الإحيا ء الحسيني وآثاره التربوية

الإحيا ء الحسيني وآثاره التربوية

الملخّص:

تطرّق الكاتب إلى أهمية الإحياء الحسيني، ومدى ارتباطه ببقاء الدين حيّاً، ثم تطرّق إلى آثار الإحياء الحسيني، منها الآثار العقائدية؛ كتقوية الصلة بالله تعالى وبالنبيe والأئمةi، ومنها الآثار الفكرية والمعرفية؛ كالتزوّد بالثقافة الدينية، ونشر الوعي الديني، والتأكيد على مبدأ الولاء والبراءة والاعتزاز بالهوية الدينية والمذهبية، ومنها الآثار الأخلاقية والسلوكية؛ كالسير على وفق الهدي الحسيني، والتحفيز على روح البذل والعطاء، والتشجيع على مبدأ التعاون والتكافل، وإذابة الفوارق الطبقية، وتقوية أواصر الأخوّة الإيمانية، ثم ختم المقالة بتوصية مرتبطة بالإحياء الحسيني، وأكّد على ضرورة تحمّل مسؤولية هذا الإحياء العظيم. 

 

مقدّمة:

أراد لنا الأئمةi أن نرتبط بالإمام الحسينg ارتباطاً وثيقاً، ارتباطاً يُبقي ذكرَ الإمام الحسينg حيّاً جيلاً بعد جيل؛ لأنه ببقاء ذكر الإمام الحسينg يبقى الإسلام، ولا نبالغ إن قلنا بأنّ جميع ما لدينا من معارف وقيم وأحكام في الإسلام إنما هو بفضل تلك الدماء الزاكية لسيد الشهداء أبي عبد الله الحسينg؛ إذ لولا تلك الدماء الطاهرة، ولولا تلك الثورة والحركة المباركة، لتمّ هدم الإسلام، ونقض أركانه، ولأُعيد الناس إلى الفكر الجاهلي، حيث كان هذا مخطّط بني أميّة منذ البداية، فحينما تولّى عثمان بن عفّان الخلافة قال أبو سفيان لعثمان: "بأبي أنت أنفق ولا تكن كأبي حجر، وتداولوها يا بني أمية تداول الولدان الكرة فوالله ما من جنة ولا نار"([1])، وذهب إلى قبر سيدنا حمزة بن عبد المطلب فركله برجله قائلاً: "يا حمزة إنّ الأمر الذي كنت تقاتلنا عليه بالأمس قد ملكناه اليوم"([2]).

وهكذا توالى بنو أمية على الحكم حتى وصل الأمر ليزيد بن معاوية، وكان عازماً على تحقيق هذا الأمر، فلم يكن الوضع يحتمل التأخير، ومن هنا خرج الإمام الحسينg ليُفشل ذلك المخطّط الخطير، وقد نجح في ذلك، وبفضل دمائه الطاهرة توالت الثورات على بني أميّة حتى سقط حكمُها.

إلا أنّ حملات التشويه لثورة الإمام الحسينg قد بدأت منذ أول خروجه، تارةً بعنوان أنه خارجي، وثانيةً بعنوان أنه طالب دنيا، وثالثةً بعنوان أنه خرج بسبب النزاع بين بني هاشم وبني أمية، وغير ذلك من الدعاوى التي من شأنها أن تُحجّم الحركة التي قام بها الإمام الحسينg، ولو بقي الحال هكذا لوصلت إلينا صورة الثورة مشوّهة بسبب هذا الإعلام المُضلّل، إلا أنّ الحوراء زينبj والإمام زين العابدينg تصدّوا لبيان الحقائق للناس، وردّوا تلك الادّعاءات الباطلة، وقلبوا موازين الإعلام المضلّل، حتى تمكّنوا من حفظ الصورة الناصعة لثورة الإمام الحسينg. 

ومن الواضح أنّ هذه الحركة التبيينيّة لا بدّ أن تبقى مستمرّةً جيلاً بعد جيل؛ وذلك لأنّ حملات التشويه أيضاً مستمرّة ولا تتوقّف، ومن هنا حثّنا الأئمةi على إحياء ذكرى الإمام الحسينg عاماً بعد عام؛ ليبقى ذكر الإمام الحسينg مستمرّاً، ولتبقى حركة بيان الحقائق مستمرّة، ففي رواية الصدوق بإسناده عن أبي عبد اللَّهg أنّه قال لفضيل: >تجلسون وتتحدّثون؟< فقال: نعم، فقال: >إنّ تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا، فرحم اللَّه من أحيا أمرنا<([3])، وعن مالك الجهني: إنّ الإمام الباقرg كان يقول في يوم عاشوراء: >... ثمّ ليندب الحسينg ويبكيه، ويأمر مَن في داره -ممّن لا يتّقيه- بالبكاء عليه، ويقيم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء عليه بعضهم بعضاً في البيوت، وليعزِّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسينg، وأنا الضامن على الله لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم ثواب ألفي ألف حجة وعمرة وغزوة مع رسول الله والأئمة الراشدين<i([4]).

فالإسلام حتى يبقى حيّاً، وتبقى تعاليمه الحقّة مستمرّة، يحتاج أن تبقى تعاليم وقيم كربلاء حيّة ومستمرّة.

ولتوضيح هذه الفكرة أكثر نقول: إنّ الدين عبارة عن: "مجموعة العقائد والأخلاق والقوانين التي جاءت لإدارة شؤون المجتمع البشري، وتربية الإنسان، فإذا كانت حقّة سُمّي الدين بالدين الحقّ. وعليه: فإنّ الدين الحقّ هو دين نزلت عقائده وقوانينه من الله ، والدين الباطل هو الذي جاء ووُضع ونُظّم من عند غير الله"([5]).

إذاً، الدين يتضمّن ثلاثة أمور أساسية:

الأمر الأول: الاعتقادات، وهي التي تبحث عن أصول الدين، من التوحيد وما يرتبط بعالم الوجود، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد.

الأمر الثاني: القوانين، وهي التي تبحث عن فروع الدين، من العبادات والمعاملات التي جاءت لإدارة شؤون المجتمع البشري.

الأمر الثالث: الأخلاق، وهي التي تبحث عن الفضائل والرذائل من الصفات النفسانية، والتي ترشد الإنسان إلى ما فيه سعادته أو شقاوته.

إذاً، هدف الدين هو إيصال الإنسان إلى السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة من خلال هذه الأمور الثلاثة المترابطة، إذ لا يمكن التفكيك بينها؛ لما لتأثير كلّ واحد منها على الآخر، فالاعتقادات تؤثّر في الالتزام بالقوانين والأحكام الشرعية، وهما يؤثّران في سلوك الإنسان وأخلاقياته.

ولكن باعتبار أنّ الإنسان كثيراً ما يقع في الغفلة، وكثيراً ما تتغلّب عليه قواه الأخرى (الغضبية أو الشهوية)، فإنه يكون في معرض الابتعاد عن الله تعالى، وبالتالي فهو يحتاج دائماً إلى ما يذكّره بالله تعالى، ويرجعه إلى الجادّة الصواب. 

فمن هذا المنطلق جاءت فلسفة الشعائر الدينية؛ فشعائر الله هي علاماته([6])، فكلُّ علامة جُعلت لطاعة الله تعالى أو أمر بها الله تعالى فهي شعيرة([7])، وبالتالي هذه الشعائر تذكّرنا بطاعة الله تعالى، وترفع عنّا الغفلة، وتعود بنا إلى الصراط المستقيم، ويمكن من خلالها تنمية أبعادنا الأساسية وتركيزها في النفس، فلذا وجب تعظيمها كما هو نصّ القرآن الكريم: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(الحج:32)، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ}(المائدة:2)، أي لا تتعدّوا عليها، ولا تستهينوا بها.

من هنا اكتسب الإحياء الحسيني أهمية كبيرة في الفكر الشيعي باعتباره شعيرة من الشعائر الإسلامية التي من شأنها أن تضمن بقاء الدين وتعاليمه، وهذا الإحياء الحسيني له آثار تربوية عديدة، وفي هذه المقالة نحاول أن نسلّط الضوء على بعض هذه الآثار التربوية المهمة للإحياء الحسيني.

فالكلام فعلاً في نقاط ثلاث:

النقطة الأولى: الآثار العقائدية للإحياء الحسيني

من الواضح ما لتأثير المسائل العقائدية على الإنسان؛ على تفكيره، وشخصيته، وسلوكه العملي، فالبعد العقائدي من أهم الأمور التي ينبغي تركيزها وتأكيدها في نفس الإنسان.

والإحياء الحسيني له مجموعة من الآثار التي تركّز الحالة العقائدية في نفس الإنسان المؤمن، نذكر منها:

الأثر الأول: تقوية الصلة بالله تعالى

نحن كمؤمنين نعتقد بأنّ الله سبحانه وتعالى دائم العطاء والفيض على عبيده، ولو أنّ هذا الفيض الإلهي ينقطع عنّا في لحظة من اللّحظات لهلكنا جميعاً، ولكن يبقى الدور على الإنسان في مدى تلقّيه لتلك الفيوضات الرحمانية، فكلّما ارتبط الإنسان بخالقه ومدبّر أموره، وقوّى صلته بربّ العزّة والجلالة، كان مهيّئاً لتلقّي تلك الفيوضات الرحمانية، وكان أكثر سعادةً وطمأنينةً، يقول تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(النحل:97)، فالحياة الطيّبة مرهونة بالإيمان والعمل الصالح، أي مرهونة بمقدار ما يتّصل به الإنسان مع ربّه، يقول الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}(الكهف:110).

وكلّما ابتعد الإنسان عن الله تعالى، ونسي ذكر ربّه، وانشغل بالدنيا وملذّاتها، كان مآله إلى الشقاء، يقول تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(طه:124).

فنحن بحاجة دائمة إلى الأمور التي تُقوّي صلتنا بالله تعالى، وتذكّرنا بخالقنا؛ إذ بهذه الصلة تكمن سعادتنا. 

وإنّ الارتباط بالإمام الحسينg، وإحياء ذكره، وزيارة قبره، يضفي علينا هذا المعنى؛ خصوصاً مع الالتفات إلى ما ورد في الروايات من أنّ زيارة الإمام الحسينg كزيارة الله سبحانه وتعالى، فقد ورد عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِg: مَا لِمَنْ زَارَ قَبْرَ الْحُسَيْنِg؟ قَالَ: >كَانَ كَمَنْ زَارَ اللَّهَ فِي عَرْشِهِ<. قَالَ: قُلْتُ: مَا لِمَنْ زَارَ أَحَداً مِنْكُمْ؟ قَالَ: >كَمَنْ زَارَ رَسُولَ اللَّهِ <e([13]).

وكذلك ما ورد عن الإمام الرضاg: >مَنْ زَارَ قَبْرَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِg بِشَطِّ الْفُرَاتِ كَانَ كَمَنْ زَارَ اللَّهَ فَوْقَ [فِي‏] عَرْشِه‏<([14]).

إذاً، زيارة الإمام الحسينg تذكّرنا بالله تعالى، وتقوّي صلتنا به سبحانه، ولكن ينبغي علينا أثناء زيارتنا، وأثناء المسير إلى كربلاء، وأثناء الإحياء الحسيني أن نستشعر هذا المعنى في أنفسنا حتى نستفيد منه في تربية أنفسنا، وهو في الحقيقة أثر تربوي عظيم جدّاً.

الأثر الثاني: تقوية الصلة بنبيِّنا وأئمتنا

نحن حينما نحيي ذكرى الإمام الحسينg، ونبكي على مصابه، ونعزّي إمام زماننا بهذا المصاب العظيم، نكون قد أدّينا شيئاً من مودّتهم، فنحن مأمورون بمودّة أهل البيتi بنصّ القرآن الكريم {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِيْ الْقُرْبَى}(الشورى:23)، وهذه المودّة وهذا الحبّ يقوّي صلتنا بأئمتناi، وبالتالي تتقوّى صلتنا بالنبيe وصلتنا بالله تعالى؛ لأنهم هم الوسائل إلى الله سبحانه وتعالى.

كما أنّ الإحياء الحسيني يربّينا على الارتباط بالإمام الحجةl، فالمنتظرون الحقيقيّون هم الذين يكونون على استعداد تامّ لنصرة الإمام المهديl، وهذا الاستعداد لا بدّ أن يتجلّى بكلّ المستويات؛ النفسي، والعلمي، والعملي، وغير ذلك، فيحتاج كلٌّ منّا أن يُعاهد نفسه على نصرة الإمام المهديl والطلب بثأر الإمام الحسينg معه، ومن ثمّ يعكس ذلك على سلوكه من ناحية عملية.

وفي الحقيقة إنّ الإحياء الحسيني انعكاس عملي لمعاهدة الإمام المهديl بالنصرة، والصبر على الأذى في سبيله، وهو ميدان عملي مهمّ لتأكيد تلك المعاهدة في النفس، فينبغي أن نركّز ذلك في قلوبنا، لا أن نكون مثل أولئك المتخاذلين الذين عاهدوا الإمام الحسينg على النصرة ومن ثم خذلوه وتركوه، أو مثل الذين عاشوا الازدواجية في الشخصية عندما كانت قلوبهم مع الإمام الحسينg وسيوفهم عليه، بل ينبغي أن نوطّن النفس على نصرة الإمام المهديl في كلّ الظروف والأحوال، وهذا المعنى قد أشير له في بعض الزيارات، كما ورد في زيارة عاشوراء: >فَأَسْالُ اللَّهَ الَّذِي أَكْرَمَ مَقَامَكَ وَأَكْرَمَنِي أَنْ يَرْزُقَنِي طَلَبَ ثَارِكَ مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ e<([16]).

النقطة الثانية: الآثار الفكرية والمعرفية للإحياء الحسيني

من الآثار التربوية المهمّة الموجودة في الإحياء الحسيني هو ما يرتبط بالجانب الفكري والثقافي والمعرفي عند الإنسان المؤمن، ويمكن أن نشير إلى بعض الآثار في هذا الجانب المترتّبة على هذا الإحياء:

الأثر الأول: التزوّد بالثقافة الدينية

نحن كمسلمين نحتاج دائماً إلى عوامل القوّة في مجتمعاتنا؛ القوّة العلمية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والدينية، وغيرها، فنحن مأمورون بتهيئة عوامل القوّة على جميع الأصعدة، كما يقول الله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}(الأنفال:60)، فمن دون هذا الإعداد للقوّة سوف تكون الأمّة الإسلامية لُقمة سائغة لقوى الاستكبار العالمي، وسوف تكون مسلوبة الإرادة والسيادة.

ومن أهمّ عوامل القوّة هو عامل العلم والمعرفة؛ فالعلم سلاح عظيم، نحتاجه لمواجهة الأعداء في كلّ الجبهات، فجبهة الاقتصاد تحتاج إلى علم، وجبهة السياسة تحتاج إلى علم، وجبهة الصناعة تحتاج إلى علم، وهكذا سائر الجبهات، وهذه كلّها تحتاج إلى علوم الدنيا، ونحن مأمورون بتحصيلها لنبني أوطاننا وأمّتنا.

كما أنّنا مأمورون أيضاً بتحصيل العلوم الدينية؛ من العقائد، وأحكام العبادات والمعاملات، وغيرها؛ فإنّ الإنسان كلّما قويَ إيمانُه ازداد اهتماماً بتقوية أمّته الإسلامية على جميع الأصعدة، فعامل الإيمان والتقوى والعمل الصالح عاملٌ أساسيّ في عزّة الأمّة ورفعتها، وهذا كلّه يحتاج إلى إلمام بالعلوم الدينية، كما أنّ روايات أهل البيتi تشدّد كثيراً على هذه المسألة، فقد ورد عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ أنه قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِg: >اغْدُ عَالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً أَوْ أَحِبَّ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَلا تَكُنْ رَابِعاً فَتَهْلِكَ بِبُغْضِهِمْ<([18])، وكذلك ورد عنهg: >لَوَدِدْتُ أَنَّ أَصْحَابِي ضُرِبَتْ رُؤوسُهُمْ بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَتَفَقَّهُوا<([19]).

فكم نحن بحاجة إلى أن نتزوّد بالثقافة الإسلامية الأصيلة، ومواجهة البدع والضلالات، أو الشبهات التي تثار حول الإسلام وحول مذهب ومدرسة أهل البيتi([20]).

والإحياء الحسيني العاشورائي فرصة كبيرة لتثقيف النفس بالمعارف الدينية؛ فهو في الواقع مدرسة متكاملة؛ حيث تكثر فيه مجالس الوعظ والإرشاد، والمنابر المتنوّعة في الطرح، ومراكز التعليم والتفقّه في الدين، ولا أقل أنّ هذا الإحياء يعطي الإنسان دافعاً وحافزاً نحو تعلّم العلوم الدينية.

الأثر الثاني: نشر الوعي الديني

أحد أركان الشعيرة الدينية هو أن يكون فيها جنبة إعلان وإبراز للإسلام وللمذهب، وهذا الركن متوفّر بشكل واضح في الإحياء الحسيني، وهو بحدّ ذاته كفيلٌ بنشر مذهب أهل البيتi، وإيصاله إلى كلّ العالم، فإنّ نشر الوعي الديني قد يكون من خلال الدعوة المباشرة، والخطاب الشفهي المباشر، وقد يكون من خلال العمل، فإذا كان عملنا خالصاً لله تعالى، ومشتملاً على الصفات والضوابط التي أرشدنا إليها أهل البيتi، فإنّ هذا العمل بنفسه كفيل بنشر المذهب الحقّ، ونشر الوعي في المجتمع، ولذا يقول الإمام الصادقg: >كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ لِيَرَوْا مِنْكُمُ الْوَرَعَ وَالِاجْتِهَادَ وَالصَّلَاةَ وَالْخَيْرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَاعِيَةٌ<([21]). 

ولكن علينا الالتفات إلى أنّ أهل البيتi أرادوا لأتباعهم أن يتعايشوا مع الناس، لا أن يذوبوا في أوضاعهم، أرادوا لهم أن يؤثِّروا في هؤلاء الناس ويكونوا الأسوة والقدوة الصالحة لهم، لا أن يتأثّروا بهم([22]).

والإحياء الحسيني له أثر كبير في نشر مذهب أهل البيتi؛ لأنّه قد توفّر على أخلاقيات أهل البيتi، كما أنه فرصة كبيرة لزيادة الوعي الديني والثقافي لدى عموم الناس؛ حيث تكثر المنابر الحسينية الهادفة، التي تبيّن الأحكام الشرعية، وتحلّل التاريخ الإسلامي، وتدفع الشبهات، وغيرها من الأمور الهامّة، خصوصاً بلحاظ توفّر القنوات الناقلة للمجالس في كلّ أرجاء العالم اليوم.

الأثر الثالث: التأكيد على مبدأ الولاء والبراءة

هناك خطّان متوازيان في المنظومة الفكرية الإسلامية؛ خطّ الولاء لأولياء الله، وخطّ البراءة من أعداء الله، لا يمكن التفكيك بينهما، وإلا كشف ذلك عن وجود خلل فكريّ واضح؛ فلا يمكن أن أوالي أولياء الله، وفي الوقت نفسه أوالي أعداءهم! لا يمكن أن يجتمع حبّهم مع حبّ أعدائهم! وهذا ما أكّدت عليه الروايات العديدة. 

منها ما ورد عن الإمام الباقرg في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}(الأحزاب:4)، قال: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍg: >لا يَجْتَمِعُ حُبُّنَا وَحُبُّ عَدُوِّنَا فِي جَوْفِ إِنْسَانٍ، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ فَيُحِبُّ هَذَا وَيُبْغِضُ هَذَا، فَأَمَّا مُحِبُّنَا فَيُخْلِصُ الْحُبَّ لَنَا كَمَا يُخْلَصُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ لَا كَدَرَ فِيهِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ‏ حُبَّنَا فَلْيَمْتَحِنْ قَلْبَهُ، فَإِنْ شَارَكَهُ فِي حُبِّنَا حُبُّ عَدُوِّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَلَسْنَا مِنْهُ، وَاللَّهُ عَدُوُّهُمْ وَجَبْرَئِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَاللَّهُ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ<([24]).

ومن هنا نجد أنّ نصوص الزيارات تؤكّد على مسألة الولاء لأهل البيتi، والبراءة من أعداء الله تعالى، كما في زيارة عاشوراء وغيرها. 

ففيما يتعلّق بجانب الولاء، فقد ورد في زيارة عاشوراء: >يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي أَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَإِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِلَى فَاطِمَةَ وإِلَى الْحَسَنِ وَإِلَيْكَ بِمُوَالاتِك‏<([25]).

وفيما يتعلّق بجانب البراءة، فقد ورد في الزيارة نفسها أيضاً: >بَرِئْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَشْيَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة<([26]).

فينبغي أن نزرع هذا الأمر في أنفسنا، ونؤكّد عليه، ونربّي أولادنا عليه، وإنّ خير مُعينٍ على ذلك لهو الإحياء الحسيني؛ حيث تتجسّد وتتجلّى فيه معاني الولاء والبراءة، لأنه يتضمّن تجديد العهد والبيعة للإمام الحسينg، والبراءة من أعدائه واللّعنة عليهم.

الأثر الرابع: الاعتزاز بالهوية الدينية والمذهبية

في زماننا الحاضر نحتاج كثيراً إلى مسألة الاعتزاز بهويّتنا الدينية والمذهبية؛ باعتبار أنّ الأعداء والخصوم يسعون إلى تشويه صورة الإسلام والمذهب في كلّ مكان، حتى أصبح البعض -وللأسف الشديد- يخجل من أن يعرّف نفسه أمام الآخرين بأنه مسلم أو شيعي، خصوصاً في المجتمعات الغربية أو البعيدة عن الأجواء الإيمانية الولائية، وهذا أمر خطير جدّاً؛ لأنه قد ينتهي بالابتعاد عن الإسلام أو المذهب الحقّ.

من هنا تبرز أهمية الاعتزاز بالهوية الدينية والمذهبية، فينبغي علينا أن نسعى لأن نربّي أنفسنا وأولادنا على هذا المعنى، وأن نفتخر ونعتزّ بهويّتنا أمام الآخرين، ولا نخجل من ذلك؛ فإنّ عقيدتنا قويّة جدّاً، قائمة على البراهين العقلية والنقلية، وهي حَرِيّة بالاعتزاز والفخر.

ومن هذا المنطلق أمرنا الله تعالى بتعظيم الشعائر الإسلامية، كما في قوله: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(الحج:32)، فإنّ الشعائر هي علامات الدين والمذهب، والتي ينبغي أن تُبرَز ويُفتخَر بها؛ فإنّ لها دور مهم في تشخيص هوية الجماعة، وتركيز انتمائها إلى الإسلام، وتميّزها عن الجماعات الأخرى([28]).

والإحياء الحسيني أيضاً يصبّ في هذا المسار، فهو خير مُعينٍ على إبراز هويّتنا الدينية والمذهبية، وخير مُعينٍ على الاعتزاز بهذا المذهب الحقّ، بل زيارات الأئمةi بشكل عامّ تعتبر اعتزازاً بالهوية الدينية والمذهبية، ولذا صارت زيارة قبور الأئمةi من تمام الوفاء بالعهد، كما ورد عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ أنه قَالَ: سَمِعْتُ الرِّضَاg يَقُولُ: >إِنَّ لِكُلِّ إِمَامٍ عَهْداً فِي عُنُقِ أَوْلِيَائِهِ وَشِيعَتِهِ، وَإِنَّ مِنْ تَمَامِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَحُسْنِ الأَدَاءِ زِيَارَةَ قُبُورِهِمْ، فَمَنْ زَارَهُمْ رَغْبَةً فِي زِيَارَتِهِمْ وَتَصْدِيقاً بِمَا رَغِبُوا فِيهِ كَانَ أَئِمَّتُهُمْ شُفَعَاءَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة<([29]).

النقطة الثالثة: الآثار الأخلاقية والسلوكية للإحياء الحسيني

لا يخفى على القارئ الكريم أهمية البعد الأخلاقي لدى الإنسان، ومدى حاجة الإنسان إلى تهذيب نفسه وتزكيتها، والتخلّي عن الصفات الرذيلة، والتحلّي بالصفات الحميدة، فإنّ الأخلاق المجتمعية تبدأ من أخلاق الفرد، فإذا تحلّى كلّ فرد من أفراد المجتمع بالأخلاق الفاضلة انعكس ذلك على المجتمع، وصار مجتمعاً متخلّقاً وسعيداً.

والإحياء الحسيني له آثار عديدة تساهم في إثراء هذا البعد في نفس الإنسان، نذكر منها:

الأثر الأول: السير على وفق الهدي والخلُق الحسيني

بعض الناس يُبتلى بمسألة الازدواجية في التعامل مع أهل البيتi، فتراه يدّعي أنه محبٌّ لأهل البيتi، وموالٍ لهم، ولكنه من ناحية عملية يخالف تعاليمهم، ولا يتخلّق بأخلاقهم، وهذا النحو من التعامل مبغوض عند أهل البيتi كما ورد في الروايات العديدة، منها ما ورد عن الإمام الصادقg: >لَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَخَالَفَنَا فِي أَعْمَالِنَا وَآثَارِنَا، وَلَكِنْ شِيعَتُنَا مَنْ وَافَقَنَا بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَاتَّبَعَ آثَارَنَا وَعَمِلَ بِأَعْمَالِنَا، أُولَئِكَ شِيعَتُنَا<([30]).

فنحن مأمورون باتّباع أهل البيتg، والعمل بتعاليمهم، والتخلّق بأخلاقهم، كما ورد عن الإمام الصادقg أيضاً: >إِنَّمَا شِيعَةُ جَعْفَرٍ مَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، وَاشْتَدَّ جِهَادُهُ، وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ، وَرَجَا ثَوَابَهُ، وَخَافَ عِقَابَهُ، فَإِذَا رَأَيْتَ أُولَئِكَ فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَرٍ<([31]).

وفي الحقيقة إنّ الإحياء الحسيني لهو ميدان عملي لتربية الإنسان المؤمن على هذا الطريق، وفرصة عظيمة لكسب الصفات الحميدة والتخلّق بأخلاق أهل البيتi، حيث إنّ الإحياء الحسيني يحتاج إلى الصبر، والبذل، والتضحية، والتعاون، وحسن المعاشرة، وغيرها من الأخلاق الجميلة والرائعة.

الأثر الثاني: التحفيز على روح البذل والعطاء

لقد حثّنا الإسلام كثيراً على الإنفاق والبذل والعطاء، ورتّب على ذلك الأجر الجزيل إذا كان قد توفّر على صفة الإخلاص، يقول الله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(البقرة:261).

وقد خلّد الله تعالى في كتابه الكريم تلك الحادثة التي حصلت في بيت أمير المؤمنينg حينما قال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}(الإنسان:8)؛ بسبب أنها قد توفّرت على صفة الإخلاص والإيثار والإنفاق في سبيل الله.

ولكن لكي يبقى أثر هذا الإنفاق لا بدّ أن لا يُتبَع بالمنّ والأذى، وأن لا يكون رياءً ولأجل كسب رضا الناس، أو من أجل الوجاهة أو ما شابه ذلك؛ حيث إنّ هذه الأمور تُفسد العمل الصالح، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(البقرة:262-264).

وإنّ الإحياء الحسيني لهو من أبرز ما يحفّز الإنسان نحو هذه الصفات الحميدة، حيث نجد روح البذل والعطاء قد تجلّت في مُحبّي أبي عبد الله الحسينg، لا ينتظرون من أحد جزاءً ولا شُكوراً، همُّهُم الأول والأخير رضا الله تعالى في إقامة ذكرى الإمام الحسينg.

الأثر الثالث: التشجيع على مبدأ التعاون والتكافل

لقد أمرنا الله تعالى بالتعاون مع بعضنا البعض على البرّ والتقوى، ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان، يقول تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(المائدة:2)، فإنّ التعاون على البرّ والتقوى يعطي للمسلمين قوّة وهيبة، ويجعلهم على الطريق الصحيح الذي أراده الله تعالى لهم، وهو طريق الوصول إلى الباري سبحانه وتعالى، يقول تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}(الكهف:110)، فحتى يصل الإنسان إلى الله تعالى لا بدّ له أن يتوفّر على الإخلاص لله تعالى، وعلى العمل الصالح، وإنّ خير معينٍ على الأعمال الصالحة هو التعاونُ عليها، والتواصي بها بين المؤمنين كما يقول تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}(البلد:17)، {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(العصر:1-3).

وهذا ما يظهر بشكل جلّي في الإحياء الحسيني في شهر محرّم الحرام وشهر صفر، حيث إنه يشجّع أفراد المجتمع على مبدأ التعاون على البرّ والتقوى، يشجّع على التعاون في إحياء الشعائر الحسينية على أحسن وجه في شتّى المجالات التي يحتاج إليها هذا الإحياء الحسيني المبارك.

كما أنه يزرع في نفوس المسلمين روح التضامن والتكافل، ومساعدة بعضهم لبعض في شتّى الأصعدة، ممّا يجعل المجتمع أكثر تعاوناً وتضامناً.

الأثر الرابع: إذابة الفوارق الطبقية وتقوية أواصر الأخوّة

كانت الجاهلية قبل الإسلام تعيش حالة من الطبقية والعنصرية، فالعرب يرون أنفسهم أفضل الناس، وينظرون إلى غيرهم نظرة دونية، وكذا القوميات الأخرى، فكلّ قوم ينظرون إلى أنفسهم أنهم أفضل الناس، ويحقّرون غيرهم، بل لم يكونوا يُزوّجون من هو ليس من قبيلتهم أو ليس من عرقهم.

وهكذا كان التفاوت موجوداً في نفس القبائل العربية، فبعض القبائل بسبب عددها وعدّتها يرون أنفسهم أعلى من الآخرين.

إلى أن جاء نور الإسلام، وأذاب تلك الفوارق الطبقية والمجتمعية، وجعل المعيار في التفاضل هو التقوى فقط، كما قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات:13)، وكما ورد عن النبيe: >أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، وَلَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى‏<([40]).

ثم قام النبيe بخطوة عظيمة في هذا المجال، حيث آخى بين المسلمين، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات:10)، فصارت روح الأخوّة والمودّة تسودُ المسلمين، فتشكّل المجتمع الإسلامي السليم والقوي، وصار على الطريق الصحيح الموصل للسعادة.

إذاً، المجتمع السليم والسعيد هو المجتمع الذي يسير إلى الله تعالى مع التسليم الكامل له والرضا التامّ به، وليس المجتمع القائم على أساس العلاقات العنصرية، أو المصالح الشخصية، أو الاستغلال البشع من قبل الطبقات الثريّة([42]).

والإحياء الحسيني يعتبر من أهمّ العوامل لإذابة الفوارق الطبقية بين أفراد المجتمع؛ فتحت مظلّة الإحياء الحسيني الكلّ يَتَعَنْوَن إما بعنوان الخادم أو بعنوان الزائر أو بعنوان المحبّ، لا فرق بينهم في اللّون، ولا العرق، ولا الجنسية، ولا الطبقة الاجتماعية، ولا غير ذلك.

كما أنّ الإحياء الحسيني يساهم بشكل كبير في تقوية أواصر الأخوّة الإيمانية والمحبّة بين المسلمين، بحيث يكون المسلم أخاً للمسلم، فيصبح المجتمع كالجسد الواحد، فقد ورد عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهg يَقُولُ: >الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِنِ اشْتَكَى شَيْئاً مِنْهُ وَجَدَ أَلَمَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ جَسَدِهِ، وَأَرْوَاحُهُمَا مِنْ رُوحٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ لَأَشَدُّ اتِّصَالًا بِرُوحِ اللَّهِ مِنِ اتِّصَالِ شُعَاعِ الشَّمْسِ بِهَا<([43]).

وهذه الرواية قريبة ممّا ورد مشهوراً عن النبيe: >إنّما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر<([44]).

خاتمة: 

اتضح لدينا أنّ الإحياء الحسيني له آثار تربوية عديدة، وما ذكرناه إنما هو غيضٌ من فيض، وإلا فآثار هذا الإحياء لا يمكن أن يحصيها من هو مثلي، وبهذا يتضح أنّنا نحن المحتاجون لهذا الإحياء، نحن المستفيدون من هذا الإحياء، نحن الذين نحتاج إلى الإمام الحسينg، فعلينا أن نحرص على إحياء ذكرهg وإقامة مجالس العزاء عليه غاية الحرص، وأن ننقل هذه الأمانة والمسؤولية إلى أولادنا والأجيال اللاحقة، وهم بدورهم يقومون بنقلها إلى من هو بعدهم، وهكذا تستمرّ مسيرة الإحياء الحسيني بلا انقطاع إلى يوم القيامة إن شاء الله تعالى.

والحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.


([1]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج2، ص45.

([2]) النزاع والتخاصم، المقريزي، ص57.

([3]) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج10، ص392، ط. الإسلامية.

([4]) كامل الزيارات، ابن قولويه القمي، ص١٧٤.

([5]) الكلام الإسلامي المعاصر، عبدالحسين خسروبناه، ج1، ص335، نقلاً عن كتاب الشريعة في مرآة المعرفة للجوادي الآملي، ص93- 95، النسخة الفارسية.

([6]) العين، الفراهيدي، الخليل بن أحمد، ج1، ص251.

([7]) الصحاح،‌ تاج اللغة وصحاح العربية، الجوهري، ج2، ص698.

([8]) الحج: 32.

([9]) المائدة: 2.

([10]) النحل: 97.

([11]) الكهف: 110.

([12]) طه: 124.

([13]) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص147.

([14]) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص147.

([15]) الشورى: 23.

([16]) مصباح المتهجّد، الطوسي، ج2، ص774.

([17]) الأنفال: 60.

([18]) الكافي، الكليني، ج1، ص34.

([19]) الكافي، الكليني، ج1، ص31.

([20]) الشعائر الحسينية في مدرسة أهل البيت×، السيد محمد باقر الحكيم، ص7.

([21]) الكافي، الكليني، ج2، ص78.

([22]) الشعائر الحسينية في مدرسة أهل البيت×، السيد محمد باقر الحكيم، ص5.

([23]) الأحزاب: 4.

([24]) تفسير القمّي، علي بن إبراهيم، ج2، ص171- 172.

([25]) مصباح المتهجّد، الطوسي، ج2، ص774.

([26]) مصباح المتهجّد، الطوسي، ج2، ص774.

([27]) الحج: 32.

([28]) الشعائر الحسينية في مدرسة أهل البيتi، السيد محمد باقر الحكيم، ص3.

([29]) الكافي، الكليني، ج4، ص567.

([30]) وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، محمد بن حسن، ج15، ص247.

([31]) وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، محمد بن حسن، ج15، ص251.

([32]) البقرة: 261.

([33]) الإنسان: 8.

([34]) البقرة: 262- 264.

([35]) المائدة: 2.

([36]) الكهف: 110.

([37]) البلد: 17.

([38]) العصر: 1- 3.

([39]) الحجرات: 13.

([40]) تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني، الحسن بن علي، ص34.

([41]) الحجرات: 10.

([42]) النظرية الإسلامية في التربية والتعليم، جميلة علم الهدى، ج2، ص118.

([43]) الكافي، الكليني، ج2، ص166.

([44]) سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، الشيخ عباس القمي، ج1، ص56.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا