهما الخصومة، ولا يصطلحان لا على المقام ولا على الطّلاق، فلا بأس أن يبعث الرّجل حكماً من أهله، وتبعث المرأة حكماً من أهلها، ويجعلا الأمر إليهما على ما يريان من الصّلاح".

([36]) الحلِّي، المحقِّق، جعفر بن حسن، المختصر النافع، ص191، حيث قال: "فإذا خشي الاستمرار بعث كلّ منهما حكماً من أهله، ولو امتنع الزَّوجان بعثهما الحاكم". ووافقه عليه الشارح للكتاب؛ يلاحظ: العاملي، محمَّد بن علي الموسوي، نهاية المرام في شرح مختصر شرائع الإسلام، ج‌1، ص430‌.

([37]) البحراني، يوسف بن أحمد، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، ج‌24، ص629‌.

([38]) النساء: 35.

([39]) القمِّي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي، ج‏1، ص138.

([40]) البحراني، يوسف بن أحمد، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، ج‌24، ص629‌.

([41]) الحرُّ العاملي، محمَّد بن حسن، وسائل الشيعة، ج‌21، ص354‌.

([42]) البحراني، يوسف بن أحمد، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، ج‌24، ص628‌.

([43]) الحرُّ العاملي، محمَّد بن حسن، وسائل الشيعة، ج‌21، ص353‌.

([44]) البحراني، يوسف بن أحمد، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، ج‌24، ص628‌.

([45]) الفقه الرضوي المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام)، ص245‌.

([46]) البحراني، يوسف بن أحمد، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، ج‌24، ص627‌- 628.

([47]) السبزواري، السيد عبد الأعلى، مهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام، ج25، ص229. 

([48]) الفاضل الهندي، محمَّد بن حسن، كشف اللثام والإبهام عن قواعد الأحكام، ج7، ص521.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا